فعمل أبو العباس وراشد وسائر قواد الموالي والغلمان بما أمروا به، فظهروا جميعًا، وأبرزوا سفنهم في عشية يوم الاثنين لسبع ليال خلون من ذي القعدة سنة تسع وستين ومائتين، وسار الفرسان يتلو بعضهم بعضًا، ومشت الرجالة وسارت السفن في دجلة منذ صلاة الظهر من يوم الاثنين إلى آخر وقت عشاء اخرة من ليلة الثلاثاء، فانتهوا إلى موضع من أسفل العسكر؛ وكان الموفق أمر بإصلاحه وتنظيفه وتنقية ما فيه من خراب ودغل، وطم سواقيه وأنهاره حتى استوى واتسع، وبعدت أقطاره. واتخذ فيه قصرًا وميدانًا لعرض الرجال والخيل بإزاء قصر الفاسق، وكان غرضه في ذلك إبطال ما كان الخبيث يعد به أصحابه من سرعة انتقاله عن موضعه؛ فأراد أن يعلم الفريقين أنه غير راحل حتى يحكم الله بينه وبين عدوه؛ فبات الجيش ليلة الثلاثاء في هذا الموضع بإزاء عسكر الفاسق؛ وكان الجميع زهاء خمسين ألف رجل من الفرسان والرجالة في أحسن زي وأكمل هيئة، وجعلوا يكبرون ويهللون، ويقرءون القرآن، ويصلون، ويوقدون النار.
فرأى الخبيث من كثرة الجمع والعدة والعدد ما بهر عقله وعقول أصحابه؛ وركب الموفق في عشية يوم الاثنين الشذا، وهي يومئذ مائة وخمسون شذاة قد شحنها بأنجاد غلمانه ومواليه الناشبة والرامحة، ونظمها من أول عسكر الخائن إلى آخره؛ لتكون حصنًا للجيش من ورائه، وطرحت أناجرها بحيث تقرب من الشط، وأفرد منها شذوات اختارها لنفسه، ورتب فيها من خاصة قواد غلمانه ليكونوا معه عند تقحمه نهر أبي الخصيب؛ وانتخب من الفرسان والرجالة عشرة آلاف، وأمرهم أن يسيروا على جانبي نهر أبي الخصيب بمسيره، ويقفوا بوقوفه، ويتصرفوا فيما رأى أن يصرفهم فيه في وقت الحرب.
وغدا الموفق يوم الثلاثاء لقتال الفاسق صاحب الزنج، وتوجه كل رئيس من رؤساء قواده نحو الموضع الذي أمر بقصده، وزحف الجيش نحو الفاسق وأصحابه، فتلقاهم الخبيث في جيشه، واشتبكت الحرب، وكثر القتل والجراح بين الفريقين، وحامى الفسقة عما كانوا اقتصروا عليه من مدينتهم أشد محاماة، واستماتوا، وصبر أصحاب الموفق، وصدقوا القتال؛ فمن الله عليهم بالنصر، وهزم الفسقة، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا من مقاتلتهم وأنجادهم جمعًا كثيرًا.
وأتي الموفق بالأسارى، فأمر بهم فضربت أعناقهم في المعركة، وقصد بجمعه لدار الفاجر فوافاها، وقد لجأ الخبيث إليها، وجمع أنجاج أصحابه للمدافعة عنها؛ فلما لم يغنوا عنها شيئًا أسلمها، وتفرق أصحابه عنها، ودخلها غلمان الموفق، وفيها بقايا ما كان سلم للخبيث من ماله وأثاثه؛ فانتبهوا ذلك كله، وأخذوا حرمه وولده الذكور والإناث؛ وكانوا أكثر من مائة بين امرأة وصبي، وتخلص الفاسق ومضى هاربًا نحو دار المهلبي، لا يلوى على أهل ولا مال، وأحرقت داره وما بقي فيها من متاع وأثاث، وأتي الموفق بنساء الخبيث وأولاده، فأمر بحملهم إلى الموفقية والتوكيل بهم، والإحسان إليهم.
