المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : برق سحابة لم تمطر الجزء الثاني



ابوشادي
07-26-2010, 02:46 PM
طلب من فياض دعوة الأقارب للمشاركة في مراسم التشييع فيما يعد هو للجنازة
بدأت حلقات الحصار الأسود تضيق حولي حتى استحكمت ففي كل ركن ٍ لي ذكرى مع حبيبة رأيت الدنيا من خلالها يوم كنت أضع أول لبنات شخصيتي وفي كل زاويةٍ وكل شارع أذكر لحظة ود ووفاء حزنٌ وفرح
أحلامٌ ضيعنا سني شبابنا الأجمل نحلم بها رحيل مجد أحدث شرخاً عميقاً في ذاتي أدركت مداه يوم أفل وليد عائداً من حيث آتى بعد أن همس في أذني أن لا أحاول السباحة في بحر الذكريات ضد تيار الأيام التي ستعدو ربما من فوقي إن استطع الصمود
كان عرض السفر الذي رفضته قبل أيام لا يزال قائماً فانتهزتها فرصة للابتعاد عن الأجواء المشحونة بالحزن لعلي وهناك في بلاد الاغتراب أستطيع استعادة ثقتي بنفسي وتفاؤلي بالحياة
واجهت معارضة ً شديدة من والدتي خصوصاً بادئ الأمر ولكنها وبفضل مساندة أخي هادي رضخت ووافقت على سفري
خرجت من الشام ولم أخرج من أحزاني لم أخرج من غربتي بفقد حبيبتي وأصدقائي بل حملتها معي تاركاً حنان الوطن الدافئ لأسوح على أرصفة البرد في أسبانيا
صمت الضعف في رجلٍ هدته الأيام مبكراً صمتت القوة صمت كل شيء وسيطرت الوحدة على ذاتي فرحت أنغمس في العمل ما استطعت متجنباً أن أكون وحدي مع ذكرياتي بت أخاف من وسادتي والضوء الأزرق الخافت في غرفة نومي
وجدت مقهى دمشقي في قرطبة العرب فرحت أتردد عليه استنشق رائحة الشام من بين حبات الفول المدمس إن شئتِ
كنت أقضي الكثير من الساعات هناك أسمع فيروز الشرق مبحراً في ذكريات سويعات العشق التي أبتلعها القدر زمناً ولم يمسها حقيقة
وحيداً لم أجرب حتى التعرف على أحد رواد المقهى من العرب أو السوريين
كنت أسمع تعليقاتهم التي تصفني بالغرور والتعالي لكني لم أكو أحاول الدخول في أي جدل مع أحدهم
يومٌ ربيعيّ ٌ هادئ هدني فيه التعب بعد خمس ساعات قضيتها في شوارع غرناطة أمشط أروقت الطرقات جلست لمقعد خشبي في أحد القصور العربية الأندلسية العتيقة
فإذ بهر هرم يتمسح بي يدخل في معطفي طالباً الدفء ويخرج ـ يبدو أن له جدوداً عربية يشتم رائحتها في جسدي ـ
استفزني شابٌ يستند على حائط ارتفعت عليه لافتة تعرف عن القصر بأنه كان مسكن السلطان المنصور مؤسس دولة الموحدين في القرن الثالث عشر فبدأت أفتش بين الجدران بعيني عن ابن رشد لعلي أجده يخرج بتهافت الفلاسفة من شقوقها
كان الشاب يقف مستنداً على العود تقدمت نحوه وطلبت منه أن يقرضني عوده لدقائق

ابوشادي
07-26-2010, 02:46 PM
كلمته بالعربية ورد عليّ بالفرنسية بلكنة تبدو مغربية المهم أنه لم يرد طلبي
أخذت العود أغلقت عيني ورحت أعزف وأعزف..
رغم أن صوتي لم يكو شجياً إلا أني وجدت نفسي أغني
بين ريتا وعيوني بندقية
والذي يعرف ريتا ينحني ويصلي لآله العيون العسلية
وأنا قبلت ريتا عندما كانت صغيرة
وأنا أذكر كيف التصقت بي وغطت ساعدي أحلى ضفيرة
وأنا أذكر ريتا كما يذكر عصفورٌ غديره
بيننا مليون عصفور وصوره
ومواعيد كثيرة أطلقت ناراً عليها بندقية
بين ريتا وعيوني بندقية
والذي يعرف ريتا ينحني ويصلي لأله العيون العسلية
أه ٍ ريتا أه ٍ يا إله العيون العسلية
اسم ريتا كان عيداً في فمي
جسم ريتا كان عرساً في دمي
وأنا ضعت بريتا سنتين
وهي نامت فوق زندي سنتين
وتعاهدنا على أجمل كأس
واحترقنا في نبيذ الشفتين
وولدنا في نبيذ الشفتين
والذي يعرف ريتا ينحني ويصلي لأله العيون العسلية
أه ريتا ..أه ريتـــــــــا
وضاع صوتي في بحة الحزن تخنقه العبرات بينما أعادني هدير التصفيق من بحر التأمل وأوقف عومي بين الذكريات
فتحت عيني لأجد بعض عشرات من زوار هذا المعلم الأثري وقد تحلقوا حولي بينما كنت أعزف ـ معجبين بما سمعوا ربما ـ
أعدت العود لصاحبه ومضيت أطلق سحبات الدخان خلفي لتمحي آثري
لكني سمعت من ورائي منادٍ يقول :
أرجوك توقف يا عربي ..اسمعني
توقفت فلما أدركني عرف عن نفسه أنه أحمد طبيبٌ سوري دمشقي يكمل دراسته في الأندلس ـ كما سماها ـ
دعاني لشرب فنجان قهوة وهناك أصر على اقتحام وحدتي , وفعل لأنني أنا ذاتي كنت قد مللت انغماسي في مستنقع اليأس البائس وبت بحاجةٍ لصديق يوسع أمامي فسحة الأمل ويهون عليّ مرارة الغربة
قال لي أحمد أنه عارض الجميع في نظرتهم لي كمغرور متعالي موضحاً وجهة نظره بأنه يعتقد أني واجهت مشكلة ما دفعتني للهروب إلى الغربة وهذا ما أظهر مشكلة جديدة ألا وهي عدم التأقلم مع هذا الجو الجديد

