اضطررت اليوم للنزول للشارع المزدحم.. رغم علمي ان المنطقة التي سأذهب إليها ستكون مليئة بالشباب المحتفل بأعراس الوطن.. كنت البس معطفي الاسود الطويل وامشي بصعوبة بين الشباب المندفع الذي يغني للوحدة الوطنية بكل قوته.. كان المظهر من الخارج ابداعيا مبهجا.. مليئا بالألوان..لكنه كان سورياليا ينتمي للمدرسة التكعيبية في فنون السياسة التلونية.. كنت اتجنب ان ارفع رأسي فتلتقي عيني بعين احد اصدقاء الوطن فاضطري ان امضي بقية اليوم في الشارع ..."أتظاهر" ...بالفرح.
لم أدر كيف استطاع ان يميزني بين هذه الجموع رغم أنني اغمس رأسي بين كتفي ولا ارفع عيني عن الأرض.. ضم ساعده بين ساعدي وجسدي وسحبني معه بشدة.. نظرت لعبد السلام وقد كان عنيفا وجديا جدا هذه المرة.. قلت بهدوء هامسا: عبد السلام..أنا آسف ...انت وضعتني في وضع سيء.. في مثل هذه الحالات وحفاظا على الامن والامان كان يجب ان اتصرف كما تصرفت.. هاأنت اعتقلت وخرجت ..اما انا فبالتأكيد كنت سابقى في ضيافة الامن والامان لفترة طويلة..."
لم يهتم عبدالسلام لكلامي كثيرا...رد باقتضاب "لا عليك..." ثم تابع ماشيا... اخذني لنفس المقهى القديم..وهو مقهى مشهور في المنطقة ..وكان كالعادة هناك شاب يرتدي الاسود وبنظارة سوداء ...زاحمه عبد السلام الباب بشكل واضح، وكأنه يريد ان يشتبك معه، ولكن للغرابة لم تكن ردة فعل الشاب الا ان افسح له مساحة اكبر تكفي لمرورنا سوية..يبدو ان عبدالسلام امتلك اخلاق الثورة في السجن.
جلست امام عبدالسلام... رفع عبدالسلام اصبعه راسما إشارة النصر ، ففهم النادل انه يطلب كأسين من الشاهي.. تبسمت قائلا: ليتك طلبت وجبتي فول..فالفول ضرورة تقتضيها استحقاقات المرحلة التاريخية..
لم يرد عبد السلام..وضع مرفقيه على الطاولة واشبك اصابع كفيه ببعضهما ووضعهما تحت ذقنه ثم أطرق نحو الأرض
قررت استفزازه.. قلت بهدوء: ابشرك.. لقد تم قتل الخرفان السوداء التي كانت تشذ عن القطيع طالبة الحرية وقطع ارزاق الموظفين الشرفاء فيما يسمى زورا الحرب على الفساد، وهاهو باقي القطيع يتوزع لحومها واصوافها ويهريق دماءها في الشارع فرحا بالنصر.."
بدى الامتعاض على وجه عبد السلام..خرج عن صمته وقال مشيرا بيده للخارج دون أن يرفع رأسه: هل ترى عرس الوطن؟
رددت متصنعا الدهشة: وهل أعرس الوطن؟ مبارك ..مبارك.. ومتى كان النكاح ما شاء الله؟..
لم تهتز لعبد السلام شعرة وبقي واجما..تابعت محاولا استفزازه: لكن خطر لي خاطر.. طالما ان النكاح لم يعقد حتى اليوم.. ما كان اسم العلاقة التي كانت تربط العريس بالعروس خلال العقود الماضية؟
برم عبد السلام شفته مبديا عدم تلقيه للدعابة.. تابعت سائلا: طيب يا شيخ عبد السلام.. هل يجوز شرعا للابن ان ينكح ما نكح ابوه؟
ايضا لم تستفز هذه الجملة عبد السلام...رفع راسه وسالني وقد ارسل عينيه الواجمتين للافق البعيد: هل سمعت بما حصل هناك؟
رددت بسرعة: نعم للأسف..سمعت ان جميع اجهزة أمن الوطن لم تستطع التنبؤ او السيطرة على تلك الاشباح المسلحة التي كانت تطلق النار عشوائيا على الجميع..ولكن الشيخ رزوق كتب لهم رقية "طفشتهم" والحمد لله..والأمن مستتب الآن..
