ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة

ذكر الإخبار عن الأحداث التي كانت فيها

فما كان فيها من ذلك إغارة إسترخان الخوارزمي في جمع من الترك على المسلمين بناحية إرمينية وسبيه من المسلمين وأهل الذمة خلقًا كثيرًا، ودخولهم تفليس، وقتلهم حرب بن عبد الله الراوندي الذي تنسب إليه الحربية ببغداد، وكان حرب هذا - فيما ذكر - مقيمًا بالموصل في ألفين من الجند، لمكان الخوارج الذين بالجزيرة. وكان أبو جعفر حين بلغه تحزب الترك فيما هناك وجه إليهم لحربهم جبرئيل بن يحيى، وكتب إلى حرب يأمره بالمسير معه؛ فسار معه حرب، فقتل حرب وهزم جبرئيل، وأصيب من المسلمين من ذكرت.
ذكر الخبر عن مهلك عبد الله بن علي بن عباس

وفي هذه السنة كان مهلك عبد الله بن علي بن عباس. واختلفوا في سبب هلاكه، فقال بعضهم ما ذكره علي بن محمد النوفلي عن أبيه أن أبا جعفر حج سنة سبع وأربعين ومائة بعد تقدمته المهدي على عيسى بن موسى بأشهر، وقد كان عزل عيسى بن موسى عن الكوفة وأرضها، وولى مكانه محمد بن سليمان ابن علي، وأوفده إلى مدينة السلام، فدعا به، فدفع إليه عبد الله ابن علي سرًا في جوف الليل. ثم قال له: يا عيسى؛ إن هذا أراد أن يزيل النعمة عني وعنك، وأنت ولي عهدي بعد المهدي، والخلافة صائرة إليك؛ فخذه إليك فاضرب عنقه، وإياك أن تخور أو تضعف، فتنقض علي أمري الذي دبرت. ثم مضى لوجهه، وكتب إليه من طريقه ثلاث مرات يسأله: ما فعل في الأمر الذي أوعز إليه فيه؟ فكتب إليه: قد أنفذت ما أمرت به؛ فلم يشك أبو جعفر في أنه قد فعل ما أمره به، وأنه قد قتل عبد الله بن علي؛ وكان عيسى حين دفعه إليه ستره؛ ودعا كاتبه يونس ابن فروة، فقال له: إن هذا الرجل دفع إلي عمه؛ وأمرني فيه بكذا وكذا. فقال له: أراد أن يقتلك ويقتله، أمرك بقتله سرًا، ثم يدعيه عليك علانية ثم يقيدك به. قال: فما الرأي؟ قال: الرأي أن تستره في منزلك، فلا تطلع على أمره أحدًا، فإن طلبه منك علانيةً دفعته إليه علانيةً، ولا تدفعه إليه سرًا أبدًا، فإنه وإن كان أسره إليك؛ فإن أمره سيظهر. ففعل ذلك عيسى.
وقدم المنصور ودسّ إلى عمومته من يحركهم على مسألته هبة عبد الله بن علي لهم، ويطمعهم في أنه سيفعل. فجاءوا إليه وكلموه ورققوه، وذكروا له الرحم وأظهروا له رقة، فقال: نعم، علي بعيسى بن موسى؛ فأتاه فقال له: يا عيسى؛ قد علمت أني دفعت إليك عمي وعمك عبد الله بن علي قبل خروجي إلى الحج، وأمرتك أن يكون في منزلك، قال: قد فعلت ذلك يا أمير المؤمنين، قال: فقد كلمني عمومتك فيه فرأيت الصفح عنه وتخلية سبيله؛ فأتنا به. فقال: يا أمير المؤمنين، ألم تأمرني بقتله فقتلته! قال: ما أمرتك بقتله إنما أمرتك بحبسه في منزلك. قال: قد أمرتني بقتله، قال له المنصور: كذبت، ما أمرتك بقتله. قال لعمومته: إن هذا قد أقر لكم بقتل أخيكم، وادعى أني أمرته بذلك، وقد كذب، قالوا: فادفعه إلينا نقتله به، قال: شأنكم به، فأخرجوه إلى الرحبة، واجتمع الناس، وشهر الأمر، فقام أحدهم فشهر سيفه، وتقدم إلى عيسى ليضربه، فقال له عيسى: أفاعل أنت؟ قال: إي والله، قال: لا تعجلوا، ردوني إلى أمير المؤمنين، فردوه إليه، فقال: إنما أردت بقتله أن تقتلني؛ هذا عمك حي سوي، إن أمرتني بدفعه إليك دفعته. قال: ائتنا به، فأتاه به، فقال له عيسى: دبرت علي أمرًا فخشيته؛ فكان كما خشيت؛ شأنك وعمك. قال: يدخل حتى أرى رأيي. ثم انصرفوا، ثم أمر به فجعل في بيت أساسه ملح، وأجري في أساسه الماء، فسقط عليه فمات؛ فكان من أمره ما كان. وتوفي عبد الله بن علي في هذه السنة ودفن في مقابر باب الشأم؛ وكان أول من دفن فيها.
