وذكر علي بن محمد أن الوليد بن مسلم قال: قاتل عمرو بن مسلم نصر بن سيار فهزمه عمرو، فقال لرجل من بني تميم كان معه: كيف ترى أستاه قومك يا أخا بني تميم؟ يعيره بهزيمتهم، ثم كرت تميم فهموا أصحاب عمرو، فانجلى الرهج وبلعاء بن مجاهد في جمع من بني تميم يشلهم، فقال التميمي لعمرو: هذه أستاه قومي. قال: وانهزم عمرو، فقال بلعاء لأصحابه: لا تقتلوا الأسرى ولكن جردوهم، وجوبوا سراويلاتهم عن أدبارهم، ففعلوا، فقال بيان العنبري يذكر حربهم بالبروقان:
أتاني ورحلي بالمدينة وقعة ** لآل تميم أرجفت كل مرجف
تظل عيون البرش بكر بن وائل ** إذا ذكرت قتلى البروقان تذرف
هم أسلموا للموت عمرو بن مسلم ** وولوا شلالًا والأسنة ترعف
وكانت من الفتيان في الحرب عادة ** ولم يصبروا عند القنا المتقصف
خبر غزو مسلم بن سعيد الترك

وفي هذه السنة غزا مسلم بن سعيد الترك؛ فورد عليه عزله من خراسان من خالد بن عبد الله، وقد قطع النهر لحربهم وولاية أسد بن عبد الله عليها.
ذكر الخبر عن غزوة مسلم بن سعيد هذه الغزوة
ذكر علي بن محمد عن أشياخه أنّ مسلمًا غزا في هذه السنة، فخطب الناس في ميدان يزيد، وقال: ما أخلف بعدي شيئًا أهمّ عندي من قوم يتخلفون بعدي مخلّقي الرقاب، يتواثبون الجدران على نساء المجاهدين؛ اللهم افعل بهم وافعل! وقد أمرت نصرًا ألّا يجد متخلّفًا إلا قتله، وما أرثى لهم من عذاب ينزله الله بهم - يعني عمر بن مسلم وأصحابه - فلما صار ببخارى أتاه كتاب من خالد بن عبد الله القسري بولايته على العراق، وكتب إليه: أتمم غزاتك. فسار إلى فرغانة، فقال أبو الضحاك الرَّواحي - أحد بني رواحة من بني عبس، وعداده في الأزد، وكان ينظر في الحساب: ليس على متخلف العم معصية، فتخلف أربعة آلاف. وسار مسلم بن سعيد، فلما صار بفرغانة بلغه أن خاقان قد أقبل إليه، وأتاه شميل - أو شبيل - بن عبد الرحمن المازني، فقال: عاينت عسكر خاقان في موضع كذا وكذا، فأرسل إلى عبد الله بن أبي عبد الله الكرماني مولى بني سليم، فأمره بالاستعداد للمسير، فلما أصبح ارتحل بالعسكر، فسار ثلاث مراحل في اليوم؛ ثم سار من غد حتى قطع وادي السبّوح، فأقبل إليهم خاقان، وتوافت إليه الخيل؛ فأنزل عبد الله بن أبي عبد الله قومًا من العفراء والموالي، فأغار الترك على الذين أنزلهم عبد الله ذلك الموضع فقتلوهم، وأصابوا دوابّ لمسلم وقتل المسّيب بن بسر الريّاحي، وقتل البراء - وكان من فرسان المهلّب - وقتل أخو غوزك، وثار الناس في وجوههم، فاخرجوهم من العسكر، ودفع مسلم لواءه إلى عامر بن مالك الحمَّاني، ورحل بالناس فساروا ثمانية أيام، وهم مطيفون بهم؛ فلما كانت الليلة التاسعة أراد النزول، فشاور الناس فأشاروا عليه بالنزول، وقالوا: إذا أصبحنا وردنا الماء، والماء منا غير بعيد؛ وإنك إن نزلت المرج تفرّق الناس في الثمار، وانتهب عسكرك، فقال لسورة بن الحرّ: يا أبا العلاء، ما ترى؟ قال: أرى ما رأى الناس ونزلوا. قال: ولم يرفع بناء في العسكر، وأحرق الناس ما ثقل من الآنية والأمتعة، فحّرقوا قيمة ألف ألف، وأصبح الناس فساروا، فوردوا الماء فإذا دون النهر أهل فرغانة والشاش، فقال مسلم بن سعيد: أعزم على كلّ رجل إلا اخترط سيفه؛ ففعلوا فصارت الدنيا كلها سيوفًا، فتركوا الماء وعبروا، فأقام يومًا، ثم قطع من غدٍ، وأتبعهم ابن الخاقان. قال: فأرسل حميد بن عبد الله وهو على الساقة إلى مسلم: قف ساعةً فإن خلفي مائتي رجل من الترك حتى أقاتلهم - وهو مثقلٌ جراحةً - فوقف الناس، فعطف على الترك، فأرسل أهل السُّغد وقائدهم وقائد الترك في سبعة، وانصرف البقيّة، ومضى حميد ورمى بنشّابه في ركبته، فمات.
