الفصل الحادي و الثلاثون في صناعة الوراقة كانت العناية قديماً بالدواوين العلمية و السجلات في نسخها و تجليدها و تصحيحها بالرواية و الضبط. و كان سبب ذلك ما وقع من ضخامة الدولة و توابع الحضارة. و قد ذهب ذلك لهذا العهد بذهاب الدولة و تناقص العمران بعد أن كان منه في الملة الإسلامية بحر زاخر بالعراق و الأندلس إذ هو كله من توابع العمران و اتساع نطاق الدولة و نفاق أسواق ذلك لديهما. فكثرت التآليف العلمية و الدواوين و حرص الناس على تناقلهما في الآفاق و الأعصار فانتسخت و جلدت. و جاءت صناعة الوراقين المعانين للانتساخ و التصحيح و التجليد و سائر الأمور الكتبية. و الدواوين و اختصت بالأمصار العظيمة العمران. و كانت السجلات أولاً: لانتساخ العلوم و كتب الرسائل السلطانية و الإقطاعات، و الصكوك في الرقوق المهيأة بالصناعة من الجلد لكثرة الرفه و قلة التآليف صدر الملة كما نذكره. و قلة الرسائل السلطانية و الصكوك مع ذلك فاقتصروا على الكتاب في الرق تشريفاً للمكتوبات و ميلاً بها إلى الصحة و الإتقان. ثم طما بحر التآليف و التدوين و كثر ترسيل السلطان و صكوكه و ضاق الرق عن ذلك. فأشار الفضل بن يحيى صناعة الكاغد و صنعه و كتب فبه رسائل السلطان و صكوكه. و اتخذه الناس من بعده صحفاً لمكتوباتهم السلطانية و العلمية. و بلغت الإجادة في صناعته ما شاءت. ثم وقفت عناية أهل العلوم و همم أهل الدول على ضبط الدواوين العلمية و تصحيحها بالرواية المسندة إلى مؤلفيها و واضعيها لأنه الشأن الأهم من التصحيح و الضبط فبذلك تسند الأقوال إلى قائلها و الفتيا إلى الحاكم بها المجتهد في طريق استنباطها. و ما لم يكن تصحيح المتون بإسنادها إلى مدونها فلا يصح إسناد قول لهم و لا فتيا. و هكذا كان شأن أهل العلم و حملته في العصور و الأجيال و الآفاق. حتى لقد قصرت فائدة الصناعة الحديثية في الرواية على هذه فقط إذ ثمرتها الكبرى من معرفة صحيح الأحاديث و حسنها و مسندها و مرسلها و مقطوعها و موقوفها من موضوعها قد ذهبت و تمخضت زبدةً في ذلك الأمهات المتلقاة بالقبول عند الأمة. و صار القصد إلى ذلك لغواً من العمل. و لم تبق ثمرة الرواية و الاشتغال بها إلا في تصحيح تلك الأمهات الحديثية و سواها من كتب الفقه للفتيا، و غير ذلك من الدواوين و التآلبف العلمية. و اتصال سندها بمؤلفيها ليصح النقل عنهم، و الإسناد إليهم. و كانت هذه الرسوم بالمشرق و الأندلس معبدة الطرق واضحة المسالك. و لهذا نجد الدواوين المنتسخة لذلك العهد في أقطارهم على غاية من الإتقان و الإحكام و الصحة. و منها لهذا العهد بأيدي الناس في العالم أصول عتيقة تشهد ببلوغ الغاية لهم في ذلك. و أهل الآفاق يتناقلونها إلى الآن و يشدون عليها يد الضنانة و لقد ذهبت هذه الرسوم لهذا العهد جملة بالمغرب و أهله لانقطاع صناعة الخط و الضبط و الرواية منه بانتقاص عمرانه و بداوة أهله و صارت الأمهات و الدواوين تنسخ بالخطوط اليدوية تنسخها طلبة البربر صحائف مستعجمة برداءة الخط و كثرة الفساد و التصحيف فتستغلق على متصفحها و لا يحصل منها فائدة إلا في الأمل النادر. و أيضاً فقد دخل الخلل من ذلك في الفتيا فإن غالب الأقوال المعزوة غير مروية عن أئمة المذهب و إنما تتلقى من تلك الدواوين على ما هي عليه. و تبع ذلك أيضاً ما يتصدى إليه بعض أئمتهم من التأليف لقلة بصرهم بصناعته و عدم الصنائع الوافية بمقاصده. و لم ينق من هذا الرسم بالأندلس إلا إثارة خفية بالإمحاء و هي الاضمحلال فقد كاد العلم ينقطع بالكلية من المغرب. و الله غالب على أمره. و يبلغنا لهذا العهد أن صناعة الرواية قائمة بالمشرق و تصحيح الدواوين لمن يرومه بذلك سهل على مبتغيه لنفاق أسواق العلوم و الصنائع كما نذكره بعد. إلا أن الخط الذي بقي من الإجادة في الانتساخ هنالك إنما هو للعجم و في خطوطهم. و أما النسخ بمصر ففسد كما فسد بالمغرب و أشد. و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.
الفصل الثاني و الثلاثون في صناعة الغناء هذه الصناعة هي تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة يوقع كل صوت منها توقيعاً عند قطعه فيكون نغمة. ثم تؤلف تلك النغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة فيلذ سماعها لأجل ذلك التناسب و ما يحدث عنه من الكيفيه في تلك الأصوات. و ذلك أنه تبين في علم الموسيقى أن الأصوات تتناسب، فيكون صوت نصف صوت و ربع آخر و خمس آخر و جزء من أحد عشر من آخر و اختلاف هذه النسب عند تأديتها إلى السمع بخروجها من البساطة إلى التركيب و ليس كل تركيب منها ملذوذاً عند السماع بل للمنذور تراكيب خاصة و هي التي حصرها أهل علم الموسيقى و تكلموا عليها كما هو مذكور في موضعه و قد يساوق ذلك التلحين في النغمات الغنائية بتقطيع أصوات أخرى من الجمادات إما بالقرع أو بالنفخ في الآلات تتخذ لذلك فترى لها لذة عند السماع. فمنها لهذا العهد بالمغرب أصناف منها المزمار و يسمونه الشبابة و هي قصبة جوفاء بأبخاش في جوانبها معدودة ينفخ فيها فتصوت. فيخرج الصوت من جوفها على سداده من تلك الأبخاش و يقطع الصوت بوضع الأصابع من اليدين جميعاً على تلك الأبخاش وضعا متعارفاً حتى تحدث النسب بين الأصوات فيه و تتصل كذلك متناسبة فيلتذ السمع بإدراكها للتناسب الذي ذكرناه. و من جنس هذه الآلة المزمار الذي يسمى الزلامي و هو شكل القصبة منحوتة الجانبين من الخشب جوفاء من غير تدوير لأجل ائتلافها في قطعتين منفردتين كذلك بأبخاش معدودة ينفخ فيها بقصبة صغيرة توصل فينفذ النفخ بواسطتها إليها و تصوت بنغمة حادة يجرى فيها من تقطيع الأصوات من تلك الأبخاش بالأصابع مثل ما يجري في الشبابة. و من أحسن آلات الزمر لهذا العهد البوق و هو بوق من نحاس أجوف في مقدار الذراع. يتسع إلى أن يكون انفراج مخرجه في مقدار دون الكف في شكل بري القلم. و ينفخ فيه بقصبة صغيرة تؤدي الريح من الفم إليه فيخرج الصوت ثخيناً دوياً و فيه أبخاش أيضاً معدودة. و تقطع نغمة منها كذلك بالأصابع على التناسب فيكون ملذوذاً. و منها آلات الأوتار و هي جوفاء كلها إما على شكل قطعة من الكرة مثل المربط و الرباب أو على شكل مربع كالقانون توضع الأوتار على بسائطها مشدودة في رأسها إلى دسر جائلة ليأتي شد الأوتار و رخوها عند الحاجة إليه بإدارتها. ثم تقرع الأوتار إما بعود آخر أو بوتر مشدود بين طرفي قوس يمر عليها بعد أن يطلى بالشمع و الكندر. و يقطع الصوت فيه بتخفيف اليد في إمراره أو نقله من وتر إلى وتر. و اليد اليسرى مع ذلك في جميع آلات الأوتار توقع بأصابعها على أطراف الأوتار فيما يقرع أو يحك بالوتر فتحدث الأصوات متناسبة ملذوذة. و قد يكون القرع في الطسوت بالقضبان أو في الأعواد بعضها ببعض على توقيع مناسب يحدث عنه التذاذ بالمسموع. و لنبين لك السبب في اللذة الناشئة عن الغناء. و ذلك أن اللذة كما تقرر في موضعه هي إدراك الملائم و المحسوس إنما تدرك منه كيفية. فإذا كانت مناسبة للمدرك و ملائمة كانت ملذوذة، و إذا كانت منافية له منافرة كانت مؤلمة. فالملائم من الطعوم ما ناسبت كيفيته حاسة الذوق في مزاجها و كذا الملائم من الملموسات و في الروائح ما ناسب مزاج الروح القلبي البخاري لأنه المدرك و إليه تؤديه الحاسة. و لهذا كانت الرياحين و الأزهار العطريات أحسن رائحة و أشد ملاءمة للروح لغلبة الحرارة فيها التي هي مزاج الروح القلبي. و أما المرئيات و المسموعات فالملائم فيها تناسب الأوضاع في أشكالها و كيفياتها فهو أنسب عند النفس و أشد ملاءمة لها. فإذا كان المربي متناسباً في أشكاله و تخاطيطه التي له بحسب مادته بحيث لا يخرج عما تقتضيه مادته الخاصة من كمال المناسبة و الوضع و ذلك هو معنى الجمال و الحسن في كل مدرك. كان ذلك حينئذ مناسباً للنفس المدركة فتلتذ بإدراك ملائمها، و لهذا تجد العاشقين المستهترين في المحبة يعبرون عن غاية محبتهم و عشقهم بامتزاج