وكان جماعة من قواد أبي العباس عبروا نهر أبي الخصيب، وقصدوا الموضع الذي أمروا بقصده من دار المهلبي، ولم ينتظروا إلحاق أصحابهم بهم، فوافوا دار المهلبي، وقد لجأ إليها أكثر الزنج بعد انكشافهم عن دار الخبيث؛ المهلبي من حرم المسلمين وأولاده منهن، وجعل كل من ظفر بشيء انصرف به إلى سفينته في نهر أبي الخصيب.
وتبين الزنج قلة من بقي منهم وتشاغلهم بالنهب، فخرجوا عليهم من عدة مواضع قد كانوا كمنوا فيها، فأزالوهم عن مواضعهم؛ فانكشفوا، وأتبعهم الزنج حتى وافوا نهر أبي الخصيب وقتلوا من فرسانهم ورجالتهم جماعةً يسيرة، وارتجعوا بعض ما كانوا من النساء والمتاع.
وكان فريق من غلمان الموفق وأصحابه الذين قصدوا دار الخبيث في شرقي نهر أبي الخصيب تشاغلوا بالنهب وحمل الغنائم إلى سفنهم؛ فأطمع ذلك الزنج فيهم، فأكبوا عليهم، فكشفوهم واتبعوا آثارهم إلى الموضع المعروف بسوق الغنم من عسكر الزنج، فثبتت جماعة من قواد الغلمان في أنجاد أصحابهم وشجعانهم، فردوا وجوه الزنج حتى ثاب الناس، وتراجعوا إلى مواقفهم، ودامت الحرب بينهم إلى وقت صلاة العصر فأمر أبو أحمد عند ذلك غلمانه أن يحملوا على الفسقة بأجمعهم حملةً صادقة، ففعلوا ذلك، فانهزم الزنج وأخذتهم السيوف حتى انتهوا إلى دار الخبييث؛ فرأى الموفق عند ذلك أن يصرف غلمانه وأصحابه على إحسانهم، فأمرهم بالرجوع، فانصرفوا على هدر وسكون؛ فأقام الموفق في النهر ومن معه في الشذا يحميهم؛ حتى دخلوا سفنهم، وأدخلوها خيلهم، وأحجم الزنج عن اتباعهم لما نالهم في آخر الوقعة.
وانصرف الموفق ومعه أبو العباس وسائر قواده وجميع جيشه قد غنموا أموال الفاسق، واستنقذوا جمعًا من النساء اللواتي كان غلب عليهن من حرم المسلمين كثيرًا، جعلن يخرجن في ذلك اليوم أرسالًا إلى فوهة نهر أبي الخصيب، فيحملن في السفن إلى الموفقية إلى انقضاء الحرب.
وكان الموفق تقدم إلى أبي العباس في هذا اليوم أن ينفذ قائدًا من قواده في خمس شذوات إلى مؤخر عسكر الخبيث بنهر أبي الخصيب، لإحراق بيادر ثم جليل قدرها، كان الخبيث يقوت أصحابه منها من الزنج وغيرهم، ففعل ذلك وأحرق أكثره. وكان إحراق ذلك من أقوى الأشياء على ادخال الضعف على الفاسق وأصحابه، إذ لم يكن لهم معول في قوتهم غيره؛ فأمر أبو أحمد بالكتاب بما تهيأ له على الخبيث وأصحابه في هذا اليوم إلى الآفاق ليقرأ على الناس، ففعل ذلك.
وفي يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ذي الحجة من هذه السنة وافى عسكر أبي أحمد صاعد بن مخلد كاتبه منصرفًا إليه من سامرا، ووافى معه بجيش كثيف قيل إن عدد الفرسان والرجال الذين قدموا كان زهاء عشرة آلاف، فأمر الموفق بإراحة أصحابه وتجديد أسلحتهم وإصلاح أمورهم؛ وأمرهم بالتأهب لمحاربة الخبيث. فأقام أيامًا بعد قدومه لما أمر به.
