صفحة 25 من 27 الأولىالأولى ... 152324252627 الأخيرةالأخيرة
النتائج 97 إلى 100 من 108

الموضوع: تاريخ الرسل والملوك(الجزء الخامس)

العرض المتطور


  1. #1
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 483
    Array

    فأقبل به زائدة حتى دفعه، فدعا ابن زياد بالمختار، فأخرجه، ثم قال له قد أجلتك ثلاثًا، فإن أدركتك بالكوفة بعدها قد برئت منك الذمة. فخرج إلى رحله. وقال ابن زياد: والله لقد اجترأ علي زائدة حين يرحل إلى أمير المؤمنين حتى يأتيني بالكتاب في تخلية رجل قد كان من شأني أن أطيل حبسه، علي به. فمر به عمرو بن نافع أبو عثمان - كاتبٌ لابن زياد - وهو يطلب، وقال له: النجاء بنفسك، واذكرها يدًا لي عندك.
    قال: فخرج زائدة، فتوارى يومه ذلك. ثم إنه خرج في أناس من قومه حتى أتى القعقاع بن شور الذهلي، ومسل بن عمرو الباهلي، فأخذا له من ابن زياد الأمان.
    قال هشام: قال أبو مخنف: ولما كان اليوم الثالث خرج المختار إلى الحجاز، قال: فحدثني الصقعب بن زهير، عن ابن العرق، مولىً لثقيف. قال: أقبلت من الحجاز حتى إذا كنت بالبسيطة من وراء واقصة استقبلت المختار بن أبي عبيد خارجًا يريد الحجاز حين خلى سبيله ابن زياد، فلما استقبلته رحبت به، وعطفت إليه، فلما رأيت شتر عينه استرجعت له، وقلت له بعد ما توجعت له: ما بال عينك، صرف الله عنك السوء! فقال: خبط عيني ابن الزانية بالقضيب خبطةً صارت إلى ما ترى. فقلت له: ما له شلت أنامله! فقال المختار: قتلني الله إن لم أقطع أنامله وأباجله وأعضاءه إربًا إربًا؛ قال: فعجبت لمقالته، فقلت له: ما علمك بذلك رحمك الله؟ فقال لي: ما أقول لك فاحفظه عني حتى ترى مصداقه.
    قال: ثم طفق يسألني عن عبد الله بن الزبير، فقلت له: لجأ إلى البيت، فقال: إنما أنا عائذٌ برب هذه البنية، والناس يتحدثون أنه يبايع سرًا، ولا أراه إلا لو قد اشتدت شوكته واستكثف من الرجال إلا سيظهر الخلاف؛ قال: أجل، لا شك في ذلك، أما إنه رجل العرب اليوم، أما إنه إن يخطط في أثري، ويسمع قولي أكفه أمر الناس، وإلا يفعل فوالله ما أنا بدون أحد من العرب، يابن العرق، إن الفتنة قد أرعدت وأبرقت، وكأن قد انبعثت فوطئت في خطامها، فإذا رأيت ذلك وسمعت به بمكان قد ظهرت فيه فقل: إن المختار في عصائبه من المسلمين، يطلب بدم المظلوم الشهيد المقتول بالطف، سيد المسلمين، وابن سيدها، الحسين ابن علي، فوربك لأقتلن بقتله عدة القتلى التي قتلت على دم يحيى بن زكرياء عليه السلام؛ قال: فقلت له: سبحان الله! وهذه أعجوبة مع الأحدوثة الأولى؛ فقال: هو ما أقول لك فاحفظه عني حتى ترى مصداقه. ثم حرك راحلته، فمضى ومضيت معه ساعةً أدعو الله له بالسلامة، وحسن الصحابة. قال: ثم إنه وقف فأقسم علي لما انصرفت، فأخذت بيده! فودعته، وسلمت عليه، وانصرفت عنهن فقلت في نفسي: هذا الذي يذكر لي هذا الإنسان، - يعني المختار - مما يزعم أنه كائن، أشيءٌ حدث به نفسه! فوالله ما أطلع الله على الغيب أحدًا، وإنما هو شيءٌ يتمناه فيرى أنه كائن، فهو يوجب رأيه، فهذا والله الرأي الشعاع، فوالله ما كل ما يرى الإنسان أنه كائن يكون؛ قال: فوالله ما مت حتى رأيت كل ما قاله. قال: فوالله لئن كان ذلك من علمٍ ألقي إليه لقد أثبت له، ولئن كان ذلك رأيًا رآه، وشيئًا تمناه، لقد كان.
    قال أبو مخنف: فحدثني الصقعب بن زهير، عن ابن العرق، قال: فحدثت بهذا الحديث الحجاج بن يوسف، فضحك ثم قال لي: إنه كان يقول أيضًا:
    ورافعةٍ ذيلها ** وداعية ويلها
    بدجلة أو حولها
    فقلت له: أترى هذا شيئًا كان يخترعه، وتخرصًا يتخرصه، أم هو من علم كان أوتيه؟ فقال: والله ما أدري ما هذا الذي تسألني عنه، ولكن لله دره! أي رجل دينًا، ومسعر حرب، ومقارع أعداء كان!
    قال أبو مخنف: فحدثني أبو سيف الأنصاري من بني الخزرج، عن عباس بن سهل بن سعد، قال: قدم المختار علينا مكة، فجاء إلى عبد الله ابن الزبير وأنا جالسٌ عنده، فسلم عليه، فرد عليه ابن الزبير، ورحب به، وأوسع له، ثم قال: حدثني عن حال الناس بالكوفة يا أبا إسحاق؛ قال: هم لسلطانهم في العلانية أولياء، وفي السر أعداء؛ فقال له ابن الزبير: هذه صفة عبيد السوء، إذا رأوا أربابهم خدموهم وأطاعوهم، فإذا غابوا عنهم شتموهم ولعنوهم؛ قال: فجلس معنا ساعةً، ثم إنه مال إلى ابن الزبير كأنه يساره، فقال له: ما تنتظر! ابسط يدك أبايعك، وأعطنا ما يرضينا، وثب على الحجاز فإن أهل الحجاز كلهم معك. وقام المختار فخرج، فلم ير حولًا؛ ثم إني بينا أنا جالسٌ مع ابن الزبير إذ قال لي ابن الزبير: متى عهدك بالمختار بن أبي عبيد؟ فقلت له: ما لي به عهد منذ رأيته عندك عامًا أول؛ فقال: أين تراه ذهب! لو كان بمكة، لقد رئي بها بعد، فقلت له: إني انصرفت إلى المدينة بعد إذ رأيته عندك بشهر أو شهرين، فلبثت بالمدينة أشهرًا، ثم إني قدمت عليك، فسمعت نفرًا من أهل الطائف جاءوا معتمرين يزعمون أنه قدم عليهم الطائف، وهو يزعم أنه صاحب الغضب، ومبير الجبارين، قال: قاتله الله! لقد انبعث كذابًا متكهنًا، إن الله إن يهلك الجبارين يكن المختار أحدهم. فوالله ما كان إلا ريث فراغنا من منطقنا حتى عن لنا في جانب المسجد، فقال ابن الزبير: اذكر غائبًا تره؛ أين تظنه يهوى؟ فقلت: أظنه يريد البيت، فأتى البيت فاستقبل الحجر، ثم طاف بالبيت أسبوعًا، ثم صلى ركعتين عند الحجر، ثم جلس، فما لبث أن مر به رجال من معارفه من أهل الطائف وغيرهم من أهل الحجاز، فجلسوا إليه، واستبطأ ابن الزبير قيامه إليه، فقال: ما ترى شأنه لا يأتينا! قلت: لا أدري، وسأعلم لك علمه، فقال: ما شئت، وكأن ذلك أعجبه.
