ثم دخلت سنة أربع ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الوقعة بين الحرشي والسغد

ففي هذه السنة كانت وقعة الحرشي بأهل السغد وقتله من قتل من دهاقينها.
ذكر الخبر عن أمره وأمرهم في هذه الوقعة
ذكر علي عن أصحابه أن الحرشي غزا في سنة أربع ومائة فقطع النهر، وعرض الناس، ثم سار فنزل قصر الريح على فرسخين من الدبوسية، ولم يجتمع إليه جنده.
قال: فأمر الناس بالرحيل، فقال له هلال بن عليم الحنظلي: يا هناه، إنك وزيرًا خير منك أميرًا الأرض حرب شاغرة برجلها، ولم يجتمع لك جندك، وقد أمرت بالرحيل! قال: فكيف لي؟ قال: تأمر بالنزول، ففعل.
وخرج النيلان ابن عمّ ملك فرغانة إلى الحرشي، وهو نازل على مغون فقال له: إن أهل السغد بخجندة؛ وأخبره خبرهم وقال: عاجلهم قبل أن يصيروا إلى الشِّعب، فليس لهم علينا جوار حتى يمضي الأجل. فوجّه الحرشي مع النيلان عبد الرحمن القشيري وزياد بن عبد الرحمن القشيري في جماعة، ثم ندم على ما فعل فقال: جاءني علج لا أدري صدق أم كذب، فغرّرت بجند من المسلمين. وارتحل في أثرهم حتى نزل في أشروسنة، فصالحهم بشيء يسير فبينا هو يتعشىّ إذ قيل له: هذا عطاء الدبوسي وكان فيمن وجهه مع القشيري ففزع وسقطت اللُّقمة من يده، ودعا بعطاء، فدخل عليه، فقال: ويلك! قاتلتم أحدًا؟ فقال: لا، قال: الحمد لله، وتعشّى، وأخبره بما قدم له عليه. فسار جوادًا مغذًّا، حتى لحق القشيري بعد ثالثة، وسار فلما انتهى إلى خجندة، قال للفضل بن بسام: ما ترى؟ قال: أرى المعالجة، قال: لا أرى ذلك، إن جرح رجلٌ فإلى أين يرجع! أو قتل قتيل فإلى من يحمل! ولكني أرى النزول والتأني والاستعداد للحرب، فنزل فرفع الأبنية وأخذ في التأهب، فلم يخرج أحد من العدوّ، فجبَّن الناس الحرشي، وقالوا كان هذا يذكر بأسه بالعراق ورأيه، فلما صار بخرسان ماق. قال: فحمل رجلٌ من العرب، فضرب باب خجندة بعمود ففتح الباب، وقد كانوا حفروا في ربضهم وراء الباب الخارج خندقًا، وغطوه بقصب، وعلّوه بالتراب مكيدة، وأرادوا إذا التقوا إن انهزموا أن يكونوا قد عرفوا الطريق، ويشكل على المسلمين فيسقطوا في الخندق.
قال: فلما خرجوا قاتلوهم فانهزموا، وأخطئوهم الطريق، فسقطوا في الخندق فأخرجوا من الخندق أربعين رجلًا، على الرجل درعان درعان، وحصرهم الحرشي، ونصب عليهم المجانيق، فأرسلوا إلى ملك فراغانة: غدرت بنا، وسألوه أن ينصرهم، فقال لهم: لم أغير ولا أنصركم؛ فانظروا لأنفسكم؛ فقد أتوكم قبل انقضاء الأجل، ولستم في جواري. فلما أيسوا من نصره طلبوا الصلح، وسألوا الأمان وأن يردّهم إلى السُّغد، فاشترط عليهم أن يردّوا من في أيديهم من نساء العرب وذراريّهم، وأن يؤدوا ما كسروا من الحراج، ولا يغتالوا أحدًا، ولا يتخلف منهم بخجندة أحد، فإن أحدثوا حدثًا حلت دماؤهم.
