ذكر من قال ذلك
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السدي: " وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا "، قال: قالت له يا يوسف: ما أحسن شعرَك! قال: هو أول ما ينتثر من جسدي، يا يوسف ما أحسن عينيك! قال: هي أولُ ما يسيل إلى الأرض من جَسدي، قالت: يا يوسف ما أحسنَ وجهك! قال: هو للتراب يأكله، فلم تزل حتى أطعمته فهمّت به وهمّ بها. فدخلا البيتَ وغلقت الأبواب، وذهب ليحلّ سراويله فإذا هو بصورة يعقوب قائمًا في البيت قد عضّ على إصبعه يقول: يا يوسف لا تواقعها، فإنما مثَلُك ما لم تواقعها مثلُ الطير في جوِّ السماء لا يطاق، ومثلك إن واقعتَها مثَله إذا مات وقع في الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، ومثَلك ما لم تواقعها مثل الثور الصَّعْب الذي لا يعمل عليه، ومثَلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه. فربط سراويله، وذهب ليخرج يشتدّ، فأدركته فأخذت بمؤخر قميصه من خلْفه فخرقته حتى أخرجته منه، وسقط وطرحه يوسف، واشتدّ نحو الباب.
وقد حدثنا أبو كريب وابن وكيع وسهل بن موسى، قالوا: حدثنا ابن عيينة عن عثمان بن أبي سليمان، عن ابن أبي مليْكة، عن ابن عباس: سئل عن همّ يوسف ما بلغ؟ قال: حلّ الهيمان، وجلس منها مجلس الحائز.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال: أخبرنا عبد الله بن أبي مُلَيكة، قال: قلت لابن عباس: ما بلغ من همّ يوسف؟ قال: استلقتْ له وجلس بين رجليها ينزع ثيابَه، فصرف الله تعالى عنه ما كان همّ به من السوء بما رأى من البرهان الذي أراه الله، فذلك - فيما قال بعضُهم - صورة يعقوب عاضًّا على إصبعه.
وقال بعضهم: بل نودي من جانب البيت: أتزني فتكون كالطير وقع ريشه، فذهب يطير ولا ريش له! وقال بعضهم: رأى في الحائط مكتوبًا: " وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وِسَاءَ سَبِيلًا " فقام حين رأى بُرْهان ربه هاربًا يريد باب البيت، فرارًا مما أرادته، واتبعته راعيل فأدركتْه قبل خروجه من الباب، فجذبته بقميصه من قِبَل ظهره، فقدّت قميصَه وألفى يوسف وراعيل سيّدها - وهو زوجها أطفير - جالسًا عند الباب، مع ابن عمّ لراعيل.
كذلك حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السدي،: " وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى البَابِ ". قال: كان جالسًا عند الباب وابن عمها معه، فلما رأته قالت: " مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَاْدَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إلَّا أنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ "؛ إنه راودني عن نفسي، فدفعته عن نفسي فأبيت فشققت قميصه. قال يوسف: بل هي رَاوَدَتني عَنْ نَفْسي، فأبيت وفررت منها، فإن كان القميص " قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبين "، وإن كان القميص " قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِيْنَ "، فأتى بالقميص، فوجده قدّ من دبر، قال: " إنَّهُ مِنْ كَيْدَكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيْمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ مِنَ الْخَاطِئِيْنَ ".
حدثني محمد بن عمارة، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا شيبان، عن أبي إسحاق، عن نوْف الشامي، قال: ما كان يوسف يريد أن يذكره حتى قالت: " مَا جَزَاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عذابٌ ألِيْمٌ "، قال: فغضب وقال: " هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ".
وقد اختلف في الشاهد الذي شهد من أهلها " إنْ كَانَ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبين "، فقال بعضهم، ما ذكرت عن السدي.
وقال بعضهم: كان صبيّا في المهد، وقد روى في ذلك عن رسول الله ما حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا عفان بن مسلم، قال: " تكلم أربعة وهم صغار "، فذكر فيهم شاهد يوسف.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا العلاء بن عبد الجبار، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: تكلّم أربعة وهم صغار: ابنُ ماشطة ابنة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى بن مريم.
وقد قيل إن الشاهد كان هو القميص وقدّه من دبره.
ذكر بعض من قال ذلك
حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: " وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا ".
