الرجاء قراءة الجزء الأول

البنت الثالثة ... الجزء (2) بقلم محمد عبد الوهاب جسري

بدأت علامات السرور تظهر على وجوه الجميع عندما دهشنا من تحسن حالتها الصحية بشكل مفاجئ، لكن أمي المنهكة لم تكن لتستطيع أن تخفي زيادة قلقها، وعندما حدّثـتـُها وطلبت منها الافصاح عن سبب شدة قلقها في الوقت الذي بدأ الأمل في شفاء أختي يولد من جديد، ضمتني إلى صدرها وأجهشت بالبكاء، أخاف يا ابنتي أن تكون هذه صحوة الموت....
يا إلهي ، قد تكون مخاوف أمي في محلها، عندما دخلت إلى غرفة أختي أشارت إلي لأقترب منها، تريد أن تحدثني على انفراد

_ حبيبتي أظن أنني مودعة ..... لا أطلب منك أن تتزوجيه ، لكنني أترك الأطفال أمانة في عنقك .... لا تتركيهم مادام ربنا يهبك الحياة.....

أي قوة أحتاج لكي أجيبها ؟؟، ولماذا كل تلك الأقفال تعقد لساني ؟؟ من أين أتتني هذه البرودة التي جمـَّدت الدم في عروقي..... هي المريضة المتهالكة تملك القدرة على النطق، وأنا المعافاة أراني أنهارُ، فلا أتمكن من نطق كلمة واحدة....

ليتني تمكنت من النطق، فأسمعتها كلمات تزرع في نفسها الأمل، كم تمنيت أن أبث لها موافقتي على حمل الأمانة كي تطمئن روحها الغالية ...... كل ما استطعت أن أفعله أنني بدأت أهز برأسي معلنة الموافقة، أرجو أن تكون قد فهمتني.... بالتأكيد فهمتني فهي لبيبة......

أبت روحها الطاهرة أن تبقى ساكنة ذلك الجسد النحيل، ودَّعتنا في نفس الليلة، لتعلن بدأ حياتي الجديدة في حمل تلك الأمانة الغالية....

استهلك حجم المصيبة قوى الجميع، أما أنا فقد تولدت لدي شجاعة الجبابرة، أسرعت إلى الأطفال أحتضنهم، أبعدهم عن لحظات المأساة، أنأى بهم عن مشاهد كارثتهم الثانية وسماع عباراتها.....

أصبح الأطفال من ممتلكاتي الخاصة، فأبوهم قد أخبر الجميع بوصيتها وأعلن التزامه بها..... وهذا ما أثقل كاهلي، فالأطفال معي وفي نفس الوقت هم بحاجة إلى أبيهم ، وحاجة أبيهم لهم لا تقل عن حاجتهم له، إنني في ارتباك شديد..... أعتصر أفكاري لأصل إلى حل منطقي وإنساني لهذه المسألة، فبعد أيام سينسى الناس الجرح الكبير ، وستبدأ ألسنة أشجار الليمون بالنطق بكلمات لا أحب أن تصل إلى أسماعي.

ثلاثة أسابيع مرت، بعد سهر طويل، أنا ونفسي نجتمع، نتحاور، نتفاوض و نقرر ونلغي قراراتنا أيضاً، بعدها قررت أن أخلق فرصة لأتحدث إليه على انفراد، فالأطفال عامل مشترك بيننا سيبقى مادمت أنا مستمرة في حمل الأمانة.

أخذت الأطفال إلى الحديقة ليلعبوا قليلاً، وأخبرت والدتي أن تعلمه عن مكان تواجدنا إن اتصل ليطمئن على أولاده، ورجوت الله أن يحصل هذا، وأن تكون عنده الرغبة في أن يتحدث إلي فيأتي.....

جلستُ على مقعد قريب من مكان لعبهم، تراقبهم عيون اللبوة، أنتظر قدومه وكأننا على موعد..... وأجهز نفسي لأحدثه بما يجول في خاطري........ ها قد أقبل، يعانق الأولاد ويقدم لهم ما يحبونه من المأكولات.