ابوشادي
07-26-2010, 02:47 PM
دفعني أحمد ـ ولن أطيل عليكِ ـ للدخول شيئاً فشيئاً في جوقة المغتربين الفنية
وبدأنا نقيم الحفلات الموسيقا للجاليات العربية
كنا خمسة شباب وثلاث فتيات سوريان ولبنانيتان وتونسية مصري وفلسطيني وعراقي أنشأنا فرقة الموحدين العرب الجديدة
بدأنا نحصد بعض النجاح بل وصار لنا حضورٌ مهم في كثير ٍ من المناسبات الهامة
لكني لم أدخل بمشروع صداقةٍ حقيقية إلا مع أحمد الذي سررت له ببعض ذكرياتي
تدافعت الأيام اليوم إثر اليوم والشهر بعد الشهر وجاءني خطاب هادي يطلب من العودة للشام لحضور حفل زفافه على هاله
طرت إلى دمشق مع أول فرصة يحملني الشوق لأهلي والحنين لوطني الحبيب وفيما كنت أطالع ذكرياتي وأستذكر بل أستحضر الأماكن والملامح التي ما غيبها النسيان عن عقلي أبداً قمت باتصالٍ هاتفي مع وليد أدعوه للحفل وأحسه على القدوم إلى دمشق لنرتب هناك لقاءً عزّ علينا من زمن ٍ
استقبلت استقبالاٍ حاراً وحميميّ ً في المطار ولكني سرعان ما انغمست في متاهات الإعداد لليلة السعيدة
حدثت في غيابي الكثير من التغيرات التي فاجأتني ـ وإن كانت متوقعة ـ ها هو شقيقي الأكبر وقد أصبح طبيباً وجراحاً معروفاً
وها أنا أرى في بريق عينيه جمال الدنيا يلمع لما يعانق السعادة على بساط الفرح الطائر فيمضي بخطى واثقة نحو المستقبل الزاهر بالأمل يداً بيد مع من قاسمها ضربات القلب حباً
ما إن زفّ العروسين حتى انسحبت هائماً على وجهي أقلب شوارع دمشق معبراً لها عن شوقي الحنين , ساعاتٍ وساعات لم أدرك عديدها إلا عندما وصلت إلى الجامع الأموي فخلعت نعلي ودخلت لأصلي ركعتين لله كي يلهم الشام أن تسامحني على هجرها
وفي اليوم التالي أيقظني رنين الهاتف في الساعة الواحدة والنصف تقريباً لأفاجئ بوليد يحدثني من الشام لقد وصل ليلة أمس وحاول الاتصال بي لكنه لم يجدني ضرب لي موعداً مشتاقاً قرب تمثال صلاح الدين بعد ساعتين
عناقٌ طويل وعتاب حب ثم قصدنا مقهى نشرب فيه النرجيلة ونحتسي القهوة كعادة أيام ٍ خلت بيننا ,حدثني وحدثته عن كل ما جرى معنا مذ افترقنا
لكنه ودون سابق إنذار ضرب بيده على الطاولة بكل ما أوتي من قوة وصرخ
ألست خجلاً من نبرة اليأس وكلمات الاستسلام التي تتفوه بها تبدو يا صاح كطفل ٍ أضاع ثمن خبز إخوته ويخشى أن يعود دون خبز كي لا يؤنبه والده
قد يكون قلبك قد تحطم أو قد تقول لي أنه فطر لكنه لم يمت وأنت لم تموت
فإن نبع التفاؤل فينا قد قرر أن يموت
" أمسكني من لحيتي بعنف " تريد أن تموت ..حسناً..!
أرمي نفسك في هذا الوادي فلن يضيره أن يبتلع شبه إنسان هد شموخه الضعف
امضي لأنسى أنا أني عرفت ..أني عرفتك
هزتني كلمات وليد من العمق فقد عزف على الوتر الأكثر ألماً الأكثر

ابوشادي
07-26-2010, 02:47 PM
عزف على وتر القوة التي كنت أتباها بها والثقة التي كانت تشبعني تميزاً وألقّ َ
ثم قال لي وليد وهو يمضي : سأكون في نفس المكان والزمان غداً فكر جيداً فإن عدت إلي شادي الذي كنت أعرف فذاك خير وإن لم يكو فستضيف صديقاً آخر إلى قائمتك التي ستطول كثيراً وكثير
لم يكو أمامي سوى خيارين أعيش كما يجب أن أعيش أو أجلس على رصيف الصبر وأنتظر ملاك الموت
يومٌ طويل عنفت فيه نفسي أعنف ما عنفت وجلدت ذاتي بسياط الذنب والخطيئة إلى أن برأت
أشهرت فيه كل أسلحتي بوجه ذاك الشبح ذاك المارد اليائس الذي صنعته بيده وأسكنته أصغر أجزائي وملكته حرية التحكم بكل شيء
لم يكن الأمر بالسهولة التي تجعلني أنتهي من ذاك الوحش بين ليلةٍ وضحاها فالزلزال الذي أحدثه وليد حرك المياه الراكدة وشق قشرة الأرض اليابس المحيطة بقلبي
كنت أحتاج لانفجارٌ آخر يخرج حمم التغير وكان ذاك في اليوم التالي , جاء الصديق ونظر نحوي بوقار ثم قال بتجهم :
هل قررت ..
ـ على رسلك الأمر ليس سهلاً كما تتصور يا صديقي
ـ ربما لن أكون كذلك بعد لحظة
ـ حسنٌ أعدك
ـ وأنا أعطيك فرصة " وأشار بيده فتقدمت تدفع أمامها عربة أطفال " مجد الصغير
قبلت الصغير ثم عانقت صديقي بحرارة شاكراً له وقوفه معي فربط على كتفي وهو يقول الآن عاد شادي حقاً أ لم أقل لكِ أنني سأنجح " وقهقهة ضاحكاً " ما رأيك أن نعيد اكتشاف الشام تعالى نعرف مجد الصغير على عشقنا الأول
زرنا أول ما زرنا قبر مجد كدليل على صدق نواياي بالتغير
استطعت انطلاقاً من تلك اللحظة أن أستعيد ثقتي بنفسي وأنا أخلص إلى قرار سأعيش على هواي ما دمت أقترض من الدنيا الهواء وأقرضها زفراتي سأبحث عن أرض ٍ جديدة أضع عليها لبنات مستقبلي الذي ستتضح صورته الكاملة هناك في أسبانية ستكون لدي الوقت الكافي لترتيب أوراقي
قلبت الصفحة وبدأت من أول السطر وكما قال لي جدّ ذات مرة
يا ولدي الضربة التي لا تقسم ظهرك تقويك
عدت إلى أسبانية مفعماً بالحماس وبعد راحة ليوم واحد توجهت للمقهى المعتاد في تمام الساعة الثالثة ـ كعادتي ـ ودخلت بابتسامةٍ عريضة تكاد تأكل وجهي
هناك ولما رأى أحمد ذاك التغير الواضح على تصرفاتي ولمس انطلاقي بل انطلاقاتي القوية نحو الدنيا مخلفاً ورائي كل رواسب الماضي الحزين
وبينما كنا نحتسي القهوة قال لي :

ابوشادي
07-26-2010, 02:48 PM
لم أكن الوحيد الذي اشتاق لك بل كان أو كانت هناك من تنتظر عودتك بفارغ الصبر لا وبل كانت تأتي كل يوم وفي نفس الموعد تنتظر قدومك ثم تمضي بعد أن تسأل النادل عنك
ـ " سألته باستغراب " ومن تكون هذه الفتاة
ـ أنا لا أعرف من تكون لكنها جالسة ٌ على الطاولة التي خلفك تماماً وهي لم ترفع عينيها عنك منذ جلست
ـ ربما هي معجبة ٌ بلحيتي الطويلة فحسب .. ثم عزوة الأمر للصدفة البحتة
لا أخفيكِ لقد سرقت نظرة لتلك الفتاة نظرة فضول لا إلا
فلم أكن أتوقع أن هذا الحديث أو تلك النظرة ستحرك في مشاعري شعرة ً واحدة
ولكن ولما أخليت بوسادتي رأيت طيف تلك الفتاة يلوح حولي
تلك العيون العسلية الرائعة كأنها عيون مها وتلك الملامح الشرقية الهادئة وذاك الشعر الأسود الطويل شعر مها
كأنها ومها قد شربتا من ضرع الجمال ذاته إن بينهما شبهاً كبيراً لا أدري ربما رأيت أنا فيها مها عشقي الأول كل النساء كانت هي بنظري
لم أنم في تلك الليلة وفي اليوم التالي أطلعت أحمد على صورة مها دون أن أطلعه على هواجسي
فكان رده المباشر والسريع إنها تشبه فتاتنا من أين حصلت على هذه الصورة
لم أجبه بل توجهت فوراً نحو طاولتها وكانت قد أنهت طعامها للتو سحبت الكرسي ثم قلت لها
شادي ..شادي العربي قحطان
جاء النادل فقلت له قهوة وسط للآنسة وكالعادة لي
لم أتكلم وكذا فعلت جاءت القهوة وشربت فنجاني وأنا أطالع بريقاً غريباً بعينيها بريقاً يخفي جملة أسئلة تريد طرحها وأشياءً مبهمة ً لم استطع تفسيرها
بينما كانت عيوني تختفي خلف نظارة ٍ سوداء
كنت أريدها أن تتكلم , وما فعلت دفعت الحساب كاملاً وهممت بالذهاب وهي لا تزال واجمة بردت قهوتها ولم تشربها
صارعت رأسي الأفكار في تلك الليلة الماطرة أنا نفسي لم أعرف لماذا فعلت ذلك
ربما كنت أجرب نفسي أن كانت قادرة ً على ..على ماذا ..؟
أتراني أحببتها من أول نظرة ..؟
ثم هل تحررت من ماضيّ هل أستطيع أن أكون صادقاً إذ أعبر عن مشاعري لغير مها
قلبت الأمور يميناً ويسار إلى أن وصلت إلى قرار ليس بالضرورة أن تلك المشاعر والأحاسيس التي تخالجني هي مشاعر حب
وما دمت قد قررت اقتحام الحياة فعلي أن أستخدم كامل أسلحتي وعلى كل الجبهات دون أن أقامر بما لا أملك
فإما أن أستعيد ثقتي بقدرتي على الحب من جديد أو أسقط صريع الذكريات لأضيع في متاهات تجربة الحب الأول اللامنتهية

ابوشادي
07-26-2010, 02:48 PM
في اليوم التالي كنت هناك قبلها أجلس على طاولتها جاءت تدفع الخطى واثقة كأنما قد اتخذت قراراً ما
ألقت عليّ تحية الإسلام وجلست
إنها عربية وهذا رائع
عرفت عن نفسها وبنفس أسلوبي
بيسان حسن الساحر
ـ عربية؟
ـ والدي فلسطيني وأمي تونسية لكني لم أزر القدس ولا حتى أي بلدٍ عربي في حياتي ووالدي كان يرفض دائماً العودة للوطن من مطار يحمل اسم إرهابي ٍ سفاح أو يطأ أرض أجدادي وهي مدنسة بالاحتلال الذي قتل جدي وجدتي وشرد عائلتي
كان لقاء تعارف بسيط تبعه الكثير من اللقاءات والحوارات تعمقت معها وتوطدت علاقتنا
ثم بدأت رابطتنا تأخذ منحاً بل مناحي ثيرة غير تلك التي أسست عليها مع تدافع المواضيع والمواقف على دربنا
فعرفتني بيسان على السيد حسن الشاطر والسيدة أمينة المرزوقي والداها اللذان اعتبراني وعاملاني كولدهم مما خلق حولي جواً عائلياً حميماً كنت بأمس الحاجة له لإكمال عملية الانتقال التي عزمت على القيام بها
قالت لي بيسان عندما سألتها عن سر اهتمامها بي وسؤالها المتكرر عني على الرغم أنه لم يجري أي حديثٍ بيننا قبل سفري للشام
قالت أن لمعة غريبة كانت تبرق بعيني أثارت فضولها وجلوسي دائماً في نفس الموعد على الطاولة التي تجاور طاولتها سمح لها باستراق السمع أحياناً لأحاديثي مع أحمد استفزها لكسر هالة الغموض وحاجز الوحدة الذي يحيطني
وقالت أيضاً أنها كانت تعتقد أنني فلسطيني الموطن لما أحسته من تأثر في طريقة غنائي وعزفي للكثير من الأغاني الوطنية التي كانت تميز فرقتنا الموسيقيا
فلسطين التي لم تعرفها سوى بلداً على خريطة هذا العالم أو ذكريات عجوز يحكي عن ساحاتٍ و زواريب وبيارات كان يلعب بينها يوم كان طفلاً صغيرة
لكنها ولما عرفت أنني سوري أدركت معنى أن يكون المرء عربياً وعمق الروابط التي تشد أبناء هذه الأمة إلى بعضهم
تشعبت الأمور كثيراً يا عزيزتي أمامي في حين نبتت تلك البذرة التي زرعناها لتستحيل شجرة تظلنا بأغصان الشوق والود والحب
نعم يبدو أني استعدت قدرتي على الطيران في سماء الحب وهنا طفت على السطح مشكلة كبيرة تمثلت في عدمت قدرتي على التحديد هل أنا أحب بيسان متحرراً من لعنة الحب الأول أم أن تلك اللعنة لم تعتقنا هي التي تدفعني للاعتقاد أني أحب بيسان بينما أنا استحضر صورة مها من خلال الشبه بينهما
كان لا بد من المواجهة فبعد ليلةٍ قلبت فيه الأمر على كل جانب قررت أخراج رقم هاتف مها من رقاده واتصلت بها واضعاً كل مشاعر تحت المحك والتجربة الأقوى