فهم في ذلك من أمرهم؛ إذ ورد كتاب لؤلؤ صاحب ابن طولون مع بعض قواده، يسأله فيه الإذن له في القدوم عليه؛ ليشهد عليه حرب الفاسق. فأجابه إلى ذلك، فأذن له في القدوم، وأخر ما كان عزم عليه من مناجرة الفاجر انتظارًا منه قدوم لؤلؤ؛ وكان لؤلؤ مقيمًا بالرقة في جيش عظيم من الفراغنة والأتراك والروم والبربر والسودان وغيرهم، من نخبة أصحاب ابن طولون؛ فلما ورد على لؤلؤ كتاب أبي أحمد بالإذن له في القدوم عليه، شخص من ديار مضر حتى ورد مدينة السلام في جميع أصحابه، وأقام بها مدة، ثم شخص إلى أبي أحمد فوافاه بعسكره يوم الخميس لليلتين خلتا من المحرم سنة سبعين ومائتين، فجلس له أبو أحمد، وحضر ابنه أبو العباس وصاعد والقواد على مراتبهم؛ فأدخل عليه لؤلؤ في زي حسن، فأمر أبو العباس أن ينزل معسكرًا كان أعد بإزاء نهر أبي الخصيب، فنزله في أصحابه، وتقدم إليه في مباكرة المصير إلى دار الموفق، ومعه قواده وأصحابه للسلام عليه. فغدا لؤلؤ يوم الجمعة لثلاث خلون من المحرم، وأصحابه معه في السواد، فوصل إلى الموفق وسلّم عليه فقربه وأدناه، ووعده وأصحابه خيرًا، وأمر أن يخلع عليع وعلى خمسين ومائة قائد من قواده، وحمله على خيل كثيرة بالسروج واللجم المحلاة بالذهب والفضة، وحمل بين يديه من أصناف الكسي والأموال في البدور، ما يحمله مائة غلام؛ وأمر لقواده من الصلات والحملان والكسي على قدر محل كل إنسان منهم عنده، وأقطعة ضياعًا جليلة القدر، وصرفه إلى عسكره بإزاء نهر أبي الخصيب بأجمل حال، وأعدت له ولأصحابه الأنزال والعلوفات، وأمره برفع جرائد لأصحابه بمبلغ أرزاقهم على مراتبهم؛ فرفع ذلك؛ فأمر لكل إنسان منهم بالضعف مما كان يجري له وأمر لهم بالعطاء عند رفع الجرائد، ووفوا ما رسم لهم.
ثم تقدم إلى لؤلؤ في التأهب والاستعداد للعبور إلى غربي دجلة لمحاربة الفاسق وأصحابه؛ وكان الخبيث لما غلب على نهر أبي الخصيب، وقطعت القناطر والجسور التي كانت عليه أحدث سكرًا في النهر من جانبيه، وجعل في وسط السكر بابًا ضيقًا ليحتد فيه جرية الماء، فيمتنع الشذا من دخوله في الجزر، ويتعذر خروجها منه في المد، فرأى أبو أحمد أن حربه لا تتهيأ له إلا بقلع هذا السكر، فحاول ذلك، فاشتدت محاماة الفسقة عنه، وجعلوا يزيدون فيه في كل يوم وليلة، وهو متوسط دورهم، والمؤونة لذلك تسهل عليهم وتغلظ على من حاول قلعه.
فرأى أبو أحمد أن يحارب بفريق بعد فريق من أصحاب لؤلؤ، ليضروا لمحاربة الزنج، ويقفوا على المسالك والطرق في مدينتهم، فأمر لؤلؤًا أن يحضر في جماعة من أصحابه للحرب على هذا السكر، وأمر بإحضار الفعلة لقلعه، ففعل. فرأى الموفق من نجدة لؤلؤ وإقدامه وشجاعة أصحابه وصبرهم على ألم الجراح وثبات العدة اليسيرة منهم، في وجوه الجمع الكثير من الزنج ما سره. فأمر لؤلؤًا بصرف أصحابه إشفاقًا عليهم، وضنًا بهم، فوصلهم الموفق، وأحسن إليهم، وردهم إلى معسكرهم، وألح الموفق على هذا السكر؛ فكان يحارب المحامين عنه من أصحاب الخبيث بأصحاب لؤلؤ وغيرهم، والفعلة يعلمون في قلعه، ويحارب الفاجر وأشياعه من عدة وجوه، فيحرق مساكنهم، ويقتل مقاتلتهم، ويستأمن إليه الجماعة من رؤسائهم.