وعطش الناس، وقد كان عبد الرحمن بن نعيم العامري حمل عشرين قربة على إبله، فلما رأى جهد الناس أخرجها، فشربوا جرعًا، واستسقى يوم العطش مسلم بن سعيد فأتوه بإناء، فأخذ جابر - أو حارثة - بن كثير أخو سليمان بن كثير من فيه، فقال مسلم: دعوه، فما نازعني شربتي إلا من حرّ دخله، فأتوا خجندة، وقد أصابتهم مجاعة وجهد، فانتشر الناس فإذا فارسان يسألان عن عبد الرحمن بن نعيم، فأتياه بعهد على خراسان من أسد بن عبد الله، فأقرأه عبد الرحمن مسلمًا، فقال: سمعًا وطاعة، قال: وكان عبد الرحمن أول من اتخذ الخيام في مفازة آمل.
قال: وكان أعظم الناس غنى يوم العطش إسحاق بن محمد الغداني، فقال حاجب الفيل لثابت قطنة، وهو ثابت بن كعب:
نقضي الأمور وبكر غير شاهدها ** بين المجاذيف والسُّكان مشغول
ما يعرف الناس منه غير قطنته ** وما سواها من الآباء مجهول
وكان لعبد الرحمن بن نعيم من الولد نعيم وشديد وعبد السلام وإبراهيم والمقداد، وكان أشدهم نعيم وشديد، فما عزل مسلم بن سعيد، قال الخرزج التغلبي: قاتلنا الترك، فأحاطوا بالمسلمين حتى أيقنوا بالهلاك؛ فنظرت إليهم وقد اصفرت وجوههم، فحمل حوثرة بن يزيد بن الحرّ بن الحنيف بن نصر بن يزيد بن جعونة على الترك في أربعة آلاف، فقاتلهم ساعة ثم رجع، وأقبل نصر بن يسار في ثلاثين فارسًا، فقاتلهم حتى أزالهم عن مواضعهم، وحمل الناس عليهم؛ فانهزم الترك.
قال: وحوثرة هذا هو ابن أخي رقبة بن الحرّ. قال: وكان عمر بن هبيرة قال لمسلم بن سعيد حين ولّاه خراسان: ليكن حاجبك من صالح مواليك، فإنه لسانك والمعبر عنك، وحثّ صاحب شرطتك على الأمانة، وعليك بعمال العذر. قال: وما عمال العذر؟ قال مر أهل كل بلد أن يختاروا لأنفسهم، فإذا اختاروا رجلً فولّه، فإن كان خيرًا لك، وإن كان شرًا كان لهم دونك؛ وكنت معذورًا.
قال: كان مسلم بن سعيد كتب إلى عامله بالبصرة: احمل إلى توبة بن أبي أسيد، مولى بني العنبير فكتب ابن هبيرة إلى عامله في البصرة: احمل إلى توبة بن أسيد، فحمله فقدم - وكان رجلًا جميلًا جهيرًا له سمتٌ - فلما دخل على ابن هبيرة، قال ابن هبيرة: مثل هذا فليولّ، ووجه به إلى مسلم، فقال له مسلم: هذا خاتمي فاعمل برأيك؛ فلم يزل معه حتى قدم أسد بن عبد الله، فأراد توبه أن يشخص مع مسلم، فقال له أسد: أقم معي فأنا أحوج إليك من مسلم. فأقام معه، فأحسن الناس وألان جانبه، وأحسن إلى الجند وأعطاهم أرزاقهم، فقال له أسد: حلفّهم بالطلاق فلا يختلف أحد عن مغزاه، ولا يدخل بديلًا، فأبى ذلك توبة فلم يحلفهم بالطلاق.
