المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مذكرات مغتربـ ـة (5) أزهار الندم.... بقلم محمد عبد الوهاب جسري



محمد عبد الوهاب جسري
11-10-2010, 01:47 AM
في معرض دولي للمفروشات والأثاث المنزلي في إحدى المدن الألمانية، كنت في جولة مع أحد أصدقائي، وفي إحدى صالات العرض دخلت سيدة تحمل أزهاراً اشترتها لتوِّها لتزين بها صالتها، وبعد أن تعرفت إلينا، قالت: هناك قرب مدخل الصالة بائعة الزهور، إنها من بلدكم، منذ قليل اشتريتُ منها هذه الأزهار الجميلة....


أنهينا حديثنا لنتوجه إلى بائعة الزهور بنت بلدنا ونتعرف إليها، هاهي في ذلك الركن قرب المدخل الرئيسي محاطة بأنواع لاحصر لها من الزهور الملونة بجميع الألوان، ألقينا عليها التحية بالعربية مباشرة، فردتها بسرور حذر، قدمنا لها أنفسنا فرحبت بنا دون أن تذكر اسمها، حدثناها بأننا وصلنا هنا منذ يومين لحضور هذا المعرض، قالت: إذاً أنتم ضيوف هنا، سأدعوكم إلى تناول القهوة عند الساعة السادسة حيث تقفل أبواب المعرض.


رحبنا بفكرة بنت بلدنا وودعناها لنتابع جولتنا على أن نلتقي في السادسة. وهذا ما فعلناه وعندما عدنا سألتـُها:


_ وهل أنتِ من سكان هذه المدينة ؟


_ نعم منذ ما يزيد على خمسة عشر سنة


_ إذاً تعرفينها جيداً، دلينا على مطعم نتمكن فيه من تناول وجبة من الطعام الحلال.


_ يوجد هنا أكثر من مطعم عربي وتركي، سأوصلكم إلى أفضل مطعم


_ وستتناولين الطعام معنا إن كانت ظروفك تسمح


_ وأنا جائعة أيضاً هيا بنا


ركبنا سيارتها المتواضعة، وراحت بثقة تقودها في شوارع المدينة وتشرح لنا بعض معالمها وكأنها من أهل هذه البلاد فأصابنا شيء من الذهول يرافقه إعجاب بجرأة هذه المرأة وقوة شخصيتها الواضحة.


كان المطعم جيداً ، شعرنا براحة فجلسنا وطلبنا منها أن تختار لنا من الطعام ما تعتقد أنه يناسبنا، وهكذا فعلت.


من الطبيعي أن نحدثها عن سبب زيارتنا للمعرض، ثم نسألها عن أسرتها هنا، زوجها، أولادها، وإن كانوا بالقرب من هنا فليأتوا ليتناولوا العشاء معنا.


صمتتْ قليلاً، غص الكلام في حنجرتها، بدأت عيناها بجولة مكوكية بين النظر إلى سقف المطعم وأرضه، وبدأنا نحن بحيرة تزداد وتيرتها مع شعورنا بازدياد اضطرابها فقلتُ لها:


_ آسف، ربما أحرجتـُكِ بالسؤال عن أسرتك، لكن أنتِ في هذا السن كنت أظن أنكِ تعيشين هنا مع أسرتك.


_ لا ، لا تتأسف أنت لم تخطئ بشيئ، إنما أنا محتارة ، عندي رغبة أن أحكي لكما قصتي لكنني أخاف ...


_ مم تخافين ؟ وأنت مع أبناء بلدك !! هذه هي جوازات سفرنا ، انظري


_ لا.. لا ... لكنني أخاف أن تشتموني ، أخاف أن تكونوا قساة معي


_ لا يا أختنا ، إن استطعنا أن نساعدك أو أن نقدم لك الخير فسنفعل وإلا فلن تري منا شراً أو أذية، إن كانت عندك الرغبة فعلاً بالتحدث إلينا فسوف نسمعك برحابة صدر.


