عبد الله المغلوث


دخلت الصالون وهي ترتدي أجمل ابتسامة. تميط اللثام عن أسنان ناصعة وسعادة هائلة. قبل أن تشرع في قراءة الكتاب الذي أخرجته من حقيبتها الأنيقة تقدمت نحوها مصففة شعرها بانشراح. رحبت بها بحرارة ثم ناولتها صورة قائلة: "اخترت لك سيدتي هذه التسريحة. شعرت أنها تناسبك". تصفحتها الزبونة السعيدة على عجل وقالت وهي تمد لها جوالها: "لا، لدي تسريحة أجمل منها. إنها في هاتفي". تأملت المصففة شاشة الجوال الصغيرة بتأن ثم ابتسمت قائلة: "لكِ ما تريدين".
سرقت انتباهي تلك الزبونة البريطانية. لفتت نظري ليس بسبب ابتسامتها أو تسريحتها، بل بسبب عمرها. إنها تتجاوز الثمانين عاما، لكنها تتحلى بروح وحيوية فتاة يافعة. مازالت تركض خلف الموضة والتسريحات الحديثة بحماسة. مازالت تقبل على الحياة كأنها في العشرين.

جارها الأسكتلندي، الدكتور جيمس ميرليس (73 عاما)، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1996، يتشبث بالحياة هو الآخر لكن بنظارته السميكة وأحلامه العديدة. كان يتحدث بحبور في لقائه التلفزيوني كأنه فاز بنوبل أمس وليس قبل 14 عاما. كان سعيدا جدا وهو يمطر المذيع بكلمات صينية تعلمها للتو.

لدى ميرليس شهية مفتوحة لالتهام المزيد من الكتب واللغات رغم آلام عينيه الطفيفة. جدوله اليومي مزدحم بالفعاليات والأنشطة والفواكه. يبدأ يومه في الساعة السادسة صباحا بالتهام صحيفة وتفاحة. ثم ينخرط في قراءة ما تيسر من كتاب قبل أن يذهب إلى الجامعة. عصرا يذهب إلى المعهد لتعلم اللغة الصينية ومساء يزاول الرياضة وتصفح بريده الإلكتروني. قبل أن يخلد إلى النوم يتناول موزة وكتابا. يقول: "كلما كان يومي متخما ازدادت بشرتي نصاعة وابتسامتي اتساعا".
يحلم ميرليس أن يتعلم الصينية والألمانية والكثير من المهارات التقنية المتسارعة مستحضرا كلمات الفيلسوف الإنجليزي، فرنسيس بايكون: "الشيخوخة في الروح وليست في الجسد".

الإنجليز ليسوا وحدهم الذين يتمتعون بالحياة حتى آخرة قطرة، فالسنغافوريون يفعلون ذلك بمهارة. يعترف رجل الأعمال السنغافوري الناجح تشو باو (83 عاما) أنه لا ينام سوى أربع ساعات يوميا. يقول: "لا أود أن أهدر يومي في الفراش". يقضي تشو جل يومه في المكتب أو مع أبنائه. يلعب معهم كرة السلة أو يطهو لهم. يرى السنغافوري أن الموت يهرب منه كلما وجده سعيدا. يقول في مذكراته التي صدرت العام الماضي: "أنا لا أخاف من الموت. سيحملني يوما ما.. عاجلا أم آجلا، لكن لماذا أناديه قبل أوانه؟".

المسنون في العالم يركضون ويستمتعون، يتبرجون ويتعلمون، لكن أقرانهم في دولنا العربية مريضون وحزينون ومكتئبون، يموتون قبل الموت.
لمَ لا نجد سبعينيا يدرس في الجامعة أو يتعلم لغة أخرى؟ لمَ لا نجد كبيرة في السن تصبغ شعرها وتغير تسريحتها بين الحين والآخر؟
لماذا تنطفئ حماسة معظم آبائنا في الستين؟ يقلع كبارنا عن السعادة والفرح مبكرا. يحرمون أنفسهم والآخرين من إمكاناتهم إثر تقوقعهم وانزوائهم.

في الغرب عندما يتقدم الإنسان في السن تظهر عليه ملامح الرفاه والارتياح، فقد تحرر من الكثير من الالتزامات وتفرغ لهواياته وسعادته. في المقابل، يذوي إنساننا عندما يكبر. تصيبه الأمراض الواحد تلو الآخر إثر جلوسه وإحباطه. ينتظر الموت أن يلتقطه في أي لحظة.

الإقبال على الحياة يطيل العمر((1)) ويسعد الإنسان وينعكس على أدائه وعمله. ألم يقل سيد الخلق عليه الصلاة والسلام: "خير الناس من طال عمره وحسن عمله".
فلمَ لا نطيل أعمار آبائنا بإسعادهم وإخراجهم من عزلتهم وقنوطهم، بتدريبهم على تقنيات حديثة وتحفيزهم على خوض غمار تجارب جديدة؟ إن من لا يجيد أصول اللعبة لن يخوضها. فلنعلمهم ونعيد الحياة والحماسة إلى أرواحهم وأطرافهم.

علينا أن نشجع أمهاتنا وآباءنا وأقاربنا على ممارسة ما يحبون.. أن يصبغوا شعرهم ويلونوا حياتهم دون أن نطفئهم بعبارات قاسية سرا وعلانية على شاكلة (متصابية) أو (مراهق في الخمسين) تجعلهم يذبلون ويختفون.
تأثرت جدا عندما سألني قبل عدة أشهر رجل في العقد الخامس أن أساعده في كتابة رسالة نصية من جواله.
من لا يعرف كتابة رسالة هاتفية قطعا لا يستطيع أن يرسل إيميلا أو يتصفح موقعا إلكترونيا. الأمية في وقتنا الحاضر لم تعد تقتصر على القراءة بل على التعاطي مع وسائل التقنية الحديثة.
فالإنجاز والإبداع لا يرتبطان بعمر ومرحلة معينة. تصفحوا أهم اختراعات وابتكارات ومؤلفات العالم وستجدون أن خلفها مسنين يتدفقون حياة وموهبة. فلمَ لا نصفق لمسنينا وندعمهم ونؤازرهم كبقية العالم؟
إذا لم نغير عاداتنا وسلوكياتنا فلن نكون أوفر حظا من آبائنا ، فهم نتيجة لثقافتنا وأسلوبنا العقيم. سنستمر متأخرين، ومتخلفين عن الركب، سنهرم مبكرا، وسنُهزَم مبكرا، وسنموت قبل الموت.