دنيا
.. أقدم دار سينما في دمشق: ذكريات الماضي الجميل


حضر فيها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر عرض فيلم في أواخر الخمسينات ودفع ثمن التذاكره

مع انحسار عدد صالات السينما في دمشق وباقي المدن السورية في السنوات الثلاثين الأخيرة لعدة أسباب؛ منها عزوف الجمهور السوري عن الذهاب لدور السينما بسبب انتشار التلفزيون والتقنيات الحديثة التي تمكن الشخص من مشاهدة أي فيلم سينمائي وهو في منزله، وإغلاق العديد منها أبوابه أو سعي أصحابها لبيعها بعد أن عاشت فترات الازدهار حتى أواخر سبعينات القرن الماضي، فلا تزال هناك بعض الدور تعمل؛ منها «دار سينما دنيا» وتوجد في وسط دمشق التجاري بمنطقة الفردوس، التي تعتبر أقدم دار عرض سينمائي ما زالت تعمل حتى الآن في دمشق حيث تأسست عام 1946 أي قبل 65 عاما.

وشهدت الدار في سنوات عزها إقبالا من عشاق السينما وحتى من شخصيات مهمة، كما أن صاحبها السبعيني (مأمون سري) ولعشقه للسينما، ما زال يرفض إغلاقها رغم أنها لا تحقق أي مردود مادي مقبول له، حتى إن مردودها لا يؤمن تغطية أجور العاملين فيها..
في جلسه ممتعه مع صاحب الروح المرحه السيد مأمون سري تبادلنا الحديث فيما بيننا عن هذه الصاله فقال لي .....
«هل تصدق (يتنهد سري) أننا حاليا (ونحن في العاشرة والنصف صباحا حيث موعد الحفلة اليومية الأولى) نعرض فيلما لجمهور لا يتجاوز عدده أربعة أشخاص في طابقي الصالة؛ اللوج (بلكونين) والأرضي؟! ومع ذلك نعرض الفيلم ونشغل الآلات والعمال ولأربع حفلات يوميا وكأن الحاضرين بالمئات، فصالتنا تضم 800 كرسي ومساحتها كبيرة (1000 متر مربع) وأحاول جذب الناس، حتى إنني أقدم في العرض الواحد أسبوعيا ثلاثة أفلام. حاليا مثلا لدي عرض لفيلم هندي وفيلمين أميركيين، ولكن لا فائدة من ذلك، فالإقبال شبه معدوم.. وصدقني (يقول سري ومشاعر الأسى على حال صالته وغيرها من دور السينما تظهر على وجهه) لو جاءني ثمن جيد في ها فسأبيعها من دون تردد؟! فمع أنني عاشق للسينما ولهذا الفن الرائع وقدمت له الكثير حتى إنني أنتجت فيلما سينمائيا من بطولة دريد لحام ونهاد قلعي والفنانة المصرية ناهد يسري قبل أربعين عاما وهو فيلم مقلب من المكسيك، وكنت ممولا لشركة إنتاج سينمائي اسمها (دمشق للسينما) وكان من أصحابها المطرب صباح فخري والمخرج جميل ولاية والفنان أسامة خلقي وكنت أوزع أفلامها أيضا، كما تم تكريمي من قبل إدارة مهرجان دمشق السينمائي العام الماضي من منطلق أنني أقدم سينمائي سوري ما زال يعمل في نشر هذا الفن من خلال صالتي، لكن سأبيعها لمن يرغب وليقوم هو بالإبقاء عليها مع إنشاء مبنى تجاري كما تقتضي التعليمات الحالية في هذا المجال».

سألته: ماذا عن تاريخ هذه الدار والمحطات التي مرت عليها واهتمام عائلة سري بإطلاق دور سينمائية في دمشق؟
يوضح سري: «لقد ورثت هذه الدار عن والدي محمد خير، الذي كان يشار إليه على أنه أحد أهم السينمائيين في سورية، حيث أسس خمس صالات سينمائية كبيرة في دمشق ومن الدرجة الأولى، باعها كلها في ما بعد ولم تبق إلا هذه الدار (دنيا)، وبدأ في إطلاق هذه الدور عام 1945 من خلال سينما (دنيا) ومن ثم أطلق سينما (عائدة) وتسمى حاليا (أوغاريت) وهي في منطقة الحجاز وهي مغلقة حاليا ومعروضة للبيع، وسينما (غازي) في منطقة المرجة، وسينما (الحمرا) في شارع رامي وقد تهدمت وتحولت لمبنى فندقي، وكان لدى والدي سينما صيفية مكشوفة (وهو الوحيد الذي أطلق مثل هذا النوع من الدور السينمائية في سورية) وظلت وحيدة من نوعها في سورية حتى قمنا ببيعها وكان اسمها سينما (الرشيد) في شارع «29 أيار»، وقد باعها والدي في ما بعد، وبني مكانها المركز الثقافي السوفياتي (الروسي) حاليا. وقد أبقيت هذه الدار وقمت بإدارتها على مدى الـ55 سنة الماضية لعشقي للفن السابع، رغم أنني درست المحاماة، ولم أكن أتخيل أن يصل واقع دور السينما لهذا الشكل السيئ».

