كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عن النضر، عن ابن الرفيل، عن أبيه، قال: لما نزل رستم على العتيق وبات به، أصبح غاديًا على التصفح والحزر، فساير العتيق نحو خفان؛ حتى أتى على منقطع عسكر المسلمين، ثم صعد حتى انتهى إلى القنطرة؛ فتأمل القوم؛ حتى أتى على شئ يشرف منه عليهم؛ فلما وقف على القنطرة راسل زهرة، فخرج إليه حتى واقفه، فأراده أن يصالحهم، ويجعل له جعلًا على أن ينصرفوا عنه، وجعل يقول فيما يقول: انتم جيراننا وقد كانت طائفة منكم في سلطاننا؛ فكنا نحسن جوارهم، ونكف الأذى عنهم، ونوليهم المرافق الكثيرة، نحفظهم في أهل باديتهم؛ فنزعيهم مراينا، ونميرهم من بلادنا، ولا نمنعهم من التجارة في شئ من أرضنا؛ وقد كان لهم في ذلك معاش - يعرض لهم بالصلح؛ وإنما يخبره بصنيعهم، والصلح يريد ولا يصرح - فقال له زهرة: صدقت، قد كان ما تذكر؛ وليس أمرنا أمر أولئك ولا طلبتنا. إنا لم نأتكم لطلب الدنيا؛ إنما طلبنا وهمتنا الآخرة؛ كنا كما ذكرت، يدين لكم من ورد عليكم منا، ويضرع إليكم يطلب ما في أيديكم. ثم بعث الله تبارك وتعالى إلينا رسولًا، فدعانا إلى ربه، فأجبناه، فقال لنبيه : إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني، فأنا منتقم بهم منهم؛ وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به أحد إلا عز. فقال له رستم: وما هو؟ قال: أما عموده الذي لا يصلح منه شئ إلا به، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى. قال: ما أحسن هذا؟ وأي شئ أيضًا؟ قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى. قال: حسن، وأي شئ أيضًا؟ قال: والناس بنو آدم وحواء، إخوة لأب وأم، قال: ما أحسن هذا؟ ثم قال له رستم: أرأيت لو أني رضيت بهذا الأمر وأجبتكم إليه؛ ومعي قومي كيف يكون أمركم أترجعون؟ قال: إي والله، ثم لا نقرب بلادكم أبدًا إلا في تجارة أو حاجة. قال: صدقني الله، أما إن أهل فارس منذ ولى أردشير لم يدعوا أحدًا يخرج من عمله من السفلة، كانوا يقولن إذا خرجوا من أعمالهم: تعدوا طورهم. وعادوا أشرافهم. فقال له زهرة: نحن خير الناس للناس، فلا نستطيع أن نكون كما تقولون؛ نطيع الله في السفلة، ولا يضرنا من عصى الله فينا. فانصرف عنه، ودعا رجال فارس فذاكرهم هذا فحموا من ذلك وأنفوا، فقال: ابعدكم الله وأسحقكم أخزى الله أخرعنا وأجبنا؟ فلما انصرف رستم ملت إلى زهرة، فكان إسلامي؛ وكنت له عديدًا. وفرض لي فرائض أهل القادسية.
