ذكر بعض من قال ذلك منهم
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي، في الحديث الذي ذكرنا إسناده قبل: أن يختنصر بعثه صيحائين لحرب بني إسرائيل حين قتل ملكهم يحيى بن زكرياء عليه السلام، وبلغ صيحائين قتله.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال - فيما بلغني: استخلف الله عز وجل على بني إسرائيل بعد شعيا رجلًا منهم يقال له ياشية بن أموص، فبعث الله لهم الخضر نبيًا، واسم الخضر - فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل - إرميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون.
وأما وهب بن منبه فإنه قال فيه ما حدثني محمد بن سهل بن عسكر البخاري قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه يقول: وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق عمن لا يتهم عن وهب بن منبه اليماني أنه كان يقول: قال الله عز وجل لإرميا حين بعثه نبيًا إلى بني إسرائيل: " يا إرميا، من قبل أن أخلقك أخترتك، ومن قبل أن أصورك في بطن أمك قدستك، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبيتك، ومن قبل أن تبلغ الأشد اختبرتك، ولأمر عظيم اجتبيتك " فبعث الله عز وجل إرميا إلى ذلك الملك من بين إسرائيل يسدده ويرشده، ويأتيه بالخبر من قبل الله فيما بينه وبين الله عز وجل.
قال: ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي، واستحلوا المحارم، ونسوا ما كان الله صنع بهم، وما نجاهم من عدوهم سنحاريب وجنوده فأوحى الله عز وجل إلى إرميا أن أتت قومك من بني إسرائيل، فاقصص عليهم ما آمرك به، وذكرهم نعمي عليهم، وعرفهم إحداثهم. فقال إرميا: إني ضعيف إن لم تقوني، عاجز إن لن تبلغني، مخطئ إن لم تسددني، مخذول إن لم تنصرني، ذليل إن لم تعزني. قال الله عز وجل: ألم تعلم أن الأمور كلها تصدرُ عن مشيئتي، وأن القلوب كلها والألسن بيدي، أقلبها كيف شئت فتطيعني! وإني أنا الله الذي لا شيء مثلي، قامت السموات والأرض وما فيهن بكلمتي، وأنا كلمت البحار ففهمت قولي، وأمرتها فعقلت أمري، وحددت عليها بالبطحاء فلا تعدي حدي، تأتي بأمواج كالجبال، حتى إذا بلغت حدي ألبستها مذلة طاعتي خوفًا واعترافًا لأمري، إن معك ولن يصل إليك شيء معي، وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي لتبلغهم رسالاتي، ونستحق بذلك مثل أجر من اتبعك منهم، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، وإن تقصر به عنها تستحق بذلك مثل وزر من تركت في عماه، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا. انطلق إلى قومك فقل: إن الله ذكر بكم صلاح آبائكم، فحمله ذلك على أن يستتيبكم يا معشر الأبناء. وسلهم كيف وجد أباءهم مغبة طاعتي، وكيف وجدوا هم مغبة معصيتي! وهل علموا أن أحدًا قبلهم أطاعني فشقى بطاعتي، أو عصاني فسعد بمعصيتي! وأن الدواب مما تذكر أوطانها الصالحة تنتابها، وأن هؤلاء القوم رتعوا في مروج الهلكة. أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خولًا يتعبدونهم دوني، ويحكمون فهيم بغير كتابي. حتى أجهلوهم أمري، وأنسوهم ذكري، وعروهم مني. وأما أمراؤهم وقادتهم فبطروا نعمتي، وأمنوا مكري، ونبذوا كتابي، ونسوا عهدي، وغيروا سنتي، وادان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي، فهم يطيعونهم في معصيتي، ويتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني، جرأة علي وغرة، وفرية علي وعلى رسلي، فسبحان جلالي وعلو مكاني وعظمة شأني! وهل ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي! وهل ينبغي أن أخلق عبادًا أجعلهم أربابًا من دوني! وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيتعبدون في المساجد، ويتنزينون بعمارتها لغيري لطب الدنيا بالدين، ويتفقهون فيها لغير العلم، ويتعلمون فيها لغير العمل. وأما أولاد الأنبياء فمكثورون مقهورون مغترون، يخوضون مع الخائضين، فيتمنون على مثل نصرة آبائهم، والكرامة التي أكرمتهم بها، ويزعمون أن لا أحد أولى بذلك منهم مني بغير صدق ولا تفكر ولا تدبر ولا يذكرون كيف نصر آبائهم لي، وكيف كان جدهم في أمري، حين غير المغيرون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم، فصبروا وصدقوا حتى عز أمري، وظهر ديني، فتأنيت بهؤلاء القوم لعلهم يستجيبون، فأطولتُ لهم، وصفحت عنهم لعلهم يرجعون، وأكثرت ومددت لهم في العمر لعلهم يتفكرون، فأعذرت. وفي كل ذلك أمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض، وألبسهم العافية، وأظهرهم على العدو، فلا يزدادون إلا طغيانًا وبعدًا مني. فحي متى هذا! أني يتمرسون! أم إياي يخادعون! فإني أحلف بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، ويضل فيها رأي ذي الرأي وحكمة الحكيم. ثم لأسلطن عليهم جبارًا قاسيًا عاتيًا، ألبسه الهيبة، وأنزع من صدره الرأفة والرحمة والليان، يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم، له عساكر مثل قطع السحاب، ومراكب أمثال العجاج، كأن خفيق راياته طيرانُ النسور، وكأن حملة فرسانه كرير العقبان.
