إلى آخرها.
وقال المخبل، وهو ربيعة بن عوف السعدي:
يا عمرو إني قد هويتُ جماعكم ** ولكل من يهوى الجماع فراقُ
بل كم رأيتُ الدهر زايل بينه ** من لا يزايل بينه الأخلاقُ
طابت به الزباء وقد جعلت لها ** دورًا ومشربة لها أنفاق
حملت لها عمرًا ولا بخشونة ** من آل دومة رسلة معناق
حتى تفرعها بأبيض صارم ** عضبٍ يلوح كأنه مخراق
وأبو حذيفة يوم ضاق بجمعه ** شعبُ الغبيط فحومتة فأفاق
وله معد والعباد وطيئ ** ومن الجنود كتائب ورفاق
يهبُ النجائب والنزائع حوله ** جردًا كأنه متونها الإطلاق
فأتت عليه ساعة ما إن له ** مما أفاء ولا أفاد عتاقُ
فكأن ذلك يوم حم قضاؤه ** رفد أميل إناؤه مهراق
وقال بعض شعراء العرب:
نحن قتلنا فقحلا وابن راعن ** ونحن ختنا نبت زبا بمنجل
فلما أتتها العيرُ قالت أبارد ** من التمر هذا أم حديد وجندل
وقال عبد باجر - واسمه بهرا من العرب العاربة، وهم عشرة أحياء: عاد، وثمود، والعماليق، وطسم، وجديس، وأميم، والمود، وجرهم، ويقطن، والسلف قال: والسلف دخل في حمير -:
لا ركبت رجلك من بين الدلى ** لقد ركبت مركبًا غير الوطي
على العراقي بصفًا من الطوى ** إن كنتِ غضبي فاغضبي على الركي
وعاتبي القيم عمرو بن عدي
فصار الملك بعد جذيمة لابن أخته عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن الحارث بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لحم، وهو أول من اتخذ الحيرة منزلًا من ملوك العرب، وأول من مجده أهل الحيرة في كتبهم من ملوك العرب بالعراق، وإليه ينسبون، وهم ملوك آل نصر، فلم يزل عمرو بن عدي ملكًا حتى مات وهو ابن مائة وعشرين سنة، منفردًا بملكه، مستبدًا بأمره، يغزو المغازي ويصيب الغنائم، وتفد عليه الوفود دهره الأطول، لا يدين لملوك الطوائف بالعراق، ولا يدينون له، حتى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس.
وإنما ذكرنا في هذا الموضع ما ذكرنا من أمر جذيمة وابن أخته عمرو بن عدي لما كنا قدمنا من ذكر ملوك اليمن، أنه لم يكن لملكهم نظام، وأن الرئيس منهم إنما كان ملكًا على مخلافه ومحجره، لا يجاوز ذلك، فإن نزع منهم نازع، أو نبغ منهم نابغ فتجاوز ذلك - وإن بعدت مسافة سيره من مخلافه - فإنما ذلك منه عن غير ملك له موطد، ولا لآبائه، ولا لأبنائه، ولكن كالذي يكون من بعض من يشرد من المتلصصة، فيغير على الناحية باستغفاله أهلها، فإذا قصده الطلب لم يكن له ثبات، فكذلك كان أمر ملوك اليمن، كان الواحد منهم بعد الواحد يخرج عن مخلافه ومحجره أحيانًا فيصيب مما يمر به ثم يتشمر عند خوف الطلب، راجعًا إلى موضعه ومخلافه، من غير أن يدين له أحد من غير أهل مخلافه بالطاعة، أو يؤدي إليه خرجًا، حتى كان عمرو ابن عدي الذي ذكرنا أمره، وهو ابن أخت جذيمة الذي اقتصصنا خبره، فإنه اتصل له ولعقبه ولأسبابه الملك على ما كان بنواحي العراق وبادية الحجاز من العرب باستعمال ملوك فارس إياهم على ذلك، وستكفأهم أمر من وليهم من العرب، إلى أن قتل أبرويز بن هرمز النعمان بن المنذر، ونقل ما كانت ملوك فارس بجعلونه إليهم إلى غيرهم، فذكرنا ما ذكرنا من أمر حذيمة وعمرو ابن عدي من أجل ذلك، إذ كنا نريد أن نسوق تمامً التاريخ على ملك ملوك فارس، ونستشهد على صحة ما روي من أمرهم بما وجدنا إلى الاستشهاد به عليها سبيلًا. وكان أمرُ آل نصر بن ربيعة ومن كان من ولاة ملوك الفرس وعمالهم على ثغر العرب الذين هم ببادية العراق عند أهل الحيرة متعالمًا مثبتًا عندهم في كنائسهم وأسفارهم.