قال: قميصه مشقوق من دُبره فتلك الشهادة، فلما رأى زوجُ المرأة قميص يوسف قُدَّ من دبر قال لراعيل زوجته: " إنَّهُ مِنْ كَيْدَكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيْمٌ "، ثم قال ليوسف: أعرض عن ذكر ما كان منها من مراودتها إياك عن نفسها فلا تذكره لأحد، قال لزوجته: " اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ مِنَ الْخَاطِئِيْنَ ".
وتحدث النساء بأمر يوسف وأمر امرأة العزيز بمِصر ومراودتها إياه على نفسها فلم ينكتم، وقلن: " امْرَأَةُ الْعَزِيْزِ تُرَاْوِدُ فتاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًَّا "، قد وصل حبّ يوسف إلى شغاف قلبها فدخل تحته حتى غلب على قلبها. وشغاف القلب: غلافه وحجابه.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السدي: " قَدْ شَغَفَهَا حُبًَّا "، قال: والشغاف جلْدة على القلب يقال لها لسان القلب؛ يقول: دخل الحبّ الجلد حتى أصاب القلب، فلما سمعت امرأة العزيز بمكرهنّ وتحدُّثهن بينهنّ بشأنها وشأن يوسف، وبلغها ذلك أرسلت إليهنّ وأعتدت لهن مُتكأ يتَّكئن عليه إذا حضرنها من وسائد. وحضرنها فقدّمت إليهنّ طعامًا وشرابًا وأترُجا، وأعطتْ كُلَّ واحدة منهن سكينًا تقطع به الأترجّ.
حدثني سليمان بن عبد الجبار، قال: حدثنا محمد بن الصلت، قال: حدثنا أبو كُدَيْنةَ، عن حُصَيْن، عن مجاهد، عن ابن عباس: " وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيْنًا "، قال: أعطتهن أترُجًّا، وأعطت كل واحدة منهن سكينًا.
فلما فعلت امرأةُ العزيز ذلك بهنَّ، وقد أجلست يوسف في بيت ومجلس غير المجلس الذي هنَّ فيه جلوس، قالت ليوسف: " اُخْرُجْ عَلَيْهِنَّ "، فخرج يوسف عليهنّ، فلما رأينه أجللنه وأكبرنه وأعظمنه، وقطَّعن أيديهن بالسكاكين التي في أيديهنّ، وهن يحسبن أنهنّ يقطعن بها الأترجّ، وقلن: معاذ الله ما هذا إنس، " إنْ هَذا إلَّا مَلَكٌ كَرِيْمٌ ". فلما حلّ بهنّ ما حلَّ من قطع أيديهن من أجل نظرة نظرنها إلى يوسف وذهاب عقولهنّ، وعرفتهن خطأ قيلهنَّ: " امْرَأَةُ العزِيْزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ "، وإنكارهن ما أنكرن من أمرها أقرّت عند ذلك لهنّ بما كان من مراودتها إياه على نفسها، فقالت: " فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّني فِيْهِ ولَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَن نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ "، بعدما حلّ سراويله.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السدي: " قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّني فِيْهِ ولَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَن نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ "، تقول: بعدما حلّ السراويل استعصم، لا أدري ما بدا له ثم قالت لهنّ: " وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ " منْ إتْيانهَا " لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونا مِنَ الصَّاغِرِيْنَ "، فاختار السجن على الزنا ومعصية ربه، فقال: " رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلّيَّ مِمَّا يّدْعُونَنِي إلَيْهِ ".
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط، عن السدي: " قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلّيَّ مِمَّا يّدْعُونَنِي إلَيْهِ " من الزنا، واستغاث بربه عز وجل فقال: " وإلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ من الجَاْهِلِيْنَ ". فأخبر الله عز وجل أنه استجاب له دعاءه، فصرّف عنه كيدهنّ ونجاه من ركوب الفاحشة، ثم بدا للعزيز من بَعْد ما رأى من الآيات ما رأى من قَدّ القميص من الدُّبر، وخمش في الوجه، وقطع النسوة أيديهنّ وعلمه ببراءة يوسف مما قُرف به في ترك يوسف مطلقًا.
وقد قيل: إن السبب الذي من اجله بدا له في ذلك، ما حدثنا به ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن أسباط عن السدي: " ثم بّدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حّتَّى حِيْنٍ "، قال: قالت المرأة لزوجها: إن هذا العبد العبراني قد فضَحني في الناس يعتذر إليهم ويخبرهم أني راودته عن نفسه، ولست أطيق أن أعتذر بعذري، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر، وإما أن تحبسه كما حبستني، فذلك قول الله عز وجل: " ثُمَّ بّدّا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رأوا الآيات ليسجنُنه حَتَّى حين " فذكر أنهم حبسوه سبع سنين.
