ثم دخلت سنة سبع وثلاثين

ذكر ما كان فيها من الأحداث

موادعة الحرب بين علي ومعاوية

فكان في أول شهر منها - وهو المحرم - موادعة الحرب بين علي ومعاوية، قد توادعا على ترك الحرب فيه إلى انقضائه طمعًا في الصلح؛ فذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف الأزدي، قال: حدثني سعد أبو المجاهد الطائي، عن المحل بن خليفة الطائي، قال: لما توادع علي ومعاوية يوم صفين، اختلف فيما بينهما الرسل رجاء الصلح، فبعث علي عدي بن حاتم ويزيد ابن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد بن خصفة إلى معاوية، فلما دخلوا حمد الله عدي بن حاتم، ثم قال: أما بعد، فإنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله عز وجل به كلمتنا وأمتنا، ويحقن به الدماء، ويؤمن به السبل، ويصلح به ذات البين. إن ابن عمك سيد المسلمين أفضلها سابقة، وأحسنها في الإسلام أثرًا، وقد استجمع له الناس، وقد أرشدهم الله عز وجل بالذي رأوا، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك، فانته يا معاوية لا يصبك الله وأصحابك بيوم مثل يوم الجمل. فقال معاوية: كأنك إنما جئت متهددًا، لم تأت مصلحًا! هيهات يا عدي، كلا والله إني لابن حرب، ما يقعقع لي بالشنان، أما والله إنك لمن المجلبين على ابن عفان رضي الله عنه، وإنك لمن قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتل الله عز وجل به. هيهات يا عدي بن حاتم! قد حلبت بالساعد الأشد. فقال له شبث بن ربعي وزياد بن خصفة - وتنازعا جوابًا واحدًا: أتيناك فيما يصلحنا وإياك، فأقبلت تضرب لنا الأمثال! دع ما لا ينتفع به من القول والفعل، وأجبنا فيما يعمنا وغياك نفعه. وتكلم يزيد بن قيس، فقال: إنا لم نأتك إلا لنبلغك ما بعثنا به إليك، ولنؤدي عنك ما سمعنا منك، ونحن على ذلك لم ندع أن ننصح لك، وأن نذكر ما ظننا أن لنا عليك به حجة، وأنك راجع به إلى الألفة والجماعة. إن صاحبنا من قد عرفت وعرف المسلمون فضله، ولا أظنه يخفى عليك؛ إن أهل الدين والفضل لن يعدلوا بعلي، ولن يميلوا بينك وبينه، فاتق الله يا معاوية، ولا تخالف عليًا، فإنا والله ما رأينا رجلًا قط أعمل بالتقوى، ولا أزهد في الدنيا، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه.
فحمد الله معاوية وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي، وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها؛ إن صاحبكم قتل خليفتنا، وفرق جماعتنا، وآوى ثأرنا وقتلتنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله، فنحن لا نرد ذلك عليه، أرأيتم قتلة صاحبنا؟ ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم؟ فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به، ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة.
فقال له شبث: أيسرك يا معاوية أنك أمكنت من عمار تقتله! فقال معاوية: وما يمنعني من ذلك! والله لو أمكنت من ابن سمية ما قتلته بعثمان، ولكن كنت قاتله بناتل مولى عثمان. فقال له شبث: وإله الأرض وإله السماء، ما عدلت معتدلا. لا والذي لا إله إلا هو لا تصل إلى عمار حتى تندر الهام عن كواهل الأقوام، وتضيق الأرض الفضاء عليك برحبها. فقال له معاوية: إنه لو قد كان ذلك كانت الأرض عليك أضيق.
وتفرق القوم عن معاوية، فلما انصرفوا بعث معاوية إلى زياد بن خصفة التيمي، فخلا به، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد يا أخا ربيعة، فإن عليًا قطع أرحامنا، وآوى قتلة صاحبنا. وإني أسألك النصر عليه بأسرتك وعشيرتك، ثم لك عهد الله جل وعز وميثاقه أن أوليك إذا ظهرت أي المصرين أحببت.
قال أبو مخنف: فحدثني سعد أبو المجاهد، عن المحل بن خليفة، قال: سمعت زياد بن خصفة يحدث بهذا الحديث، قال: فلما قضى معاوية كلامه حمدت الله عز وجل وأثنيت عليه، ثم قلت: أما بعد، فإني على بينة من ربي وبما أنعم علي، فلن أكون ظهيرًا للمجرمين، ثم قمت. فقال معاوية لعمرو بن العاص - وكان إلى جنبه جالسًا: ليس يكلم رجل منا رجلًا منهم فيجيب إلى خير. ما لهم عضبهم الله بشر! ما قلوبهم إلا كقلب رجل واحد.
قال أبو مخنف: فحدثني سليمان بن أبي راشد الأزدي، عن عبد الرحمن ابن عبيد أبي الكنود، أن معاوية بعث إلى علي حبيب بن مسلمة الفهري وشرحبيل بن السمط ومعن بن يزيد بن الأخنس، فدخلوا عليه وأنا عنده، فحمد الله حبيب وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان خليفةً مهديًا، يعمل بكتاب الله عز وجل، وينيب إلى أمر الله تعالى، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته، فع***م عليه فقتلتموه؛ فتادفع إلينا قتلة عثمان - إن زعمت أنك لم تقتله - نقتلهم به، ثم اعتزل أمر الناس فيكون أمرهم شورى بينهم، يولي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم. فقال له علي بن أبي طالب: وما أنت لا أم لك والعزل وهذا الأمر! اسكت فإنك لست هنك ولا بأهل له! فقام وقال له: والله لتريني بحيث تكره. فقال علي: وما أنت ولو أجلبت بخيلك ورجلك! لا أبقى الله عليك إن أبقيت علي؛ أحقرةً وسوءًا! اذهب فصوب وصعد ما بدا لك.