وذكر عن إبراهيم بن عيسى بن المنصور بن بريه أنه قال: كانت وفاة عبد الله بن علي في الحبس سنة سبع وأربعون ومائة، وهو ابن اثنين وخمسين سنة.
قال إبراهيم بن عيسى: لما توفي عبد الله بن علي ركب المنصور يومًا ومعه عبد الله بن عياش، فقال له وهو يجاريه:
أتعرف ثلاثة خلفاء، أسماؤهم على العين مبدؤها، قتلوا ثلاثة خوارج مبدأ أسمائهم العين؟ قال: لا أعرف إلا ما تقول العامة؛ إن عليًا قتل عثمان وكذبوا وعبد الملك بن مروان قتل عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وعبد الله بن الزبير وعمرو بن سعيد وعبد الله بن علي سقط عليه البيت، فقال له المنصور: فسقط على عبد الله البيت، فأنا ما ذنبي؟ قال: ما قلت إن لك ذنبًا.
ذكر خبر البيعة للمهدي وخلع عيسى بن موسى

وفي هذه السنة خلع المنصور عيسى بن موسى وبايع لابنه المهدي، وجعله ولي عهد من بعده. وقال بعضهم: ثم من بعده عيسى بن موسى.
ذكر الخبر عن سبب نزعه إياه وكيف كان الأمر في ذلك
اختلف في الذي وصل به أبو جعفر إلى خلعه. فقال بعضهم: السبب الذي وصل به أبو جعفر إلى ذلك هو أن أبا جعفر أقر عيسى بن موسى بعد وفاة أبي العباس على ما كان أبو العباس ولاه من ولاية الكوفة وسوادها، وكان له مكرمًا مجلًا، وكان إذا دخل عليه أجلسه عن يمينه، وأجلس المهدي عن يساره؛ فكان ذلك فعله به؛ حتى عزم المنصور على تقديم المهدي في الخلافة عليه. وكان أبو العباس جعل الأمر من بعده لأبي جعفر، ثم من بعد أبي جعفر لعيسى ابن موسى؛ فلما عزم المنصور على ذلك كلم عيسى بن موسى في تقديم ابنه عليه برفيق من الكلام، فقال عيسى: يا أمير المؤمنين؛ فكيف بالأيمان والمواثيق التي علي وعلى المسلمين لي من العتق والطلاق وغير ذلك من مؤكد الأيمان! ليس إلى ذلك سبيل يا أمير المؤمنين. فلما رأى أبو جعفر امتناعه، تغير لونه وباعده بعض المباعدة، وأمر بالإذن للمهدي قبله؛ فكان يدخل فيجلس عن يمين المنصور في مجلس عيسى، ثم يؤذن لعيسى فيدخل فيجلس دون مجلس المهدي عن يمين المنصور أيضًا، ولا يجلس عن يسابه في المجلس الذي كان يجلس فيه المهدي، فيغتاظ من ذلك المنصور، ويبلغ منه، فيأمر بالإذن للمهدي ثم يأمر بعده بالإذن لعيسى بن علي، فيلبث هنيهة، ثم عيسى بن موسى. فإذا كان بعد ذلك قدم في الإذن للمهدي على كل حال، ثم يخلط في الآخرين، فيقدم بعض من أخر ويؤخر بعض من قدم ويوهم عيسى بن موسى أنه إنما يبدأ بهم لحاجة تعرض ولمذاكرتهم بالشيء من أمره؛ ثم يؤذن لعيسى بن موسى من بعدهم؛ وهو في ذلك كله صامت لا يشكو منه شيئًا، ولا يستعتب. ثم صار إلى أغلظ من ذلك؛ فكان يكون في المجلس معه بعض ولده، فيسمع الحفر في أصل الحائط فيخاف أن يخر عليه الحائط، وينتثر عليه التراب، وينظر إلى الخشبة من سقف المجلس قد حفر عن أحد طرفيها لتقلع فيسقط التراب على قلنسوته وثيابه، فيأمر من معه من ولده بالتحويل. ويقوم هو فيصلي، ثم يأتيه الإذن فيقوم فيدخل بهيئته والتراب عليه لا ينفضه؛ فإذا رآه المنصور قال له: يا عيسى، ما يدخل علي أحد بمثل هيئتك من كثرة الغبار عليك والتراب! أفكل هذا من الشارع؟ فيقول: أحسب ذلك يا أمير المؤمنين؛ وإنما يكلمه المنصور بذلك ليستطعمه أن يشكو إليه شيئًا فلا يشكو؛ وكان المنصور قد أرسل إليه في الأمر الذي أراد منه عيسى بن علي، فكان عيسى بن موسى لا يحمد منه مدخله فيه؛ كأنه كان يغري به. فقيل: إنه دس لعيسى بن موسى بعض ما يتلفه؛ فنهض من المجلس، فقال له المنصور: إلى أين يا أبا موسى؟ قال: أجد غمزًا يا أمير المؤمنين، قال: ففي الدار إذًا! قال: الذي أجده أشد مما أقيم معه في الدار، قال: إلى المنزل؛ ونهض فصار إلى حراقته، ونهض المنصور في أثره إلى الحراقة متفزعًا له، فاستأذنه عيسى في المسير إلى الكوفة، فقال: بل تقيم فتعالج هاهنا، فأبى وألح عليه، فأذن له. وكان الذي جرأه على ذلك طبيبه بختيشوع أبو جبرائيل، قال: إني والله ما أجترئ على معالجتك بالحضرة، وما آمن على نفسي. فأذن له المنصور، وقال له: أنا على الحج في سنتي هذه، فأنا مقيم عليك بالكوفة حتى تفيق إن شاء الله.
وتقارب وقت الحج، فشخص المنصور حتى صار بظهر الكوفة في موضع يدعى الرصافة، فأقام بها أيامًا، فأجرى هناك الخيل، وعاد عيسى غير مرة، ثم رجع إلى مدينة السلام ولم يحج، واعتل بقلة الماء في الطريق. وبلغت العلة من عيسى بن موسى كل مبلغ؛ حتى تمعط شعره، ثم أفاق من علته تلك، فقال فيه يحيى بن زياد بن أبي حزابة البرجمي أبو زياد:
أفلت من شربة الطبيب كما ** أفلت ظبي الصريم من قتره
من قانصٍ ينفذ الفريص إذا ** ركب سهم الحتوف في وتره
دافع عن المليك صولة لي ** ث يريد الأسد في ذرى خمره
حتى أتانا وفيه داخلة ** تعرف في سمعه وفي بصره
أزعر قد طار عن مفارقه ** وحف أثيث النبات من شعره
وذكر أن عيسى بن علي كان يقول للمنصور: إن عيسى بن موسى إنما يمتنع، البيعة للمهدي لأنه يربص هذا الأمر لابنه موسى، فموسى الذي يمنعه. فقال المنصور لعيسى بن علي: كلم موسى بن عيسى وخوفه على أبيه وعلى ابنه؛ فكلم عيسى بن علي موسى في ذلك، فأيأسه، فتهدده وحذره غضب المنصور. فلما وجل موسى وأشفق وخاف أن يقع به المكروه، أتى العباس بن محمد، فقال: أي عم، إني مكلمك بكلامٍ، لا والله ما سمعه مني أحدٌ قط، ولا يسمعه أحد أبدًا؛ وإنما أخرجه مني إليك موضع ثقتي بك والطمأنينة إليك؛ وهو أمانة عندك؛ فإنما هي نفسي أنثلها في يدك. قال: قل يا ابن أخي؛ فلك عندي ما تحبه، قال: أرى ما يسام أبي من إخراج هذا الأمر من عنقه وتصييره للمهدي؛ فهو يؤذى بصنوف الأذى والمكروه، فيتهدد مرة ويؤخر أذنه مرة، وتهدم عليه الحيطان مرة، وتدس إليه الحتوف مرة. فأبي لا يعطي على هذا شيئًا؛ لا يكون ذلك أبدًا؛ ولكن هاهنا وجهًا، فلعله يعطي عليه إن أعطى وإلا فلا، قال: فما هو يا ابن أخي؟ فإنك قد أصبت ووفقت، قال: يقبل عليه أمير المؤمنين وأنا شاهد فيقول له: يا عيسى، إني أعلم أنك لست تضن بهذا الأمر على المهدي بنفسك؛ لتعالي سنك وقرب أجلك؛ فإنك تعلم أنه لا مدة لك تطول فيه؛ وإنما تضن به لمكان ابنك موسى؛ أفتراني أدع ابنك يبقى بعدك ويبقى ابني معه فيلي عليه! كلا والله لا يكون ذلك أبدًا؛ ولأثبن على ابنك وأنت تنظر حتى تيأس منه، وآمن أن يلي على ابني. أترى ابنك آثر عندي من ابني! ثم يأمر بي؛ فإما خنقت وإما شهر علي سيف. فإن أجاب إلى شيء فعسى أن يفعل بهذا السبب؛ فأما بغيره فلا. فقال العباس: جزاك الله يا ابن أخي خيرًا، فقد فديت أباك بنفسك، وآثرت بقاءه على حظك، نعم الرأي رأيت، ونعم المسلك سلكت! ثم أتى أبا جعفر فأخبره الخبر، فجزى المنصور موسى خيرًا؛ وقال: قد أحسن وأجمل، وسأفعل ما أشار به إن شاء الله، فلما اجتمعوا وعيسى بن علي حاضر، أقبل المنصور على عيسى بن موسى، فقال: يا عيسى؛ إني لا أجهل مذهبك الذي تضمره، ولا مداك الذي تجري إليه في الأمر الذي سألتك؛ إنما تريد هذا الأمر لابنك هذا المشئوم عليك وعلى نفسه؛ فقال عيسى بن علي؟: يا أمير المؤمنين، غمزني البول، قال: فندعوا لك بإناء تبول فيه، قال: أفي مجلسك يا أمير المؤمنين! ذلك ما لا يكون، ولكن أقرب البلاليع مني أدل عليها فآتيها. فأمر من يدله، فانطلق. فقال عيسى بن موسى لابنه موسى: قم مع عمك، فاجمع عليه ثيابه من ورائه، وأعطه منديلًا إن كان معك ينشف به، فلما جلس عيسى يبول جمع موسى عليه ثيابه من ورائه وهو لا يراه، فقال: من هذا؟ فقال: موسى بن عيسى، فقال: بأبي أنت وبأبي أب ولدك! والله إني لأعلم أنه لا خير في هذا الأمر بعدكما، وإنكما لأحق به؛ ولكن المرء مغرى بما تعجل، فقال موسى في نفسه: أمكنني والله هذا من مقاتله؛ وهو الذي يغري بأبي، والله لأقتلنه بما قال لي، ثم لا أبالي أن يقتلني أمير المؤمنين بعده، بل يكون في قتله عزاء لأبي وسلو عني إن قتلت. فلما رجعا إلى موضعهما قال موسى: يا أمير المؤمنين، أذكر لأبي أمرًا! فسره ذلك، وظن أنه يريد أن يذاكره بعض أمرهم، فقال: قم، فقام إليه، فقال: يا أبت؛ إن عيسى بن علي قد قتلك وإياي قتلات بما يبلغ عنا، وقد أمكنني من مقاتله، قال: وكيف؟ قال: قال لي كيت وكيت، فأخبر أمير المؤمنين فيقتله؛ فتكون قد شفيت نفسك وقتلته قبل أن يقتلك وإياي ثم لا نبالي ما كان بعد. فقال: أفٍ لهذا رأيًا ومذهبًا! أئتمنك عمك على مقالة أراد أن يسرك بها، فجعلتها سببًا لمكروهه وتلفه! لا يسمعن هذا منك أحد، وعد إلى مجلسك. فقام فعاد، وانتظر أبو جعفر أن يرى لقيامه إلى أبيه وكلامه أثرًا فلم يره، فعاد إلى وعيده الأول وتهدده، فقال:
