ولدي .......


لم أقطعك من شجرة هذا الوجود, بل وصلت مرضت وتألمت, وكدحت وتعذبت وقاتلت الفكرة عندي أختها , تناقضت وتزاوجت وتقاربت وتباعدت في عيني صور للحياة , فلم أذمم الشجرة ولم أحقد على من سقاها في تربة الوصال.


قبلت دورك في حمل الأمانة فكن أميناً عليها وحين تخاذلت عن حملها قمم الجبال هنا أو هناك , وهابتها فحملتها أنت لأنك - كما أتصور وكما يؤكد اختيارك لمسؤوليتك - أكبر حجماً من الجبال وأضخم وزناً في وعيك , فالحقيقية أسالت أودية هذا الكون في جمجمتك وأبقت لأتربة الكون ومجراته ضخامة الجسد وبدانته وأفرغته من الوعي وأشربتك مياهه.


إذا غصٌصتْكَ بريقك هذه المياه, في بعض الحالات , فلا تنصرف عن قدحها المملوء في يدك. أبق عليه ولا ترقه فوق رمال العدم. أنت هنا مصاب بالحسد فزد قسوة على حسدك! أبعد الرمية عن صدرك ! لا تنتحر ! أطلقها في جمجمة الفراغ ! لا تشغلك رماله فتهلك ! تذكر أن الرمال غور من المياه ! لا تلق بدلوك في أعماقها فتظمأ !


ولدي....... صون كرامتك وكرامة الآخرين وعامل الناس كما تحب أن يعاملوك. هذه لها في نفسي صوت حزين, أتسمعه فأرسله إليك؟


خشيتي أن يكون في سمعك وقر وفي بصيرتك عمى فاصرخ أو لا أصرخ , احزن أو لا أحزن , أبكي أو لا ابكي , ولا شئ يصلك أو تسمع صداه... فمتى تهدل أحزاني في نفسك هديل الحمام ؟ أسالك وسؤالي في عمر الوليد لم يكبر ولو كبر لانقضت رحلة الشتاء , وفاضت بنا على الربيع وعندئذ تقف بناء الدورة الزمنية عند قدمه وتنتهي المشكلة! فهل لي وأنا أرقب المشكلة من بعيد أن أضع المجهر في عينك لتبصر رتابة ممشى الزمن وتثاقل خطاه فوق رمال الجهالة ؟ والأسماع المرهفة في أصغائها إلى خطوه فجرت بها الأصوات المنكرة.


تعال معي نركب أجنحة الذكرى ونمر بها فوق أغوار المحيطات النفيسة وحتى لا نغرق في أعماقها فنتيه في بطون الحيتان تنكب سلاحك الروحي والعقلي وجار الذكرى في سيرها إلى أقصى ما تصل به إليه ولا تعصر إناءها فتغضب عليك فقد ألهمتنا التجربة إلهامات أسرعت إلينا في صور تشابهت على أعيننا كتشابه البقر في عيون المتسائلين عنه , تساءلوا وعصروا السؤال أشد ما يكون العصر , وعندما جاءهم الجواب ذبحوه, فعورات الذكريات وجمالها فرحة أعراس ومآتم نائحات على القبور.


فإذا رأيت مدافن الذكريات تخرج تباعاً من قيعان الزمن الطويل وتصعد إلى السطح وتعرض نفسها في أنقاض البلاء وأتربة المقابر والمدافن وساءلتها ما اسمك فردت عليك قائلة سماني الإنسان آثاره فقف معها لحظة وجدانية وعقلية وتساءل عن شبابها , وعن جمالها, وعن أحقادها, وعن شحها وكرمها, عم كبريائها وتواضعها, عن غرائزها, عن حروبها وبغضائها.


سائلها عن فاتناتها, عمن هام بهذه الفاتنات , ومن خلبن له في قصر أمير أو كوخ فقير.


سائلها في مدفن البلادة الحسية أو في جماجم فلاسفة أثينا وادن منها في الذكرى لترى أن كل شئ فيها قد تداعى في حلق الفناء , وهو فيض ثم غيض وهكذا الإنسان في تزاور ما بين بيت المأذون والقبر.


ولدي:


أفي قدرتك أن ترفع راسك مع من ارتفعت رؤوسهم وهاموا بالعلم؟


أفي قدرتك أن تعرف قدرك؟


أتمنى أن تكون كذلك, أخشى عليك أن تكون واحداً من القطيع , مع شروق الشمس تفتح لها أبواب البيوت , وتخرج وتدور في الفراغ إلى أن يأتي عليها الليل ثم تعود وتتساقط على جنوبها كالأكياس المطروحة فوق التراب.


رسالة الإنسان في هذه الحياة كبيرة , وكبيرة جداً , عظيمة جداً , احشد لها في وجدانك شموس هذا الكون , ونجومه, ومجراته, وأعصرها في وعيك لعلها تروي ظمأك, وتخرج بك من مقابر السكك والأسواق وبيت المتاجرة بوقاحة السلوك , أقول لها تخرج بك إلى حيث ترى نفسك وتصون آدميتك , فمن لم يصنها بالوعي استباحته بالجهالة.


فكتابنا العظيم دعوة عظيمة إلى أن ترفع رؤوسنا ونتفكر ونسبح في آفاق هذا الكون , فليس ما يجري اليوم مفاجأة لكتابنا المقدس ولكنه مفاجأة لمن لم تحكمه داخل نفسه إشارته العظيمة في اتجاه السمو الروحي والعقلي والفكري