يعود مأمون سري بذاكرته للوراء حيث كان وهو في المرحلة الابتدائية يأتي لسينما «دنيا» مع والده، وبكثير من الحنين للسنوات الخوالي؛ إذ كانت صالته في أوج عزها، يروي سري لـنا حكاية أقدم دار سينمائية دمشقية:
«أذكر هنا أن والدي أطلق هذه الدار بعرض الفيلم العالمي (السابحات الفاتنات) لنجوم عالميين مشهورين، وكانت السينما في خمسينات وستينات القرن الماضي هي المكان المفضل لكثير من الأسر الدمشقية، وكان المجيء إليها يعتبر من قبل البعض سيرانا ونزهة وتسلية وترفيها، حيث لم يكن هناك تلفزيون ولا قنوات فضائية ولا فيديو ودي في دي وغير ذلك؟!».

«هل تصدق يا عزيزي (يقول سري) أن البطاقات لحضور عروض الصالة كانت تنفذ فورا حتى كانت تباع في السوق السوداء بالشارع في سنوات عزها، خاصة في فترة سبعينات القرن الماضي؟! ومن المحطات المميزة في رحلة صالتنا، أتذكر أننا كنا نعلن عن الفيلم الذي سيعرض في الصالة بمجلة (دنيا) التي كانت من أشهر مجلات دمشق في خمسينات القرن الماضي، وكنا نعلن عن مسابقة للجمهور؛ وهي أننا نضع ملصق الفيلم بالأبيض والأسود، ومن يتمكن من تنفيذ أحسن تلوين للملصق فليرسله للدار، وللفائز جائزة، وهي عبارة عن بطاقة دعوة لحضور أفلام الدار مجانا ولمدة أسبوع! وكنا نضطر وتحت ضغط الجمهور لتمديد عرض الفيلم لعدة أسابيع. كما أن طلبة الجامعة وفي فترة امتحاناتهم كانوا يطلبون منا تمديد عرض الفيلم حتى بعد انتهاء امتحاناتهم ليتمكنوا من مشاهدته! كذلك من محطات الدار المهمة، زيارة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر لدار السينما، الذي كان هاويا لحضور أفلام سينمائية، وأتذكر هنا يوم حضوره لصالتنا، وهي الوحيدة من بين صالات دمشق التي زارها وحضر فيها عرض فيلم، كانت الصالة تعرض بالصدفة فيلما إيطاليا عنوانه (برسلينو بانو ايفينو) وكان ذلك في أواخر الخمسينات في عهد الوحدة السورية - المصرية. وقد أرسل مرافقيه حيث طلبوا له ولهم تذاكر ودفعوا ثمنها وحجزوا مقاعد في (اللوج) أي الطابق العلوي من الصالة». يبتسم سري وهو يتذكر بعض مفردات تلك الزيارة: «طلبت من أحد المرافقين أن يستأذن الرئيس عبد الناصر لآخذ صور لي معه من قبل مصور جار لي يدعى آزاد فوافق عبد الناصر والتقط المصور الصور لي معه».

ويتابع سري: «كما كانت الأفلام المنتجة في ذلك الوقت أفلاما جميلة رومانسية واجتماعية وبوليسية مشوقة وجميعها، كانت مقتبسة من قصص الأدب العالمي. وأذكر أن والدي كان متعاقدا مع مؤسسات من هوليوود لتزويدنا بأحدث الأفلام السينمائية ومنها (م جي م) و(كولومبيا) و(يونيفرسال) و(فوكس) وغيرها.. وظللت أنا في ذلك، ولكن جاء قرار حصر استيراد الأفلام السينمائية بالمؤسسة العامة للسينما في سورية بداية من ثمانينات القرن الماضي، فتوقفنا عن شراء الأفلام، وهذا كان أحد الأسباب الرئيسية في تناقص عدد دور السينما في سورية. وحاليا تم التراجع بعد ثلاثين سنة عن قرار الحظر، ولكن، وللأسف، جاء متأخرا، ولذلك تحولت السينما إلى مهنة اقتصادية فاشلة، فلا أتوقع أن تظهر دور سينما جديدة في دمشق؛ بل إنها تتناقص.. تصور أنه كان لدينا في سورية (125) دار سينما قبل ثمانينات القرن الماضي، بينما حاليا لا يتجاوز عدد هذه الدور (20) دارا في كل المدن السورية!».

إعداد: مـــــــاهر دنان