أما والله لأعجلن لك فيه ما يسوءك ويوئسك من بقائه بعدك، أيا ربيع، قم إلى موسى فاخنقه بحمائله، فقام الربيع فضم حمائله عليه، فجعل يخنقه بها خنقًا رويدًا، وموسى يصيح: الله الله يا أمير المؤمنين في وفي دمي! فإني لبعيد مما تظن بي، وما يبالي عيسى أن تقتلني وله بضعة عشر نفرًا ذكرًا - كلهم عنده مثلي - أو يتقدمني؛ وهو يقول: أشدد يا ربيع، ائت على نفسه، والربيع يوهم أنه يريد تلفه، وهو يراخي خناقه وموسى يصيح، فلما رأى ذاك عيسى قال: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الأمر يبلغ منك هذا كله فمر بالكف عنه؛ فإني لم أكن لأرجع إلى أهلي؛ وقد قتل بسبب هذا الأمر عبد من عبيدي، فكيف بابني! فها أنا أشهدك أن نسائي طوالق ومماليكي أحرار، وما أملك في سبيل الله، تصرف ذلك فيمن رأيت يا أمير المؤمنين؛ وهذه يدي بالبيعة للمهدي. فأخذ بيعته له على ما أحب ثم قال: يا أبا موسى؛ إنك قد قضيت حاجتي هذه كارهًا، ولي حاجة أحب أن تقضيها طائعًا، فتغسل بها ما في نفسي من الحاجة الأولى، قال: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: تجعل هذا الأمر من بعد المهدي لك، قال: ما كنت لأدخل فيها بعد إذ خرجت منها. فلم يدعه هو ومن حضره من أهل بيته حتى قال: يا أمير المؤمنين؛ أنت أعلم. فقال بعض أهل الكوفة - ومر عليه عيسى في موكبه: هذا هذا الذي كان غدًا، فصار بعد غدٍ.
وهذه القصة - فيما قيل - منسوبة إلى آل عيسى أنهم يقولونها.
وأما الذي يحكى عن غيرهم في ذلك؛ فهو أن المنصور أراد البيعة للمهدي، فكلم الجند في ذلك، فقال للجند: لا تؤذوا ابن أخي؛ فإنه جلدة بين عيني، ولو كنت تقدمت إليكم لضربت أعناقكم؛ فكانوا يكفون ثم يعودون؛ فمكث بذلك زمانًا، ثم كتب إلى عيسى: " بسم الله الرحمن الرحيم ". من عبد الله عبد الله المنصور أمير المؤمنين إلى عيسى بن موسى. سلامٌ عليك؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد؛ فالحمد لله ذي المن القديم، والفضل العظيم، والبلاء الحسن الجميل، الذي ابتدأ الخلق بعلمه، وأنفذ القضاء بأمره؛ فلا يبلغ مخلوق كنه حقه، ولا ينال في عظمته كنه ذكره، يدبر ما أراد من الأمور بقدرته، ويصدرها عن مشيئته؛ لا قاضي فيها غيره، ولا نفاذ لها إلا به، يجريها على أذلالها، لايستأمر فيها وزيرًا، ولا يشاور فيها معينًا، ولا يلتبس عليه شيء أراده، يمضي قضاؤه فيما أحب العباد وكرهوا؛ لا يستطيعون منه امتناعًا، ولا عن أنفسهم دفاعًا، رب الأرض ومن عليها، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
ثم إنك قد علمت الحال التي كنا عليها في ولاية الظلمة، كيف كانت قوتنا وحيلتنا، لما اجترأ عليه أهل بيت اللعنة فيما أحببنا وكرهنا، فصبرنا أنفسنا على ما دعونا إليه من تسليم الأمور إلى من أسندوها إليه، واجتمع رأيهم عليه، نسام الخسف، ونوطأ بالعسف، لا ندفع ظلمًا، ولا نمنع ضيمًا، ولا نعطي حقًا، ولا ننكر منكرًا، ولا نستطيع لها ولا لأنفسنا نفعًا؛ حتى إذا بلغ الكتاب أجله، وانتهى الأمر إلى مدته، وأذن الله في هلاك عدوه، وارتاح بالرحمة لأهل بيت نبيه ؛ فابتعث الله لهم أنصارًا يطلبون بثأرهم، ويجاهدون عدوهم، ويدعون