ابوشادي
07-26-2010, 02:49 PM
التي سأثبت بها قوتي على الزمن أو تثبت الأيام لي أنها قد هزمتني ودهست قامتي بجياد تقدمها
خير وسيلة للدفاع هي الهجوم هكذا كان يقول لي جدي رحمه الله
كلمتها واستطعت بإعجاز تمالك أعصابي رغم أني أحسست بالبراكين تثور في صدري فتحرق جنبات قلبي عندما سمعت صوتها للمرة الأولى مذ افترقنا آخر مرة ولا أنكر أن الشوق مزق المسافات بيننا مما دفعني أميل إلى الاستسلام
لكنني ولما كنت عازماً على وضع النقاط على الحروف راسماً معالم الطريق الذي سأسلكه انطلاقاً من هذه اللحظة قررت المضي في التحدي
حدثتها وسألتها عن أخبارها فطالت المكالمة وهدأت معها ثورة البراكين شيئاً فشيء وفتر الشوق إلى أن استودعتها الله وأنا اسمع صراخ رضيع ٍ إلى جوارها
أدركت بعد تلك المكالمة أنه صار لمها حياتها الخاصة مترفعة عن الماضي ورافعة ً ذكرياتها إلى رف الوحدة والتأمل للحظاتٍ كانت جميلة ولا يزال طعمه حلواً في قلوبنا
وأنه يجب أن يكون لي حياتية الخاصة أيضاً حسبي ما أضعته من سني عمري باكياً على الأطلال
كانت تجربة قاسية ً ومهمة في آن لكني خلصت في نهايتها للخلاص من جل العقد التي قيدتني زمناً طويلاً
إذاً أنا أحب بيسان لأنها بيسان جسداً وروحاً وفكر وقد لاحظت ـ ولا يحتاج ذاك للكثير من الحذق ـ أنها تبادلني نفس الشعور
لم أذهب إلى المقهى ذاك المساء لا وبل تركت منزلي وانزويت في فندق ٍ هادئ على ضفاف المتوسط ثلاثة أيام دون أن أخبر أحداً متعمداً أن استفز مشاعر المرآة في بيسان وأعدها لمواجهةٍ كبيرة
يجب أن أجج نار الشوق في قلبها وأرفع منسوب الحب في دمها وعلى طريقة الفاتحين العرب سآتيها فارساً نبيلاً يقتحم أخر المحميات الغربية فيها لأرمي سهم الهوى وأمضي على درب النوى
رصداً ردة الفعل الأولى كما أتيتها أول مرة غامضاً سأمد لها يدي لتمضي معي
دخلت المقهى متأخراً عن موعدي المعتاد نصف ساعة وأربعة أيام بعد أن تأكدت أنها قد ملت الصبر وهي تنتظر وصولي بين لحظةٍ وتلواها
بلهفة وشوق قالت لي :
أين كنت لقد أنشغل بالي عليك
وبثقة وهدوء أجبتها وأنا أجلس طالباً من النادل فنجاني قهوة :
ستعلمين لاحقاً بكل شيء ولكنك الآن يجب أن تطلعي على شيءٍ مهم
ـ وما هو يا ترى الذي دفع للانقطاع عنا أربعة أيام دون أن تكلف نفسك عناء اتصال ٍ هاتفي سريع
ـ قلت لكِ ستعلمين كل شيء في وقته المناسب والآن اسمعي وعي ما سأقول
كان ذاك من عدة سنين عندما كنت شاباً لم يقطف الزهرة الثانية والعشرين من عمره بعد أملك الكثير من الأحلام الوردية مفعماً بالاندفاع نحو المستقبل المشرق

ابوشادي
07-26-2010, 02:49 PM
يوم قابلت مها أول مرة ورويت لها قصتي مع مها إلى أن افترقنا كنت أتكلم وأرقب نار الغيرة والغيظ تقدح من عينيها ـ كان لسان حالها يقول وآسفا ا وبعد كل هذا الحب الذي أكنه له يأتي بكل برود ليرمي في أحضاني مآسي قلبه المولع بفتاةٍ ثانية ـ " وبنما هي على هذا الحال أخرجت من جيبي صورة مها وأعطيتها إياها "
وقبل أن تؤتي بأي ردة فعل ٍ أو تعليق غير الجمود الذي أصابها تابعت وأنا أخرج الولاعة من جيبي
دمرت الظروف قصة حبي الأول وسحقتها ,وأحرقت الأيام آمالي وأحلامي الليلكية آنذاك وسلبت الأقدار حتى النور من نجوم سمائي
وفجأة ً طلعتي علي أنتِ كل البدر تبنين على ركام ما حطمته الأيام صروحاً براقة
وها أنا وبيدي أحرق دمعة ذكرياتي " وأشعلت النار بالصورة" لأتقدم نحوكِ غراً طاهراً لا يملك ألا مشاعره الصادقة يهديكِ إياها حباً وعشقّ َ لو تقبلي دعوتي للوطني
إني أحبك ... أحبك ..
قامت بل قفزت من مقعدها كمن أدركتها صاعقة وشدتني من يدي قائلة : قم هيا قم الآن إلى والدي لتطلب يدي قبل أن تغير رأيك قبل أن أموت أنا من الفرح
وهذا ما فعلته فعلاً لكني عرضت على عمي أن يكون حفل الزفاف في نهاية الشهر القادم في الشام حيث سينتهي عقد عملي وسنعود لنقضي أحلى أيامنا على أرض الوطن فوافق ووافقت
مرت الأيام سريعة ً ممتعة وبدأت أحس بصداع مرعب يفتك برأسي فذهبت سراً إلى أحد المشافي وأجريت هناك بعض التحاليل والفحوص وقالوا لي هناك أنه ناتجٌ عن بعض الإرهاق والصدمات النفسية والعصبية وسيذهب لحال سبيله مع الراحة والالتزام بالدواء
لم أعير الأمر كثيراً من الاهتمام خصوصاً أن ذاك الصداع كان يأتي على شكل نوبات متباعدة وسرعان ما يذهب مع تعاطي الدواء والركون إلى الراحة عدنا إلى تراب الوطن نحمل أحلاماً وآمال كبيرة مؤمناً أن أجمل الأيام هي تلك التي لم نحياها بعد
حطت بنا الطائرة لأهبط شابكاً يدي بيد بيسان متقدماً نحو مستقبلي أرى الدمع يرقرق في عيني أمي وأنا أقبل يدها دمعة فرح ٍبعودتي ودمعة سعادة برؤية بيسان التي عرفتها بشقيقة الروح من جسدي وحبي الأجمل لهم في رسالتي الأخيرة
بارك لي الأهل نيتي على الزواج كان كل شيءٍ جميلاً وبدا لي كأن الدنيا بدأت تريني وجهها الجميل أخيراً فلا شيء ينغص عليّ فرحي اليوم إلا اضطرار هادي للسفر كي يحضر مؤتمراً طبياً في السويد
قرر حسن الشاطر أخذ أبنته ليعرفها على أعمامها وأبناء عمومتها في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان فانتهزت أنا الفرصة للتفرغ لإكمال ترتيب أمور عرسي إلا أن ذاك الصداع عاد يفتك برأسي وبقوة أعلى هذه المرة راجعت طبيباً