وقال شرحبيل بن السمط: إني إن كلمتك فلعمري ما كلامي إلا مثل كلام صاحبي قبل، فهل عندك جواب غير الذي أجبته به؟ فقال علي: نعم لك ولصاحبك جواب غير الذي أجبته به. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الله جل ثناؤه بعث محمدًا بالحق، فأنقذ به من الضلالة، وانتاش به من الهلكة، وجمع به من الفرقة، ثم قبضه الله إليه وقد أدى ما عليه ، ثم استخلف الناس أبا بكر رضي الله عنه، واستخلف أبو بكر عمر رضي الله عنه، فأحسنا السيرة، وعدلا في الأمة، وقد وجدنا عليهما أن توليا علينا - ونحن آل رسول الله - فغفرنا ذلك لهما، وولي عثمان رضي الله عنه فعمل بأشياء عابها الناس عليه، فساروا إليه فقتلوه، ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمورهم، فقالوا لي: بايع، فأبيت عليهم، فقالوا لي: بايع، فإن الأمة لا ترضى إلا بك!، وإنا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس؛ فبايعتهم، فلم يرعني إلا قاق رجلين قد بايعاني، وخلاف معاوية الذي لم يجعل الله عز وجل له سابقةً في الدين، ولا سلف صدق في الإسلام، طليق ابن طليق، حزب من هذه الأحزاب، لم يزل الله عز وجل ولرسوله وللمسلمين عدوًا هو وأبوه حتى دخلا في الإسلام كارهين، فلا غرو إلا خلافكم معه، وانقيادكم له، وتدعون آل نبيكم الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا حلافهم، ولا أن تعدلوا بهم من الناس أحدًا. ألا إني أدعوكم إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه وإماتة الباطل، وإحياء معالم الدين؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ولكل مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة.
فقالا: اشهد أن عثمان رضي الله عنه قتل مظلومًا، فقال لهما: لا أقول إنه قتل مظلومًا، ولا إنه قتل ظالمًا، قالا: فمن لم يزعم أن عثمان قتل مظلومًا فنحن منه برآء، ثم قاما فانصرفا. فقال علي: " إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن ستمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون " ثم أقبل عليٌّ على أصحابه فقال: لا يكن هؤلاء أولى بالجد في ضلالهم منكم بالجد في حقكم وطاعة ربكم.
قال أبو مخنف: حدثني جعفر بن حذيفة، من آل عامر بن جوين، أن عائذ بن قيس الحزمري واثب عدي بن حاتم في الراية بصفين - وكانت حزمر أكثر من بني عدي رهط حاتم - فوثب عليهم عبد الله بن خليفة الطائي السبولاني عند علي، فقال: يا بني حزمر، على عدي تتوثبون! وهل فيكم مثل عدي أو في آبائكم مثل أبي عدي! أليس بحامي القربة ومانع الماء يوم روية؟ أليس بابن ذي المرباع وابن جواد العرب؟! أليس بابن المنهب ماله، ومانع جاره؟! اليس من لم يغدر ولم يفجر، ولم يجهل ولم يبخل، ولم يمنن ولم يجبن؟! هاتوا في آبائكم مثل أبيه، أو هاتوا فيكم مثله. أوليس أفضلكم في الإسلام! أوليس وافدكم إلى رسول الله ! أليس برأسكم يوم النخيلة ويوم القادسية ويوم المدائن ويوم جلولاء الوقيعة ويوم نهاوند ويوم تستر؟! فما لكم وله! والله ما من قومكم أحد يطلب مثل الذي تطلبون. فقال له علي بن أبي طالب: حسبك يابن خليفة، هلم أيها القوم إلي، وعلي بجماعة طيىء، فأتوه جميعًا، فقال علي: من كان رأسكم في هذه المواطن؟ قالت له طيىء: عدي. فقال له ابن خليفة: فسلهم يا أمير المؤمنين، أليسوا راضين مسلمين لعدي الرياسة؟ ففعل، فقالوا: نعم، فقال لهم: عدي أحقكم بالراية. فسلموها له، فقال علي - وضجت بنو الحزمر -: إني أراه رأسكم قبل اليوم، ولا أرى قومه كلهم إلا مسلمين له غيركم؛ فأتبع في ذلك الكثرة. فأخذها عدي. فلما كان أزمان حجر بن عدي طلب عبد الله بن خليفة ليبعث به مع حجر - وكان من أصحابه - فسير إلى الجبلين؛ وكان عدي قد مناه أن يرده، وأن يطلب فيه، فطال عليه ذلك، فقال:
وتنسونني يوم الشريعة والقنا ** بصفين في أكتفهم قد تكسرا
جزى ربه عنى عدي بن حاتمٍ ** برفضي وخذلاني جزاءً موفرا
أتنسى بلائي سادرًا يابن حاتمٍ ** عشية ما أغنت عديك حزمرا
فدافعت عنك القوم حتى تخاذلوا ** وكنت أنا الخصم الألد العذورا
فولوا وما قاموا مقامي كأنما ** رأوني ليثًا بالأباءة مخدرا
نصرتك إذ خام القريب وأبعط ال ** بعيد وقد أفردت نصرًا مؤزرا
فكان جزائي أن أجرد بينكم ** سجينًا، وأن أولى الهوان وأوسرا
وكم عدةٍ لي منك أنك راجعي ** فلم تغن بالميعاد عني حبترا