وكانت قد بقيت للخبيث وأصحابه أرضون من ناحية نهر الغربي، كان لهم فهيها مزارع وخضر وقنطرتان على هر الغربي، يعبرون عليها إلى هذه الأرضين، فوقف أبو العباس على ذلك فقصد لتلك الناحية، واستأذن الموفق في ذلك، فأذن له، وأمره باختيار الرجال، وأن يجعلهم شجعاء أصحابه وغلمانه؛ ففعل أبو العباس ذلك، وتوجه نحو نهر الغربي، وجعل زيرك كمينًا في جمع من أصحابه في غربي النهر، وأمر رشيقًا غلامه أن يقصد في جمع كثير من أنجاد رجاله ومختاريهم للنهر المعروف بنهر العميسيين؛ ليخرج في ظهور الزنج وهم غارون، فيوقع بهم في هذه الأرصين. وأمر زيرك أن يخرج في وجوههم إذا أحس بانهزامهم من رشيق.
وأقام أبو العباس في عدة شذوات قد انتخب مقاتلتها واختارهم في فوهة نهر الغربي، ومعه من غلمانه البيضان والسودان عدد قد رضيه؛ فلما ظهر رشيق للفجرة في شرقي نهر الغربي، راعهم فأقبلوا يريدون العبور إلى غربيه ليهربوا إلى عسكرهم؛ فلما عاينهم أبو العباس اقتحم النهر بالشذوات، وبث الرجالة على حافيته، فأدركوهم ووضعوا السيف فيهم، فقتل منهم في النهر وعلى ضفتيه خلق كثير، وأسر منهم أسرى. وأفلت آخرون، فتلقاهم زيرك في أصحابه فقتلوهم، ولم يفلت منهم إلا الشريد، وأخذ أصحاب أبي العباس من أسلحتهم ما ثقل عليهم حمله؛ حتى ألقوا أكثره. وقطع أبو العباس القنطرتين، وأمر بإخراج ما كان فيهما من البدود والخشب إلى دجلة وانصرف إلى الموفق بالأسارى والرءوس، فطيف بها في العسكر، وانقطع عن الفسقة ما كانوا يرتفقون به من المزارع التي كانت بنهر الغربي.
وفي ذي الحجة من هذه السنة. أعني سنة تسع وستين ومائتين - أدخل عيال صاحب الزنج وولده بغداد.
وفيها سمي صاعد ذا الوزارتين.
وفي ذي الحجة منها كانت وقعة بين قائدين وجيش معهما لابن طولون كان أحدهما يسمى محمد بن السراج والآخر منهما يعرف بالغنوي، كان ابن طولون وجههما، فوافيا مكة يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي القعدة في أربعمائة وسبعين فارسًا وألفي راجل؛ فأعطوا الجزارين والحناطين دينارين دينارين، والرؤاسء سبعة سبعة، وهارون بن محمد عامل مكة إذ ذاك ببستان ابن عامر، فوافى مكة جعفر بن الباغمردي لثلاث خلون من ذي الحجة في نحو من مائتي فارس، وتلقاه هارون في مائة وعشرين فارسًا ومائتي أسود وثلاثين فارسًا من أصحاب عمرو بن الليث ومائتي راجل ممن قدم من العراق، فقوي بهم جعفر فالتقوا هم وأصحاب ابن طولون، وأعان جعفرًا حاج أهل خراسان، فقتل من أصحاب ابن طولون ببطن مكة نحو مائتي رجل، وانهزم الباقون في الجبال، وسلبوا دوابهم وأموالهم، ورفع جعفر السيف، وحوى جعفر مضرب الغنوي. وقيل: إنه كان فيه مائتا ألف دينار، وآمن المصريين والحناطين والجزارين، وقرئ كتاب في المسجد الحرام بلعن ابن طولون، وسلم الناس وأموال التجار.
وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي ولم يبرح إسحاق بن كنداج - وقد ولي المغرب كله في هذه السنة - سامرا حتى انقضت السنة.