ابوشادي
07-26-2010, 02:50 PM
وأجريت التحاليل والصور لكن رد الطبيب لم يعجبني وشممت رائحة الكذب أو إن شئتِ بعبارة أكثر تهذيباً لقد أخفى عني الحقيقة أو لم يسوقها لي كاملة
فسألت طبيباً آخر فطلب مني تحليلاً جديداً زادت هواجسي فحملت التحليلين إلى طبيباً ثالثاً مدعياً له أنه لصديق يعز عليّ فجاء الجواب الفاجع
صاحب هذه التحاليل مصاب بمرض سرطان الدماغ وسيعيش سنة على أبعد حد
صعقت لما سمعت هذه الكلمات وأيقنت من صحتها قاطعاً دابر الشك بأربعة تحاليل عرضتها على سبع أطباء جاء جوابهم المشترك
سيفقد المسكين بصره ثم ينتظر الموت عدة أيام ويدخل في موتٍ سريري لعدة أشهر في أحسن الأحوال هذا إن لم يسقط صريع الموت مباشرة
أسودت الدنيا أمامي وسدت السبل ..أ والآن وبعد أن برأت من صفعت القدر الأولى
عام كامل أم عامٌ فقط ..
كيف سأقضي خمس ٍوستين وثلاث مئة ليلة منتظراً الموت ..
أم مودعاً الحياة
أ هو عمرٌ آخر بل أخير سأعيشه لعام ٍ واحد أم هي محطة ٌ قريبة أعد حقائبي لأهبط فيها أراها قريبة وأراها بعيدة ولا أدري
رحماك يا ربي رحماك من هذا العذاب
الموت حقيقة وأنا لا أخشاها فكل نفس ٍ ذائقة الموت ولكني الآن والآن فقط لست وحيداً صار معي من يهمني أمره ويهمه أمري
لن أظلم تلك المسكينة معي وأحكم عليها بأن تعيش أحلى أيام عمرها مع رجل ينتظر الموت كل صباح ويهرب منه في المساء
لن أخبر أحداً بحقيقة مرضي وسألعب آخر أدوار البطولة على مسرح حياتي لا لأكون بطلاً ولكن كي لا أرى نظرات الشفقة في عيونهم تقتلني في الليلة ألاف المرات
وسأحاول الابتعاد عن بيسان كي تنساني حتى لو ب*** أمامها خائناً أو نذلاً خير لها من أن تهيم بي ثم تفجع
عزمت على هذا وأخذت قراري الذي لن أتزحزح عنه مهما حدث عدت إلى منزلي مثقلاً بالهموم أدعي الفرح ادعاءً وأرسم على وجهي ابتساماتٍ زائفة محاولاً أن أكون طبيعياً كي لا يلاحظ أحدٌ ممن حولي أي تغير ٍ يطرأ علي
عاد هادي من مؤتمره والأمر يزداد سوءاً على سوء فلم يكو من السهل دراسة كل حرف وحركة أقوم بها وإخفاء ألامي الرهيبة عن الجميع فكثيراً ما كنت أسهر الليالي أجلد نفسي تأنيباً على ما فعلت في اليوم الماضي كنت أمام مفترق طرق أمامي درب الحياة والتمتع بملذاتها قبل أن أفارقها
ودرب الآخرة والإستذادة للقاء وجه الكريم
وكما أي مؤمن ٍ عاقل التزمت الطريق الصحيح والصراط المستقيم غارقاً في طاعة الله عز وعلا تائباً إليه
وكان في ذاك راحة لقلبي ومهدأ لروحي ومعيناً لي فيما أنا مقدم ٌ عليه

