محمد عبد الوهاب جسري
10-14-2010, 01:38 PM
مذكرات مغترب (1) لماذا أنت هنا...؟؟
ينام هاتفي كثيراً، وعندما يرن أسرع لالتقاط السماعة، فأنا هنا قادم جديد وقليل من يعرفني ويعرف رقم هاتفي.
_ألو نعم
_السلام عليكم
_أهلا عم توفيق وعليكم السلام ورحمة الله، كيف حالك ؟؟
_بخير الحمد لله لكنني حزين، قبل قليل توفي صديقي أبو مالك....
_رحمه الله، وأنت حزين لأنك لا تستطيع أن تتواجد في الجنازة ؟
_ قلت لك صديقي، هل تظن أن لي أصدقاء في بلدي ، إنه هنا.... أنت تعلم أني منذ أن غادرت قبل ثلاثين عاماً وأنا لم أقم بزيارة لبلدي ، وليس لدي أصدقاء هناك..... أبو مالك أنت تعرفه، التقيتَ به مرة عندي، المهم بما أنك مغترب جديد هنا أظنك تعرف قراءة "يس" ، أرجو أن تحضر معنا غداً في مراسم الدفن.
_طبعاً، لا تهتم سأكون موجوداً إن شاء الله
_ حسناً سآتي لعندك صباحاً لنذهب سوية
_ سأكون بانتظارك، بأمان الله
انتهت المكالمة الهاتفية ورحت أتذكر المرحوم، نعم تذكرته، بالتأكيد لم يصل إلى الستين من عمره ، رحمه الله، أتذكر عندما طلب مني أن أحكي له عن أخبار البلد، كيف كان يستمع بشوق ولهفة.....وكيف أعرب لي عن مخاوفه بأن يموت هنا بحسرة زيارة أهله وبلده.
في المقبرة، كان الموقف صعباَ للغاية، فالمرحوم لم يدفن على الطريقة الاسلامية تماماً ولا في مقبرة اسلامية، ولا أحب أن أدخل هنا في تفاصيل ذلك الحزن العميق الذي تملكني عندما شاهدت أبناءه يصلون عليه بطريقتهم فهم ليسوا مسلمين، مشاهد أصعب من أن أتمكن من وصفها.... قرأت "يس" على روحه ودعوت الله له بالرحمة والمغفرة وعدت مع مجموعة من أصدقائي الجدد " المغتربين" الذين جمعتني بهم صداقة الاغتراب فقط حيث دعانا العم توفيق إلى الغداء على روح صديقه المرحوم، فأحببت أن أستغل هذه الفرصة علني أسمع قصص المغتربين، وفي فترة الغداء وما بعدها حاولت أطرح بعض الاسئلة على الموجودين، لكن السؤال الأهم كان : لماذا أنت هنا ؟....
أحد الموجودين كان مساعد مهندس خريج معهد هندسي أحب أن يحكي حكاية اغترابه...
يقول بعد تخرجي في بلدي، توظفت فعينوني في منطقة تبعد عن سكني 40 كيلو متر تقريباً ولم تؤمن لي المواصلات ولا بدلاً عنها، فكنت بالإضافة إلى ما أنفقه يومياً على المواصلات أضيع ساعتان يومياً للوصول إلى عملي و ساعتان للعودة إلى بيتي، نتيجة التنقل بين ثلاثة وسائل مواصلات، كنت أظن أن هذا سيكون مؤقتاً لكن!!! مر الوقت ولم يتغير شيء، رزقت مولوداً فقال لي أحد الموظفين أسرع بتسجيله لتحصل له على تعويض عائلي ففرحت كثيراً، لكنني عندما علمت أن التعويض العائلي للطفل هو عبارة عن نصف دولار شهرياً، ضحكت ضحكة مريرة لازال طعم مرارتها في فمي إلى يومي هذا....تقدمت بطلب نقلي إلى مكان قريب من إقامتي ودعمته بكل قوى المعارف والأقارب فنقلوني إلى مكان قريب وممتاز وصرت في موقع كشاف وتقاريري مع باقي الزملاء هي التي ستبين أحقية المواطن في الحصول على عداد كهرباء ثلاثي ولم أكن أدري أن هذا باباً أستطيع من خلاله تقبل الرشاوى اليومية بسهولة لتقديم تقريري بما يخالف الواقع، وبما أنني من أصحاب المبادئ ولا أرضى بذلك فإنني بدأت أعيق بعض الزملاء في الحصول على تلك الرشاوى..... لم يمر وقت طويل حتى أحاكوا لي مكيدة لأنتقل إلى موقع آخر خارج المدينة أيضاً، موقع لا مجال فيه للاحتكاك مع المواطنين، وذلك في إحدى محطات تحويل الكهرباء، كنا وقتها نقوم بتنفيذ جدول زمني دوري بقطع الكهرباء من أجل التقنين. عملت مرتاح البال، زالت همومي جميعاً ولم يبق لي غير ضيق الحال، الذي يشكو منه كل الرجال.
في مساء يوم صيفي كنت أستمع إلى الإذاعة في أحد البرامج التي تبث مباشرة عندما سمعت التالي:
_ ألو مرحبا
_ أهلا وسهلا تفضلي ، مين معي
_ أنا رويدة ، كيفكم ؟
_أهلا رويدة ، كيفك أنتي ؟؟ سيدة ولا آنسة
_ آنسة واليوم حفلة زواجي
_ ألف ألف مبروك، إن شاء الله تكون إجابتك صحيحة وتفوزي بالجائزة
_ لأ ، ما اتصلت للاجابة على الحزورة
_ طيب بتريدي نهديكي أغنية ؟؟
_ لا، أنا اتصلت بكم أتمنى أن يصل صوتي إلى المسؤول عن برنامج قطع الكهرباء، أتمنى أن لا تنقطع الكهرباء اليوم من الساعة 20– 22 أتمنى أن لا تحصل زفة العروس في الظلام، هذه هي أمنيتي، فلا أخرج من بيتي في الظلام....
حصل ارتباك لدى المذيعة مقدمة البرنامج، فهي تعاطفت مع العروس لكنها تعرف أنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً، فضمت صوتها إلى صوت رويدة مناشدة تحقيق أمنيتها، وعرضت عليها أن تهديها أغنية بهذه المناسبة، قبلت رويدة أية أغنية لكنها عادت إلى عبارات الرجاء والإصرار على أن ينفذ طلبها، فقامت المذيعة بسؤالها عن العنوان حتى يتمكن المسؤول إن سمع نداءها وأراد أن يلبي أمنيتها، حتى يتمكن من تحقيق رغبتها.
كانت الساعة السابعة والنصف، نظرتُ إلى الجداول أمامي، يا إلهي هذا العنوان يقع في المنطقة التي سأقوم أنا بقطع الكهرباء عنها بعد نصف ساعة.
أنهت رويدة مكالمتها بعبارة قالتها : أرجو من المسؤول أن يعتبر أنها حفلة زفاف أخته، وأنها تحصل مرة واحدة فقط....
أعلم أنني أنا الذي سأقوم بقطع الكهرباء، لكنني أعلم أيضاً أنني لست أنا ذلك المسؤول الذي ناشدته العروس ومعها المذيعة، فرحت أتصور بأنه سيأتيني الآن اتصال هاتفي من أحد المدراء يقول فيه لأسباب موضوعية عليك بتعديل برنامج التقنين لهذه الليلة، وأنا سأقوم بسعادة بتنفيذ التعليمات وسيغمرني السرور لأنني سأكون بيدي قد أدخلت الفرحة إلى قلب رويدة، سأكون ذلك الجندي المجهول الذي ستشكرني رويدة على عملي البطولي هذا.....
تغير منحى البرنامج وصارت الاتصالات التالية كلها مؤيدة لطلب رويدة، وما كان من المذيعة إلا أنها زادت تأييدها وتحول البرنامج إلى عرس حقيقي لرويدة..... بقي 10 دقائق لموعد قطع الكهرباء وأحد ما لم يتصل بي، على ما يبدو أنني أنا المسؤول المستهدف، على ما يبدو أن باقي المسؤولين لا يستمعون إلى هذا البرنامج..... والظاهر أن رجاء العروس قد خاب.
بقي 10 دقائق، صارت أنفاسي تتصاعد وبدأت أفكر جدياً بأنني أنا المسؤول المنشود وعلي أن أفعل شيئاً، لكن ما بوسعي أن أفعل؟؟ فلا يمكنني بشكل من الأشكال أن أستمر في ايصال الكهرباء إلى هذا الحي إلا إذا قطعتها عن حي آخر وهذا أمر خطير جداً فكثير من الناس اعتادوا على جدول التقنين ونظموا حياتهم على أساسه، وأنا لا أريد أن أدخل السعادة إلى شخص على حساب تعاسة آلاف الأشخاص، لازال عندي أمل أن يتصل أحدهم ويعدل برنامج القطع، لكن ماذا إذا لم يتصل ؟؟ وكيف سأوفق بين واجبي في تأدية عملي وبين تعاطفي مع العروس والمذيعة وباقي المتصلين ، بل والمستمعين !!!!
راحت الأفكار تأخذني يمنة ويسرة، هل من سبيل إلى تلبية نداء العروس وبنفس الوقت عدم حرمان الكهرباء لأناس آخرين ينتظرونها، أمسكت بالآلة الحاسبة، ونظرت إلى المناطق والجداول أمامي، فوجدت حلاً أستطيع من خلاله تنفيذ الجدول وتحقيق رغبة العروس بشرط أن أقطع التيار عن منطقة صناعية، فهذا أخف الضرر، وأنا أعلم أن أصحاب المنشآت الصناعية عندهم مولدات للكهرباء. المخاطرة الوحيدة التي سأعترض لها هي احتمال أن يوجه لي تنبيه من المدير، هذه سهلة ، لكن ربما يوجه إلي ثناء منه أيضاً.
الثامنة تماماً، سأفعل ما قررته ولن أفكر في النتيجة....
الثامنة وخمس دقائق تتصل رويدة لتقدم آيات الشكر إلى مديريتنا وإلى موظفينا وجميع المسؤولين الذي حرصوا على تلبية طلبها، سعادة تغمرها ولم تنس أن توجه الشكر إلى المذيعة والمتصلين الذي تعاطفوا معها، اسمع حديثها، أشعر ببهجة تغمرني، سأحضر أبريقاً من الشاي لأحتفل بنفسي وأشكر نفسي، فنشوة السعادة لحظات من الصعب تكرارها، أريد أن أنعم بها..... هنا أنا لوحدي بعيداً عن حفلة الزفاف وضوضاء المدينة.....
الثامنة وعشر دقائق يرن الهاتف، لا بد وأن أحداً ما يتصل ليشكرني شخصياً..... إنه المدير، بعد التحية والسلام...
_ مالذي يحصل عندكم ؟؟ لماذا لم يصل التيار إلى المنطقة الصناعية ؟؟ هل عندكم عطل ما ؟؟
عرفت أن المدير لا يعلم شيئاً عن الأمر، وأن أحد الصناعيين اتصل به شخصياً ليستفسر عن الأمر، وأنه لا يعلم بأنني أزود منطقة أخرى بالكهرباء فأجبته
_ لا ، لايوجد عطل إنما هو أمر تقني سأعمل على حله خلال دقائق.
لابد وأن المدير خارج العمل، وهو سيتصل بذاك الصناعي ليعلمه بأن التيار سيصله خلال دقائق، فما الذي علي أن أفعله الآن؟؟
لقد وصلت الفرحة إلى العروس ، هل أسرقها منها ؟؟
عدت إلى تحضير الشاي، وأنا أفكر بردي على المدير في اتصاله التالي
اتصل المدير بعدها مرتين وفي كل مرة وبكل ثقة بالنفس أجيبه بأنني سأحل الموضوع خلال دقائق، وهو بدوره ينقل هذا إلى صديقه، إلى أنا أصاب الملل أحدهما ومضت هاتان الساعتان وعدت إلى التزامي بالجدول المقرر.
صديقي..... لقد سألتني لماذا أنت هنا؟؟ أنا هنا لأنه في اليوم التالي استدعاني المدير وصب علي جام غضبه، وأسمعني عبارات قاسية لم أكن أتوقعها، نعم أنا خالفت التعليمات، لكن هناك عقوبات إدراية كنت مستعداً لها، أما الإهانة التي تعرضت لها فلم أكن مستعداً لها. ولهذا أنا هنا.... جئت علني أستطيع أن أتابع دراستي وسرقتني الدنيا وسرقني الزمن وها أنا ذا كما تراني أتنقل من حسرة إلى حسرة أشعر بأن أنفاسي تختنق كلما تذكرت أنني منذ عشرين عاماً لم أغادر هذا المكان، فقط أشتم رائحة بلدي من خلال قادم جديد مثلك.
