الحمد لله المنعم على عباده بما هداهم إليه من الايمان، والمتمم إحسانه بما أقام لهم من جلى البرهان، الذي حمد نفسه بما أنزل من القرآن، ليكون بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، وهاديا إلى ما ارتضى لهم من دينه، وسلطانا أوضح وجه تبيينه، ودليلا على وحدانيته، ومرشدا إلى معرفة عزته وجبروته، ومفصحا عن صفات جلاله، وعلو شأنه وعظيم سلطانه، وحجة لرسوله الذي أرسله به، وعلما على صدقه، وبينة على أنه أمينه على وحيه، وصادع بأمره.
فما أشرفه من كتاب يتضمن صدق متحمله، ورسالة تشتمل على قول مؤديها. بين فيه سبحانه أن حجته كافية هادية، لا يحتاج مع وضوحها إلى بينة تعدوها، أو حجة تتلوها، وأن الذهاب عنها كالذهاب عن الضروريات، والتشكك في المشاهدات. ولذلك قال عز ذكره: { ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين }. وقال عز وجل: { ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون }.
فله الشكر على جزيل إحسانه، وعظيم مننه. والصلاة على محمد المصطفى وآله، وسلم.
ومن أهم ما يجب على أهل دين الله كشفه، وأولى ما يلزم بحثه، ما كان لاصل دينهم قواما، ولقاعدة توحيدهم عمادا ونظاما وعلى صدق نبيهم برهانا، ولمعجزته ثبتا وحجة. ولا سيما أن الجهل ممدود الرواق، شديد النفاق، مستول على الآفاق، والعلم إلى عفاء ودروس، وعلى خفاء وطموس، وأهله في جفوة الزمن البهيم، يقاسون من عبوسه لقاء الأسد الشتيم [1] حتى صار ما يكابدونه قاطعا عن الواجب من سلوك مناهجه والأخذ في سبله.
فالناس بين رجلين: ذاهب عن الحق، ذاهل عن الرشد، وآخر مصدود عن نصرته، مكدود في صنعته.
فقد أدى ذلك إلى خوض الملحدين في أصول الدين وتشكيكهم أهل الضعف في كل يقين.
وقد قل أنصاره، واشتغل عنه أعوانه، وأسلمه أهله. فصار عرضة لمن شاء أن يتعرض فيه، حتى عاد مثل الأمر الأول على ما خاضوا فيه عند ظهور أمره. فمن قائل قال: إنه سحر، [2] وقائل يقول: إنه شعر، [3] وآخر يقول: إنه أساطير الأولين، [4] وقالوا: لو نشاء لقلنا مثل هذا. [5] إلى الوجوه التي حكى الله عز وجل عنهم أنهم قالوا فيه، وتكلموا به، فصرفوه إليه.
وذكر لي عن بعض جهالهم أنه جعل يعدله ببعض الأشعار، ويوازن بينه وبين غيره من الكلام، ولا يرضى بذلك حتى يفضله عليه!
وليس هذا ببديع من ملحدة هذا العصر، وقد سبقهم إلى عظم ما يقولونه إخوانهم من ملحدة قريش وغيرهم. إلا أن أكثر من كان طعن فيه في أول أمره استبان رشده، وأبصر قصده، فتاب وأناب، وعرف من نفسه الحق بغريزة طبعه، وقوة إتقانه، لا لتصرف لسانه، بل لهداية ربه وحسن توفيقه. والجهل في هذا الوقت أغلب، والملحدون فيه عن الرشد أبعد، وعن الواجب أذهب.
وقد كان يجوز أن يقع ممن عمل الكتب النافعة في معاني القرآن، وتكلم في فوائده من أهل صنعة العربية وغيرهم من أهل صناعة الكلام، أن يبسطوا القول في الإبانة عن وجه معجزته، والدلالة على مكانه.
فهو أحق بكثير مما صنفوا فيه من القول في الجزء [ والطفرة ]، ودقيق الكلام في الأعراض، وكثير من بديع الإعراب وغامض النحو. فالحاجة إلى هذا أمس، والاشتغال به أوجب.