وقد حدثت عن هشام بن محمد الكلبي أنه قال: إني كنت أستخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر بن ربيعة، ومبالغ أعمار من عمل منهم لآل كسرى وتاريخ سنيهم من بيع الحيرة، وفيها ملكهم وأمورهم كلها.
فأما ابن حميد، فإنه حدثنا في أمر ولد نصر بن ربيعة ومصيرهم إلى أرض العراق غير الذي ذكره هشام، والذي حدثنا به من ذلك عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أنّ ربيعة بن نصر اللخمىّ رأى رؤيا نذكرها بعدُ - عند ذكر أمر الحبشة، وغلبتهم على اليمن وتعبير سطيح وشق وجوابهما عن رؤياه - ثم ذكر في خبره ذلك أن ربيعة بن نصر لما فرغ من مسألة سطيح وشق وجوابهما إياه، وقع في نفسه أن الذي قالا له كائن من أمر الحبشة، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ، فأسكنهم الحيرة. قال: فمن بقية ربيعة ابن نصر كان النعمان ملك حيرة، وهو النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر ابن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر. ذلك الملك في نسب أهل اليمن وعلمهم.
ذكر طسم وجديس

قال أبو جعفر: ونذكر الآن أمر طسم وجديس إذ كان أمرهم أيضًا كان في أيام ملوك الطوائف، وأن فناء جديس كان على يد حسان بن تبع، إذ كنا قدمنا فيما مضى ذكر تبابعة حمير، الذين كانوا على عهد ملوك فارس.
وحدثت عن هشام بن محمد. وحدثنا ابن حميد. قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق وغيرهما من علماء العرب، أن طسما وجديسًا كانوا من ساكني اليمامة، وهي إذ ذاك من أخصب البلاد وأعمرها وأكثرها خيرًا، لهم فيها صنوف الثمار ومعجبات الحدائق والقصور الشامخة، وكان عليهم ملك من طسم ظلوم غشوم، لا ينهاه شيء عن هواه، يقال له عملوق، مضرًا بجديس، مستذلًا لهم، وكان مما لقوا من ظلمه واستذلاله، أنه أمر بألا تهدى بكر من جديس إلى زوجها حتى تدخل عليه فيفترعها، فقال رجل من جديس، يقال له الأسود بن غفار لرؤساء قومه: قد ترون ما نحن فيه من العار والذل الذي ينبغي للكلاب أن تعافه وتمتعض منه، فأطيعوني فإني أدعوكم إلى عز الدهر، ونفي الذل. قالوا: وما ذاك قال: إني صانع للملك ولقومه طعامًا، فإذا جاؤوا نهضنا إليهم بأسيافنا وانفردت به فقتلته، وأجهز كل رجل منكم على جليسه، فأجابوه إلى ذلك، وأجمع رأيهم عليه فأعد طعامًا، وأمر قومه فانتضوا سيوفهم ودفنوها في الرمل، وقال: إذا أتاكم القوم يرفلون في حللهم، فخذوا سيوفهم، ثم شدوا عليهم قبل أن يأخذوا مجالسهم، ثم اقتلوا الرؤساء، فإنكم إذا قتلتموهم لم تكن السفلة شيئًا، وحضر الملك فقتل وقتل الرؤساء، فشدوا على العامة منهم، فأفنوهم، فهرب رجل من طسم يقال له رياح بن مرة، حتى أتى حسان بن تبع، فاستغاث به، فخرج حسان في حمير، فلما كان من اليمامة على ثلاث، قال له رياح: أبيت اللعن! إن لي أختًا متزوجة في جديس، يقال لها: اليمامة، ليس على وجه الأرض أبصر منها، إنها لتبصر الراكب من مسيرة ثلاث، وإني أخاف أن تنذر القوم بك، فمر أصحابك فليقطع كل رجل منهم شجرة فليجعلها أمامه ويسير وهي في يده، فأمرهم حسان بذلك، ففعلوا، ثم سار فنظرت اليمامة، فأبصرتهم، فقالت لجديس: لقد سارت حمير. فقالوا: وما الذين ترين؟ قالت: أرى رجلًا في شجرة، معه كتف يتعرقها، أو نعل يخصفها. فكذبوها، وكان ذلك كما قالت، وصبحهم حسان فأبادهم وأخرب بلادهم وهدم قصورهم وحصونهم.