محمد عبد الوهاب جسري
ينام هاتفي كثيراً، وعندما يرن أسرع لالتقاط السماعة، فأنا هنا قادم جديد وقليل من يعرفني ويعرف رقم هاتفي.
_ألو نعم
_السلام عليكم
_أهلا عم توفيق وعليكم السلام ورحمة الله، كيف حالك ؟؟
_بخير الحمد لله لكنني حزين، قبل قليل توفي صديقي أبو مالك....
_رحمه الله، وأنت حزين لأنك لا تستطيع أن تتواجد في الجنازة ؟
_ قلت لك صديقي، هل تظن أن لي أصدقاء في بلدي ، إنه هنا.... أنت تعلم أني منذ أن غادرت قبل ثلاثين عاماً وأنا لم أقم بزيارة لبلدي ، وليس لدي أصدقاء هناك..... أبو مالك أنت تعرفه، التقيتَ به مرة عندي، المهم بما أنك مغترب جديد هنا أظنك تعرف قراءة "يس" ، أرجو أن تحضر معنا غداً في مراسم الدفن.
_طبعاً، لا تهتم سأكون موجوداً إن شاء الله
_ حسناً سآتي لعندك صباحاً لنذهب سوية
_ سأكون بانتظارك، بأمان الله
انتهت المكالمة الهاتفية ورحت أتذكر المرحوم، نعم تذكرته، بالتأكيد لم يصل إلى الستين من عمره ، رحمه الله، أتذكر عندما طلب مني أن أحكي له عن أخبار البلد، كيف كان يستمع بشوق ولهفة.....وكيف أعرب لي عن مخاوفه بأن يموت هنا بحسرة زيارة أهله وبلده.
في المقبرة، كان الموقف صعباَ للغاية، فالمرحوم لم يدفن على الطريقة الاسلامية تماماً ولا في مقبرة اسلامية، ولا أحب أن أدخل هنا في تفاصيل ذلك الحزن العميق الذي تملكني عندما شاهدت أبناءه يصلون عليه بطريقتهم فهم ليسوا مسلمين، مشاهد أصعب من أن أتمكن من وصفها.... قرأت "يس" على روحه ودعوت الله له بالرحمة والمغفرة وعدت مع مجموعة من أصدقائي الجدد " المغتربين" الذين جمعتني بهم صداقة الاغتراب فقط حيث دعانا العم توفيق إلى الغداء على روح صديقه المرحوم، فأحببت أن أستغل هذه الفرصة علني أسمع قصص المغتربين، وفي فترة الغداء وما بعدها حاولت أطرح بعض الاسئلة على الموجودين، لكن السؤال الأهم كان : لماذا أنت هنا ؟....
أحد الموجودين كان مساعد مهندس خريج معهد هندسي أحب أن يحكي حكاية اغترابه...
يقول بعد تخرجي في بلدي، توظفت فعينوني في منطقة تبعد عن سكني 40 كيلو متر تقريباً ولم تؤمن لي المواصلات ولا بدلاً عنها، فكنت بالإضافة إلى ما أنفقه يومياً على المواصلات أضيع ساعتان يومياً للوصول إلى عملي و ساعتان للعودة إلى بيتي، نتيجة التنقل بين ثلاثة وسائل مواصلات، كنت أظن أن هذا سيكون مؤقتاً لكن!!! مر الوقت ولم يتغير شيء، رزقت مولوداً فقال لي أحد الموظفين أسرع بتسجيله لتحصل له على تعويض عائلي ففرحت كثيراً، لكنني عندما علمت أن التعويض العائلي للطفل هو عبارة عن نصف دولار شهرياً، ضحكت ضحكة مريرة لازال طعم مرارتها في فمي إلى يومي هذا....تقدمت بطلب نقلي إلى مكان قريب من إقامتي ودعمته بكل قوى المعارف والأقارب فنقلوني إلى مكان قريب وممتاز وصرت في موقع كشاف وتقاريري مع باقي الزملاء هي التي ستبين أحقية المواطن في الحصول على عداد كهرباء ثلاثي ولم أكن أدري أن هذا باباً أستطيع من خلاله تقبل الرشاوى اليومية بسهولة لتقديم تقريري بما يخالف الواقع، وبما أنني من أصحاب المبادئ ولا أرضى بذلك فإنني بدأت أعيق بعض الزملاء في الحصول على تلك الرشاوى..... لم يمر وقت طويل حتى أحاكوا لي مكيدة لأنتقل إلى موقع آخر خارج المدينة أيضاً، موقع لا مجال فيه للاحتكاك مع المواطنين، وذلك في إحدى محطات تحويل الكهرباء، كنا وقتها نقوم بتنفيذ جدول زمني دوري بقطع الكهرباء من أجل التقنين. عملت مرتاح البال، زالت همومي جميعاً ولم يبق لي غير ضيق الحال، الذي يشكو منه كل الرجال.