_ كيف حالكِ ؟ الطقس جميل اليوم
_ كما تراني ، أحاول أن أنتشل شيئاً من الفرح عندما أنظر إلى الأطفال كيف يلعبون، وأنت ؟؟
_ علمت من والدتك أنكم هنا فجئت لأراكم....وأرغب في التحدث إليكِ
قلتُ في نفسي الحمد لله، فهو يفكر بما أفكر فيه.... فبدأتُ بالحديث
_ لي عندك رجاء........أرجوك تزوج بسرعة

نظر إليَّ نظرة قصيرة و حوّل عينيه باتجاه أصابعه وراح يطقطقها.... ويقول :
_ سبحان الله ، كنت أنوي أن أطلب منك أن تتزوجي أنتِ بسرعة، وكنت أريد الاستئذان منكِ بفتح الموضوع مع قريبك الذي كان قد لمـَّح لكِ منذ فترة، للاستعجال في الأمر وأنا على استعداد للمساعدة.

حل صمت رهيب، راح كل منـّا يقرأ ما يفكر به الآخر، فإدراكنا لمخاوف المستقبل القريب متشابهة، والحلول التي نطرحها متماثلة ، لكن كل على طريقته، وكل يحاول تقديم الحد الأقصى من التضحية.

رفع عيناه ونظر إليَّ نظرة رجاء مماثلة لنظرات أطفاله البريئة قائلاً:
_ لا أريد أن ندخل في حوار لا أعرف إلى أين سيوصلنا، لكنني ببساطة أقول لك ، أنا حسبتها جيداً، لقد تزوجت مرتين وأخذت حظي من الدنيا، قررت أن لا أتزوج، أريد أن أمضي حياتي في الاعتناء بأطفالي إلى أن يصبحوا كباراً، بعدها لكل حادث حديث، ثم إنني بـِتُّ أخشى أن أكون نذير شؤم على أي إنسانة تتزوجني.

_ لا تقل هذا ، إنما هي أقدار ، قد لا تعجبنا عندما يضعف أيماننا، لكننا سرعان ما نشعر بالرضا عندما نتلقى شحنات الإيمان في التقرب إلى الرحمن..... تعرف أنني أخذت على عاتقي حمل الأمانة، أنا التي قررت أن لا أتزوج إلى أن يكبر الأطفال فلا أظن أن هناك من سيقبلني مع ميراثي هذا.....

_ نحن متفقان إذاً على أن الحل الوحيد لوضعنا الراهن هو أن يتزوج أحدنا بالسرعة القصوى.
_ نعم هذا رأيي
_ أنا قررت أن لا أتزوج الآن وأنتِ كذلك.....
_ ماهذا ؟؟ تقصدُ أننا حاولنا أن نلتقي ونتحاور لحل المسألة فزدناها تعقيداً ؟؟
_ نعم لأن أفكارنا شبه متماثلة
_ لولا أن من حولنا لن يتركونا بحالنا لما كنت فكرت في الأمر، هل تعلم أن الجميع يتمنون أن نصبح زوجين؟؟
_ أعلم طبعاً ، لكنني لا أتمنى حدوث ذلك لأنني أتمنى لك السعادة وأخشى أن أسبب لك الشقاء.

بسرعة رتبتً سؤالي التالي محاولة أن أفهم ما يدور في صدره
_ حسناً، لو قلت لك أن سعادتي ستكون في الوقوف معك في تربية الأطفال، وأنني لا أخشى الشقاء مع رجل مثلك فهل ستتغير أمنيتك ؟؟
_ وكأنكِ تسألينني لو أنني فهمت أنكِ موافقة وراغبة في العيش معي ، هل سأوافق ؟؟
_ نعم هذا بالضبط هو سؤالي
_ سؤالك صعب جداً .....

أحسستُ أن كلمات خرجت من وجدانه ولم ينطق بها لسانه، عندما لاحظت كيف همَّ بنطق شيء ما وامتنع فجأة.......

صمتَ قليلاً ثم نادى الأطفال
_ هيا يا أطفال لأوصلكم إلى البيت ، كفاكم لعباً اليوم ستكملون في المرة القادمة ، وكأنه يخاطبني ويقول كفانا تحدثاً في هذا الموضوع اليوم، دعينا نأخذ وقتنا في التفكير.


بقلم محمد عبد الوهاب جسري