قال: وكان الناس بعد توبة يحلفون الجند بتلك الأيمان، فلما قدم عاصم ابن عبد الله أراد أن يحلّف الناس بالطلاق فأبوا، وقالوا: نحلف بأيمان توبة. قال: فهم يعرفون ذلك، يقولون: أيمان توبة.
حج هشام بن عبد الملك

وحجّ بالناس في هذه السنه هشام بن عبد الملك؛ حدثني بذلك أحمد ابن ثابت عمّن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي وغيرة، لا خلاف بينهم في ذلك. قال الواقدي: حدثني ابن أبي الزنّاد، عن أبيه، قال: كتب إلي هشام بن عبد الملك قبل أن يدخل المدينة أن اكتب لي سنن الحج، فكتبتها له، وتلقاه أبو الزنّاد. قال أبو الزنّاد: فإني يومئذ في الموكب خلفه، وقد لقيه سعيد بن عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان، وهشام يسير، فنزل له، فسلم عليه، ثم سار إلى جنبه، فصاح هشام: أبو الزناد! فتقدّمت، فسرت إلى جنبه الآخر، فأسمع سعيدًا يقول: يا أمير المؤمنين، إن الله لم يزل ينعم على أهل بيت أمير المؤمنين، وينصر خليفته المظلوم، ولم يزالوا يلعنون في هذه المواطن الصالحة أبا تراب، فأمير المؤمنين ينبغي له أن يلعنه في هذه المواطن الصالحة؛ قال: فشق على هشام، وثقل عليه كلامه، ثم قال: ما قدمنا لشتم أحد ولا للعنه، قدمنا حجاجًا. ثم قطع كلامه وأقبل علي فقال: يا عبد الله بن ذكوان، فرغت مما كتبت إليك؟ فقلت: نعم، فقال أبو الزنّاد: وثقل على سعيد ما حضرته يتكلم به عند هشام، فرأيته منكسرًا كلما رآني.
وفي هذه السنة كلم إبراهيم بن محمد بن طلحة هشام بن عبد الملك - وهشام واقف قد صلى في الحجر - فقال له: أسألك بالله وبحرمة هذا البيت والبلد الذي خرجت معظمًا لحقه، إلا رددت على ظلامتي! قال: أي ظلامة؟ قال: داري، قال: فأين كنت عن أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: ظلمني والله، قال: فعن الوليد بن عبد الملك؟ قال: ظلمني والله قال: فعن سليمان؟ قال: فعن عمر بن عبد العزيز؟ قال يرحمه الله، ردّها والله علي، قال: فعن يزيد بن عبد الملك؟ قال ظلمني والله، هو قبضها مني بعد قبضي له، وهي في يديك. قال هشام: أما والله لو كان فيك ضربٌ لضربتك، فقال إبراهيم: في والله ضرب بالسيف والسوط.
فانصرف هشام والأبرش خلفه فقال: أبا مجاشع، كيف سمعت هذا اللسان؟ قال: ما أجود هذا اللسان! قال: هذه قريش وألسنتها، ولايزال في الناس بقايا ما رأيت مثل هذا.
وفي هذه السنة قدم خالد بن عبد الله القسري أميرًا على العراق.