ثم دخلت سنة سبعين ومائتين

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة
ففي المحرم منها كانت وقعة بين أبي أحمد وصاحب الزنج أضعفت أركان صاحب الزنج.
ذكر الخبر عن قتل صاحب الزنج وأسر معه

وفي صفر منها قتل الفاجر، وأسر سليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمذاني واستريح من أسباب الفاسق.
ذكر الخبر عن هاتين الوقعتين
قد ذكرنا قبل أمر السكر الذي كان الخبيث أحدثه، وما كان من أمر أبي أحمد وأصحابه في ذلك. ذكر أن أبا أحمد لم يزل ملحًا على الحرب على ذلك السكر حتى تهيأ له فيه ما أحب، وسهل المدخل للشذا في نهر أبي الخصيب في المد والجزر، وسهل لأبي أحمد في موضعه الذي كان مقيمًا فيه كل ما أراده من رخص الأسعار وتتابع المير وحمل الأموال إليه من البلدان ورغبى الناس في جهاد الخبيث ومن معه من أشياعه؛ فكان ممن صار إليه من الموعه أحمد بن دينار عامل إيذج ونواحيها من كور الأهواز في جمع كثير من الفرسان والرجالة؛ فكان يباشر الحرب بنفسه وأصحابه إلى أن قتل الخبيث. ثم قدم بعده من أهل البحرين - فيما ذكر - خلق كثير؛ زهاء ألفى رجل، يقودهم رجل من عبد القيس، فجلس لهم أبو أحمد ودخل إليه رئيسهم ووجوههم؛ فأمر أن يخلع عليهم؛ واعترض رجالهم أجمعين. وأمر بإقامة الأنزال لهم، وورد بعدهم زهاء ألف رجل من كورفارس، يرأسهم شيخ من المطوعة يكنى أبا سلمة، فجلس لهم الموفق، فوصل إليه هذا الشيخ ووجوه أصحابه، فأمر لهم بالخلع، وأقر لهم بالإنزال، ثم تابعت المطوعة من البلدان، فلما تيسر له ما أراد من السكر الذي ذكرنا، عزم على لقاء الخبيث، فأمر بإعداد السفن والمعابر وإصلاح آلة الحرب في الماء وعلى الظهر، واختار من يثق ببأسه ونجدته في الحرب فارسًا وراجلًا؛ لضيق المواضع التي كان يحارب فيها وصعوبتها وكثرة الخنادق والأنهار بها؛ فكانت عدة من تخير من الفرسان زهاء ألفي فارس، ومن الرجالة خمسين ألفًا أو يزيدون، سوى من عبر من المطوعة وأهل العسكر، ممن ديوان له، وخلف بالموفقية من لم يتسع السفن بحمله جمًا كثيرًا أكثرهم من الفرسان.
وتقدم الموفق إلى أبي العباس في القصد للموضع الذي كان صار إليه في يوم الثلاثاء لعشر خلون من ذي العقدة سنة تسع وستين ومائتين من الجانب الشرقي بإزاء دار المهلبي في أصحابه وغلمانه ومن ضمهم إليه من الخيل والرجالة والشذا وأمر صاعد بن مخلد بالخروج على النهر المعروف بأبي شاكر في الجانب الشرقي أيضًا، ونظم القواد من مواليه وغلمانه من فوهة نهر أبي الخصيب إلى نهر الغربي. وكان فيمن خرج من حد دار الكرنبائي إلى نهر أبي شاكر راشدًا ولؤلؤ، موليًا الموفق، في جمع من الفرسان والرجالة زهاء عشرين ألفًا، يتلو بعضهم يعضًا، ومن نهر أبي شاكر إلى النهر المعروف بجوى كور جماعة من قواد الموالي والغلمان، ثم من نهر جوى كور إلى نهر الغربي مثل ذلك، وأمر شبلا أن يقصد في أصحابه ومن ضم إليه إلى نهر الغربي، فيأتي منه مؤازيًا لظهر دار المهلبي، فيخرج من ورائها عند اشتباك الحرب، وأمر الناس أن يزحف بجميعهم إلى الفاسق، لا يتقدم بعضهم بعضًا؛ وجعل لهم أمارة الزحف؛ تحريك علم أسود أمر بنصه على دار الكرنبائي بفوهة نهر أبي الخصيب في موضع منها مشيد عال، وأن ينفخ لهم ببوق بعيد الصوت، وكان عبوره يوم الاثنين لثلاث ليال بقين من المحرم سنة سبعين ومائتين، فجعل بعض من كان على النهر المعروف بجوى كور يزحف قبل ظهور العلامة؛ حتى قرب من دار المهلبي، فلقيه وأصحابه الزنج فردوهم إلى مواضعهم، وقتلوا منهم جمعًا، ولم يشعر سائر الناس بما حدث على هؤلاء المتسرعين للقتال لكثرتهم وبعد المسافة فيما بين بعضهم بعض.