وقد قصر بعضهم في هذه المسألة، حتى أدى ذلك إلى تحول قوم منهم إلى مذاهب البراهمة فيها، ورأوا أن عجز أصحابهم عن نصرة هذه المعجزة يوجب أن لا مستنصر فيها، ولا وجه لها، حين رأوهم قد برعوا في لطيف ما أبدعوا، وانتهوا إلى الغاية فيما أحدثوا ووضعوا. ثم رأوا ما صنفوه في هذا المعنى غير كامل في بابه، ولا مستوفى في وجهه، قد أخل بتهذيب طرقه، وأهمل ترتيب بيانه.
وقد يعذر بعضهم في تفريط يقع منه فيه، وذهاب عنه، لأن هذا الباب مما لا يمكن إحكامه إلا بعد التقدم في أمور شريفة المحل، عظيمة المقدار، دقيقة المسلك لطيفة المأخذ.
وإذا انتهينا إلى تفصيل القول فيها، استبان ما قلناه من الحاجة إلى هذه المقدمات، حتى يمكن بعدها إحكام القول في هذا الشأن.
وقد صنف الجاحظ في نظم القرآن كتابا، لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله، ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى.





وسألنا سائل أن نذكر جملة من القول جامعة، تسقط الشبهات وتزيل الشكوك التي تعرض للجهال وتنتهى إلى ما يخطر لهم ويعرض لأفهامهم من الطعن في وجه المعجزة.
فأجبناه إلى ذلك، متقربين إلى الله عز وجل، ومتوكلين عليه وعلى حسن توفيقه ومعونته.
ونحن نبين ما سبق فيه البيان من غيرنا، ونشير إليه ولا نبسط القول، لئلا يكون ما ألفناه مكررا ومقولا، بل يكون مستفادا من جهة هذا الكتاب خاصة.
ونَصِف ما يجب وصفه من القول في تنزيل متصرفات الخطاب، وترتيب وجوه الكلام، وما تختلف فيه طرق البلاغة، وتتفاوت من جهته سبل البراعة، وما يشتبه له ظاهر الفصاحة، ويختلف فيه المختلفون من أهل صناعة العربية، والمعرفة بلسان العرب في أصل الوضع.
ثم ما اختلفت به مذاهب مستعمليه في فنون ما ينقسم إليه الكلام، من شعر ورسائل وخطب، وغير ذلك من مجارى الخطاب. وإن كانت هذه الوجوه الثلاثة أصول ما يبين فيه التفاصح، وتقصد فيه البلاغة، لأن هذه أمور يتعمل لها في الأغلب، ولا يتجوز فيها.
ثم من بعد هذا الكلام الدائر في محاوراتهم. والتفاوت فيه أكثر، لأن التعمل فيه أقل، إلا من غزارة طبع، أو فطانة تصنع وتكلف.
ونشير إلى ما يجب في كل واحد من هذه الطرق، ليعرف عظيم محل القرآن، وليعلم ارتفاعه عن مواقع هذه الوجوه، وتجاوزه الحد الذي يصح أو يجوز أن يوازن بينه وبينها، أو يشتبه ذلك على متأمل.
ولسنا نزعم أنه يمكننا أن نبين ما رمنا بيانه، وأردنا شرحه وتفصيله، لمن كان عن معرفة الأدب ذاهبا وعن وجه اللسان غافلا، لأن ذلك مما لا سبيل إليه، إلا أن يكون الناظر فيما نعرض عليه مما قصدنا إليه من أهل صناعة العربية، قد وقف على جمل من محاسن الكلام ومتصرفاته ومذاهبه، وعرف جملة من طرق المتكلمين، ونظر في شئ من أصول الدين.
وإنما ضمن الله عز وجل فيه البيان لمثل من وصفناه، فقال: { كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون }. وقال: { إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون }.