الباب الأول
في معرفة الأراضي


اعلم، أن الأرض الطيبة هي الحارة الرطبة، وسواد الأرض دليل على الحرارة، فإن الأرض السوداء تحمل الأمطار أكثر من غيرها، ثم الأرض البنفسجية اللون، إذا كانت منتفشة، فإنه يجود بها الشجر كثيرا، ثم الأرض الحمراء، ثم الصفراء، وأبردها الأرض البيضاء. والحاجة إلى رطوبة الأرض ودسمها وانتفاشها أكثر من الحاجة إلى حرها. واعلم، أن الشمس والهواء يُصلحان الأرض، ولذلك تقلب الأرض إذا أريد إنشاء الغراس فيها، وهو أن يؤخذ ما كان على وجه الأرض من ترابها الذي أثرت فيه الشمس والهواء، فيجعل أسفل الأرض المحفورة، ليظهر أثره الجميل مما اكتسب من الشمس والهواء في أصول الأشجار المغروسة، وعروقها، فيربي حملها وينميه بحرارته ورطوبته. والتراب الذي يخرج من أعماق الأرض ومن الآبار والمطامير، لا ينبت أول عام حتى تطبخه الشمس، وتلطف أجزاءه، ويكتسب من حرارتها، لأن التراب طبعه بارد يابس، ولولا تسخُّنه بالشمس وترطيبه بالمطر، لم ينشأ به نبات البتة.
وأراضي الجزائر طيبة لمكان الحمأة التي فيها يسوق إليها مما يتقشر عن وجه الأرض من التراب الذي سخنته الشمس ورطبته الأمطار، وعدّله الهواء، ولما يحمله السيل من الزبل والغثاء، فتحسن بذلك وتترطب، والأرض التي تتشقق غير محمودة بالنسبة إلى الأرض السوداء المنتفشة، والأرض الرملية تزيد حرا في الصفي وبردا في الشتاء، وكذا الحجرية، وذلك يؤذي الغروس، وأرض الجبل أبرد من السهل وأيبس، والأرض الحمراء تصلح للزرع لا للشجر، وإن كانت محجَّرة وافقت الشجرة. والأرض الجبلية، يصلح فيها الزيتون والخروب والزعرور والأجاص والقراصيا، ولا تصلح للتين والخوخ، فإنه لا يطول عمره فيها، ولا يكبر حمله. والأرض التي تتشقق شوقا كبارا لا تغرس، وتجود فيها الحنطة والقطاني والبقول والشلحم والفجل والبصل والثوم ونحو ذلك كالشونيز والكراويا. ومن الأرض ما لا يصلح للغراس ولا للزرع، ولا ينجب فيها شيء، وهي الترابية الصفراء الفاقعة، والحمراء القانية، وهي المغرة والبرقاء البيضاء، التي يظهر منها رائحة الكبريت، والجصية، وهي البيضاء التي تحتها حجارة يعمل منها الجير، والترابية الزرقاء، التي تخلط بطين الفخار لعمل الخوابي، والصفراء التي تشبه حجر الكدان الرطب، والأرض السنجية والمعدنية كالكبريتية والنحاسية والزرنيخية والحديدية ونحوها. وقيل من أراد أن يعرف الأرض الزكية والوسط والردية، يحفر فيها قدر ما بدا له، ثم يعيد التراب في تلك الحفرة، فإن زاد على حشوة تلك الحفرة فالأرض جيدة طيبة، وإن كان كفافا قدر ما يستوي في الأرض، فهي أرض وسط، وإن نقص عنها فهي ردية.
واعلم أن الأرض تمتحن باللمس والشم والذوق والنظر. فاللمس يكون بمرس الطين باليد، فإن كان ملتصقا بها شديدا شبيها بالشمع، فهي ردية غير موافقة، وإذا غسل التراب بالماء فكان الطين أكثر كانت جيدة، وإن كان المل أكثر فغير جيدة. والشمّ بأن يؤخذ التراب من أسفل حفرة ويوضع في إناء من زجاج، ويصب عليه ماء عذب طيب، ويمرس، ثم يشم، فالمنتن الرائحة والكريه والخبيث لا خير فيه وهو وردي. والذوق، بأن يؤخذ تراب الأرض من حفرة، ويوضع في إناء زجاج ويطرح عليه ماء عذب ويذاق، فالمالح ردي لا يصلح لشيء من الزروع، والشجر أصلا - إلا النخل - فقط فإنه يجود فيها نباتا وثمرا. وقيل الكرنب والقثاء يطيب بها ويحلو. والنظر بمشاهدة خصب ما ينبت فيها من العشب وعظمه واتفاقه، وتوسط ذلك، يدل على الوسط والنحافة والدقة وسرعة الجفاف يدل على الضعف. وتمتحن الأرض أيضا بالميزان، بأن يملأ إناء من تراب غير ندي ويوزن، ثم يملأ من تراب آخر ويوزن. واعلم أن إصلاح الأرض الخارجة عن الاعتدال بالمطر الخفيف اللين الدائم أربع وعشرون ساعة، ويتلوه المطر الفسَّال، وهو ضعف الأول، ويتلوه الماء الكدر، وخلَّف ما حمله من تراب طيب.
والمتكرر من ذلك كله أكثر إصلاحا وجميع الأراضي الفاسدة بسائر أنواعها من الملوحة والحموضة والرقة وغير ذلك، إذا أقام عليها ماء السيل المكدر، وخلف ترابا كثيرا أصلحها وقواها إذا كانت ضعيفة أو رقيقة، ويقوم مقام الزبل المصلح. والأرض المالحة علاجها أن تفلح بعد مجيء المطر الأول، فإن تأخر فيؤخر إلى دخول تشرين الأول بعد عشر فيه، وإن تأخر المطر ففي آخره. والأرض المشوبة بغير الملوحة من الطعوم، تفلح في تشرين الثاني، ويدق عيدان الباقلاء اليابسة زرع العام الماضي ناعما دقا، وينثر على الأرض بعد كربها، ويرش عليه الماء ثم تبن الشعير، ثم الحنطة، ثم مدقوق خشب العلفي، ثم ورق الخطمي يابسا وإن جمعت أو بعضها فجيد إلا العليق فلا يستعمل إلا مخلوطا بغيره من الأتبان، وتترك الأرض كذلك إلى الصفي، ينثر عليها من سرجين البقر مدا بالماء، فإنه يحيلها إلى العذوبة. وإذا جاء الخرفي ودخل تشرين الأول تسرجن به مخلوطا بسرجين الخيل والحمير لا البغال، ثم يزرع فيها الشعير والباقلاء والعدس والحمص، ويبدر بين ذلك بزر الكتان، وتسقى. ويصلح جميع الأرض الفاسدة أيضا ورق الكرم وقضبانه، وورق جميع الشجر التي حملها دهين كاللوز والجوز والزيتون والفستق والبندق والخروع ونحوها وقضبان ذلك. ويصلح هذه الأرض أيضا أن يرش دردي الزيت المأخوذ من عصر الزيتون الذي لا ملح فيه ولا غيره، يرش عليها وهي غير مقلوبة، ثم تقلب، ثم يعاد الرش ويكرر، ثم اخثاء البقر كثيرا ثم تترك ثم تقلب بسكك صغار ولا تعمق ثم تزرع الشعير والحلبة والحمص والقرع والسلق والخطمي ويغرس فيها النخل مفرقا.