قال: وكان السَّفير فيما بينهم موسى بن مشكان مولى آل بسام، فخرج إليه كارزنج، فقال له: إنّ لي حاجةً أحب أن تشفِّعني فيها، قال: وما هي؟ قال: أحب إن جنى منهم رجل جناية بعد الصلح ألّا تأخذني بما جنى، فقال الحرشي: ولي حاجة فاقضها، قال: وما هي؟ قال: لا يلحقني في شرطي ما أكره. قال: فأخرج الملوك والتجار من الجانب الشرقي، وترك أهل خجندة الذين هم أهلها على حالهم، فقال كارزنج للحرشي: ما تصنع؟ قال: أخاف عليكم معرّة الجند، قال: وعظماؤهم مع الحرشي في العسكر نزلوا على معارفهم من الجند، ونزل كارزنج على أيوب بن أبي حسان، فبلغ الحرشي أنهم قتلوا امرأة من نساء كنَّ في أيديهم، فقال لهم: بلغني أن ثابتأَ الأشتيخني قتل امرأة ودفنها تحت حائط، فجحدوا فأرسل الحرشي إلى قاضي خجندة، فنظروا فإذا المرأة المقتولة. قال فدعا الحرشي بثابت، فأرسل كارزنج غلامه إلى باب السرادق ليأتيه بالحبر، وسأل الحرشي ثابتًا وغيره عن المرأة، فجحد ثابت وتيقن الحرشي أنه قتلها فقتله، فرجع غلام كارزنج إليه بقتل ثابت، فجعل يقبض على لحيته ويقرضها بأسنانه، وخاف كارزنج أن يستعرضهم الحرشي، فقال لأيوب بن أبي حسان: إني ضيفك وصديقك، فلا يجمل بك أن يقتل صديقك في سراويل خلق، قال: فخذ سروالي. قال: وهذا لا يجمل، أقتل في سرويلاتكم! فسرّح غلامك إلى جلنج ابن أخي يجيئوني بسراويل جديد وكان قد قال لابن أخيه: إذا أرسلت إليك أطلب سراويل فاعلم أنه القتل فلما بعث بسراويل أخرج فرندة خضراء فقطّعها عصائب، وعصبها برءوس شاكريّته، ثم خرج هو وشاكرّيته، فاعترض الناس فقتل ناسًا، ومرّ بيحي بن حضين فنفحه نفحه على رجله، فلم يزل يخمع منها وتضعضع أهل العسكر، ولقي الناس منه شرًا؛ حتى انتهى إلى ثابت بن عثمان بن مسعود في طريق ضيق، فقتله ثابت بسيف عثمان بن مسعود. وكان في أيدي السُّغد أسراء من المسلمين فقتلوا منهم خمسين ومائة، ويقال: قتلوا منهم أربعين؛ قال: فألفت منهم غلام فأخبرالحرشي ويقال: بل أتاه رجل فأخبره - فسألهم فجحدوا، فأرسل إليهم من علم علمهم، فوجد الخبر حقًا، فأمر بقتلهم، وعزل التجار عنهم - وكان التجار أربعمائة، كان معهم مال عظيم قدموا به من الصين - قال: فامتنع أهل السُّغد، ولم يكن لهم سلاح، فقاتلوا بالخشب، فقتلوا عن آخرهم. فلما كان الغد دعا الحراثين - ولم يعلموا ما صنع أصحابهم - فكان يختم في عنق الرجل ويخرج من حائط إلى حائط فيقتل، وكانوا ثلاثة آلاف - ويقال سبعة آلاف - فأرسل جرير بن هميان والحسين بن أبي العمرطة ويزيد بن أبي زينب فأحصوا أموال التجار - وكانوا اعتزلوا وقالوا: لا نقاتل - فاصطفى أموال السغد وذراريّهم، فأخذ منها ما أعجبه، ثم دعا مسلم بن بديل العدوي؛ عدي الرباب، فقال: قد وليتك المقسم، قال: بعد ما عمل فيه عمالك ليلة! ولِّه غيري؛ فولاه عبيد الله بن زهير بن حيان العدوي، فأخرج الخمس، وقسّم الأموال؛ وكتب الحرشي إلى يزيد بن عبد الملك، ولم يكتب إلى عمر بن هبيرة، فكان هذا مما وجد فيه عليه عمر بن هبيرة، فقال ثابت قطنة يذكر ما أصابوا من عظمائهم:
أقرَّ العين مصرع كارزنج ** وكشَّينٍ وما لاقى بيار
وديواشنى وما لاقى جلنجٌ ** بحصن خجند إذ دمروا فباروا
ويروى: " أقر العين مصرع كارزنج، وكشكيش "؛ ويقال: إن ديواشني دهقان أهل سمرقند، واسمه ديواشنج فأعربوه ديواشني.