لم يبد ان عبد السلام كان يستمع لي.. قلت بهدوء: يقال ان للأرقام سرا خاصا في التعامل مع عصابات الجن والاشباح.. لربما لم يكن عدد الاجهزة الامنية هو العدد الصحيح لمنع هذه الاشباح.. اقترح ان يراجعوا عالما روحانيا لتحديد الرقم الصحيح..
صمت عبد السلام استفزني.. فقررت الكف عن محاولة استفزازه... بقيت ارقبه ربع ساعة كاملة وهو واجم يطرق راسه في الأرض.. وصل الشاي ولكن عبد السلام لم يرفع رأسه لينظر إلى كاسه...قلت هامسا: هل رأيت ما حصل في المسجد؟ بدا عليه بعض الاهتمام وقال: نعم... الله يرحمهم.."
رفع كاس الشاهي إلى شفتيه ثم اخفضها دون ان يرتشف شيئا .. ثم قال باسما ابتسامة حزينة تظهر انه يصطنع الطبيعية: هذا افضل شاهي في العالم!"
كنت اعرف ان طعم الشاهي في هذا المطعم يشبه طعم مياه الغسيل في مطعم الجيش الذي امضيت فيه عامين كاملين..تبسمت قائلا: هل جربت طعم شاي ايرل غراي؟ نظر إلى عبد السلام ولم يرد.. تابعت: هل تذوقت طعم الشاي الاخضر بالنعناع في مقهى مغربي في احدى شوارع كازابلانكا الجميلة؟ هل تذوقت الشاي العراقي على رائحة شواء السمك في قارب يسبح في مياه دجلة؟ هل شربت كاسا من الشاهي الصيني؟ الهندي ...البريطاني.. ؟
رد بابتسام مصطنع: هذا "شواهي" امبريالية لا يتناولها المناضلون..
رددت متابعا: اذا كيف حكمت ان هذا الشاهي هو افضل شاهي في العالم ..لربما لو سمح لك بتذوق تلك الشواهي لما وجدت هذا الشاهي يصلح للاستخدام البشري أساسا!.
لم يرد.. فتابعت: لربما يحق لك القول ان هذا الشاي هو افضل شاهي تناولته في حياتك البائسة ايها المناضل.. لكن بالتأكيد هناك وارء البحار شواهي اكثر روعة..هناك طعومات والوان وحيوات افضل بكثير مما تعتقد انه الافضل.. لكنه تجهل جماله لانك لم تتذوقه.."
لم يبد عبد السلام أي اهتمام بكلامي..فكرت ان اعود للحديث الذي اثاره فقلت وانا انظر للأفق : يا ترى ما هو ذلك الاحساس الذي يمكن ان يحسه انسان يشعر بالحرية في بقعة صغيرة من الوطن بمساحة مصلى مسجد رغم ان الرصاص يزغرد فوق رأسه.. قلبي يتمنى لو أنني كنت هناك ..معهم في المسجد.. اتنشق عبير الحرية ولو انها ستكلقني حياتي كما كلفتهم.. ولكن عقلي ينظر لافراح الوطن ويقول.. ما انا إلا من غزية إن ثغت...ثغوت وإن ترقد غزية أرقد..فلمن اناضل طالما انني في النهاية مجرد "شاة قاصية" يحتفل الوطن بسفك دمها؟
..صمتت قليلا ثم قلت: اصارحك القول..لكم اتمنى لو كنت هناك...
رفع عبد السلام راسه..كانت عيناه تشع بالم كبير وتكاد تنفجر حمرة وكأنها بركان متوقد..ثم قال محشرجا والدمع في عينيه: ابن عمي كان هناك.."


ملاحظة: كتبت القصة اعلاه في بدايات الثورة السورية.. عندما خرجت المسيرة المليونية لتأييد الرئيس.. تقريبا في اواخر الشهر الثالث آذار وكان الكثير من المراقبين استغربوا خروج مظاهرات بينما كانت درعا تتعرض لاطلاق النار واستشهد منهم كثيرون..