في مساء يوم صيفي كنت أستمع إلى الإذاعة في أحد البرامج التي تبث مباشرة عندما سمعت التالي:
_ ألو مرحبا
_ أهلا وسهلا تفضلي ، مين معي
_ أنا رويدة ، كيفكم ؟
_أهلا رويدة ، كيفك أنتي ؟؟ سيدة ولا آنسة
_ آنسة واليوم حفلة زواجي
_ ألف ألف مبروك، إن شاء الله تكون إجابتك صحيحة وتفوزي بالجائزة
_ لأ ، ما اتصلت للاجابة على الحزورة
_ طيب بتريدي نهديكي أغنية ؟؟
_ لا، أنا اتصلت بكم أتمنى أن يصل صوتي إلى المسؤول عن برنامج قطع الكهرباء، أتمنى أن لا تنقطع الكهرباء اليوم من الساعة 20– 22 أتمنى أن لا تحصل زفة العروس في الظلام، هذه هي أمنيتي، فلا أخرج من بيتي في الظلام....
حصل ارتباك لدى المذيعة مقدمة البرنامج، فهي تعاطفت مع العروس لكنها تعرف أنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً، فضمت صوتها إلى صوت رويدة مناشدة تحقيق أمنيتها، وعرضت عليها أن تهديها أغنية بهذه المناسبة، قبلت رويدة أية أغنية لكنها عادت إلى عبارات الرجاء والإصرار على أن ينفذ طلبها، فقامت المذيعة بسؤالها عن العنوان حتى يتمكن المسؤول إن سمع نداءها وأراد أن يلبي أمنيتها، حتى يتمكن من تحقيق رغبتها.
كانت الساعة السابعة والنصف، نظرتُ إلى الجداول أمامي، يا إلهي هذا العنوان يقع في المنطقة التي سأقوم أنا بقطع الكهرباء عنها بعد نصف ساعة.
أنهت رويدة مكالمتها بعبارة قالتها : أرجو من المسؤول أن يعتبر أنها حفلة زفاف أخته، وأنها تحصل مرة واحدة فقط....
أعلم أنني أنا الذي سأقوم بقطع الكهرباء، لكنني أعلم أيضاً أنني لست أنا ذلك المسؤول الذي ناشدته العروس ومعها المذيعة، فرحت أتصور بأنه سيأتيني الآن اتصال هاتفي من أحد المدراء يقول فيه لأسباب موضوعية عليك بتعديل برنامج التقنين لهذه الليلة، وأنا سأقوم بسعادة بتنفيذ التعليمات وسيغمرني السرور لأنني سأكون بيدي قد أدخلت الفرحة إلى قلب رويدة، سأكون ذلك الجندي المجهول الذي ستشكرني رويدة على عملي البطولي هذا.....
تغير منحى البرنامج وصارت الاتصالات التالية كلها مؤيدة لطلب رويدة، وما كان من المذيعة إلا أنها زادت تأييدها وتحول البرنامج إلى عرس حقيقي لرويدة..... بقي 10 دقائق لموعد قطع الكهرباء وأحد ما لم يتصل بي، على ما يبدو أنني أنا المسؤول المستهدف، على ما يبدو أن باقي المسؤولين لا يستمعون إلى هذا البرنامج..... والظاهر أن رجاء العروس قد خاب.
