ألم خيالٌ منك يا أم غالب ** فحييت عنا من حبيبٍ مجانب
وما زلت لي شجوًا وما زلت مقصدًا ** لهمٍّ عراني من فراقك ناصب
فما أنس لا أنس انفتالك في الضحى ** إلينا مع البيض الوسام الخراعب
تراءت لنا هيفاء مهضومة الحشا ** لطيفة طي الكشح ريا الحقائب
مبتلةً غراء، رؤدٌ شبابها ** كشمس الضحى تنكل بين السحائب
فلما تغشاها السحاب وحوله ** بدا حاجبٌ منها وضنت بحاجب
فتلك الهوى وهي الجوى لي والمنى ** فأجيب بها من خلةٍ لم تصاقب
ولا يبعد الله الشباب وذكره ** وحب تصافي المعصرات الكواعب
ويزداد ما أحببته من عتابنا ** لعابًا وسقيًا للخدين المقارب
فإني وإن لم أنسهن لذاكرٌ ** رزيئة مخباتٍ كريم المناصب
توسل بالتقوى إلى الله صادقًا ** وتقوى الإله خير تكساب كاسب
وخلي عن الدنيا فلم يلتبس بها ** وتاب إلى الله الرفيع المراتب
تخلى عن الدنيا وقال أطرحتها ** فلست إليها ما حييت بآيب
وما أنا فيما يكبر الناس فقده ** ويسعى له الساعون فيها براغب
فوجهه نحو الثوية سائرًا ** إلى ابن زياد في الجموع الكباكب
بقوم هم أهل التقية والنهى ** مصاليت أنجادٌ سراة مناجب
مضوا تاركي رأي ابن طلحة حسبه ** ولم يستجيبوا للأمير المخاطب
فساروا وهم من بين ملتمس التقى ** وآخر مما جر بالأمس تائب
فلاقوا بعين الوردة الجيش فاصلًا ** إليهم فحسوهم ببيضٍ قواضب
يمانيةٍ تذري الأكف وتارةً ** بخيلٍ عتاقٍ مقرباتٍ سلاهب
فجاءهم جمعٌ من الشأم بعده ** جموعٌ كموج البحر من كل جانب
فما برحوا حتى أبيدت سراتهم ** فلم ينج منهم ثم غير عصائب
وغودر أهل الصبر صرعى فأصبحوا ** تعاورهم ريح الصبا والجنائب
فأضحى الخزاعي الرئيس مجدلًا ** كأن لم يقاتل مرةً ويحارب
ورأس بني شمخٍ وفارس قومه ** شنوءة والتيمي هادي الكتائب
وعمرو بن بشرٍ والوليد وخالدٌ ** وزيد بن بكر والحليس بن غالب
وضارب من همدان كل مشيعٍ ** إذا شد لم ينكل كريم المكاسب
ومن كل قومٍ قد أصيب زعيمهم ** وذو حسبٍ في ذروة المجد ثاقب
أبوا غير ضربٍ يفلق الهام وقعه ** وطعنٍ بأطراف الأسنة صائب
وإن سعيدًا يوم يدمر عامرًا ** لأشجع من ليثٍ بدرني مواثب
فيا خير جيشٍ للعراق وأهله ** سقيتم روايا كل أسحم ساكب
فلا يبعدن فرساننا وحماتنا ** إذا البيض أبدت عن خدام الكواعب
فإن يقتلوا فالقتل أكرم ميتةٍ ** وكل فتىً يومًا لإحدى الشواعب
وما قتلوا حتى أثاروا عصابةً ** محلين ثورًا كالليوث الضوارب
وقتل سليمان بن صرد ومن قتل معه بعين الوردة من التوابين في شهر ربيع الآخر.
ذكر الخبر عن بيعة عبد الملك وعبد العزيز ابني مروان

وفي هذه السنة أمر مروان بن الحكم أهل الشأم بالبيعة من بعده لابنيه عبد الملك وعبد العزيز، وجعلهما ولي العهد.
ذكر الخبر عن سبب عقد مروان ذلك لهما
قال هشام، عن عوانة قال: لما هزم عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق مصعب بن الزبير حين وجهه أخوه عبد الله إلى فلسطين وانصرف راجعًا إلى مروان، ومروان يومئذ بدمشق، قد غلب على الشأم كلها ومصر، وبلغ مروان أن عمرًا يقول: إن هذا الأمر لي من بعد مروان، ويدعي أنه قد كان وعده وعدًا، فدعا مروان حسان بن مالك بن بحدل فأخبره أنه يريد أن يبايع لعبد الملك وعبد العزيز ابنيه من بعده، وأخبره بما بلغه عن عمرو بن سعيد، فقال: أنا أكفيك عمرًا، فلما اجتمع الناس عند مروان عشيًا قام ابن بحدل فقال: إنه قد بلغنا أن رجالًا يتمنون أماني، قوموا فبايعوا لعبد الملك ولعبد العزيز من بعده؛ فقام الناس، فبايعوا من عند آخرهم.
ذكر الخبر عن موت مروان بن الحكم

