ومعلوم أن شمويل وغيره من أنبياء بني إسرائيل لم يكن فيهم مثل موسى لا سيما وفي التوراة لا يقوم في بني إسرائيل مثل موسى وأيضا فليس في بني إسرائيل من أنزل عليه توراة مثل توراة موسى إلا محمد والمسيح عليهم الصلاة والسلام والمسيح كان من أنفس بني إسرائيل لا من إخوتهم بخلاف محمد فإنه من إخوتهم بني إسماعيل
وأيضا فإن في بعض ألفاظ هذا النص كلكم له تسمعون وشموئيل لم يأت بزيادة ولا بنسخ لأنه إنما أرسل ليقوي أيديهم على أهل فلسطين وليردهم إلى شرع التوراة فلم يأت بشريعة جديدة ولا كتاب جديد وإنما حكمه حكم سائر الأنبياء من بني إسرائيل فإنهم كانوا يسوسهم الأنبياء كلما مات نبي قام فيهم نبي فإن كانت هذه البشارة لشمويل فهي بشارة بسائر الأنبياء الذي بعثوا فيهم ويكونون كلهم مثل موسى عليه السلام وكلهم قد أنزل عليهم كتاب مثل كتاب موسى عليه السلام
المثال الثالث: قوله في التوراة جاء الله تعالى من طور سيناء وأشرق نوره من سيعير واستعلن من جبال فاران ومعه ربوات المقدسين
وهم يعلمون أن جبل سيعير هو جبل السراة الذي يسكنه بنو العيص الذين آمنوا بعيسى ويعلمون أن في هذا الجبل كان مقام المسيح ويعلمون أن سيناء هو جبل الطور
وأما جبال فاران فهم يحملونها على جبال الشأم وهذا من بهتهم وتحريف التأويل
فإن جبال فاران هي جبال مكة وفاران اسم من أسماء مكة وقد دل على هذا نص التوراة: أن إسماعيل لما فارق أباه سكن برية فاران وهي جبال مكة ولفظ التوراة أن إسماعيل أقام في برية فاران وأنكحته أمه امرأة من أرض مصر
فثبت بنص التوراة أن جبال فاران مسكن لولد إسماعيل وإذا كانت التوراة قد أشارت إلى نبوة تنزل على جبال فاران لزم أنها تنزل على ولد إسماعيل لأنهم سكانها
ومن المعلوم بالضرورة أنها لم تنزل على غير محمد من ولد إسماعيل عليه السلام
وهذا من أظهر الأمور بحمد الله تعالى
فصل

ومما يدل على غلظ أفهام هذه الأمة الغضبية وقلة فقههم وفساد رأيهم وعقولهم كما في التوراة أنهم شعب عادم الرأي فليس فيهم فطانة: أنهم سمعوا في التوراة يكون ثمار أرضك تحمل إلى بيت الله ربك ولا ينضج الجدي بلبن أمه
والمراد بذلك: أنهم أمروا عقيب افتراض الحج إلى بيت المقدس عليهم: أن يستصحبوا معهم إذا حجوا أبكار أغنامهم وأبكار مستغلات أرضهم لأنه كان فرض عليهم قبل ذلك أن تبقى سخولة الغنم والبقر وراء أمها سبعة أيام وفي اليوم الثامن فصاعدا يصلح أن تكون قربانا فأشار في هذا النص بقوله: لا ينضج الجدى بلبن أمه إلى أنهم لا يبالغون في إطالة مكث باكور أولاد البقر والغنم وراء أمها بل يستصحبون أبكارهم اللاتي قد عبرت سبعة أيام منذ ميلادهن معهم إذا حجوا إلى بيت المقدس ليتخذوا منها القرابين
فتوهم المشايخ البله أن الشرع يريد بالإنضاج إنضاج الطبيخ في القدر وأنهم نهوا أن يطبخوا لحم الجدي باللبن ولم يكفهم هذا الغلط في تفسير هذه اللفظة حتى حرموا أكل سائر اللحمان باللبن فألغوا لفظ الجدى وألغوا لفظ أمه وحملوا النص مالا يحتمله وإذا أراد أن يأكلوا اللحم واللبن أكلوا كلا منهما على حدة والأمر في هذا ونحوه قريب
فصل

ولا يستبعد اصطلاح كافة هذه الأمة على المحال واتفاقهم على أنواع الضلال