كتب إلي السري، عن شعيب عن سيف، عن محمد وطلحة وعمرو وزياد بإسنادهم مثله. قالوا: وأرسل سعد إلى المغيرة بن شعبة وبسر بن أبلي رهم وعرفجة بن هرثمة وحذيفة بن محصن وربعي بن عامر وقرفة بن زاهر التيمي ثم الوائلى ومذعور بن عدي العجلي، والمضارب بن يزيد العجلي ومعبد بن مرة العجلي - وكان من دهاة العرب - فقال: إني مرسلكم إلى هؤلاء القوم؛ فما عندكم؟ قالوا جميعًا: نتبع ما تأمرنا به، وننتهي غليه؛ فإذا جاء أمر لم يكن منك فيه شئ نظرنا أمثل ما ينبغي وأنفعه للناس؛ فكلمناهم به. فقال سعد: هذا فعل الحزمة، اذهبوا فتهيئوا، فقال ربعي بن عامر: إن الأعاجم لهم آراء وآداب، ومتى نأتهم جميعًا يروا أنا قد احتفلنا بهم؟ فلا تزدهم على رجل؛ فمألئوه جميعًا على ذلك، فقال: فسرحوني، فسرحه، فخرج ربعي ليدخل على رستم عسكره، فاحتسبه الذين على القنطرة، وأرسل إلى رستم لمجيئه، فاستشار عظماء أهل فارس، فقال: ما ترون أنباهي أم نتهاون فأجمع ملؤهم على التهاون، فأظهروا الزبرج، وبسطوا البسط والنمارق، ولم يتركوا شيئًا، ووضع لرستم سرير الذهب، وألبس زينته من النماط والوسائد المنسوجة بالذهب. وأقبل ربعي يسير على فرس له رباء قصيرة، معه سيف له، غمدة لفلفه ثوب خلق، ورمحه مغلوب بقدمعه حجفة من جلود البقر؛ على وجهها أديم أحمر مثل الرغيف، ومعه قوسه ونبله. فلما غشى الملك، وانتهى إليه وإلى أدنى البسط، قيل له: انزل، فحملها على البساط، فلما استوت عليه، نزل عنها وربطها بوسادتين فشقهما، ثم أدخل الحبل فيهما، فلم يستطيعوا أن ينهوه؛ وإنما أرواه التهاون وعرف ما أرادوا، فأراد استحراجهم، وعليه درع له كأنها أضاة ويلمقه عباءة بعيره، قد جابها وتدرعها، وشدها على وسطه بسلب وقد شد رأسه بمعجرته؛ وكان أكثر العرب شعرة، ومعجرته نسعة بعيره؛ ولرأسه أربع ضفائر؛ قد قمن قيامًا، كأنهن قرون الوعلة. فقالوا: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم فأضع سلاحي بأمركم، أنتم دعوتموني، فإن أبيتم أن آتيكم كما أريد رجعت. فأخبروا رستم؛ فقال: ائذنوا له؛ هل هو إلا رجل واحد؟ فأقبل يتوكأ على رمحه، وزجه نصل يقارب الخطو، ويزج النمارق والبسط؛ فما ترك لهم نمرقه ولا بساطًا إلا أفسده وتركه منهتكًا مخرقًا؛ فملما دنا من رستم تعلق به الحرس، وجلس على الأرض، وركز رمحه بالبسط، فقالوا: ما حملك على هذا؟ قال: إنا لا نستحب القعود على زينتكم هذه فكلمه، فقال: ما جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عباده العبادة إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه حتى نفضي إلى موعود الله قال: وما موعود الله: قال الجنة لمن مات على قتال من أبي لمن بقي فقال رستم: قد سمعت مقالتكمورجعنا عنه، وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبي قاتلناه أبدًا؛ فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا! قال: نعم، كم أحب إليكم؟ أيومًا أو يومين؟ قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. وأراد مقاربته ومدافعته، فقال: إن مما سن لنا رسول الله وعمل به أئتمتنا، ألا نمكن الأعداء من آذاننا، ولا نؤجلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثًا، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل، اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء، فنقبل ونكف عنك؛ وإن كنت عن نصرنا غنيًا تركناك منه، وإن كنت إليه محتاجًا منعناك؛ أو المنابذة في اليوم الرابع؛ ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا؛ أنا كفيل لك بذلك على أصحابي وعلى جميع من ترى. قال: أسيدهم أنت؟ قال: لا؛ ولكن المسلمين كالجسد بعضهم من بعض؛ يجير أدناهم على أعلاهم. فخلص رستم برؤساء أهل فارس، ما تورن؟ هل رأيتم كلامًا قط أوضح ولا أعز من كلام هذا الرجل؟ قالوا: معاذ الله لك أن تميل إلى شئ من هذا وتدع دينك لهذا الكلب! أما ترى إلى ثيابه! فقال: ويحكم لا تنظرو إلى الثبات؛ ولكن انظروا؛ ولكن انظروا إلى الرأى والكلام والسيرة؛ إن العرب تستخف باللباس والمأكل ويصونون الأحساب، ليسوا مثلكم في اللباس، ولا يرون فيه ما ترون. وأقبلوا إليه يتناولون سلاحه، ويزهدونه فيه، فقال لهم: هل لكم إلى أن تروني فأريكم؟ فأخرج سيفه من خرقه كأنه شعلة نار. فقال القوم: اغمد، فغمده؛ ثم رمى ترسًا ورموا حجفته، فخرق ترسهم، وسلمت حجفته، فقال: يا أهل فارس؛ إنكم عظمتم الطعام واللباس والشراب؛ وإنا صغرناهن. ثم رجع إلى أن ينظروا إلى الأجل، فلما كان من الغد بعثوا أن ابعث إلينا ذلك الرجل؛ فبعث إليهم سعد حذيفة بن