وفي هذه السنة مات مروان بن الحكم بدمشق مستهل شهر رمضان.
ذكر الخبر عن سبب هلاكه
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني موسى بن يعقوب، عن أبي الحويرث، قال: لما حضرت معاوية ابن يزيد أبا ليلى الوفاة، أبى أن يستخلف أحدًا، وكان حسان بن مالك بن بحدل يريد أن يجعل الأمر بعد معاوية بن يزيد لأخيه خالد بن يزيد بن معاوية، وكان صغيرًا، وهو خال أبيه يزيد بن معاوية، فبايع لمروان، وهو يريد أن يجعل الأمر بعده لخالد بن يزيد، فلما بايع لمروان وبايعه معه أهل الشأم قيل لمروان: تزوج أم خالد - وأمه أم خالد ابنة أبي هشام بن عتبة - حتى تص شأنه، فلا يطلب الخلافة؛ فتزوجها، فدخل خالد يومًا على مروان وعنده جماعةٌ كثيرة، وهو يمشي بين الصفين، فقال: إنه والله ما علمت لأحمق، تعال يابن الرطبة الاست - يقصر به ليسقطه من أعين أهل الشأم - فرجع إلى أمه فأخبرها، فقالت له أمه: لا يعرفن ذلك منك، واسكت فإني أكفيكه؛ فدخل عليها مروان، فقال لها: هل قال لك خالد في شيئًا؟ فقالت: وخالد يقول فيك شيئًا! خالد أشد لك إعظامًا من أن يقول فيك شيئًا؛ فصدقها، ثم مكثت أيامًا، ثم إن مروان نام عندها، فغطته بالوسادة حتى قتلته.
قال أبو جعفر: وكان هلاك مروان في شهر رمضان بدمشق، وهو ابن ثلاث وستين سنة في قول الواقدي؛ وأما هشام بن محمد الكلبي فإنه قال: كان يوم هلك ابن إحدى وستين سنة؛ وقيل: توفي وهو ابن إحدى وسبعين سنة؛ وقيل: ابن إحدى وثمانين سنة؛ وكان يكنى أبا عبد الملك، وهو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وأمه آمنة بنت علقمة ابن صفوان بن أمية الكناني، وعاش بعد أن بويع له بالخلافة تسعة أشهر؛ وقيل: عاش بعد أن بويع له بالخلافة عشرة أشهر إلا ثلاث ليال، وكان قبل هلاكه قد بعث بعثين: أحدهما إلى المدينة، عليهم حبيش بن دلجة القيني، والآخر منهما إلى العراق، عليهم عبيد الله بن زياد، فأما عبيد الله ابن زياد فسار حتى نزل الجزيرة، فأتاه الخبر بها بموت مروان، وخرج إليه التوابون من أهل الكوفة طالبين بدم الحسين، فكان من أمرهم ما قد مضى ذكره، وسنذكر إن شاء الله باقي خبره إلى أن قتل.
ذكر خبر مقتل حبيش بن دلجة

وفي هذه السنة قتل حبيش بن دلجة. وأما حبيش بن دلجة؛ فإنه سار حتى انتهى - فيما ذكر عن هشام، عن عوانة بن الحكم - إلى المدينة، وعليهم جابر ابن الأسود بن عوف، ابن أخي عبد الرحمن بن عوف؛ من قبل عبد الله بن الزبير، فهرب جابر من حبيش. ثم إن الحارث بن أبي ربيعة - وهو أخو عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة - وجه جيشًا من البصرة، وكان عبد الله بن الزبير قد ولاه البصرة، عليهم الحنيف بن السجف التميمي لحرب حبيش ابن دلجة، فلما سمع حبيش بن دلجة سار إليهم من المدينة، وسرح عبد الله ابن الزبير عباس بن سهل بن سعد الأنصاري على المدينة، وأمره أن يسير في طلب حبيش بن دلجة حتى يوافي الجند من أهل البصرة الذين جاءوا ينصرون ابن الزبير، عليهم الحنيف، وأقبل عباس في آثارهم مسرعًا حتى لحقهم بالربذة، وقد قال أصحاب ابن دلجة له: دعهم، لا تعجل إلى قتالهم؛ فقال: لا أنزل حتى آكل من مقندهم، - يعني السويق الذي فيه القند - فجاءه سهم غرب فقتله، وقتل معه المنذر بن قيس الجذامي، وأبو عتاب مولى أبي سفيان، وكان معه يومئذ يوسف بن الحكم، والحجاج بن يوسف، وما نجوا يومئذ إلا على جمل واحد، وتحرز منهم نحوٌ من خمسمائة في عمود المدينة، فقال لهم عباس: انزلوا على حكمي، فنزلوا على حكمه فضرب أعناقهم، ورجع فل حبيش إلى الشأم.
حدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد أنه قال: الذي قتل حبيش ابن دلجة يوم الربذة يزيد بن سياه الأسواري، رماه بنشابة فقتله، فلما دخلوا المدينة وقف يزيد بن سياه على برذون أشهب وعليه ثيابٌ بياض، فما لبث أن اسودت ثيابه، ورأيته مما مسح الناس به ومما صبوا عليه من الطيب.