ليست ليبيا هي الثورة الشعبية الوحيدة في المنطقة العربية، وإنما سبقتها ثورات أخرى في تونس ومصر واليمن، إلا أنها أول ثورة دموية مسلحة بين نظام حكم القذافي وشعبه.
ذلك أن الثورة الشعبية في ليبيا التي بدأت سلمية، ووجهت بالحديد والنار، مما أدى إلى تحوّلها من انتفاضة سلمية ضد التسلّط والطغيان وتوريث الحكم، إلى ثورة فُرض عليها أن تكون مسلحة، وقد اعتمدت طريق المواجهة للدفاع عن النفس. وهكذا دافع الليبيون المدنيون عن أنفسهم، وقد بدأت النواة الشعبية المسلحة من انضمام بعض الجنود ورجال الأمن إلى الانتفاضة، آخذين معهم أسلحتهم، واستيلاء الثوار على بعض مخازن الأسلحة، واغتنام أسلحة أخرى من كتائب القذافي، مما أدى إلى تنامي قوة الجيش الشعبي الليبي.
إلا أنه مهما كانت هذه القوة تبقى محدودة مقابل ما يمتلكه القذافي من ترسانة أسلحة. وأمام هجمات التقتيل التي مارسها القذافي وأبناؤه ضد المدنيين والتنكيل بهم، اضطرت قيادة الثورة إلى مطالبة الهيئات الدولية من الأمم المتحدة ومجلس الأمن لحماية المدنيين، وهو ما استجاب له مجلس الأمن من خلال قراره رقم 1973، الصادر بتاريخ في 17 مارس) آذار) لصالح "اتخاذ كافة الإجراءات الضرورية لحماية المدنيين".
وهو ينص على:
مطالبة القذافي بالوقف الفوري لإطلاق النار.
فرض منطقة حظر جوي لمنع سلاح الجو التابع للقذافي من مهاجمة المدنيين.
زيادة نطاق العقوبات المفروضة على نظام القذافي.
إلا أن القوى الغربية التي تدخلت، تجاوزت فرض منطقة حضر جوّي، واعتمدت القصف الممنهج للهياكل القاعدية في ليبيا، بل أنها قصفت حتى الثوار المفروض حمايتهم، وهناك شك في فرضية الخطأ.
إن كانت عملية التدخل العسكري في لبيا بدعوى الدفاع عن المدنيين، إلا أن هذا التدخل هو انتقام من القذافي وتحطيم لليبيا حكومة وشعا، سلطة ومعارضة. ذلك أن ليبيا هي الشعب الليبي بالدرجة الأولى ولا بدّ له أن ينتصر، إلا أن أول مشكلة عويصة ستواجهها الثورة بعد انتصارها، هي تداعيات هذه الحرب، والتي لم يشأ الغرب أن ينهيها بطريقة سلمية على طريقة ساحل العاج، عندما ساهم في القبض على "غباغبو" بأدنى الخسائر.
إنها سابقة أن يتدخل الحلف الأطلسي والدول الغربية بهذه الطريقة، وسيكون لها ما يتبعها في الوطن العربي، وأول دولة مرشحة لذلك هي سوريا. إذ أن الغرب يراقب التحولات في سوريا، وهو ينتظر تعفن الظروف هناك، وتقوية عود المقاومة السورية التي سيفرزها استعمال السلطة الحاكمة للقوة المفرطة لقمع المعارضة وقمع المتظاهرين. وهو ما قد يصل إلى مطالبة المعارضة لمساعدة المدنيين وحمايتهم ضد القوة الأمنية، وهو ما سيؤدي إلى استجابة سريعة من القوى الكبرى، ومن أهمها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا، وقد تنظم إليهم إيطاليا وغيرها من الدول الحاقدة على الأمة العربية والإسلامية. وبعد ذلك يتدخل الخلف الأطلسي، وليس غريبا أن ينظم العدو الإسرائيلي لهذه القوات، لتحطيم سوريا باسم الشرعية الدولية، وأن إسرائيل لن تفوّت هذه الفرصة الذهبية، ولن تضيعها الدول الغربية المتعاطفة معها، والتي ترى في سوريا عدوّة لدودة يجب القضاء عليها.
لهذا فإن القضية حساسة وخطيرة في سوريا، وأن ما وقع في ليبيا هو السيناريو الذي سيتبع في سوريا - لا قدّر الله -، في حالة اعتماد السلطات السورية الحل الأمني لمواجهة المواطنين الذين يطالبون بالتغيير وهو حقهم المشروع، وأن عزيمة الشعوب لا تقهر. ذلك أن نضج وعي الشباب وتخلصهم من الخوف، وتبني خيار الخروج إلى الشارع ومواجهة القوات الأمنية المدججة بالسلاح، بصدور عارية، لا يمكن إلا أن يؤدي إلى انتصار الثورة، وأن دماء الشهداء لن يضيع سدى.
لذا على المسؤولين السوريين التعقل واعتماد الحكمة في مواجهة الأحداث، والاستماع إلى نبضات الشارع. فبشار الأسد رئيس متعلم ولن يفعل كما فعل القذافي الذي ارتبط بالكرسي حتى حطم وطنه، ومنح فرصة للأعداء لتحطيم منجزات ليبيا خلال عقود من التضحيات، فالقائد الحقيقي هو الذي يضحي بمصالحة الشخصية ليحيا الوطن.
كما أنه على السوريين المعارضين الحفاظ على الطابع السلمي للانتفاضة، وعدم ارتكاب حماقة عسكرتها وتدويلها، لأن ذلك سيؤدي إلى كارثة سياسية وعسكرية وإستراتيجية تؤثر على مستقبل المنطقة ككل.
لذا يمكن الحفاظ على سوريا وقوتها، وهي مكسب للسوريين، وللقضية الفلسطينية وقوة لكل العرب. لا يمكن الحفاظ على ذلك إلا من خلال إجراء إصلاحات حقيقية، والاستجابة لرغبات الشعب السوري، فمن حقه التمتع بالحرية والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان، كغيره من شعوب العالم المتحضر. لقد دقت ساعة التغيير في الوطن العربي ولا توجد قوة في العالم باستطاعتها إيقاف هذا السيل الشعبي الجارف التواق إلى الحرية، وقد استجاب الله تعالى لتذرعات المظلومين والمقهورين في الوطن العربي، إنه على نصرهم لقدير.