الفصل التاسع و الخمسون: في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر اعلم أن الشعر كان ديوانا للعرب فيه علومهم و أخبارهم و حكمهم. و كان رؤساء العرب منافسين فيه و كانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده و عرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشأن و أهل البصر لتمييز حوله. حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام موضع حجهم و بيت أبيهم إبراهيم كما فعل امرؤ القيس ابن حجر و النابغة الذبياني و زهير بن أبى سلمى و عنترة بن شداد و طرفة بن العبد و علقمة بن عبدة و الأعشى و غيرهم من أصحاب المعلقات السبع. فإنه إنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها من كان له قدرة على ذلك بقومه و عصبته و مكانه في مضر على ما قيل في سبب تسميتها بالمعلقات. ثم انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام بما شغلهم من أمر الدين والنبؤة و الوحي و ما أدهشهم من أسلوب القرآن و نظمه فأخرسوا عن ذلك و سكتوا عن الخوض في النظم و النثر زمانا. ثم استقر ذلك و أونس الرشد من الملة. و لم ينزل الوحي في تحريم الشعر و حظره و سمعه النبي صلى الله عليه و سلم و أثاب عليه، فرجعوا حينئذ إلى ديدنهم منه. و كان لعمر بن أبي ربيعة كبير قريش لذلك العهد مقامات فيه عالية و طبقة مرتفعة و كان كثيرا ما يعرض شعره على ابن عباس فيقف لاستماعه معجبا به. ثم جاء من بعد ذلك الملك الفحل و الدولة العزيزة و تقرب إليهم العرب بأشعارهم يمتدحونهم بها. و يجيزهم الخلفاء بأعظم الجوائز على نسبة الجودة في أشعارهم و مكانهم من قومهم و يحرصون على استهداء أشعارهم يطلعون منها على الآثار و الأخبار و اللغة و شرف اللسان. و العرب يطالبون ولدهم بحفظها. و لم يزل هذا الشأن أيام بني أمية و صدرا من دولة بني العباس. و انظر ما نقله صاحب العقد في مسامرة الرشيد للأصمعي في باب الشعر و الشعراء تجد ما كان عليه الرشيد من المعرفة بذلك و الرسوخ فيه و العناية بانتحاله و التبصر بجيد الكلام و رديئه و كثرة مخفوظه منه. ثم جاء خلق من بعدهم لم يكن اللسان لسانهم من أجل العجمة و تقصيرها باللسان و إنما تعلموه صناعة ثم مدحوا بأشعارهم أمراء العجم الذين ليس اللسان لهم طالبين معروفهم فقط لا سوى ذلك من الأغراض كما فعله حبيب و البحتري و المتنبئ و ابن هانئ و من بعدهم و هلم جرا. فصار غرض الشعر في الأغلب إنما هو الكذب و الاستجداء لذهاب المنافع التي كانت فيه للأولين كما ذكرناه آنفا. و أنف منه لذلك أهل الهمم و المراتب من المتأخرين و تغير الحال و أصبح تعاطيه هجنة في الرئاسة و مذمة لأهل المناصب الكبيرة. و الله مقلب الليل و النهار.
الفصل الستون: في أشعار العرب و أهل الأمصار لهذا العهد اعلم أن الشعر لا يختص باللسان العربي فقط بل هو موجود في كل لغة سواء كانت عربية أو عجمية و قد كان في الفرس شعراء و في يونان كذلك و ذكر منهم أرسطو في كتاب المنطق أوميروس الشاعر و أثنى عليه. و كان في حمير أيضا شعراء متقدمون. و لما فسد لسان مضر و لغتهم التي ذونت مقاييسها و قوانين إعرابها و فسدت اللغات من بعد بحسب ما خالطها و مازجها من العجمة فكانت تحيل العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الإعراب جملة و في كثير من الموضوعات اللغوية و بناء الكلمات. و كذلك الحضر أهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر في الإعراب و أكثر الأوضاع و التصاريف وخالفت أيضا لغة الجيل من العرب لهذا العهد. و اختلفت هي في نفسها بحسب اصطلاحات أهل الآفاق فلأهل الشرق و أمصاره لغة غير لغة أهل المغرب و أمصاره وتخالفهما أيضا لغة أهل الأندلس و أمصاره. ثم لما كان الشعر موجودا بالطبع في أهل كل لسان لأن الموازين على نسبة واحدة في أعداد المتحركات و السواكن و تقابلها موجودة في طباع البشر فلم يهجر الشعر بفقدان لغة واحدة و هي لغة مضر الذين كانوا فحولة و فرسان ميدانه حسبما اشتهر بين أهل الخليقة. بل كل جيل وأهل كل لغة من العرب المستعجمين و الحضر أهل الأمصار يتعاطون منه ما يطاوعهم في انتحاله و رصف بنائه على مهيع كلامهم. فأما العرب أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر فيعرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون و يأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر و أغراضه من النسيب و المدح و الرثاء و الهجاء و يستطردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام. و ربما هجموا على المقصود لأول كلامهم و أكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر ثم بعد ذلك ينسبون. فأهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد بالأصمعيات نسبة إلى الأصمعي راوية العرب في أشعارهم و أهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر بالبدوي والحورانى و القيسي. و ربما يلحنون فيه ألحانا بسيطة لا على طريقة الصناعة الموسيقية. ثم يغنون به و يسمون الغناء به باسم الحوراني نسبة إلى حوران من أطراف العراق و الشام و هي من منازل العرب البادية و مساكنهم إلى هذا العهد. و لهم فن آخر كثير التداول في نظمهم يجيئون به معصبا على أربعة أجزاء يخالف آخرها الثلاثة في رويه و يلتزمون القافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة شبيها بالمربع و المخمس الذي أحدثه المتأخرون من المولدين. و لهؤلاء العرب في هذا الشعر بلاغة فائقة و فيهم الفحول و المتأخرون و الكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد و خصوصا علم اللسان يستنكر صاحبها هذه الفنون التي لهم إذا سمعها و يمج نظمهم إذا أنشد و يعتقد أن ذوقه إنما نبا عنها لاستهجانها و فقدان الإعراب منها. و هذا إنما أتى من فقدان الملكة في لغتهم فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعة و ذوقه ببلاغتها إن كان سليما من الآفات في فطرته و نظره و إلا فالإعراب لا مدخل له في البلاغة إنما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود و لمقتضى الحال من الوجود فيه سواء كان الرفع دالا على الفاعل و النصب دالا على المفعول أو بالعكس و إنما يدل على ذلك قرائن الكلام كما هو في لغتهم هذه. فالدلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة فإذا عرف اصطلاح في ملكة و اشتهر صحة الدلالة و إذا طابقت تلك الدلالة المقصود و مقتضى الحال صحت البلاغة و لا عبرة بقوانين النحاة في ذلك. و أساليب الشعر و فنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم فإن غالب كلماتهم موقوفة الآخر. و يتميز عندهم الفاعل من المفعول و المبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب. فمن أشعارهم على لسان الشريف بن هاشم يبكي الجارية بنت سرحان، و يذكر ظعنها مع قومها إلى المغرب: قال الشريف ابن هاشم علي ترى كبدي حرى شكت من زفيرها يغز للإعلام أين ما رأت خاطري يرد غلام البدو يلوي عصيرا و ماذا شكاة الروح مما طرا لها عداة وزائع تلف الله خبيرها يحس إن قطاع عامر ضميرها طوى و هند جافي ذكيرها و عادت كما خوارة في يد غاسل على مثل شوك الطلح عقدوا يسيرها تجابذوها اثنين و النزع بينهم على شوك لعه و البقايا جريرها و باتت دموع العين ذارفات لشانها شبيه دوار السواني يديرها تدارك منها النجم حذرا و زادها مرون يجي متراكبا من صبيرها يصب من القيعان من جانب الصفا عيون و لجاز البرق في غزيرها هاذا الغنى حتى تسابيت غزوة ناضت من بغداد حتى فقيرها و نادى المنادي بالرحيل و شدوا و عرج عاريها على مستعيرها و شد لها الأدهم دياب بن غانم على أيدين ماضي وليد مقرب ميرها و قال لهم حسن بن سرحان غزبوا و سوقوا النجوع إن كان أنا هو غفيرها و يركض و بيده شهامه بالتسامح و باليمين لا يجدوا في مغيرها غدرني زيان السيح من عابس و ما كان يرضى زين حمير و ميرها غدرني و هو زعما صديقي و صاحبي و أناليه ما من درقتي ما يديرها و رجع يقول لهم بلال بن هاشم بحرالبلادالعطشى ما بخيرها حرام علي باب بغداد و أرضها داخل و لا عائد ركيره من نعيرها تصدف روحي عن بلاد بن هاشم على الشمس أوحول الغظامن هجيرها و باتت نيران العذارى قوادح يلوذ و بجرجان يشدوا أسيرها ومن قولهم في رثاء أمير زناتة أبي سعدى اليفرني مقارعهم بأفريقية و أرض الزاب و رثاؤهم له على جهة التهكم: تقول فتاة الحي سعدى و هاضها لها في ظعون الباكرين عويل أيا سائلي عن قبر الزناتي خليفه خذ النعت مني لا تكون هبيل تراه يعالي وادي ران و فوقه من الربط عيساوي بناه طويل أراه يميل النور من شارع النقا به الواد شرقا و اليراع دليل أيا لهف كبدي على الزناتي خليفه قد كان لأعقاب الجياد سليل قتيل فتى الهيجا دياب بن غانم جراحه كافواه المزاد تسيل أيا جائزا مات الزناتي خليفه لاترحل إلا أن يريذ رحيل ألا واش رحلنا ثلاثين مرة و عشرا و ستا في النهار قليل و من قولهم على لسان الشريف بن هاشم يذكر عتابا وقع بينه و بين ماضي بن مقرب: تبدى ماضي الجبار و قال لي أشكر ما نحنا عليك رضاش أشكر أعد ما بقي ود بيننا و رانا عريب عربا لابسين نماش نحن غدينا نصدفو ما قضى لنا كما صادفت طعم الزباد طشاش أشكر أعد إلى يزيد ملامه ليحدو و من عمر بلاده عاش إن كان نبت الشوك يلقح بأرضكم هنا العرب ما زدنا لهن صياش و من قولهم في ذكر رحلتهم إلى الغرب و غلبهم زناتة عليه: و أي جميل ضاع لي في الشريف بن هاشم و أي رجال ضاع قبلي جميلها لقد كنت أنا وياه في زهو بيتنا عناني بحجة