_ منذ سنوات وأنا لدي الرغبة بأن أحكي قصتي إلى أحد لا يعرفني، وسأحكيها الآن:


قبل خمسة عشر سنة، أنهى نبيل دراسته الجامعية هنا، بدأ بالعمل في شركة كبيرة، وجاء إلى بلده يريد أن يخطب ويتزوج...


كنت متحمسة للسفر، كنت أحب أن أرى الدنيا، فوافقت وأقنعت أهلي بالموافقة، فنحن تربطنا قرابة وإن كانت بعيدة.


جئتُ معه إلى هنا، انبهرتُ بهذه الحضارة، أحسست أنني نلت الكثير من حريتي المفقودة وطمعتُ بالمزيد.... كنت أشعر بعقدة النقص أمام المرأة هنا فقررت أن أصبح مثلها ، بل أتفوق عليها


كانت أياماً جميلة، أتقنت اللغة وأصبح لدي صديقات من هذه البلاد، بدأت أقلدهن في كل شيء، نزعت حجابي، بدأت أذهب معهن في الرحلات صرت وكأنني واحدة منهن.


خلال ثماني سنوات تحولت إلى امرأة أخرى، امرأة أنا ذاتي لا أعرفها،في هذه الفتره أنجبت ابنتين وصبي. كان نبيل منهمكاً في عمله وسجل للحصول على شهادة الدكتوراه، كان يسايرني في كثير من الأمور، أما الأمور التي كان يعارضني فيها فكنت أتغلب عليه بعنادي الشديد، حتى وصلت الأمور إلى درجة ظهرت فيها الخلافات بيننا إلى درجة العلن فتدخل الأصدقاء عدة مرات لاصلاح ما يمكن اصلاحه....


مرت فترة طويلة والحال على ماهو عليه، وفجأة قرر نبيل العودة إلى الوطن وقال لي : لقد أصبحتِ متمردة، فقدتُ السيطرة عليكِ وأخاف أن أفقدها على أبنائي، يجب أن نعود فلن ينفعنا شيئ إن خسرنا أبنائنا....


ما يسميه هو خسارة الأبناء كنت لا أراه إلا ضرباً من الخيال، عارضتُ العودة بشدة، فكيف أعود إلى قيودي، لقد حصلنا جميعاً على الجنسية هنا، أنا الآن مواطنة لي كامل حريتي ولا يستطيع أحد أن يفرض علي أمراً لا أقبله.


اشتدت الأزمة بين قراره بالعودة ورفضي، فهددته بإخبار الشرطة بأنه يغصبني على ذلك....


أخذ نبيل أمر تهديدي على محمل الجد.... هدأ فترة ثم بدأ يتلطف معي ويتودد إلي ويذكرني بأجمل أيامنا، وشرح لي كيف أننا ابتعدنا عن بعضنا بسبب ظروف عمله، واقترح علي أن نذهب في أقرب فرصة برحلة إلى شواطئ اليونان.


حاولت أن أكون ايجابية معه قدر الامكان ، لكنني لم أتمكن من إعادة الصفاء إلى علاقتنا وأظن أن السبب هو تهديدي له الذي جعلني أستصغر نفسي كلما تذكرت تلك اللحظات.


على شواطئ المتوسط الدافئة أمضينا استراحة ممتعة ، كنت أشعر بسعادة بالغة عندما ألاحظ سرور الأولاد في تلك الرحلة التي افتقدناها منذ زمن، لكن شيئاً ما كان ينقصني وكنتُ أشبـِّهُ هذا الدفء الذي يحيطني كدفءٍ آتٍ من مدفأة كهربائية وشتان بينه وبين ذاك الدفء الذي كان يأتيني من مدفأة الحطب التي تشتعل على حطب الزيتون.