    قال: فقمت فمررت به كأني أريد الخروج من المسجد، ثم التفت إليه، فأقبلت نحوه ثم سلمت عليه، ثم جلست إليه، وأخذت بيده، فقلت له: أين كنت؟ وأين بلغت بعدي؟ أبا لطائف كنت؟ فقال لي: كنت بالطائف وغير الطائف، وعمس علي أمره، فملت إليه، فناجيته، فقلت له: مثلك يغيب عن مثل ما قد اجتمع عليه أهل الشرف وبيوتات العرب من قريش والأنصار وثقيف! لم يبق أهل بيت ولا قبيلة إلا وقد جاء زعيمهم وعميدهم فبايع هذا الرجل، فعجبًا لك ولرأيك ألا تكون أتيته فبايعته، وأخذت بحظك من هذا الأمر! فقال لي: وما رأيتني؟ أتيته العام الماضي، فأشرت عليه بالرأي، فطوي أمره دوني، وإني لما رأيته استغنى عني أحببت أن أريه أني مستغن عنه، إنه والله لهو أحوج إلي مني إليه؛ فقلت له: إنك كلمته بالذي كلمته وهو ظاهر في المسجد، وهذا الكلام لا ينبغي أن يكون إلا والستور دونه مرخاة والأبواب دونه مغلقة، القه الليلة إن شئت وأنا معك؛ فقال لي: فإني فاعل إذا صلينا العتمة أتيناه، واتعدنا الحجر.
    قال: فنهضت من عنده، فخرجت ثم رجعت إلى ابن الزبير، فأخبرته بما كان من قولي وقوله، فسر بذلك، فلما صلينا العتمة، التقينا بالحجر، ثم خرجنا حتى أتينا منزل ابن الزبير، فاستأذنا عليه، فأذن لنا، فقلت: أخليكما؟ فقالا جميعًا: لا سر دونك، فجلست، فإذا ابن الزبير قد أخذ بيده، فصافحه ورحب به، فسأله عن حاله وأهل بيته، وسكتا جميعًا غير طويل.
    فقال له المختار وأنا أسمع بعد أن تبدأ في أول منطقه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنه لا خير في الإكثار من المنطق، ولا في التقصير عن الحاجة، إني قد جئتك لأبايعك على ألا تقضي الأمور دوني، وعلى أن أكون في أول من تأذن له، وإذا ظهرت استعنت بي على أفضل عملك. فقال له ابن الزبير: أبايعك على كتاب الله وسنة نبيه ؛ فقال: وشر غلماني أنت مبايعه على كتاب الله وسنة نبيه ، ما لي في هذا الأمر من الحظ ما ليس لأقصى الخلق منك؛ لا والله لا أبايعك أبدًا إلا على هذه الخصال.
    قال عباس بن سهل: فالتقمت أذن ابن الزبير، فقلت له: اشتر منه دينه حتى ترى من رأيك؛ فقال له ابن الزبير: فإن لك ما سألته، فبسط يده فبايعه، ومكث معه حتى شاهد الحصار الأول حين قدم الحصين بن نمير السكوني مكة؛ فقاتل في ذلك اليوم، فكان من أحسن الناس يومئذ بلاءً، وأعظمهم غناءً. فلما قتل المنذر بن الزبير والمسور بن مخرمة ومصعب بن عبد الرحمن ابن عوف الزهري، نادى المختار: يا أهل الإسلام، إلي إلي! أنا ابن أبي عبيد ابن مسعود، وأنا ابن الكرار لا الفرار، أنا ابن المقدمين غير المحجمين؛ إلي يا أهل الحفاظ وحماة الأوتار. فحمي الناس يومئذ، وأبى ل وقاتل قتالًا حسنًا.
    ثم أقام مع ابن الزبير في ذلك الحصار حتى كان يوم أحرق البيت، فإنه أحرق يوم السبت لثلاث مضين من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، فقاتل المختار يومئذ في عصابة معه نحو من ثلثمائة أحسين قتال قاتله أحدٌ من الناس، إن كان ليقاتل حتى يتبلد، ثم يجلس ويحيط به أصحابه، فإذا استراح نهض فقاتل، فما كان يتوجه نحو طائفة من أهل الشأم إلا ضاربهم حتى يكشفهم.
    قال أبو مخنف: فحدثني أبو يوسف محمد بن ثابط، عن عباس بن سهل بن سعد، قال: تولى قتال أهل الشأم يوم تحريق الكعبة عبد الله بن مطيع وأنا والمختار، قال: فما كان فينا يومئذ رجلٌ حسن بلاءً من المختار.
    قال: وقاتل قبل أن يطلع أهل الشأم على موت يزيد بن معاوية بيوم قتالًا شديدًا، وذلك يوم الأحد لخمس عشرة لية مضت من ربيع الآخر سنة أربع وستين، وكان أهل الشأم قد رجوا أن يظفروا بنا، وأخذوا علينا سكك مكة.
    قال: وخرج ابن الزبير، فبايعه رجالٌ كثير على الموت؛ قال: فخرجت في عصابة معي أقاتل في جانب، والمختار في عصابة أخرى يقاتل في جميعةٍ من أهل اليمامة في جانب، وهم خوارج، وإنما قاتلوا ليدافعوا عن البيت، فهم في جانب، وعبد الله بن المطيع في جانب.
    قال: فشد أهل الشأم علي، فحازوني في أصحابي حتى اجتمعت أنا والمختار وأصحابه في مكان واحد، فلم أكن أصنع شيئًا إلا صنع مثله، ولا يصنع شيئًا إلا تكلفت أن أصنع مثله، فما رأيت أشد منه قط؛ قال: فإنا لنقاتل إذ شدت علينا رجال وخيل من خيل أهل الشأم، فاضطروني وإياه في نحو من سبعين رجلًا من أهل الصبر إلى جانب دار من دور أهل مكة، فقاتلهم المختار يومئذ، وأخذ يقول رجل لرجل:
    لا وألت نفس امرىءٍ يفر
رد مع اقتباس رد مع اقتباس  


  • #2
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 483
    Array

    قال: فخرج المختار، وخرجت معه، فقلت: ليخرج منكم إلي رجل فخرج إلي رجل وإليه رجل آخر، فمشيت إلى صاحبي فأقتله، ومشى المختار إلى صاحبه فقتله، ثم صحنا بأصحابنا، وشددنا عليهم، فوالله لضربناهم حتى أخرجناهم من السكك كلها، ثم رجعنا إلى صاحبينا اللذين قتلنا. قال: فإذا الذي قتلت رجلٌ أحمر شديد الحمرة كأنه رومي، وإذا الذي قتل المختار رجل أسود شديد السواد، فقال لي المختار: تعلم والله إني لأظن قتيلينا هذين عبدين؛ ولو أن هذين قتلانا لفجع بنا عشائرنا ومن يرجونا، وما هذان وكلبان من الكلاب عندي إلا سواء، ولا أخرج بعد يومي هذا لرجل أبدًا إلا لرجل أعرفه؛ فقلت له: وأنا والله لا أخرج إلا لرجل أعرفه.
    وأقام المختار مع ابن الزبير حتى هلك يزيد بن معاوية. وانقضى الحصار، ورجع أهل الشأم إلى الشأم، واصطلح أهل الكوفة على عامر بن مسعود، بعد ما هلك يزيد يصلي بهم حتى يجتمع الناس على إمام يرضونه، فلم يلبث عامر إلا شهرًا حتى بعث ببيعته وبيعة أهل الكوفة إلى ابن الزبير، وأقام المختار مع ابن الزبير خمسة أشهر بعد مهلك يزيد وأيامًا.
    قال أبو مخنف: فحدثني عبد ال ملك بن نوفل بن مساحق، عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، قال: والله إني لمع عبد الله بن الزبير ومعه عبد الله ابن صفوان بن أمية بن خلف، ونحن نطوف بالبيت. إذ نظر ابن الزبير فإذا هو بالمختار. فقال لابن صفوان: انظر إليه؛ فوالله لهو أحذر من ذئب قد أطافت به السباع؛ قال: فمضى ومضينا معه. فلما قضينا طوافنا وصلينا الركعتين بعد الطواف لحقنا المختار، فقال لابن صفوان: ما الذي ذكرني به ابن الزبير؟ قال: فكتمه، وقال: لم يذكرك إلا بخير؛ بلى ورب هذه البنية إن كنت لمن شأنكما، أما والله ليخطن في أثري أو لأقدنها عليه سعرًا. فأقام معه خمسة أشهر، فلما رآه لا يستعمله جعل لا يقدم عليه أحدٌ من الكوفة إلا سأله عن حال الناس وهيئتهم.
    قال أبو مخنف: فحدثني عطية بن الحارث أبو روق الهمداني؛ أن هانىء ابن أبي حية الوادعي قدم مكة يريد عمرة رمضان، فسأله المختار عن حاله وحال الناس بالكوفة وهيئتهم؛ فأخبره عنهم بصلاح واتساق على طاعة ابن الزبير، إلا أن طائفة من الناس إليهم عدد أهل المصر لو كان لهم رجل يجمعهم على رأيهم أكل بهم الأرض إلى يومٍ ما؛ فقال له المختار: أنا أبو إسحاق أنا والله لهم! أنا أجمعهم على مر الحق. وأنفي بهم ركبان الباطل. وأقتل بهم كل جبار عنيد؛ فقال له هانىء بن أبي حية: ويحك يابن أبي عبيد! إن استطت ألا توضع في الضلال ليكن صاحبهم غيرك، فإن صاحب الفتنة أقرب شيء أجلًا، وأسوأ الناس عملًا؛ فقال له المختار: إني لا أدعو إلى الفتنة إنما أدعو إلى الهدى والجماعة، ثم وثب فخرج وركب رواحله، فأقبل نحو الكوفة حتى إذا كان بالقرعاء لقيه سلمة بن مرثد أخو بنت مرثد القابضي من همدان - وكان من أشجع العرب، وكان ناسكًا - فلما التقيا تصافحا وتساءلا، فخبره المختار؛ ثم قال لسلمة بن مرثد: حدثني عن الناس بالكوفة؛ قال: هم كغنمٍ ضل راعيها؛ فقال المختار بن أبي عبيد: أنا الذي أحسن رعايتها، وأبلغ نهايتها؛ فقال له سلمة: اتق الله واعلم أنك ميت ومبعوث، ومحاسب ومجزيٌّ بعملك إن خيرًا فخيرٌ وإن شرًا فشر، ثم افترقا. وأقبل المختار حتى انتهى إلى بحر الحيرة يوم الجمعة، فنزل فاغتسل فيه، وادهن دهنًا يسيرًا، ولبس ثيابه واعتم. وتقلد سيفه، ثم ركب راحلته فمر بمسجد السكون وجبانة كندة؛ لا يمر بمجلس إلا سلم على أهله. وقال: أبشروا بالنصر والفلج، أتاكم ما تحبون، وأقبل حتى مر بمسجد بني ذهل وبني حجر، فلم يجد ثم أحدًا، ووجد الناس قد راحوا إلى الجمعة، فأقبل حتى مر ببني بداء، فوجد عبيدة بن عمرو البدي من كندة، فسلم عليه، ثم قال: أبشر بالنصر واليسر والفلج، إنك أبا عمرو على رأي حسن، لن يدع الله لك معه مأثمًا إلا غفره، ولا ذنبًا إلا ستره - قال: وكان عبيدة من أشجع الناس وأشعرهم، وأشدهم حبًا لعلي رضي الله عنه، وكان لا يصبر عن الشراب - فلما قال له المختار هذا القول قال له عبيدة: بشرك الله بخير إنك قد بشرتنا، فهل أنت مفسرٌ لنا؟ قال: نعم، فالقني في الرحل الليلة ثم مضى.
    قال أبو مخنف: فحدثني فضيل بن خديج، عن عبيدة بن عمرو قال: قال لي المختار هذه المقالة، ثم قال لي: القني في الرحل، وبلغ أهل مسجدكم هذا عني أنهم قومٌ أخذ الله ميثاقهم على طاعته، يقتلون المحلين، ويطلبون بدماء أولاد النبيين، ويهديهم للنور المبين، ثم مضى فقال لي: كيف الطريق إلى بني هند؟ فقلت له: أنظرني أدلك، فدعوت بفرسي وقد أسرج لي فركبته؛ قال: ومضيت معه إلى بني هند، فقال: دلني على منزل إسماعيل بن كثير. قال: فمضيت به إلى منزله، فاستخرجته، فحياه ورحب به، وصافحه وبشره، وقال له: القني أنت وأخوك الليلة وأبو عمرو فإني قد أتيتكم بكل ما تحبون؛ قال: ثم مضى ومضينا معه حتى مر بمسجد جهينة الباطنة، ثم مضى إلى باب الفيل، فأناخ راحلته، ثم دخل المسجد واستشرف له الناس، وقالوا: هذا المختار قد قدم، فقام المختار إلى جنب سارية من سواري المسجد، فصلى عندها حتى أقيمت الصلاة، فصلى مع الناس ثم ركد إلى سارية أخرى فصلى ما بين الجمعة والعصر، فلما صلى العصر مع الناس انصرف.
    قال أبو مخنف: فحدثني المجالد بن سعيد، عن عامر الشعبي، أن المختار مر على حلقة همدان وعليه ثياب السفر، فقال: أبشروا، فإني قد قدمت عليكم بما يسركم، ومضى حتى نزل داره، وهي الدار التي تدعى دار سلم ابن المسيب، وكانت الشيعة تختلف إليها وإليه فيها.
    قال أبو مخنف: فحدثني فضيل بن خديج، عن عبيد بن عمرو، وإسماعيل بن كثير من بني هند، قالا: أتيناه من الليل كما وعدنا، فلما دخلنا عليه وجلسنا ساءلنا عن أمر الناس وعن حال الشيعة، فقلنا له: إن الشيعة قد اجتمعت لسليمان بن صرد الخزاعي، وإنه لن يلبث إلا يسيرًا حتى يخرج؛ قال: فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ثم قال: أما بعد، فإن المهدي ابن الوصي، محمد بن علي، بعثني إليكم أمينًا ووزيرًا ومنتخبًا وأميرًا، وأمرني بقتال الملحدين، والطلب بدماء أهل بيته والدفع عن الضعفاء.
    قال أبو مخنف: قال فضيل بن خديج: فحدثني عبيدة بن عمرو وإسماعيل بن كثير، أنهما كانا أول خلق الله إجابةً وضربًا على يده، وبايعاه. قال: وأقبل المختار يبعث إلى الشيعة وقد اجتمعت عند سليمان بن صرد، فيقول لهم: إني قد جئتكم من قبل ولي الأمر، ومعدن الفضل، ووصي الوصي والإمام المهدي، بأمر فيه الشفاء، وكشف الغطاء، وقتل الأعداء، وتمام النعماء؛ إن سليمان بن صرد يرحمنا الله وإياه إنما هو عشمة من العشم وحفشٌ بالٍ، ليس بذي تجربة للأمور، ولا له علمٌ بالحروب؛ إنما يريد أن يخرجكم فيقتل نفسه ويقتلكم. إني إنا أعمل على مثال قد مثل لي، وأمرٍ قد بين لي، فيه عز وليكم، وقتل عدوكم، وشفاء صدوركم، فاسمعوا مني قولي، وأطيعوا أمري، ثم أبشروا وتباشروا؛ فإني لكم بكل ما تأملون خير زعيم. قال: فوالله ما زال بهذا القول ونحوه حتى استمال طائفةً من الشيعة، وكانوا يختلفون إليه ويعظمونه، وينظرون أمره، وعظم الشيعة يومئذ ورؤساؤهم مع سليمان بن صرد، وهو شيخ الشيعة وأسنهم، فليس يعدلون به أحدًا؛ إلا أن المختار قد استمال منهم طائفةً ليسوا بالكثير، فسليمان بن صرد أثقل خلق الله على المختار، وقد اجتمع لابن صرد يومئذ أمره، وهو يريد الخروج والمختار لا يريد أن يتحرك، ولا أن يهيج أمرًا حتى ينظر إلى ما يصير إليه أمر سليمان، رجاء أن يستجمع له أمر الشيعة، فيكون أقوى له على درك ما يطلب، فلما خرج سليمان بن صرد ومضى نحو الجزيرة قال عمر بن سعد بن أبي وقاص وشبث بن ربيع ويزيد بن الحارث بن رويم لعبد الله ابن يزيد الخطمي وإبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله: إن المختار أشد عليكم من سليمان بن صرد، إن سليمان إنما خرج يقاتل عدوكم، ويذللهم لكم، وقد خرج عن بلادكم؛ وإن المختار إنما يريد أن يثب عليكم في مصركم، فسيروا إليه فأوثقوه في الحديد، وخلدوه في السجن حتى يستقيم أمر الناس، فخرجوا إليه في الناس، فما شعر بشيء حتى أحاطوا به وبداره فاستخرجوه، فلما رأى جماعتهم قال: ما بالكم! فوالله بعد ما ظفرت أكفكم! قال: فقال إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله لعبد الله بن يزيد: شده كتافًا، ومشه حافيًا؛ فقال له عبد الله بن يزيد: سبحان الله! ما كنت لأمشيه ولا لأحفيه ولا كنت لأفعل هذا برجل لم يظهر لنا عدواةً ولا حربًا، وإنما أخذناه على الظن. فقال له إبراهيم بن محمد: ليس بعشك فادرجي، ما أنت وما يبلغنا عنك يابن أبي عبيد! فقال له: ما الذي بلغك عني إلا باطلٌ، وأعوذ بالله من غشٍّ كغش أبيك وجدك! قال: قال فضيل: فوالله إني لأنظر إليه حين أخرج وأسمع هذا القول حين قال له، غير أني لا أدري أسمعه منه إبراهيم أم لم يسمعه؛ فسكت حين تكلم به؛ قال: وأتى المختار ببغلة دهماء يركبها، فقال إبرهيم لعبد الله بن يزيد: ألا تشد عليه القيود؟ فقال: كفى له بالسجن قيدًا.
    قال أبو مخنف: وأما يحيى بن أبي عيسى فحدثني أنه قال: دخلت إليه مع حميد بن مسلم الأزدي نزوره ونتعاهده، فرأيته مقيدًا؛ قال: فسمعته يقول: أما ورب البحار، والنخيل والأشجار، والمهامه والقفار، والملائكة الأبرار، والمصطفين الأخيار، لأقتلن كل جبار، بكل لدن خطار، ومهندٍ بتار، في جموع من الأنصار، ليسوا بميل أغمار، ولا بعزل أشرار، حتى إذا أقمت عمود الدين، ورأبت شعب صدع المسلمين، وشفيت غليل صدور المؤمنين، وأدركت بثأر النبيين، ولم يكبر علي زوال الدنيا ولم أحفل بالموت إذا أتى.
    قال: فكان إذا أتيناه وهو في السجن ردد علينا هذا القول حتى خرج منه؛ قال: وكان يتشجع لأصحابه بعد ما خرج ابن صرد.
    ذكر الخبر عن هدم ابن الزبير الكعبة

    قال أبو جعفر: وفي هذه السنة هدم ابن الزبير الكعبة، وكانت قد مال حيطانها مما رميت به من حجارة المجانيق، فذكر محمد بن عمر الواقدي أن إبراهيم بن موسى حدثه عن عكرمة بن خالد، قال: هدم ابن الزبير البيت حتى سواه بالأرض، وحفر أساسه، وأدخل الحجر فيه، وكان الناس يطوفون من وراء الأساس، ويصلون إلى موضع، وجعل الركن الأسود عنده في تابوت في سرقةٍ من حرير، وجعل ما كان من حلي البيت وما وجد فيه من ثياب أو طيب عند الحجبة في خزانة البيت، حتى أعادها لما أعاد بناءه.
    قال محمد بن عمر: وحدثني معقل بن عبد الله، عن عطاء؛ قال: رأيت ابن الزبير هدم البيت كله حتى وضعه بالأرض.
    وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن الزبير.
    وكان عامله على المدينة فيها أخوه عبيدة بن الزبير، وعلى الكوفة عبد الله ابن يزيد الخطمي، وعلى قضائها سعيد بن نمران.
    وأبى شريح أن يقضي فيها، وقال فيما ذكر عنه: أنا لا أقضي في الفتنة. وعلى البصرة عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعلى قضائها هشام بن هبيرة، وعلى خراسان عبد الله ابن خازم.


  • #3
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 483
    Array

    ثم دخلت سنة خمس وستين

    ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة
    فمن ذلك ما كان من أمر التوابين وشخوصهم للطلب بدم الحسين بن علي إلى عبيد الله بن زياد.
    قال هشام: قال أبو مخنف: حدثني أبو يوسف، عن عبد الله بن عوف الأحمري، قال: بعث سليمان بن صرد إلى وجوه أصحابه حين أراد الشخوص وذلك في سنة خمس وستين، فأتوه، فلما استهل الهلال هلال شهر بيع الآخر، خرج في وجوه أصحابه، وقد كان واعد أصحابه عامة للخروج في تلك الليلة للمعسكر بالنخيلة فخرج حتى أتى عسكره، فدار في الناس ووجوه أصحابه، فلم يعجبه عدة الناس، فبعث حكيم بن منقذ الكندي في خيل، وبعث الوليد بن غصين الكناني في خيل، وقال: اذهبا حتى تدخلا الكوفة فناديا: يا لثارات الحسين! وابلغا المسجد الأعظم فناديا بذلك، فخرجا، وكانا أول خلق الله دعوا: يا لثارات الحسين! قال: فأقبل حكيم بن منقذ الكندي في خيل والوليد بن غصين في خيل، حتى مرا ببني كثير، وإن رجلًا من بني كثير من الأزد يقال له عبد الله بن خازم مع امرأته سهلة بنت سبرة بن عمرو من بني كثير، وكانت من أجمل الناس وأحبهم إليه، سمع الصوت: يا لثارات الحسين! وما هو ممن كان يأتيهم، ولا استجاب لهم. فوثب إلى ثيابه فلبسها، ودعا بسلاحه، وأمر بإسراج فرسه، فقالت له امرأته: ويحك! أجننت! قال: لا والله، ولكني سمعت داعي الله، فأنا مجيبه، أنا طالبٌ بدم هذا الرجل حتى أموت، أو يقضي الله من أمري ما هو أحب إليه، فقالت له: إلى من تدع بنيك هذا؟ قال: إلى الله وحده لا شريك له؛ اللهم إني أستودعك أهلي وولدي، اللهم احفظني فيهم؛ وكان ابنه ذلك يدعى عزره، فبقي حتى قتل بعد مع مصعب بن الزبير؛ وخرج حتى لحق بهم، فقعدت امرأته تبكيه واجتمع إليها نساؤها، ومضى مع القوم، وطافت تلك الليلة الخيل بالكوفة، حتى جاءوا المسجد بعد العتمة، وفيه ناسٌ كثير يصلون، فنادوا: يا لثارات الحسين! وفيهم أبو عزة القابضي وكرب بن نمران يصلي، فقال: يا لثارات الحسين! أين جماعة القوم؟ قيل: بالنخيلة، فخرج حتى أتى أهله، فأخذ سلاحه، ودعا بفرسه ليركبه، فجاءته ابنته الرواع - وكانت تحت ثبيت بن مرثد القابضي. فقالت: يا أبت، ما لي أراك قد تقلدت سيفك، ولبست سلاحك! فقال لها: يا بنية، إن أباك يفر من ذنبه إلى ربه، فأخذت تنتحب وتبكي، وجاءه أصهاره وبنو عمه، فودعهم، ثم خرج فلحق بالقوم؛ قال: فلم يصبح سليمان بن صرد حتى أتاه نحوٌ ممن كان في عسكره حين دخله؛ قال: ثم دعا بديوانه لينظر فيه إلى عدة من بايعه حتى أصبح، فوجدهم ستة عشر ألفًا، فقال: سبحان الله! ما وافانا إلا أربعة آلاف من ستة عشر ألفًا.
    قال أبو مخنف: عن عطية بن الحارث، عن حميد بن مسلم، قال: قلت لسليمان بن صرد: إن المختار والله يثبط الناس عنك، إني كنت عنده أول ثلاث، فسمعت نفرًا من أصحابه يقولون: قد كملنا ألفي رجل؛ فقال: وهب أن ذلك كان؛ فأقام عنا عشرة آلاف، أما هؤلاء بمؤمنين! أما يخافون الله! أما يذكرون الله، وما أعطونا من أنفسنا من العهود والمواثيق ليجاهدن ولينصرن! فأقام بالنخيلة ثلاثًا يبعث ثقاته من أصحابه إلى من تخلف عنه يذكرهم الله وما أعطوه من أنفسهم، فخرج إليه نحوٌ من ألف رجل، فقام المسيب بن نجبة إلى سليمان بن صرد، فقال: رحمك الله، إنه لا ينفعك الكاره، ولا يقاتل معك إلا من أخرجته النية، فلا ننتظرن أحدًا، واكمش في أمرك. قال: فإنك والله لنعما رأيت! فقام سليمان بن صرد في الناس متوكئًا على قوس له عربية. فقال: أيها الناس، من كان إنما أخرجته إرادة وجه الله وثواب الآخرة فذلك منا ونحن منه، فرحمة الله عليه حيًا وميتًا، ومن كان إنما يريد الدنيا وحرثها فوالله ما نأتي فيئًا نستفيئه، ولا غنيمةً نغنمها، ما خلا رضوان الله رب العالمين، وما معنا من ذهب ولا فضة، ولا خز ولا حرير، وما هي إلا سيوفنا في عواتقنا، ورماحنا في أكفنا، وزادٌ قدر البلغة إلى لقاء عدونا، فمن كان غير هذا ينوي فلا يصحبنا.
    فقم صخير بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني، فقال: آتاك الله رشدك، ولقاك حجتك؛ والله الذي لا إله غيره ما لنا خيرٌ في صحبة من الدنيا همته ونيته. أيها الناس، إنما أخرجتنا التوبة من ذنبنا، والطلب بدم من نبينا، ليس معنا دينارٌ ولا درهم، إنما نقدم على حد السيوف وأطراف الرماح؛ فتنادى الناس من كل جانب: إنا لا نطلب الدنيا، وليس لها خرجنا.
    قال أبو مخنف: عن إسماعيل بن يزيد الأزدي، عن السري بن كعب الأزدي، قال: أتينا صاحبنا عبد الله بن سعد بن نفيل نودعه، قال: فقام فقمنا معه، فدخل على سليمان ودخلنا معه، وقد أجمع سليمان بالمسير، فأشار عليه عبد الله بن سعد بن نفيل أن يسير إلى عبيد الله بن زياد، فقال هو ورءوس أصحابه: الرأي ما أشار به عبد الله بن سعد بن نفيل أن نسير إلى عبيد الله بن زياد قاتل صاحبنا، ومن قبله أتينا، فقال له عبد الله بن سعد وعنده رءوس أصحابه جلوس حوله: إني قد رأيت إن يكن صوابًا فالله وفق، وإن يكن ليس بصواب فمن قبلي، فإني ما آلوكم ونفسي نصحًا؛ خطأ كان أم صوابًا، إنما خرجنا نطلب بدم الحسين، وقتلة الحسين كلهم بالكوفة، منهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، ورءوس الأرباع وأشراف القبائل، فأنى نذهب ها هنا وندع الأقتال والأوتار! فقال سليمان بن صرد: فماذا ترون؟ فقالوا: والله لقد جاء برأيٍ، وإن ما ذكر لكما ذكر، والله ما نلقى من قتلة الحسين إن نحن مضينا نحو الشام غير ابن زياد، وما طلبتنا إلا ها هنا بالمصر؛ فقال سليمان بن صرد: لكن أنا ما أرى ذلك لكم، إن الذي قتل صاحبكم، وعبأ الجنود إليه، وقال: لا أمان له عندي دون أن يستسلم فأمضي فيه حكمي هذا الفاسق ابن الفاسق ابن مرجانة، عبيد الله بن زياد؛ فسيروا إلى عدوكم على اسم الله؛ فإن يظهركم الله عليه رجونا أن يكون من بعده أهون شوكةً منه، ورجونا أن يدين لكم من وراءكم من أهل مصركم في عافية، فتنظرون إلى كل من شرك في دم الحسين فتقاتلونه ولا تغشموا، وإن تستشهدوا فإنما قاتلتم المحلين، وما عند الله خيرٌ للأبرار والصديقين؛ إني لأحب أن تجعلوا حدكم وشوكتكم بأول المحلين القاسطين. والله لو قاتلتم غدًا أهل مصركم ما عدم رجلٌ أن يرى رجلًا قد قتل أخاه وأباه وحميمه، أو رجلًا لم يكن يريد قتله؛ فاستخيروا الله وسيروا. فتهيأ الناس للشخوص. قال: وبلغ عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة خروج ابن صرد وأصحابه، فنظرا في أمرهما، فرأيا أن يأتياهم فيعرضا عليهم الإقامة، وأن تكون أيديهم واحدةً، فإن أبوا إلا الشخوص سألوهم النظرة حتى يعبوا معهم جيشًا فيقاتلوا عدوهم بكثفٍ وحدٍّ؛ فبعث عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة سويد بن عبد الرحمن إلى سليمان ابن صرد، فقال له: إن عبد الله وإبراهيم يقولان: إنا نريد أن نجيئك الآن لأمر عسى أن يجعل لنا ولك فيه صلاحًا؛ فقال: قل لهما فليأتيانا، وقال سليمان لرفاعة بن شداد البجلي: قم أنت فأحسن تعبئة الناس؛ فإن هذين الرجلين قد بعثا بكيت وكيت، فدعا رءوس أصحابه فجلسوا حوله فلم يمكثوا إلا ساعةً حتى جاء عبد الله بن يزيد في أشراف أهل الكوفة والشرط وكثير من المقاتلة، وإبراهيم بن محمد بن طلحة في جماعة من أصحابه، فقال عبد الله بن يزيد لكل رجل معروف قد علم أنه قد شرك في دم الحسين: لا تصحبني إليهم مخافة أن ينظروا إليه فيعدوا عليه؛ وكان عمر بن سعد تلك الأيام التي كان سليمان معسكرًا فيها بالنخيلة لا يبيت إلا في قصر الإمارة مع عبد الله بن يزيد مخافة أن يأتيه القوم في داره، ويذمروا عليه في بيته وهو فاعل لا يعلم فيقتل. وقال عبد الله بن يزيد: يا عمرو بن حريث، إن أنا أبطأت عنك فصل بالناس الظهر.