ولاية أسد بن عبد الله القسري على خراسان

وفيها استعمل خالد أخاه أسد بن عبد الله أميرًا على خراسان، فقدمها ومسلم بن سعيد غازٍ بفرغانة، فذكر عن أسد أنه لما أتى النهر ليقطع، منعه الأشهب بن عبيد التميمي أحد بني غالب، وكان على السفن بآمل، فقال له أسد: أقطعني، فقال: لا سبيل إلى إقطاعك؛ لأني نهيت عن ذلك، قال: لاطفوه وأطمعوه فأبى؛ قال فإني الأمير، ففعل، فقال أسد: اعرفوا هذا حتى نشركه في أمانتنا، فقطع النهر، فأتى السُّغد، فنزل مرجها، وعلى خراج سمرقند هانئ بن هانئ، فخرج في الناس يتلقى أسدًا، فأتوه بالمرج، وهو جالس على حجر، فتفائل الناس، فقالوا أسد على حجر! ما عند هذا خير. فقال له هانئ: أقدمت أميرًا فنفعل بك ما نفعل بالأمراء؟ قال: نعم ثم دعا بالغداء فتغدى بالمرج، وقال: من ينشط بالمسير وله أربعة عشر درهمًا - ويقال: قال ثلاثة عشر درهمًا - وها هي ذي في كمي؟ وإنه لبيكي ويقول: إنما أنا رجل مثلكم وركب فدخل سمرقند وبعث رجلين معهما عهد عبد الرحمن بن نعيم على الجند، فقدم الرجلان على عبد الرحمن بن نعيم، وهو في وادي أفشين على الساقة - وكانت الساقة على أهل سمرقند الموالى وأهل الكوفة - فسألا عن عبد الرحمن فقالوا: هو في الساقة، فأتياة بعهد وكتاب بالقفل والإذن لهم فيه، فقرأ الكتاب. ثم أتى به مسلمًا وبعهده، فقال مسلم: سمعًا وطاعة، فقام عمر بن هلال السدوسي - ويقال التميمي - فقنّعه سوطين لما كان منه بالروقان إلى بكر بن وائل، وشتمه حسين بن عثمان بن بشر بن المحتفز، فغضب عبد الرحمن بن نعيم، فزجوهما ثم أغلظ لهما، وأمر بهما فدفعا، وقفل بالناس وشخص معه مسلم.
فذكر علي بن محمد على أصحابه، أنهم قدموا على أسد، وهو بسمرقند، فشخص أسد إلى مرو، وعزل هانئًا، واستعمل على سمرقند الحسن بن أبي العمرّطة الكندي من ولد آكل المرار. قال: فقدمت على الحسن امرأته الجنوب ابنة القعقاع بن الأعلم رأس الأزد، ويعقوب بن القعقاع قاضي خراسان؛ فخرج يتلقاها، وغزاهم الترك، فقيل له: هؤلاء الترك قد أتوك - وكانوا سبعة آلاف - فقال: ما أتونا بل أتيناهم وغلبناهم على بلادهم واستعبدناهم، وايم الله مع هذا لأدنينّكم منهم، ولأقرننّ نواصي خيلكم بنواصي خيلهم.
قال ثم خرج فتباطأ حتى أغاروا وانصرفوا، فقال الناس: خرج إلى امرأته يتلقاها مسرعًا وخرج إلى العدّو متباطئًا. فبلغه خطبهم، فقال: تقولون وتعيبون! اللهمَّ اقطع آثارهم وعجّل أقدارهم، وأنزل بهم الضراء وارفع عنهم السراء! فشتمه الناس في أنفسهم.
وكان خليفته حين خرج إلى الترك ثابت قطنة، فخطب الناس فحصر فقال: من يطع الله ورسوله فقد ضلّ، وأرتج عليه، فلم ينطق بكلمة، فلما نزل عن المنبر قال:
إن لم أكن فيكم خطبيًا فإنني ** بسيفي إذا جدَّ الوغى لخطيب
فقيل له: لو قلت هذا على المنبر، لكنت خطبيًا، فقال حاجب الفيل اليشكري يعيره حصره:
أبا العلاء للقد لاقيت معضلةً ** يوم العروبة من كرب وتخنيق
تلوى اللسان إذا رمت الكلام به ** كما هوى زلق من شاهق النِّيق
لما رمتك عيون الناس ضاحيةً ** أنشأت تجرض لما قمت بالرِّيق
أمَّا القران فلا تهدى لمحكمةٍ ** من القران ولا تهدى لتوفيق
وفي هذه السنة ولد عبد الصمد بن علي في رجب.
وكان العمل على المدينة ومكة والطائف في هذه السنة إبراهيم بن هشام المخزومي. وعلى العراق وخراسان خالد بن عبد الله القسري، وعامل خالد على صلاة البصرة عقبة بن عبد الأعلى، وعلى شرطتها مالك بن المنذربن الجارود، وعلى قضائها ثمامة بن عبد الله بن أنس، وعلى خراسان أسد بن عبد الله.