ابوشادي
07-26-2010, 02:51 PM
كان السماء ترسل علينا رسلها غيثاً كريماً وأنا أجلس في غرفتي منزوياً عن العالم عندما دخل علي هادي يحكي لي كعادة أيام زمان مشاكله ويفرغ في جعبتي همومه
فهناك ضغوط كبيرة تمارس عليه من الآهل ليتزوج على هاله لأنها عاقر لا تنجب الأولاد وهو يحاول الصمود أمام بل تحت هذه الضغوط لأنه يرى الحياة نبع من خصلات شعر هاله ـ حسب تعبيره ـ
وراح يحثني على الإسراع بعقد القران لأريح كاهله من ذاك الضغط فهم يريدون حفيداً وهذا ما سأحققه أنا لهم فيما لو تزوجت وأكرمني الله بالخلف
هدأت من روعه وبشرته خيراً إن شاء الله تعالى ومضى راضياً عن ما سمع مني
يا إلهي أ كنت بحاجةٍ لضغط جديد ارتديت معطفي ورحت أصارع حبات المطر في ظلمة الليل الحالكة على شوارع ٍضاعت معالمها
هدني التعب وسحقت رأسي الأفكار فاستندت على حائط قديم أدخن آخر سيجارةٍ في علبتي وقبل أن أغفو أيقظني المؤذن يرفع صوته لصلاة الصبح
دخلت المسجد وصليت وبعد الصلاة جلس الإمام يحدثنا في الدين والفقه إلى أن طلعت الشمس فأذن لنا بالذهاب مأجورين غير مأمورين
لكني لم أذهب بل جلست أحدث نفسي أن هذا هو الرجل المناسب لتحدثه وتخرج ما بصدرك من هموم أمامه ثم تستشيره وتستفتيه في أمرك
فهو من جهة وكما يبدو عليه ويظهر من حديثه رجلٌ حكيم عارك الدنيا أكثر من نصف قرن ومن جهةٍ أخرى فهو لا يعرفني وقد لا أراه أو يراني غير هذه المرة وهذا ما سيبعد نظرات الشفقة ويمنعها من أن تطاردني بعد اليوم
حكيت له بصدق قصة مرضي وحكاية حبي ثم سألته المشورة فقال لي : يا ولدي
" لا تدري نفسٌ ما تكسب غداً ولا تدري نفسٌ بأي أرض ٍ تموت " صدق الله العظيم
الأعمار بيد الله تعالى يا ولدي ولا يعرف أحد متى يتوفى إلى ربه فما أدراك أنك ستعيش حتى الغد لتخشى موتاً قد يأتي بعد عام ٍ كامل
قد تقول لي أن العلم أفتى بهذا الأمر وعلينا التعاطي بالأسباب وهذا صحيح ولكني ولو فرضت جدلاً أن الصور والتحاليل والتشخيص لا تدنو للغلط فإني أسألك ألا يمكن لهذا العلم أن يأتي بعد أحد عشرة شهراً بدواءٍ وعلاج لمرضك هذا
ثم إنك يا ولدي قد جئت بخطيبتك من بلاد بعيدة وهي الحب الذي وصفته لي واعداً إياها بأن تظلها تحت جناحك بمنزل الزوجية فكيف تسمح لنفسك بكسر قلبها وتركها كطائر مجروح لا تملك القدرة على الطيران
اتقي الله في قلوب العذارى وسيدنا محمد توفي وهو يوصينا بالنساء خيراً
هيا قم يا ولدي وتوكل على الله سبحانه وتعالى شأنه وأتم ما بدأت فإن خير الأعمال في خواتمها ولا تنسى أن تدعوني للعرس والله ولي التوفيق
أراحتني كلمات الشيخ الحكيم وأثلجت قلبي , لعل وأعترف لكِ أنه قال ما كنت أريد سماعه وأني كنت أريد مبرراً أريح فيه ضميري وأقنع نفسي أن زواجي من بيسان لن يكون بدافع الأنانية بقدر ما هو مدفوعٌ من الحب والإيثار

ابوشادي
07-26-2010, 02:51 PM
عادت بيسان من لبنان وطلبت منها الإسراع بالأمر بينما انهمكت أنا بالعمل في الشركة في محاولةٍ مني لجني بعض المال ليعيلها بعدي
وكان حفل الزفاف في الرابع من نيسان على بعد تسعة أشهر من النهاية
كان حفلاً بهيجاً أنساني للحظات أني رجلٌ حكم عليه بالموت في ربيع العمر
فهذه ليلتي التي حلمت بها من زمان ٍ ماضي وآخر آتي هي أروع ما لي في حياتي فمعي الهوى كله والأماني فها هو الحب يبدل الحال ويدفع العصافير لتهجر الأوكار
مضت الأيام بطيئة ًقاسية حيناً وسريعة رائعة حين وحدث ما كان يتمناه هادي وهالة وما كنت لا أريده أن يحدث الآن على أقل تقدير فقد أثمر حبنا جنيناً
فاستبشرت خيراً به ودعوت الله أن يمد بعمري لأراه قبل أن أموت مع أنني لم أكو أتمنى له أن يقبل على الدنيا لا كما يأتها الأطفال فاقداً أحد أبويه لكنها مشيئة الله عز وجل وإنه له بها خدمة ً لا تدركها عقولنا الصغيرة
بدأ يستفحل الألم برأسي وأصبحت بحاجةٍ لدواء مركز ليهدأ الصداع الذي يفتك بخلايا دماغي وبعد سبعة أشهر من السعادة والعسل كما يقولون جاء خلالها أحمد بعد أن أتم دراسته ليوطد صداقتنا وكان وليد يتردد علي كلما سنحت له الفرصة
ظهرت أعراض الولادة على بيسان وأشارت علينا هالة وهي الطبية بنقلها إلى المشفى لتولده هناك طال الانتظار قرب غرفة العمليات ساعة ساعتين ثلاث وبعد أربع ساعات ونصف الساعة خرجت هالة تمسح العرق عن جبينها ونحن نسمع صوت صراخ طفل وقالت لي ادخل تريد أن تراك
دخلت عليها لأراها منهكة ٌتعبة جلست إلى جوارها أمسح العرق عن جبينه بيدي فتناولت يدي وقبلت راحتها وقالت وهي تضع اليد على وجهها :
كنت أعلم أن الأمر لن يكون سهلاً لكني أردت أن أهديك هدية ً تذكرني بها إلى الأبد جزءٌ مني ومنك يربطنا إلى الأبد بإذن الله
لقد طلبت من الله أن يمنحني شرف العيش بين أحضانك وتحت جناحيك وقد لبى لي سبحانه رغبتي والآن أطلب منك أن تضمني بساعديك لأموت بين أحضانك
" وضعت يدي على فمها محاولاً إسكاتها لكنها قبلت إصبعي وقالت لي قبلني "
فلثمتها من بين حاجبيها فأبت وقالت لي بل قبلة عاشق ٍ مشتاق ليكون طعم شفتيك آخر عهدي بالدنيا
قبلتها محاولاً زرع الحياة بجسدها الدافئ وفجأة ً بردت شفتيها وثقل جسدها بين يدي فدفعتها لأرى عيناها جاحظتان نحو السماء فعلمت أن الأمر قد قضي
انهارت أعصابي ودخلت في غيبوبة دامت يومين كاملين تم خلالها مواراة جسمان الراحلة القبر
أراحني الله من رؤية ذاك المشهد لكني خرجت من المشفى فاقداً الرغبة بالحياة والقدرة على المشي على كرسي نقال سأكمل حياتي أو ما تبقى منها
فقدت كل شيء حبي صديقي ماضي وذكرياتي ولم يبقى لي إلا وطني أنتظر الغوص في ترابه لم يبقى لي سوى الشام وطناً أماً وأباً
وشام بنتٌ وأمل نعم لم يبقى لي سواكِ أنتي ابنتي شام