    فلما انتهى عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد إلى سليمان بن صرد دخلا عليه، فحمد الله عبد الله بن يزيد وأثنى عليه ثم قال: إن المسلم أخو المسلم لا يخونه، ولا يغشه، وأنتم إخواننا، وأهل بلدنا، وأحب أهل مصر خلقه الله إلينا، فلا تفجعونا بأنفسكم، ولا تستبدوا علينا برأيكم، ولا تنقصوا عددنا بخروجكم من جماعتنا؛ أقيموا معنا حتى نتيسر ونتهيأ، فإذا علمنا أن عدونا قد شارف بلدنا خرجنا إليهم بجماعتنا فقاتلناهم. وتكلم إبراهيم بن محمد بنحو من هذا الكلام. قال: فحمد الله سليمان بن صرد وأثنى عليه ثم قال لهما: إني قد علمت أنكما قد محضتما في النصيحة، واجتهدتما في المشورة، فنحن بالله وله، وقد خرجنا لأمر، ونحن نسأل الله العزيمة على الرشد والتسديد لأصوبه، ولا نرانا إلا شاخصين إن شاء الله ذلك. فقال عبد الله بن يزيد: فأقيموا حتى نعبىء معكم جيشًا كثيفًا، فتلقوا عدوكم بكثف وجمع وحدٍّ. فقال سليمان: تنصرفون، ونرى فيما بيننا، وسيأتيكم إن شاء الله رأيٌ.
    قال أبو مخنف: عن عبد الجبار - يعني ابن عباس الهمداني - عن عون ابن أبي جحيفة السوائي، قال: ثم إن عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد ابن طلحة عرضا على سليمان أن يقيم معهما حتى يلقوا جموع أهل الشأم على أن يخصاه وأصحابه بخراج جوخي خاصة لهم دون الناس، فقال لهما سليمان: إنا ليس للدنيا خرجنا؛ وإنما فعلا ذلك لما قد كان بلغهما من إقبال عبيد الله بن زياد نحو العراق. وانصرف إبراهيم بن محمد وعبد الله بن يزيد إلى الكوفة، وأجمع القوم على الشخوص واستقبال ابن زياد، ونظروا فإذا شيعتهم من أهل البصرة لم يوافوهم لميعادهم ولا أهل المدائن، فأقبل ناس من أصحابه يلزمونهم، فقال سليمان: لا تلزموهم فإني لا أراهم إلا سيسرعون إليكم، لو قد انتهى إليهم خبركم وحين مسيركم، ولا أراهم خلفهم ولا أقعدهم إلا قلة النفقة وسوء العدة، فأقيموا ليتيسروا ويتجهزوا ويلحقوا بكم وبهم قوة، وما أسرع القوم في آثاركم. قال: ثم إن سليمان بن صرد قام في الناس خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإن الله قد علم ما تنوون، وما خرجتم تطلبون، وإن للدنيا تجارًا، وللآخرة تجارًا، فأما تاجر الآخرة فساعٍ إليها، منتصب بتطلابها، لا يشتري بها ثمنًا، لا يرى إلا قائمًا وقاعدًا، وراكعًا وساجدًا، لا يطلب ذهبًا ولا فضة، ولا دنيا ولا لذة، وأما تاجر الدنيا فمكبٌّ عليها، راتع فيها، لا يبتغي بها بدلًا؛ فعليكم يرحمكم الله في وجهكم هذا بطول الصلاة في جوف الليل، وبذكر الله كثيرًا على كل حال، وتقربوا إلى الله جل ذكره بكل خير قدرتم عليه، حتى تلقوا هذا العدو والمحل القاسط فتجاهدوه، فإن تتوسلوا إلى ربكم بشيء هو أعظم عنده ثوابًا من الجهاد والصلاة؛ فإن الجهاد سنام العمل. جعلنا الله وإياكم من العباد الصالحين، المجاهدين الصابرين على اللأواء! وإنا مدلجون الليلة من منزلنا هذا إن شاء الله فادلجوا.
    فادلج عشية الجمعة لخمس مضين من شهر بيع الآخر سنة خمس وستين للهجرة.
    قال: فلما خرج سليمان وأصحابه من النخيلة دعا سليمان بن صرد حكيم ابن منقذ فنادى في الناس: ألا لا يتبين رجل منكم دون دير الأعور. فبات الناس بدير الأعور، وتخلف عنه ناسٌ كثير، ثم سار حتى نزل الأقساس؛ أقساس مالك على شاطىء الفرات، فعرض الناس، فسقط منهم نحوٌ من ألف رجل، فقال ابن صرد: ما أحب أن من تخلف عنكم معكم، ولو خرجوا معكم ما زادوكم إلا خبالًا؛ إن الله عز وجل كره انبعاثهم فثبطهم، وخصكم بفضل ذلك، فاحمدوا ربكم. ثم خرج من منزله ذلك دلجةً، فصبحوا قبر الحسين، فأقاموا به ليلةً ويومًا يصلون عليه، ويستغفرون له؛ قال: فلما انتهى الناس إلى قبر الحسين صاحوا صيحةً واحدة، وبكوا؛ فما رئي يومٌ كان أكثر باكيًا منه.
    قال أبو مخنف: وقد حدث عبد الرحمن بن جندب، عن عبد الرحمن ابن غزية، قال: لما انتهينا إلى قبر الحسين رضي الله عنه بكى الناس بأجمعهم، وسمعت جل الناس يتمنون أنهم كانوا أصيبوا معه؛ فقال سليمان: اللهم ارحم حسينًا الشهيد ابن الشهيد، المهدي ابن المهدي، الصديق ابن الصديق، اللهم إنا نشهدك أنا على دينهم وسبيلهم، وأعداء قاتليهم، وأولياء محبيهم. ثم انصرف ونزل، ونزل أصحابه.
    قال أبو مخنف: حدثنا الأعمش، قال: حدثنا سلمة بن كهيل، عن أبي صادق، قال: لما انتهى سليمان بن صرد وأصحابه إلى قبر الحسين نادوا صيحةً واحدةً: يا رب إنا قد خذلنا ابن بنت نبينا، فاغفر لنا ما مضى منا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وارحم حسينًا وأصحابه الشهداء الصديقين، وإنا نشهدك يا رب أنا على مثل ما قتلوا عليه، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين؛ قال: فأقاموا عنده يومًا وليلة يصلون عليه ويبكون ويتضرعون؛ فما انفك الناس من يومهم ذلك يترحمون عليه وعلى أصحابه، حتى صلوا الغداة من الغد عند قبره، وزادهم ذلك حنقًا. ثم ركبوا، فأمر سليمان الناس بالمسير، فجعل الرجل لا يمضي حتى يأتي قبر الحسين فيقوم عليه، فيترحم عليه، ويستغفر له، قال: فوالله لرأيتهم ازدحموا على قبره أكثر من ازدحام الناس على الحجر الأسود.
    قال: ووقف سليمان عند قبره، فكلما دعا له قوم وترحموا عليه قال لهم المسيب بن نجبة وسلمان بن صرد: الحقوا بإخوانكم رحمكم الله! فما زال كذلك حتى بقي نحو من ثلاثين من أصحابه، فأحاط سليمان بالقبر هو وأصحابه، فقال سليمان: الحمد لله الذي لو شاء أكرمنا بالشهادة مع الحسين، اللهم إذ حرمتناها معه فلا تحرمناها فيه بعده.
    وقال عبد الله بن وال: أما والله إني لأظن حسينًا وأباه وأخاه أفضل أمة محمد وسيلةً عند يوم القيامة، أفما عجبتم لما ابتليت به هذه الأمة منهم! إنهم قتلوا اثنين، وأشفوا بالثالث على القتل؛ قال: يقول المسيب بن نجبة: فأنا من قتلهم ومن كان على رأيهم بريءٌ، إياهم أعادي وأقاتل. قال: فأحسن الرءوس كلهم المنطق، وكان المثنى بن مخربة صاحب أحد الرءوس والأشراف، فساءني حيث لم أسمعه تكلم مع القوم بنحو ما تكلموا به؛ قال: فوالله ما لبث أن تكلم بكلمات ما كن بدون كلام أحد من القوم، فقال: إن الله جعل هؤلاء الذين ذكرتم بمكانهم من نبيهم أفضل ممن هو دون نبيهم، وقد قتلهم قوم نحن لهم أعداء، ومنهم براء، وقد خرجنا من الديار والأهلين والأموال إرادة استئصال من قتلهم؛ فوالله لو أن القتال فيهم بمغرب الشمس أو بمنقطع التراب يحق علينا طلبه حتى نناله، فإن ذلك هو الغنم، وهي الشهادة التي ثوابها الجنة، فقلنا له: صدقت وأصبت ووفقت.
    قال: ثم إن سليمان بن صرد سار من موضع قبر الحسين وسرنا معه، فأخذنا على الحصاصة، ثم على الأنبار، ثم على الصدود، ثم على القيارة.
    قال أبو مخنف: عن الحارث بن حصيرة وغيره: إن سليمان بعث على مقدمته كريب بن يزيد الحميري.
    قال أبو مخنف: حدثني الحصين بن يزيد، عن السري بن كعب، قال: خرجنا مع رجال الحي نشيعهم، فلما انتهينا إلى قبر الحسين وانصرف سليمان بن صرد وأصحابه عن القبر، ولزموا الطريق، استقدمهم عبد الله ابن عوف بن الأحمر على فرس له مهلوب كميت مربوع، يتأكل تأ: لًا، وهو يرتجز ويقول:
    خرجن يلمعن بنا أرسالا ** عوابسًا يحملننا أبطالا
    نريد أن نلقي به الأقتالا ** القاسطين الغدر الضلالا
    وقد رفضنا الأهل والأموالا ** والخفرات البيض والحجالا
    نرضي به ذا النعم المفضالا