فإن الدولة إذا انقرضت عن أمة باستيلاء غيرها عليها وأخذها انطمست معالم دينها واندرست آثارها فإن الدولة إنما يكون زوالها بتتابع الغارات والمصافات وإخراب البلاد وإحراقها ولا تزال هذه الأمور متواترة عليها إلى أن يعود علمها جهلا وعزها ذلا وكثرتها قلة
وكلما كانت الأمة أقدم واختلفت عليها الدول المتناولة لها بالذل والصغار كان حظها من اندراس معالم دينها وآثارها أوفر
وهذه الأمة أوفر الأمم حظا من هذا الأمر لأنها من أقدم الأمم ولكثرة الأمم التي استولت عليها: من الكلدانيين والبابليين والفرس واليونان والنصارى وآخر ذلك المسلمون وما من هذه الأمم إلا من طلب استئصالهم وبالغ في إحراق بلادهم وكتبهم وقطع آثارهم إلا المسلمين فإنهم أعدل الأمم فيهم وفي غيرهم حفظا لوصية الله تعالى بهم حيث قال: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ويقول: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجر منكم شنآن قم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى وصادف الإسلام هذه الأمة تحت ذمة الفرس وذمة النصارى بحيث لم يبق لهم مدينة ولا جيش
وأعز ما صادفه الإسلام من هذه الأمة يهود خيبر والمدينة وما جاورها
فإنهم إنما قصدوا تلك الناحية لما كانوا وعدوا به من ظهور رسول الله وكانوا يقاتلون المشركين من العرب فيستنصرون عليهم بالإيمان برسول الله قبل ظهوره ويعدونهم بأنه سيخرج نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم فلما بعث الله تعالى نبيه سبقهم إليه من كانوا يحاربونهم من العرب فحملهم الحسد والبغي على الكفر به وتكذيبه
وأشد ما على هذه الأمة الغضبية من ذلك ما نالهم من ملوك العصاة وغيرهم من ملوك الإسرائيليين الذين قتلوا الأنبياء وبالغوا في تطلبهم وعبدوا الأصنام وأحضروا من البلاد سدنتها ليعلموا رسومها في العبادة وبنوا لها البيع والهياكل وعكفوا على عبادتها وتركوا أحكام التوراة أعصارا متصلة
فإذا كان هذا تواتر الآفات على دينهم من قبل ملوكهم ومن قبل أنفسهم فما الظن بالآفات التي نالتهم من غير ملوكهم وقتلهم أئمتهم وإحراقهم كتبهم ومنعهم من القيام بدينهم
فإن الفرس كثيرا ما منعوهم عن الختان وكثيرا ما منعوهم من الصلاة لمعرفتهم بأن معظم صلاة هذه الطائفة دعاء على الأمم بالبوار وعلى العالم بالخراب [ سوى بلادهم التي هي أرض كنعان ]
فلما رأت هذه الأمة الجد من الفرس في منعهم من الصلاة اخترعوا أدية [ زعموا أنها فصول من صلاتهم ] سموها الحزانة وصاغوا لها ألحانا عديدة وصاروا يجتمعون في أوقات صلاتهم على تلحينها وتلاوتها وسموا القائم بها الحزان
والفرق بينها وبين الصلاة: أن الصلاة بغير لحن والمصلي يتلو الصلاة وحده ولا يجهر معه غيره والحزان يشاركه غيره في الجهر بالحزانة ويعاونونه في الألحان
فكانت الفرس إذا أنكرت ذلك منهم قالت اليهود: إنا ننعى أحيانا وننوح على أنفسنا فيتركونهم وذلك
فلما قام الإسلام وأقرهم على صلاتهم استصحبوا تلك الحزانة ولم يعطلوها فهذه فصول مختصرة في كيد الشيطان وتلاعبه بهذه الأمة يعرف بها المسلم الحنيف قدر نعمة الله تعالى تعالى عليه وما من به عليه من نعمة العلم والإيمان ويهتدي بها من أراد الله تعالى هدايته من طالبي الحق من هذه الأمة
ومن الله التوفيق والإرشاد إلى سواء الطريق والحمد لله رب العالمين