في اليوم الرابع لتلك الرحلة استيقظتُ متأخرة ، نظرتُ إلى الساعة فإذا بها تشير إلى الرابعة، لا يوجد أحد في "الشاليه"، فهل خرجوا إلى شاطئ البحر من دوني ؟؟


أردتُ الخروج فإذا بورقة ملصقة على الباب مكتوب عليها، وأنتِ تقرأين هذه الكلمات نكون نحن دخلنا أجواء وطننا، إن أردت أن تأتي أهلاً وسهلاً.


نعم سآتي.... لملمت أغراضي وتوجهت طائشة إلى بيتنا في ألمانيا، وفي اليوم التالي كنت في مكتب المحامي لأتقدم بإدعاء بأن زوجي سرق الأولاد، وأطالب الحكومة بأن تعمل على إعادتهم فوراً، الابنتان في المدرسة الابتدائية والصبي سيدخل المدرسة هذه السنة.


ألـّفتُ حولي بعض وسائل الإعلام لأسبب حرجاً للحكومة لتجدَّ السعي في إعادة أبنائي بالسرعة القصوى لأنني أعلم إن حصل هذا فسأحصل من الحكومة على سكن وراتب ولن أحتاج أحداً.


وعدوني بأن أبنائي سيكونون عندي، وستجري كل الأمور على ما يرام.


في هذه الفترة عاش نبيل مع الأولاد فترة صعبة جداً، يخاف عليهم لأنه يعلم أنهم سيتعرضون للاختطاف. يتنقل بهم من مكان لآخر، لا يستطيع العمل ، لا يستطيع أن يسجلهم في المدرسة. وكلما كانت حالتهم تسوء كلما كنت أشعر أن نصري أصبح قريباً.


استيقظت صباح أحد الأيام مذهولة.... أنا ميتة، كيف أقوم من سريري؟!! منذ قليل كنت ميتة، كانوا يدفنونني، الكل حضر وفي يده زهرة، إلا زوجي وأولادي ، لا يحملون الزهور، الكل يقرأ ويدعو لي بالرحمة إلا زوجي وأولادي فهم صامتون، هذه أختي تسألهم لماذا لا تدعون لها، وهذه أخت زوجي تجيب عنهم، ألا تعلمين أنهم بكم لا ينطقون...


يا إلهي ما هذا الحلم !!! ماذا فعلت بنفسي ؟ أنا نسيت الموت ، أنا نسيت الحساب، أنا نسيت أنني استقويت بالقانون على زوجي وأنني أستعمل أطفالي لمحاربته.


تملكني خوف كبير، تمنيتُ أن أرفع السماعة وأتصل بأهل زوجي وأقول لهم بأنني نادمة وأنني سأصلح ما أفسدته لكن كبريائي من جهة واحساسي بأنهم لن يصدقوني من جهة أخرى منعاني من ذلك.


توجهت إلى مكتب الشرطة لأخبرهم بأن بلاغي عن سرقة أولادي هو بلاغ كاذب وأن زوجي أخذ أولادي بموافقتي وأنني أريد أن ألحق بهم.


لم يكن الأمر بهذه السهولة ، وحكم علي بالسجن على تصرفي هذا ، رضيت حكم السجن لأنني اعتبرته عقاباً أستحقه، وأنا بحاجة لأعيد ترتيب حساباتي من جديد. خسرت كل شي ، لكن الأهم أنني شعرت أنني خسرت نفسي.


في السجن راجعت نفسي كثيراً، وقررت أن أقبل بأي عرض صلح يصلني. منذ ثلاث سنوات خرجت من السجن، واخترت أن أعمل بائعة زهور لأعيش بين زهور حُرِمْتُ من أن تضعها أسرتي على قبري.... وأن أنتظر القدر... لكن على ما يبدو أنني أحلم وسأظل أحلم طويلاً.


هل عرفتما لماذا كنت خائفة أن أحكي لكما؟؟ هل تشتماني الآن ؟؟


انتهى المعرض وعدنا إلى الوطن وأنا تتملكني الحيرة كيف رفضتْ هذه المرأة عرضنا في محاولة الدخول في مساعي الصلح، فقد امتنعتْ باصرار شديد أن تدلنا على أسرتها.