وكانت اليمامة تسمى إذ ذاك جوا والقرية، وأتى حسان باليمامة ابنة مرة، فأمر بها ففقئت عيناها، فإذا فيها عروق سود، فقال لها: ما هذا السواد في عروق عينيك؟ قالت: حجير أسود يقال له الإثمد، كنت أكتحل به. وكانت فيما ذكروا أول من اكتحل بالإثمد، فأمر حسان بأن تسمى جو اليمامة.
وقد قالت الشعراء من العرب في حسان ومسيره هذا، فمن ذلك قول الأعشى:
كوني كمثل الذي إذ غاب وافدها ** أهدت له من بعيدٍ نظرةً جزعا
ما نظرت ذات أشفارٍ كنظرتها ** حقًا كما صدق الذئبى إذ سجعا
إذ قلبت مقلة ليست بمقرفةٍ ** إذ يرفع الآل رأس الكلب فارتفعا
قالت أرى رجلًا في كفه كتف ** أو يخصف النعل، لهفي أيةً صنعا!
فكذبوها بما قالت فصبحهم ** ذو آل حسان يزجى الموت والشرعا
فاستنزلوا أهل جوٍ من مساكنهم ** وهدموا شاخص البنيان فاتضعا
ومن ذلك قول النمر بن تولب العكلي:
هلا سألت بعادياء وبيته ** والخل والخمر التي لم تمنع
وفتاتهم عنزٍ عشية آنست ** من بعد مرأى في الفضاء ومسمعِ
قالت أرى رجلًا يقلب كفه ** أصلًا وجو آمن لم يفزع
ورأت مقدمة الخميس وقبله ** رقص الركاب إلى الصياح بتبعٍ
فكأن صالح أهل جو غدوة ** صبحوا بذيفان السمام المنقع
كانوا كأنعم من رأيت فأصبحوا ** يلوون زاد الراكب المتمتع
قالت يمامة احملوني قائمًا ** إن تبعثوه باركًا بي أصرع
وحسان بن تبع، الذي أوقع بجديس، هو ذو معاهر، وهو تبع بن تبع تبان أسعد أبي كرب بن ملكيكرب بن تبع بن أقرن، وهو أبو تبع بن حسان الذي يزعم أهل اليمن أنه قدم مكة، وكسا الكعبة، وأن الشعب من المطابخ إنما سمي هذا الاسم لنصبه المطابخ في ذلك الموضع وإطعامه الناس، وأن أجيادًا إنما سمي أجيادًا، لأن خيله كانت هنالك، وأنه قدم يثرب فنزل منزلًا يقال له منزل الملك اليوم، وقتل من اليهود مقتلة عظيمة بسبب شكاية من شكاهم إليه من الأوس والخزرج بسوء الجوار، وأنه وجه ابنه حسان إلى السند وسمرا ذا الجناح إلى خرسان، وأمرهما أن يستبقا إلى الصين، فمر سمر بسمر قند فأقام عليها حتى افتتحها، وقتل مقاتلتها، وسبى وحوى ما فيها ونفذ إلى الصين، فوافى حسان بها، فمن أهل اليمن من يزعم أنهما ماتا هنالك، ومنهم من يزعم أنهما انصرفا إلى تبع بالأموال والغنائم.
ومما كان في أيام ملوك الطوائف ما ذكره الله عز وجل في كتابه من أمر الفتية الذين أووا إلى الكهف فضرب على آذانهم.