  • #4
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 483
    Array

    قال أبو مخنف: عن سعد بن مجاهد الطائي، عن المحل بن خليفة الطائي، أن عبد الله بن يزيد كتب إلى سليمان بن صرد، أحسبه قال: بعثني به، فلحقته بالقيارة، واستقدم أصحابه حتى ظن أن قد سبقهم، قال: فوقف وأشار إلى الناس، فوقفوا عليه، ثم أقرأهم كتابه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله بن يزيد إلى سليمان بن صرد ومن معه من المسلمين. سلامٌ عليكم، أما بعد فإن كتابي هذا إليكم كتاب ناصح ذي إرعاء، وكم من ناصح مستغش، وكم من غاش مستنصح محب، إنه بلغني أنكم تريدون المسير بالعدد اليسير إلى الجمع الكثير، وإنه من يرد أن ينقل الجبال عن مراتبها تكل معاوله، وينزع وهو مذموم العقل والفعل. يا قومنا لا تطمعوا عدوكم في أهل بلادكم، فإنكم خيارٌ كلكم، ومتى ما يصبكم عدوكم يعلموا أنكم أعلام مصركم، فيطمعهم ذلك فيمن وراءكم يا قومنا، " إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذًا أبدًا "، يا قوم، إن أيدينا وأيديكم اليوم واحدة، وإن عدونا وعدوكم واحد، ومتى تجتمع كلمتنا نظهر على عدونا، ومتى تختلف تهن شوكتنا على من خالفنا؛ يا قومنا لا تستغشوا نصحي، ولا تخالفوا أمري، وأقبلوا حتى يقرأ عليكم كتابي. أقبل الله بكم إلى طاعته، وأدبر بكم عن معصيته، والسلام.
    قال: فلما قرىء الكتاب على ابن صرد وأصحابه قال للناس: ما ترون؟ قالوا: ماذا ترى؟ قد أبينا هذا عليكم وعليهم، ونحن في مصرنا وأهلنا، فالآن خرجنا ووطنا أنفسنا على الجهاد، ودنونا من أرض عدونا! ما هذا برأي. ثم نادوه أن أخبرنا برأيك، قال: رأيي والله أنكم لم تكونوا قط أقرب من إحدى الحسنيين منكم يومكم هذا؛ الشهادة والفتح، ولا أرى أن تنصرفوا عما جمعكم الله عليه من الحق، وأردتم به من الفضل؛ إنا وهؤلاء مختلفون؛ إن هؤلاء لو ظهروا دعونا إلى الجهاد مع ابن الزبير، ولا أرى الجهاد مع ابن الزبير إلا ضلالًا، وإنا إن نحن ظهرنا رددنا هذا الأمر إلى أهله، وإن أصبنا فعلى نياتنا، تائبين من ذنوبنا، إن لنا شكلًا، وإن لابن الزبير شكلًا؛ وإن وإياهم كما قال أخو بني كنانة:
    أرى لك شكلًا غير شكلي فأقصري ** عن اللوم إذ بدلت واختلف الشكل
    قال: فانصرف الناس معه حتى نزل هيت، فكتب سليمان: بسم الله الرحمن. للأمير عبد الله بن يزيد، من سليمان بن صرد ومن معه من المؤمنين، سلامٌ عليك، أما بعد، فقد قرأنا كتابك، وفهمنا ما نويت، فنعم والله الوالي، ونعم الأمير، ونعم أخو العشيرة، أنت والله من نأمنه بالغيب، ونستنصحه في المشورة، ونحمده على كل حال؛ إنا سمعنا الله عز وجل يقول في كتابه: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " - إلى قوله: " وبشر المؤمنين ". إن القوم قد استبشروا ببيعتهم التي بايعوا، إنهم قد تابوا من عظيم جرمهم، وقد توجهوا إلى الله، وتوكلوا عليه ورضوا بما قضى الله، " ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير "، والسلام عليك فلما أتاه هذا الكتاب قال: استمات القوم، أول خبر يأتيكم عنهم قتلهم، وايم الله ليقتلن كرامًا مسلمين، ولا والذي هو ربهم لا يقتلهم عدوهم حتى تشتد شوكتهم، وتكثر القتلى فيما بينهم.
    قال أبو مخنف: فحدثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن عوف بن الأحمر، وعبد الرحمن بن جندب، عن عبد الرحمن بن غزية، قالا: خرجنا من هيت حتى انتهينا إلى قرقيسيا، فنزلنا قريبًا منها، وبها زفر بن الحارث الكلابي قد تحصن بها من القوم، ولم يخرج إليهم، فبعث سليمان المسيب بن نجبة، فقال: ائت ابن عمك هذا فقل له: فليخرج إلينا سوقًا، فإنا لسنا إياه نريد، إنما صمدنا لهؤلاء المحلين. فخرج المسيب بن نجبة حتى انتهى إلى باب قرقيسيا، فقال: افتحوا، ممن تحصنون؟ فقالوا: من أنت؟ قال: أنا المسيسب بن نجبة، فأتى الهذيل بن زفر أباه فقال: هذا رجلٌ حسن الهيئة، يستأذن عليك، وسألناه من هو؟ فقال: المسيب بن نجبة - قال: وأنا إذ ذاك لا علم لي بالناس، ولا أعلم أي الناس هو - فقال لي أبي: أما تدري أي بني من هذا؟ هذا فارس مضر الحمراء كلها، وإذا عد من أشرافها عشرة كان أحدهم، وهو بعد رجلٌ ناسكٌ له دين، ائذن له. فأذنت له، فأجلسه أبي إلى جانبه، وساءله وألطفه في المسألة، فقال المسيب ابن نجبة: ممن تتحصن؟ إنا والله ما إياكم نريد، وما اعترينا إلى شيء إلا أن تعيننا على هؤلاء القوم الظلمة المحلي، فاخرج لنا سوقًا، فإنا لا نقيم بساحتكم إلا يومًا أو بعض يوم. فقال له زفر بن الحارث: إنا لم نغلق أبواب هذه المدينة إلا لنعلم إيانا اعتريتم أم غيرنا! إنا والله ما بنا عجزٌ عن الناس ما لم تدهمنا حيلة، وما نحب أنا بلينا بقتالكم؛ وقد بلغنا عنكم صلاح، وسيرةٌ حسنة جميلة.