ويقال: كان على أقباض خجندة علباء بن أحمر اليشكري، فاشترى رجل منه جونة بدرهمين، فوجد فيها سبائك ذهب، فرجع وهو واضعٌ يده على عينه كأنه رمد، فردَّ الجونة، وأخذ الدرهمين، فطلب فلم يوجد.
قال: وسرّح الحرشي سليمان بن أبي السري مولى بني عوافة إلى قلعة لا يطيف بها وادي السُّغد إلّا من وجه واحد. ومعه شوكر بن حميك وخوارزم شاه وعورم صاحب أخرون وشومان؛ فوجّه سليمان بن أبي السري على مقدّمته المسيّب بن بشر الرياحي، فتلقوه من القلعة على فرسخ في قرية يقال لها كوم، فهزمهم المسيّب حتى ردهم إلى القلعة فحصرهم سليمان، ودهقانها يقال له ديواشني.
قال: فكتب إليه الحرشي فعرض عليه أن يمدّه، فأرسل إليه: ملتقانا ضيق فسر إلى كسّ؛ فإنا في كفاية الله إن شاء الله فطلب الديواشني أن ينزل على حكم الحرشي، وأن يوجّهه مع المسيّب بن بشر إلى الحرشي، فوفى له سليمان ووجّهه إلى سعيد الحرشي، فألطفه وأكرمه مكيدةً، فطلب أهل القلعة الصُّلح بعد مسيره على ألا يعرض لمائة أهل بيت منهم ونسائهم وأبنائهم ويسلمون القلعة. فكتب سليمان إلى الحرشي أن يبعث الأمناء في قبض ما في القلعة.
قال: فبعث محمد بن عزيز الكندي وعلباء بن أحمر اليشكري، فباعوا ما في القلعة مزايدةً، فأخذ الخمس، وقسم الباقي بينهم. وخرج الحرشي إلى كسّ فصالحوه على عشرة آلاف رأس. ويقال: صال دهقان كسّ، واسمه ويك - على ستة آلاف رأس، يوفيه في أربعين يومًا على ألا يأتيه فلما فرغ من كسّ خرج إلى ربنجن، فقتل الديواشني، وصلبه على ناووس وكتب على أهل ربنجن كتابًا بمائة إن فقد من موضعه؛ وولّى نصر بن يسار قبض صلح كسّ، ثم عزل سورة بن الحرّ وولّى نصر بن يسار، واستعمل سليمان بن أبي السري على كسّ، ونسف حربها وخراجها، وبعث برأس الديواشني إلى العراق، ويده اليسرى إلى سليمان بن أبي السري إلى طخارستان.
قال: وكانت خزار منيعة، فقال المجشّر بن مزاحم لسعيد بن عمر الحرشي: ألا أدلك على من يفتحها لك بغير قتال؟ قال: بلى قال: المسربل بن الخرّيت بن راشد الناجي، فوجهه إليها - وكان المسربل صديقًا لملكها، واسم الملك سبقري. وكانوا يحبّون المسربل - فأخبر الملك ما صنع الحرشي بأهل خجندة وخوّفه، قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تنزل بأمان، قال: فما أصنع بمن لحق بي من عوامّ الناس؟ قال: نصيّرهم معك في أمانك، فصالحهم فأمنوه وبلاده.
قال: ورجع الحرشي إلى مرو ومعه سبقري، فلما نزل أسنان وقدم مهاجر بن زيد الحرشي، وأمره أن يوافيه ببرذون بن كشانيشاه قتل سبقري وصلبه ومعه أمانه - ويقال: كان هذا دهقان ابن ماجر قدم على ابن هبيرة فأخذ أمانًا لأهل السُّغد، فحبسه الحرشي في قهندر مرو، فلما قدم مرو دعا به، وقتله وصلبه في الميدان، فقال الراجز:
إذا سعيدٌ سار في الأخماس ** في رهج يأخذ بالأنفاس
دارت على الترك أمرُّ الكاس ** وطارت الترك على الأحلاس
ولو فرارًا عطل القياس وفي هذه السنة عزل يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري عن المدينة ومكة، وذلك للنصف من شهر ربيع الأول، وكان عامله على المدينة ثلاث سنين.
وفيها ولّي يزيد بن عبد الملك المدينه عبد الواحد النضري.