ذكر من قال ذلك
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا المحاربي، عن داود، عن عكرمة: " لَيَسْجُنُنَّهُ حّتَّى حِيْنٍ "، قال: سبع سنين؛ فلما حبس يوسف في السجن صاحبه العزيز، أُدخِل معه السجن الذي حبس فيه فتيان من فتيان الملك صاحب مصر الأكبر؛ وهو الوليد بن الريَّان؛ أحدهما كان صاحب طعامه، والآخر كان صاحب شرابه.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: حبسه الملك، وغضب على خبّازه؛ بلغه أنه يريد أن يَسُمَّه فحبسه، وحبس صاحب شرَابه؛ ظن أنه مالأه على ذلك، فحبسهما جميعًا، فذلك قول الله عز وجل: " وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ".
فلما دخل يوسف قال فيما حدثني به ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: لما دخل يوسف السجن، قال: إني أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيين لصاحبه: هَلُمَّ فلنجرّب هذا العبد العبراني، فتراءيا له، فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئًا، فقال الخباز: " إنِّي أرَانِي أحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِيْ خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ "، وقال الآخر: " إنِّي أرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا، " نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إنَّا نَرَاك مِنَ المُحْسِنِيْنَ ".
فقيل: كان إحسانه ما حدثنا به إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: حدثنا خلف بن خليفة، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك قال: سأل رجل الضحاك عن قوله: " إنَّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِيْنَ ": ما كان إحسانه؟ قال: كان إذا مرض إنسان في السجن قام عليه، وإذا احتاج جمع له، وإذا ضاق عليه المكان وَسَّع له، فقال لهما يوسف: " لَا يَأْتِيكُما طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ " في يومكما هذا " إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ " في اليقظة. فكرة صلى الله عليه أن يعبِّر لهما ما سألاه عنه، وأخذ في غير الذي سألا عنه لما في عبارة ما سألا عنه من المكروه على أحدهما فقال: " يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أأرْبَابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ ".
وكان اسم أحد الفتيين اللذين أدخلا السجن محلب - وهو الذي ذكر أنه رأى فوق رأسه خبزًا - واسم الآخر نبو، وهو الذي ذكر أنه رأى كأنه يعصر خمرًا، فلم يَدَعاه والعدول عن الجواب عما سألاه عنه حتى أخبرهما بتأويل ما سألاه عنه فقال: " أمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا " - وهو الذي ذكر أنه رأى كأنه يعصر خمرًا، " وَأَمَّا اْلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ ". فلما عبّر لهما ما سألاه تعبيره، قالا: ما رأينا شيئًا.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا ابن فضيل، عن عمارة - يعني ابن القعقاع - عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، في الفتيين اللذين أتيا يوسف في الرؤيا إنما كانا تحالما ليختبراه، فلما أوّل رؤياهما قالا: إنما كنا نلعب، فقال: " قُضِيَ اْلأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْيَانِ " ثم قال لنبو - وهو الذي ظن يوسف أنه ناج منهمَا: " اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ " يعني عند الملك، وأخبره أني محبوس ظلمًا، " فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ "، غفلة عرضت ليوسف من قبَل الشيطان.
فحدثني الحارث، قال: حدثنا عبد العزيز، قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن بسطام بن مسلم، عن مالك بن دينار، قال: قال يوسف للساقي: " اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ "، قال: قيل: يا يوسف، اتخذتَ من دوني وكيلًا؟ لأطيلنَّ حبسَك. فبكى يوسف وقال: يا ربّ أنسى قلبي كثرة البلوى فقلت كلمة، فويل لإخوتي! حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عمرو بن محمد، عن إبراهيم بن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال النبي : " لو لم يقل يوسف - يعني الكلمة التي قال - ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله عز وجل ".
فلبث في السجن، فيما حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عمران أبو الهُدَيل الصنعاني، قال: سمعت وهبًا يقول: أصاب أيوب البلاء سبعَ سنين، وتُرك يوسف في السجن سبع سنين، وعّذب بختنصَّر فحوّل في السباع سبع سنين.
ثم إن ملك مصر رأى رؤيا هالته.