ثم أوحى الله عز وجل إلى إرميا أني مهلك بني إسرائيل بيافث - ويافث أهل بابل، فهم من ولد يافث بن نوح عليه السلام - فلما سمع إرميا وحى ربه صاح وبكى وشق ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه، فقال: ملعون يوم ولدت فيه، ويوم لقنت فيه التوراة، ومن شر أيامي يوم ولدت فيه، فما أبقيتُ آخر الأنبياء إلا لما هو شر علي، لو أراد بي خيرًا ما جعلني آخر الأبنياء من بني إسرائيل، فمن أجلي تصيبهم الشقوة والهلاك!
فلما سمع الله عز وجل تضرع الخضر وبكاءه، وكيف يقول، ناداه: يا إرميا، أشق عليك ما أوحيت لك! قال: نعم يا رب، أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسر به، فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قبلك في ذلك ففرح عند ذلك إرميا لما قال له ربه، وطابت نفسه وقال: لا، والذي بعث موسى وأنبياءه بالحق، لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدًا.
ثم أتى ملك بني إسرائيل فأخبره بما أوحى الله إليه فاستبشر وفرح، وقال: إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة قدمناها لأنفسنا، وإن عفا عنّا فبقدرته.
ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتماديًا في الشر، وذلك حين أقترب هلاكهم، فقل الوحي حين لم يكونوا يتذكرون الآخرة، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدينا وشأنها، فقال لهم ملكهم: يا بني إسرائيل، انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسكم بأس الله، وقبل أن يبعث الله عليكم قومًا لا رحمة لهم بكم، فإن ربكم قريب التوبة مبسوط اليدين بالخير، رحيم بمن تاب إليه. فأبوا عليه أن ينزعوا عن شيء مما هم عليه. وإن الله ألقى في قلب بختنصر بن نبوزراذان بن سنحاريب بن دارياس بن نمروذ بن فالغ ابن عابر - ونمروذ صاحب إبراهيم عليه السلام، الذي حاجه في ربه - أن يسير إلى بيت المقدس، ثم يفعل فيه ما كان جده سنحاريب أراد أن يفعل. فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس، فلما فصل سائرًا أتى ملك بني إسرائيل الخبر أن بختنصر قد أقبل هو وجنوده يريدكم، فأرسل الملك إلى إرميا، فجاءه فقال: يا إرميا، أين ما زعمت لنا أن ربك أوحى إليك ألا يهلك أهل بيت المقدس حتى يكون منك الأمر في ذلك! فقال إرميا للملك: إن ربي لا يخلف الميعاد، وأنا به واثق.
فلما اقترب الأجل ودنا انقطاع ملكهم، وعزم الله تعالى على هلاكهم، بعث الله عز وجل ملكًا من عنده، فقال له: اذهب إلى إرميا واستفته. وأمره بالذي يستفتيه فيه. فأقبل الملك إلى إرميا، وقد تمثل له رجلًا من بني إسرائيل. فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري، فأذن له، فقال له الملك: يا نبي الله، أتيتك أستفتيك في أهل رحمي، وصلتُ أرحامهم بما أمرني الله به، لم آت إليهم إلا حسنًا، ولم آلهم كرامة. فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطًا لي، فأفتنى فيهم يا نبي الله! فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله، وصل ما أمرك الله أن تصل وأبشر بخير. قال: فانصرف عنه الملك، فمكث أيامًا ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل الذي كان جاءه، فقعد بين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قال. أنا الرجل الذي أتيتك أستفتيك في شأن أهلي، فقال له نبي الله: أو ما طهرت لك أخلاقهم بعد، ولم تر منهم الذي تحب! قال: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامةً يأتيها أحد من الناس إلا أهل رحمه إلا وقد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك. فقال النبي: ارجع إلى أهلك فأحسن إليهم، واسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم، وأن يجمعكم على مرضاته، ويجنبكم سخطه. فقام الملك من عنده فلبث أيامًا وقد نزل بختصر وجنوده حول بيت المقدس بأكثر من الجراد، ففزع منهم بنو إسرائيل فزعًا شديدًا، وشق ذلك على ملك بني إسرائيل فدعا إرميا فقال: يا نبي الله، أين ما وعدك الله؟ فقال: إني بربي واثق. ثم إن الملك أقبل إلى إرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده، فقعد بين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا الذي كنت أتيتك في شأن أهلي مرتين، فقال له النبي: أو لم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه! فقال الملك: يا نبي الله، كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه، وأعلم أن مآلهم في ذلك سخطي، فلما أتيتهم اليوم رأيتهم في عملٍ لا يرضاه الله ولا يحبه، قال له النبي: على أي عمل رأيتهم؟ قال: يا نبي الله، رأيتهم على عملٍ عظيم من سخط الله، فلو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم، لم يشتد غضبي عليهم، وصبرت لهم ورجوتهم، ولكني غضبت اليوم لله ولك، فأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله الذي هو بعثك بالحق إلا ما دعوت عليهم أن يهلكهم الله. قال إرميا: يا ملك السموات والأرض، إن كانوا على حق وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم.
فلما خرجت الكلمة من في إرميا أرسل الله عز وجل صاعقة من السماء في بيت المقدس فالتهب مكان القربان، وخسف بسبعة أبواب من أبوابها.
فلما رأى ذلك إرميا صاح وشق ثيابه، ونبذ التراب على رأسه، وقال: يا ملك السماء ويا أرحم الراحمين، أين ميعادك الذي وعدتني! فنودي: يا إرميا، إنه لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت بها رسولنا. فاستيقن النبي أنها فتياه التي أفتى بها ثلاث مرات، وأنه رسول ربه.
وطار إرميا حتى خالط الوحوش، ودخل بختصر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشأم، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرب بيت المقدس، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابًا ثم يقذقه في بيت المقدس، فقذفوا فيه التراب حتى ملئوه. ثم انصرف راجعًا إلى أرض بابل، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بين إسرائيل، فاختار منهم مائة ألف صبي، فلما خرجت غنائم جنده، وأراد أن يقسمها فيهم، قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك، لك عنائمنا كلها واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل. ففعل فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة - وكان من أولئك الغلمان: دانيال، وحنانيا، وعزاريا، وميشايل - وسبعة آلاف من أهل بيت داود، وأحد عشر ألفًا من سبط يوسف بن يعقوب وأخيه بنيامين، وثمانية آلاف من سبط أشر بن يعقوب، وأربعة عشر ألفًا من سبط زبالون ابن يعقوب، ونفثالي بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوي ابني يعقوب، وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب ومن بقي من بني إسرائيل. وجعلهم بختنصر ثلاث فرق، فثلثا أقر بالشام. وثلثًا سبى، وثلثًا قتل. وذهب بآنية بيت المقدس حتى أقدمها بابل. وذهب بالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل، وكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزلها الله ببني إسرائيل بإحداثهم وظلمهم.
فلما ولى بختنصر عنهم راجعًا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل أقبل إرميا على حمار له معه عصير من عنب في ركوة وسلة تين، حتى غشى إيلياء فلما وقف عليها ورأى ما بها من الخراب دخله شك، فقال: إني يحيى هذه الله بعد موتها! فأماته الله مائة عام، وحماره وعصيره وسلة تينه عنده حيث أماته الله وأمات حماره معه، وأعمى الله عنه العيون فلم يره أحد، ثم بعثه الله فقال له: " كم لبثت قال لبثت يومًا أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه " - يقول لم يتغير - " وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحمًا " فنظر إلى حماره يتصل بعض إلى بعض - وقد كان مات معه - بالعروق والعصب، ثم كيف كسى ذلك منه اللحم حتى استوى، ثم جرى فيه الروح، فقال ينهق. ثم نظر إلى عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين، قال: " أعلم أن الله على كل شيء قدير " ثم عمر الله إرميا بعد ذلك فهو الذي يرى بفلوات الأرض والبلدان.