    ثم دعا ابنه فأمره أن يضع لهم سوقًا، وأمر للمسيب بألف درهم وفرس، فقال له المسيب: أما المال فلا حاجة لي فيه، والله ما له خرجنا، ولا إياه طلبنا، وأما الفرس فإني أقبله لعلي أحتاج إليه إن ظلع فرسي، أو غمز تحتي. فخرج به حتى أتى أصحابه وأخرجت لهم السوق، فتسوقوا، وبعث زفر بن الحارث إلى المسيب بن نجبة بعد إخراج الأسواق والأعلاف والطعام الكثير بعشرين جزورًا، وبعث إلى سليمان بن صرد مثل ذلك، وقد كان زفر أمر ابنه أن يسأل عن وجوه أهل العسكر، فسمي له عبد الله بن سعد بن نفيل وعبد الله بن والٍ ورفاعة بن شداد، وسمي له أمراء الأرباع. فبعث إلى هؤلاء الرءوس الثلاثة بعشر جزائر عشر جزائر، وعلف كثير وطعام، وأخرج للعسكر عيرًا عظيمة وشعيرًا كثيرًا، فقال غلمان زفر: هذه عير فاجتزروا منها ما أحببتم، وهذا شعير فاحتملوا منه ما أردتم، وهذا دقيق فتزودوا منه ما أطقتم، فظل القوم يومهم ذلك مخصبين لم يحتاجوا إلى شراء شيء من هذه الأسواق التي وضعت، وقد كفوا اللحم والدقيق والشعير إلا أن يشتري الرجل ثوبًا أو سوطًا. ثم ارتحلوا من الغد، وبعث إليهم زفر: إني خارج إليكم فمشيعكم؛ فأتاهم وقد خرجوا على تعبيةٍ حسنة، فسايرهم، فقال زفر لسليمان: إنه قد بعث خمسة أمراء قد فصلوا من الرقة فيهم الحصين بن نمير السكوني، وشرحبيل بن ذي كلاع، وأدهم بن محرز الباهلي وأبو مالك بن أدهم، وربيعة بن المخارق الغنوي، وجبلة بن عبد الله الخثعمي؛ وقد جاءوكم في مثل الشوك والشجر، أتاكم عدد كثير، وحدٌّ حديد، وايم الله لقل ما رأيت رجالًا هم أحسن هيئةً ولا عدةً، ولا أخلق لكل خير من رجال أراهم معك؛ ولكنه قد بلغني أنه قد أقبلت إليكم عدة لا تحصى؛ فقال ابن صرد: على الله توكلنا، وعليه فليتوكل المتوكلون، ثم قال زفر: فهل لكم في أمر أعرضه عليكم؛ لعل الله أن يجعل لنا ولكم فيه خيرًا؟ إن شئتم فتحنا لكم مدينتنا فدخلتموها فكان أمرنا واحدًا وأيدينا واحدةً، وإن شئتم نزلتم على باب مدينتنا، وخرجنا فعسكرنا إلى جانبكم، فإذا جاءنا هذا العدو قاتلناهم جميعًا. فقال سليمان لزفر: قد أرادنا أهل مصرنا على مثل ما أردتنا عليه، وذكروا مثل الذي ذكرت، وكتبوا إلينا به بعد ما فصلنا، فلم يوافقنا ذلك، فلسنا فاعلين؛ فقال زفر: فانظروا ما أشير به عليكم فاقبلوه، وخذوا به، فإني للقوم عدو، وأحب أن يجعل الله عليهم الدائرة، وأنا لكم وادٌّ، أحب أن يحوطكم الله بالعافية؛ إن القوم قد فصلوا من الرقة، فبادروهم إلى عين الوردة، فاجعلوا المدينة في ظهوركم، ويكون الرستاق والماء والماد في أيديكم، وما بين مدينتنا ومدينتكم فأنتم له آمنون، والله لو أن خيولي كرجالي لأمددتكم، اطووا المنازل الساعة إلى عين الوردة؛ فإن القوم يسيرون سير العساكر، وأنتم على خيول، والله لقل ما رأيت جماعة خيل قط أكرم منها؛ تأهبوا لها من يومكم هذا فإني أرجو أن تسبقوهم أليها، وإن بدرتموهم إلى عين الوردة فلا تقاتلوهم في فضاء ترامونهم وتطاعنونهم، فإنهم أكثر منكم فلا آمن أن يحيطوا بكم، فلا تقفوا لهم ترامونهم وتطاعنونهم، فإنه ليس لكم مثل عددهم، فإن استهدفتم لهم لم يلبثوكم أن يصرعوكم، ولا تصفوا لهم حين تلقونهم، فإني لا أرى معكم رجالةً، ولا أراكم كلكم إلا فرسانًا، والقوم لا قوكم بالرجال والفرسان؛ فالفرسان تحمي رجالها، والرجال تحمي فرسانها، وأنتم ليس لكم رجال تحمي فرسانكم، فالقوهم في الكتائب والمقانب، ثم بثوها ما بين ميمنتهم وميسرتهم، واجعلوا مع كل كتيبة كتيبةً إلى جانبها فإن حمل على إحدى الكتيبتين ترجلت الأخرى فنفست عنها الخيل والرجال، ومتى ما شاءت كتيبة ارتفعت، ومتى ما شاءت كتيبة انحطت، ولو كنتم في صف واحد فزحفت إليكم الرجال فدفعتم عن الصف انتفض وكانت الهزيمة؛ ثم وقف فودعهم، وسأل الله أن يصحبهم وينصرهم. فأثنى الناس عليه، ودعوا له، فقال له سليمان بن صرد: نعم المنزول به أنت! أكرمت النزول، وأحسنت الضيافة، ونصحت في المشورة. ثم إن القوم جدوا في المسير، فجعلوا يجعلون كل مرحلتين مرحلة؛ قال: فمررنا بالمدن حتى بلغنا ساعا. ثم إن سليمان بن صرد عبى الكتائب كما أمره زفر، ثم أقبل حتى انتهى إلى عين الوردة فنزل في غربيها، وسبق القوم إليها، فعسكروا، وأقام بها خمسًا لا يبرح، واستراحوا واطمأنوا، وأراحوا خيلهم.

  • صفحة 25 من 27 الأولىالأولى ... 152324252627 الأخيرةالأخيرة

    معلومات الموضوع

    الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

    الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

    المواضيع المتشابهه

    1. تاريخ الرسل والملوك(تكملة الجزء الرابع)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى إستراحة المغترب Forum rest expatriate
      مشاركات: 50
      آخر مشاركة: 08-05-2010, 06:18 PM
    2. تاريخ الرسل والملوك(تكملة الجزء الرابع)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الثقافة و الأدب و الشعر و القصص والروايات
      مشاركات: 30
      آخر مشاركة: 08-05-2010, 05:57 PM
    3. تاريخ الرسل والملوك(الجزء الرابع)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الثقافة و الأدب و الشعر و القصص والروايات
      مشاركات: 49
      آخر مشاركة: 08-05-2010, 05:26 PM
    4. تاريخ الرسل والملوك(الجزء الثالث)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 124
      آخر مشاركة: 07-26-2010, 01:16 AM
    5. تاريخ الرسل والملوك(الجزء الثاني)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 130
      آخر مشاركة: 07-25-2010, 03:00 AM

    الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

    مواقع النشر (المفضلة)

    مواقع النشر (المفضلة)

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •  
    Untitled-1