فلما خرج القواد ورجالهم من المواضع التي أمروا بالخروج منها، واستوى الفرسان والرجالة في أماكنهم، أمر الموفق بتحريك العلم والنفخ في البوق، ودخل النهر في الشذا، وزحف الناس يتلو بعضهم بعضًا، فلقيهم الزنج قد حشدوا وجموا واجترءوا بما تهيأ لهم على من كان تسرع إليهم، فلقيهم الجيش بنيات صادقة وبصائر نافذة، فأزالوهم عن مواضعم بعد كرات كانت بين الفريقين، صرع فيها منهم جمع كثير. وصبر أصحاب أبي أحمد، فمن الله عليهم بالنصر، ومنحهم أكتاف الفسقة، فولوا منهزمين، وأتبعهم أصحاب الموفق، يقتلون ويأسرون. وأحاط أصحاب أبي أحمد بالفجرة من كل موضع، فقتل الله منهم في ذلك اليوم ما لا يحيط به الإحصاء، وغرق منهم في النهر المعروف بجوى كور مثل ذلك، وحوى أصحاب الموفق مدينة الفاسق بأسرها، واستنفذوا من كان فيها من الأسرى من الرجال والنساء والصبيان، وظفروا بجميع عيال علي بن أبان المهلبي وأخويه الخليل ومحمد ابني أبان وسليمان بن جامع وأولادهم، وعبر بهم إلى المدينة الموفقية. ومضى الفاسق في أصحابه ومعه المهلبي وابنه أنكلاي وسليمان بن جامع وقواد من الزنج وغيرهم هرابًا، عامدين لموضع قد كان الخبيث رآه لنفسه ومن معه ملجأ إذا غلبوا على مدينته؛ وذلك على النهر المعروف بالسفياني.
وكان أصحاب أبي أحمد حين انهزم الخبيث، وظفروا بما ظفروا به، أقاموا عند دار المهلبي الواغلة في نهر أبي الخصيب، وتشاغلوا بانتهاب ما كان في الدار وإحراقها وما يليها، وتفرقوا في طلب النهب؛ وكل ما بقي للفاسق وأصحابه مجموعًا في تلك الدار.
وتقدم أبو أحمد في الشذا قاصدًا للنهر المعروف بالسفياني، ومعه لؤلؤ في أصحابه الفرسان والرجالة، فانقطع عن باقي الجيش، فظنوا أنه قد انصرف، فانصرفوا إلى سفنهم بما حووا، وانتهى الموفق فيمن معه إلى معسكر الفاسق وأصحابه وهم منهزمون؛ فأتبعهم لؤلؤ وأصحابه حتى عبروا النهر المعروف بالسفياني، فاقتحم لؤلؤ النهر بفرسه، وعبر أصحابه خلفه، ومضى الفاسق حتى انتهى إلى النهر المعروف بالقريري، فوصل إليه لؤلؤ وأصحابه، فأوقعوا به وبمن معه، فكشفوهم، فولوا هاربين وهم يتبعونهم، حتى عبروا النهر المعروف بالقريري، وعبر لؤلؤ أصحابه خلفهم وألجئوهم إلى النهر المعروف بالمساوان، فعبروه واعتصموا بجبل وراءه.