ابوشادي
07-26-2010, 02:52 PM
" ووقفت مفزوعة ً مفجوعة لأرى من بين حبات المطر أبي لا ليس أبي ذاك الرجل الذي يدعي أنه أبي يراقبني من خلف نافذته
يا إلهي لقد خدعت عشرين عاماً ظلمت عشرين عاماً أمي تلك التي حملتني في رحمها تسعة أشهر وسقتني الحنان من نبع حنانها ويوم طلبت الحياة قدمت لي عمرها وما بخلت
وهم حرموني من أن أهديها أهدي روحها الطاهرة حتى الفاتحة أو صورة في القرآن
فتحت الباب فرأيت أبي لا ليس أبي
أخذت أضرب على صدره بقبضة اليد قائلة
ماذا فعلت بي أي ذنب اقترفته بحقك لتنزل بي هذا العقاب خدعتني
ربيتني أن لا تكذبي ودفعت بي إلى مستنقع كذبك وخداعك أنت وتلك المرآة التي جعلت مني دمية تقول لها ماما دمية تغزي عقدة النقص فيكما دونما أن تفكرا للحظة واحدة أنه لا يمكن لي أن استغني عن آدميتي وإنسانيتي لأشارك معكم في سحق مشاعري
ـ اهدئي يا ابنتي
ـ لست ابنتك وإياك أن تقولها مرة أخرى حرمتني من ذكرى الوالدة ولن تحرمني من أنفاس الأب
أين أبي أريد أن أراه أريد أن أركع تحت قدميه وأسأله الغفران و الصفح لأنني هجرته كل هذه السنين
تكلم قل لي أين أبي ..
حسن ٌ إن كنت لا تريد الكلام سأخرج للبحث عنه ولن أعود إلا معه بل أنا لن أعود أبداً
" منعني من الخروج ودفع بي بقوة إلى السرير ثم قال وهو يزرف الدمع "
قلت لكِ اهدئي وأكمل قراءة الأوراق منذ عشرين عاماً وأنا أنتظر هذه اللحظة وأخاف منها
كنت أدخل وحدي هذه الغرفة التي لم أسمح لأحدٍ أن يدخلها أو يغير شيئاً في أثاثها
قرأت ما تقرأيه الآن ألف مرة ودفعت بكِ إلى هذه الغرفة لتتعرف على والدك الحقيقي وتقرئي وصيته "
ـ إذاً أنت تحاول أن تريح ضميرك من العذاب , ألم تدري كم العذاب والجروح التي تسببها لي تلك الحقيقة
مادمت اخترت الكذب من البداية لماذا لم تكمل مشوارك إلى النهاية كان عليك أن تتركني غارقة ً في وهمي
ـ لا أنا لم أختر الكذب راحة لضميري بل جل ما فعلته كان من أجلك أنتِ كي تعيشي طفولتك كما تعيشها كل الأطفال
أنا لم أحرمك بل حميتك من مر الحقيقة حقيقة أنك يتيمة
أكملي القراءة ثم لكِ أن تقرري ما شئتِ
وذهب هو وعدت أنا للأوراق

ابوشادي
07-26-2010, 02:53 PM
أصبحت وحيداً يا ابنتي في غرفتي مقعداً أتقيئ أحزاني منتظراً الموت وأراه في عيون كل من حولي شفقة ًعلى حالي ورثاءً لمآلي
كنت أشهر بالذنب تجاهك وأنا أراكي أمامي غضةً طرية تستبشرين بالدنيا دونما أن تعلمي وأنتِ بنت الأيام أن السنين ستحملك لكِ جرحاً غائراً قد لا تسامحينني عليه أبداً
لذاك قررت أن أكتب لكِ مشروع الاعتذار هذا علكِ تلتمسين لي ما يريحني في قبري من مغفرة وتقدير للظروف التي أحاطت بي
كتبت وحاولت أن أكون دقيقاً محاولاً استحضار كل ذكرياتي ـ وأعزيني إن فاتني شيء فالمرض يأخذ حقه مني يوماً بعد يوم بل دقيقة ً بعد دقيقةـ
تأزمت حالتي كثيراً وصار عصياً علي أن أخفي آلامي أو تحملها دون أن أحقن بالمهدئ المركز في اليوم ثلاث مرات
وبات السر يجثم على صدري كجبل ففكرت أن أطلع عمكِ هادي على الحقيقة لكني تراجعت وأنا العالم لمقدار الحب الذي يكنه لي
وهادي أيضاً عاطفيّ ٌ جداً يصعب عليه إخفاء أحزانه وهذا ما سيفضح أمري ويهدم كل ما حاولت بنائه
ولم يكو وليد أحسن حالاً منه , فقررت أن استعين بأحمد فهو من جهة طبيب وسيساعدني ومن جهةٍ أخرى هو لا يعرف الكثير عن ماضي أحزاني وهذا ما سيجعل وقع المأساة عليه أخف
وهذا ما فعلته فعلاً ,صعق بادئ الأمر وآثر الابتعاد لكنه عاد بعد يوم ٍ واحد ليعودني بل يلازمني معظم الوقت
لم يدم ذاك طويلاً بعض شهر وشكوك هادي تحوم حولي والأم تحس وتخفي أحزانها ونغزات القلب المولد على ولدها فلذة كبدها في سويداء القلب
أذكر ذاك اليوم جيداً الواحدة بعد منتصف ليل الأحد الرابع عشر من أيلول للعام الأخير
كنا قد أدركنا في المذكرات الساعة التي نعيشها الآن وصار لزاماً علي تناول دواءٍ جديد عبارة عن قطرات خمس تذاب في كأس ماء إن ذادت قد تفتك بجملة العصبية مما يؤدي إلا انفجار في الدماغ
أعطاني أحمد أول جرعة من ذاك الدواء وقال لي أنه قد لا يتمكن من المجيء في الغد لكن الدواء سيدفعني للنوم معظم ساعات النهار وهو وعدني أن يأتي في المساء
لم يأتي في ذاك المساء لكنني كنت قد أعددت نفسي لأي طارئ وملأت كوباً بالدواء حسب الوصفة تحسباً لنوبة صداع قوية عندما ينتهي مفعول الدواء
بعد أن انتهيت بعجز من صلاة العشاء التمست المذكرات فلم أجدها لا بد أن فضول أحمد دفعه لقراءتها كاملة
اقتحمت نوبة صداع ٍ قوية ٍ رأسي كانت قوية أكثر من أي نوبةٍ سبقتها وأقسى من أن يتحملها آدمي