إلى حبهم، وينصرون دولتهم، من أرضين متفرقة، وأسباب مختلفة، وأهواء مؤتلفة، فجمعهم الله على طاعتنا، وألف بين قلوبهم بمودتنا على نصرتنا، وأعزهم بنصرنا، لم نلق منهم رجلًا، ولم نشهر معهم إلا ما قذف الله في قلوبهم؛ حتى ابتعثهم لنا من بلادهم، ببصائر نافذة، وطاعة خالصة، يلقون الظفر، ويعودون بالنصر، وينصرون بالرعب، لا يلقون أحدًا إلا هزموه، ولا واترًا إلا قتلوه؛ حتى بلغ الله بنا بذلك أقصى مدانا وغاية منانا ومنتهى آمالنا وإظهار حقنا، وإهلاك عدونا؛ كرامة من الله جل وعز لنا، وفضلًا منه علينا، بغير حول منا ولا قوة، ثم لم نزل من ذلك في نعمة الله وفضله علينا، حتى نشأ هذا الغلام، فقذف الله له في قلوب أنصار الدين الذين ابتعثهم لنا مثل ابتدائه لنا أول أمرنا، وأشرب قلوبهم مودته، وقسم في صدورهم محبته، فصاروا لا يذكرون إلا فضله، ولا ينوهون إلا باسمه، ولا يعرفون إلا حقه، فلما رأى أمير المؤمنين ما قذف الله في قلوبهم من مودته، وأجرى على ألسنتهم من ذكره، ومعرفتهم إياه بعلاماته واسمه، ودعاء العامة إلى طاعته، أيقنت نفس أمير المؤمنين أن ذلك أمر تولاه الله وصنعه؛ لم يكن للعباد فيه أمر ولا قدرة، ولا مؤامرة ولا مذاكرة؛ للذي رأى أمير المؤمنين من اجتماع الكلمة، وتتابع العامة؛ حتى ظن أمير المؤمنين أنه لولا معرفة المهدي بحق الأبوة، لأفضت الأمور إليه. وكان أمير المؤمنين لا يمنع مما اجتمعت عليه العامة، ولا يجد مناصًا عن خلاص ما دعوا إليه، وكان أشد الناس على أمير المؤمنين في ذلك الأقرب فالأقرب من خاصته وثقاته من حرسه وشرطه؛ فلم يجد أمير المؤمنين بدًا من استصلاحهم ومتابعتهم؛ وكان أمير المؤمنين وأهل بيته أحق من سارع إلى ذلك وحرص عليه، ورغب فيه وعرف فضله، ورجا بركته، وصدق الرواية فيه، وحمد الله إذ جعل في ذريته مثل ما سألت الأنبياء قبله؛ إذ قال العبد الصالح: " فهب لي من لدنك وليًا. يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا " فوهب الله لأمير المؤمنين وليًا، ثم جعله تقيًا مباركًا مهديًا وللنبي سميًا، وسلب من انتحل هذا الاسم، ودعا إلى تلك الشبهة التي تحير فيها أهل تلك النية، وافتتن بها أهل تلك الشقوة، فانتزع ذلك منهم، وجعل دائرة السوء عليهم، وأقر الحق قراره، وأعلن للمهدي مناره، وللدين أنصاره، فأحب أمير المؤمنين أن يعلمك الذي اجتمع عليه رأي رعيته؛ وكنت في نفسه بمنزلة ولده، يحب من سترك ورشدك وزينك ما يحب لنفسه وولده، ويرى لك إذا بلغك من حال ابن عمك ما ترى من اجتماع الناس عليه أن يكون ابتداء ذلك من قبلك، ليعلم أنصارنا من أهل خراسان وغيرهم أنك أسرع إلى ما أحبوا مما عليه رأيهم في صلاحهم منهم إلى ذلك من أنفسهم، وإن ما كان عليه من فضلٍ عرفوه للمهدي، أو أملوه فيه، كنت أحظى الناس بذلك، وأسرهم به لمكانه وقرابته؛ فاقبل نصح أمير المؤمنين لك، تصلح وترشد. والسلام عليك ورحمة الله.