وكان لؤلؤ وأصحابه الذين انفردوا بهذا الفعل دون سائر الحيش، فانتهى بهم الجد في طلب الفاسق وأشياعه إلى ذها الموضع الذي وصفنا في آخر النهار، فأمره الموفق بالانصراف محمود الفعل، فحمله الموفق معه في الشذا، وجدد له من البر والكرامة ورفع المرتبة، لما كان منه في أمر الفسقة حسب ما كان مستحقًا. ورجع الموفق في الشذا في نهر أبي الخصيب وأصحاب لؤلؤ يسايرونه. فلما حاذى دار المهلبي، لم ير بها أحدًا من أصحابه، فعلم أنهم قد انصرفوا، فاشتد غيظه عليهم، وسار قاصدًا لصقره، وأمر لؤلؤ بالمضي بأصحابه إلى عسكره، وأيقن بالفتح لما رأى من أمارته، واستبشر الناس جميعًا بما هيأ الله من هزيمة الفاسق وأصحابه وإخراجهم عن مدينتهم، واستباحة كل ما كان لهم من مال وذخيرة وسلاح، واستنفاذ جميع من كان في أيديهم من الأسرى. وكان في نفس أبي أحمد على أصحابه من الغيظ لمخالفتهم أمره، وتركهم الوقوف حيث وقفهم، فأمر بجمع قواد مواليه وغلمانه ووجوههم؛ فجمعوا له، فوبخهم على ما كان منهم وعجزهم، وأغلظ لهم، فاعتذروا بما توهموا من انصرافه، وأنهم لم يعلموا بمسيره إلى الفاسق وانتهائه إلى حيث انتهى من عسكره؛ وأنهم لو علموا ذلك لأسرعوا نحوه، ولم يبرحوا موضعهم حتى تحالفوا وتعاقدوا على ألا ينصرف منهم أحدًا إذا توجهوا نحو الخبيث حتى يظفرهم الله به؛ فإن أعياهم ذلك أقاموا بمواضعهم حتى يحكم الله بينهم وبينه. وسألوا الموفق أن يأمر برد السفن التي يعبرون فيها إلى الموفقية عند خروجهم منها للحرب، لتنقطع أطماع الذين يريدون الرجوع عن حرب الفاسق من ذلك، فجزاهم أبو أحمد الخير على تنصلهم من خطئهم، ووعدهم الإحسان، وأمرهم بالتأهب للعبور، وأن يعظوا أصحابهم بمثل الذي وعظوا به. وأقام الموفق بعد ذلك يوم الثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة لإصلاح ما يحتاج إليه؛ فلما كمل ذلك تقدم إلى من يثق إليه من خاصته وقواد غلمانه ومواليه، بما يكون عليه عملهم في وقت عبورهم.
وفي عشي يوم الجمعة، تقدم إلى أبي العباس وقواد غلمانه ومواليه بالنهوض إلى مواضع سماها لهم؛ فأمر أبا العباس بالقصد في أصحابه إلى الموضع المعروف بعسكر ريحان، وهو بين النهر المعروف بالسفياني والموضع الذي لجأ إليه، وأن يكون سلوكه بجيشه في النهر المعروف بنهر المغيرة؛ حتى يخرج بهم في معترض نهر أبي الخصيب، فيوافي بهم عسكر ريحان من ذلك الوجه، وأنفذ قائدًا من قواد غلمانه السودان، وأمره أن يصير إلى نهر الأمير فيعترض في المنصف منه، وأمر سائر قواده وغلمانه بالمبيت في الجانب الشرقي من دجلة بإزاء عسكر الفاسق متأهبين للغدو على محاربته. وجعل الموفق يطوف في الشذا على القواد ورجالهم في عشي يوم الجمعة وليلة السبت، ويفرقهم في مراكزهم والمواضع التي رتبهم فيها من عسكر الفاسق، ليباكروا المصير إليها على ما رسم لهم.
وغدا الموفق يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، فوافى نهر أبي الخصيب في الشذا، فأقام بها حتى تكامل عبور الناس وخروجهم عن سفنهم، وأخذ الفرسان والرجالة مراكزهم، وأمر بالسفن والمعابر فردت إلى الجانب الشرقي، في الزحف إلى الفاسق، وسار يقدمهم حتى وافى الموضع الذي قدر أن يثبت الفسقة فيه لمدافعة الجيش عنهم.