ابوشادي
07-26-2010, 02:53 PM
ثم أحسست بصاعقةٍ تهبط من السماء لتستقر في رأسي فتفتت لأشلاء لمعت الدنيا في عيني ثم اسود كل شيء
كنت معي في الغرفة تلك الساعة أذكر أخر نظرةٍ لكِ وأنتِ تضحكين
دفعت بالعجلات نحو الشرفة المطلة على الشام كان الجو بارداً والسماء ملبدة ٌ بالغيوم إلا أن غيث السماء عز علينا هذا العام
طرقاتٌ على الباب
ـ من أحمد ؟
ـ نعم
ـ أهلاً ادخل هل أنت وحدك ؟
ـ نعم " قالها متلعثماً فأدركت أنه ليس كذلك فحاولت أن لا أظهر لمن معه ـ وهو على الأغلب هادي ـ شيئاً
وسرعان ما تقدم هادي نحو معلناً عن وجوده وهو يلوني على إخفائي للحقيقة عنه قائلاً لم نتقاسم الأفراح و الأتراح معاً ألم تحمل معي بل عني ألامي وتخفي في صدرك آهاتي وتنهيداتي
فلماذا بخلت عل أخيك وشقيق روحك بفرصة رد بعض أفضالك عليه
لعلك نسيت أنني طبيب كنت سأفعل كنت سـ ..
" مسحت بيدي المرتعشة الدمع عن وجه هادي ومسحت على رأسه قائلاً "
اهدأ يا شقيقي فما كان, كان وعليك الآن أن تساعدني على الصمود حتى النهاية
لا أريد لوالديك أن يعلموا
هات أعطني يدك أريد أن أرى الشام
" وصلنا للشرفة واستند على كتفه والحاجز الحديدي للشرفة"
ـ سجل يا أحمد
ورويت له كل ما جرى معي حتى وصلت إلى هذه اللحظة قائلاً :
لم أعد أدري ما حدث بعد ذلك لأنني فقدت البصر...
كان والدك يريد إنهاء المذكرات هنا لكنني سمحت لنفسي بالمتابعة مؤرخاً لهذه اللحظات
طلب شادي مني أن أعطيه إياكِ ضمكِ إلى صدره بقوة حتى بدأتِ تصرخين من الألم لكنك سرعان ما هدأتِ عندما وضع رأسك على كتفه وأخذ يمسد لكِ ـ وهي الوضعية التي كنتِ تحبين ـ ثم قال لكِ
أترين يا صغيرتي هذه المدينة الهادئة الصاخبة وهذه الأبنية العالية وتلك الأنوار لن يهتز في رأس الشام شعرة إن فقدت رجلاً مثلي
لكن قلبها سنفطر كقلب أم ثكلت على ولدها
كوني كالشام يا ابنتي كبيرة القلب صغيرة التفاصيل لتفردي جناحيك على الشام تحميها وتحميكِ
وعندما تكبري تذكري أنني لم أكو أريد لكِ إلا أن تكوني كالشام جميلة ً ممنياً النفس بأن تراكِ عينياي آنذاك

ابوشادي
07-26-2010, 02:54 PM
أوصيك يا هادي بشام خيراً ربها كأنها ابنتك كأنها ابنتك اعتني بها وبنفسك وعندما تكبر انقل لها عني الاعتذار
اسمع يا شقيقي عني وأنا الشاب الذي غزا الشيب رأسه وهد الزمن قواه وبعد لم أقطف زهرة الشباب
إنما الدنيا سيدة تابعها ومعبودة من تعفف عنها ثق بالله رب العالمين وأعلم أنه يعلم ما لا تدركه عقولنا الصغيرة
فحتى الموت يكون أحياناً رحمة
" هنا دخلت جدتك تطلب من ولديها الدخول إلى الغرفة وإغلاق الباب درأ ً لبرد الخريف
حملتك إلى السرير فانحنى والدك يقبل يدها ويطلب منها أن ترضى عليه وتدعو له الله
قبلته من بين عينيه وأخذت تدعو له ثم همت بالخروج مع تعالي صوت صراخك
قابلت جدك عند باب الغرفة ـ جدك الذي لم يحس شادي بقدومه ـ"
نظر شادي إلى السماء ثم نطق الشهادتين وقال وهو يضع رأسه على صدر عمك الباكي :
كم حلمت أن أموت واقفاً كما الفرسان في المعارك ولكن أبداً لم يتوهج معي الحلم بأن أريح رأسي آخر ما أريحه على صدر أخي ...
" قالها وأنهار على الأرض مع ارتفاع صوت نعيكِ لأبيكِ وقبل أن يصل إلى الأرض أدركه الجد والسماء ترعد وتبرق ولا مطر
الخامس عشر من أيلول منتصف الليل
إنها النهاية ....
نظرت إلى الباب لأجد عمي هادي واقفاً هناك ,نظرة أخرى إلى الأوراق
في مثل هذا اليوم والساعة منذ عشرين عاماً نبض هنا في هذه الغرفة أخر نبضاته قلب أبي
حملت الأوراق وانطلقت أصارع حبات المطر الغزير وتبعني عمي , وصلت إلى قبر أبي لأجد هناك سيدة ً تضع إكليل وردٍ على القبر وتقف بردائها الأسود بوقار
لم أره في امرأة من قبل كانت كجبل يأبى أن ينهار
تقدمت نحو أبي وأمي عجز لسان عن الكلام لكنني أحسست أنهما أدركا كل ما كنت أريد قوله
حفرت حفرة ً صغيرة بينهم زرعت فيها المذكرات لتستمد الحياة من الأرض أرض الشام التي عشقاها
ضمني عمي وحماني من المطر بمعطفه ومضينا تاركين خلفنا السيدة على حالة تواصله الروحي
تمت بحمد الله
محمد فتوح دمشق 1 نيسان 2002