ثم إن بختنصر أقام في سلطانه ما شاء الله أن يقيم، ثم رأى رؤيا، فبينما هو قد أعجبه ما رأى إذ رأى شيئًا أصابه فأنساه الذي كان رأى، فدعا دانيال، وحنانيا وعزاريا، وميشايل من ذ رارى الأنبياء، فقال: أخبروني عن رؤيا رأيتها، ثم أصابني شيء فأنسانيها، وقد كانت أعجبتني ما هي؟ قالوا له: أخبرنا بها نخبرك بتأويلها، قال: ما أذكرها، وإن لم تخبروني بتأويلها لأنزعن أكتافكم. فخرجوا من عنده، فدعوا الله واستغاثوا وتضرعوا إليه، وسألوه أن يعلمهم إياها. فأعلمهم الذي سألهم عنه. فجاءوه فقالوا له: رأيت تمثالًا؟ قال: صدقتم، قالوا: قدماه وساقاه من فخار، وركبتاه وفخذاه من نحاس، وبطنه من فضة، وصدره من ذهب، ورأسه وعنقه من حديد. قال: صدقتم. قالوا: فبينما أنت تنظر إليه قد أعجبك، فأرسل الله عليه صخرة من السماء فدقته، فهي التي أنستكها. قال: صدقتم، فما تأويلها؟ قالوا: تأويلها أنك أريتَ ملك الملوك، فكان بعضهم ألين ملكًا من بعض، وبعضهم كان أحسن ملكًا من بعض، وبعضهم كان أشد ملكًا من بعض، فكان أول الملك الخفار وهو أضعفه وألينه. ثم كان فوقه النحاس وهو أفضل منه وأشد، ثم كان فوق النحاس الفضة وهي أفضل من ذلك وأحسن، ثم كان فوق الفضة الذهب، فهو أحسن من الفضة وأفضل، ثم كان الحديد ملكك، فهو كان أشد الملوك وأعز مما كان قبله، وكانت الصخرة التي رأيت أرسل الله عليه من السماء فدقته، نبيًا يبعثه الله من السماء فيدق ذلك أجمع، ويصير الأمر إليه.
ثم إن أهل بابل قالوا لبختنصر أرأيت هؤلاء الغلمان من بني إسرائيل الذين كنا سألناك أن تعطيناهم ففعلت! فإنا والله لقد أنكرنا نساءنا منذ كانوا معنا، لقد رأينا نساءنا علقن بهم، وصرفن وجوههن إليهم، فأخرجهم من بين أظهرنا أو اقتلهم، قال: شأنكم بهم، فمن أحب منكم أن يقتل من كان في يده فليفعل، فأخرجوهم فلما قربوهم للقتل تضرعوا إلى الله قال: شأنكم بهم. فلما قربوهم للقتل تضرعوا إلى الله فقالوا: يا ربنا، أصابنا البلاء بذنوب غيرنا، فتحنن الله عليهم برحمته، فوعدهم أن يحيهم بعد قتلهم، فقتلوا إلا من اشتبقى بختنصر منهم، وكان ممن استبقى منهم: دانيال، وحنانيا، وعزاريا، وميشايل.
ثم إن الله تبارك وتعالى حين أراد هلاك بختنصر، انبعث فقال لمن كان في يديه من بني إسرائيل: أرأيتم هذا البيت الذي أخربت، وهؤلاء الناس الذين قتلت، من هم؟ وما هذا البيت؟ قالوا: هذا بيت الله ومسحد من مساجده، وهؤلاء أهله كانوا من ذرارى الأنبياء فظلموا وتعدوا وعصوا فسلطت عليهم بذبوهم، وكان ربهم رب السموات والأرض، ورب الخلق كلهم يكرمهم ويمنعهم ويعزهم، فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم الله وسلط عليهم غيرهم.
قال: فأخبروني ما الذي يطلع بي إلى السماء العليا، لعلي أطلع إليها فأقتل من فيها وأتخذها ملكًا؟، فإني قد فرغت من الأرض ومن فيها، قالوا له: ما تقدر على ذلك وما يقدر على ذلك أحد من الخلائق، قال: لتفعلن أو لأقتلنكم عن آخركم، فبكوا إلى الله وتضرعوا إليه، فبعث الله بقدرته - ليريه ضعفه وهوانه عليه - بعوضة فدخلت في منخره ثم ساخت في دماغه حتى عضت بأم دماغه، فما كان يقر ولا يسكن حتى يوجأ له رأسه على أم دماغه، فلما عرف الموت قال لخاصته من أهله: إذا مت فشقوا رأسي، فانظروا ما هذا الذي قتلني؟ فلما مات شقوا رأسه، فوجدوا البعوضة عاضة بأم دماغه ليرى الله العباد قدرته وسلطانه، ونجى الله من كان بقي في يديه من بني إسرائيل وترحم عليهم وردهم إلى الشأم وإلى إيلياء المسجد المقدس، فبنوا فيه وربلوا وكثروا حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه.
فيزعمون - والله أعلم - أن الله أحيا أولئك الموتى الذين قتلوا فلحقوا بهم.