بقي 10 دقائق، صارت أنفاسي تتصاعد وبدأت أفكر جدياً بأنني أنا المسؤول المنشود وعلي أن أفعل شيئاً، لكن ما بوسعي أن أفعل؟؟ فلا يمكنني بشكل من الأشكال أن أستمر في ايصال الكهرباء إلى هذا الحي إلا إذا قطعتها عن حي آخر وهذا أمر خطير جداً فكثير من الناس اعتادوا على جدول التقنين ونظموا حياتهم على أساسه، وأنا لا أريد أن أدخل السعادة إلى شخص على حساب تعاسة آلاف الأشخاص، لازال عندي أمل أن يتصل أحدهم ويعدل برنامج القطع، لكن ماذا إذا لم يتصل ؟؟ وكيف سأوفق بين واجبي في تأدية عملي وبين تعاطفي مع العروس والمذيعة وباقي المتصلين ، بل والمستمعين !!!!
راحت الأفكار تأخذني يمنة ويسرة، هل من سبيل إلى تلبية نداء العروس وبنفس الوقت عدم حرمان الكهرباء لأناس آخرين ينتظرونها، أمسكت بالآلة الحاسبة، ونظرت إلى المناطق والجداول أمامي، فوجدت حلاً أستطيع من خلاله تنفيذ الجدول وتحقيق رغبة العروس بشرط أن أقطع التيار عن منطقة صناعية، فهذا أخف الضرر، وأنا أعلم أن أصحاب المنشآت الصناعية عندهم مولدات للكهرباء. المخاطرة الوحيدة التي سأعترض لها هي احتمال أن يوجه لي تنبيه من المدير، هذه سهلة ، لكن ربما يوجه إلي ثناء منه أيضاً.
الثامنة تماماً، سأفعل ما قررته ولن أفكر في النتيجة....
الثامنة وخمس دقائق تتصل رويدة لتقدم آيات الشكر إلى مديريتنا وإلى موظفينا وجميع المسؤولين الذي حرصوا على تلبية طلبها، سعادة تغمرها ولم تنس أن توجه الشكر إلى المذيعة والمتصلين الذي تعاطفوا معها، اسمع حديثها، أشعر ببهجة تغمرني، سأحضر أبريقاً من الشاي لأحتفل بنفسي وأشكر نفسي، فنشوة السعادة لحظات من الصعب تكرارها، أريد أن أنعم بها..... هنا أنا لوحدي بعيداً عن حفلة الزفاف وضوضاء المدينة.....
الثامنة وعشر دقائق يرن الهاتف، لا بد وأن أحداً ما يتصل ليشكرني شخصياً..... إنه المدير، بعد التحية والسلام...
_ مالذي يحصل عندكم ؟؟ لماذا لم يصل التيار إلى المنطقة الصناعية ؟؟ هل عندكم عطل ما ؟؟
عرفت أن المدير لا يعلم شيئاً عن الأمر، وأن أحد الصناعيين اتصل به شخصياً ليستفسر عن الأمر، وأنه لا يعلم بأنني أزود منطقة أخرى بالكهرباء فأجبته
_ لا ، لايوجد عطل إنما هو أمر تقني سأعمل على حله خلال دقائق.
لابد وأن المدير خارج العمل، وهو سيتصل بذاك الصناعي ليعلمه بأن التيار سيصله خلال دقائق، فما الذي علي أن أفعله الآن؟؟
لقد وصلت الفرحة إلى العروس ، هل أسرقها منها ؟؟
عدت إلى تحضير الشاي، وأنا أفكر بردي على المدير في اتصاله التالي
اتصل المدير بعدها مرتين وفي كل مرة وبكل ثقة بالنفس أجيبه بأنني سأحل الموضوع خلال دقائق، وهو بدوره ينقل هذا إلى صديقه، إلى أنا أصاب الملل أحدهما ومضت هاتان الساعتان وعدت إلى التزامي بالجدول المقرر.
صديقي..... لقد سألتني لماذا أنت هنا؟؟ أنا هنا لأنه في اليوم التالي استدعاني المدير وصب علي جام غضبه، وأسمعني عبارات قاسية لم أكن أتوقعها، نعم أنا خالفت التعليمات، لكن هناك عقوبات إدراية كنت مستعداً لها، أما الإهانة التي تعرضت لها فلم أكن مستعداً لها. ولهذا أنا هنا.... جئت علني أستطيع أن أتابع دراستي وسرقتني الدنيا وسرقني الزمن وها أنا ذا كما تراني أتنقل من حسرة إلى حسرة أشعر بأن أنفاسي تختنق كلما تذكرت أنني منذ عشرين عاماً لم أغادر هذا المكان، فقط أشتم رائحة بلدي من خلال قادم جديد مثلك.
محمد عبد الوهاب جسري