المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قضاة رفعوا راية العدل



سارة
02-10-2011, 04:54 PM
قضاة العرب: مواقف مذكورة ومشكورة


من المعلوم أن أول واجب للدولة هو إقامة العدل بالمحافظة على حرية المواطن وماله وشرفه وعرضه. ولا يكون ذلك إلا عن طريق القاضي. لذلك كان القاضي هو وجه الدولة بالنسبة للمواطن فيما يتعلق بحقوقه.

والمواطن لا يشعر بسلطان الدولة وعدالة السلطان إلا عندما تعود له حقوقه ذات الصلة المباشرة به، أي بماله وحريته وعرضه. لذلك كانت السلطة القضائية هي ذات الصلة المباشرة بالشعب والأفراد. أما السلطة التشريعية فلا رابطة بينها وبين الفرد بصورة مباشرة.

ولهذا اهتمت الدول المتقدمة ودساتيرها بالسلطة القضائية وأعطتها كل ما يلزم من حصانة وحماية وتقدير لتقوم بواجبها في المحافظة على شرف المواطنين وحرياتهم وأموالهم وحياتهم.

قال أرسطو: بالعدل قِوام العالم. وقال مونتسكيو: لا حرية إلا إذا فـُصلت السلطة القضائية عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية.

وقال رئيس جمهورية فرنسا السابق (فانسان أوريول) في تقريره الذي وضعه عن حالة فرنسا بعد انتهاء رئاسته عام 1955:

"يوم يفقد المواطنون ثقتهم بالعدالة، تتعرض الدولة، كما يتعرض نظام الحكم لأشد الأخطار."

وهذا ما حصل فعلا في فرنسا بعد سنتين، حيث انقلب نظام الحكم وزالت الجمهورية الخامسة واستولى ديغول على الحكم بالطريق الثوري.

وفي تاريخنا العربي أمثلة لا تكاد تحصى من العدالة المثلى، ضربها قضاة رفعوا راية العدل، وحكام حَمَوا هذه الراية ودعموها بالقوة والسلطان حتى ولو كانت عليهم أو على غير ما يريدون ويشتهون.

لما ولي عمر الخلافة
ولا شك أن من أهم الأسباب التي سمت بنفوس هؤلاء الولاة والقضاة إلى هذا المقام في العدالة والمساواة، هو ما يتمتع (ما تمتع) به الخلفاء، والأمة من ورائهم، من خلق قويم وإيمان متين، حتى كانوا قدوة صالحة لقضاتهم وعمالهم.

وقد قال عمر بن الخطاب حين ولي الخلافة: لقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتم في خيراً فأعينوني، وإن رأيتم فيّ شراً فقوّموني.
فأجابه رجل: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً، لقوّمناه بحد سيوفنا.
فقال عمر: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوّم اعوجاج عمر.
وأن أمة هذا شأنها، لا تقهر ولا تغلب.

بين علي بن أبي طالب وذمّي
شكا ذمّي إلى عمر بن الخطاب علياً بن أبي طالب، فقال عمر: قم يا أبا الحسن إلى جانب خصمك، فقام مغاضباً، وقضى عمر بينهما ثم قال: أساءك يا أبا الحسن أن أدعوك إلى جانب خصمك وأنت مكذوب عليك؟ فقال علي: كلا وإنما ساءني أن تدعوني بأبي الحسن وتدعوه باسمه فيداخله شيء من الرهبة.

وفي عهد الراشدين دخل علي بن أبي طالب مع خصم له ذمّي على القاضي شـُرَيْح، فقام شريح احتراما لعلي، فقال علي: هذا أول جورك. أي أن قيام القاضي لأحد الخصمين جور.

ولقد بلغت العدالة لدى الإمام علي بن أبي طالب، أنه بعد أن طعنه (ابن ملجم) طعنته القاتلة، وأصبح على أهبة الموت، بقي حريصاً على إقامة العدل حتى في قاتله، فقال لأولاده وأقربائه:

- يا بني عبد المطلب، لا ألفيتكم تخوضون في دماء المسلمين خوضاً، تقولون قـُتِل أمير المؤمنين فلنقتل بدمه الكثر. ألا لا تقتلنّ بي إلا قاتلي. انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه، فاضربوه ضربة بضربة، ولا يُمثـّل بالرجل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إياكم والمَثـْلة ولو بالكلب العقور.

وهكذا حرص عليّ على إقامة العدل، على قاتله، وبعد موته.

"وماذا تنفع الأسوار"؟
وجميل في هذا الصدد ما ورد في عدد نيسان (أبريل) الماضي من (العربي) صفحة 112 من أحد الولاة كتب إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز يطلب منه مالا على بناء سور حول عاصمة الولاية، فأجابه عمر: "ماذا تنفع الأسوار؟ حصّنها بالعدل، ونقّ طريقها من الظلم."

بين الفقيه أبي يوسف والرشيد
وكان الفقيه الكبير أبو يوسف قاضياً في زمن الرشيد، فشهد عنده الفضل بن الربيع وزير الخليفة الرشيد، فرد أبو يوسف شهادته ولم يقبل بها. فعاتبه الرشيد في ذلك، قال:
- لم رددت شهادة الفضل؟
فقال: سمعته يقول لك أنا عبدك، فإن كان صادقاً فلا شهادة للعبد وإن كان كاذباً فكذلك.. أي لا شهادة لكذوب. (عن ابن خلكان)

بين أبي جعفر المنصور وزوجته أم المهدي
وفي العهد العباسي وقع نزاع بين أبي جعفر المنصور وزوجته أم المهدي بنت يزيد الحميرية، وكان على قضاء مصر قاض يدعى الغوث ابن سليمان الحضرمي، فاستقدمه المنصور وقال له:
يا غوث إن صاحبتكم الحميرية، خاصمتني إليك في شروطها.
فقال الغوث: أيرضى أمير المؤمنين أن يحكـّمني عليه.
قال نعم.
فقال الغوث: فليأمر أمير المؤمنين أن توكـّل وكيلا، وتـُشهد على وكالته شاهدين حُرّين يعدلهما أمير المؤمنين على نفسه.
ففعل المنصور. ووكلت خادما عنها وبعثت معه كتاب صداقها، أي عقد زواجها.
فقال القاضي: إن رأى أمير المؤمنين أن يساوي الخصم في المجلس.
فانحط المنصور عن فرشه وجلس إلى جانب وكيل زوجته. فأخذ الغوث كتاب الصداق وقرأه على المنصور وقال: "هل يقرّ أمير المؤمنين بما فيه؟"
قال: نعم.
فقال القاضي: أرى في الكتاب شروطاً بها تم النكاح بينكما، أرأيت يا أمير المؤمنين، لو خطبت إليهم فتاتهم، ولم تشترط لهم هذا الشرط، أكانوا يزوجونك؟
قال: لا
فقال الغوث: بهذا الشرط تم النكاح وأنت أحق من وَفى لها بشرطها.
فخضع المنصور للحكم ووفى الشرط والتزم به. (عن كتاب: أخبار قضاة مصر)

وفي الأندلس
وفي الأندلس طلب الأمير عبد الرحمن بن معاوية من القاضي نصر بن ظريف ألا يتعجل في الحكم على رجل يدعى حبيب القرشي بشأن قرية له. فحكم القاضي لتوه على الرجل.
فغضب الأمير واستحضره وقال له: "من أمرك على أن تنفذ حكماً وقد أمرتك بتأخيره والأناءة به؟"
فقال القاضي: "قدّمني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما بعثه الله بالحق ليقضي به على القريب والبعيد، والشريف والدنيء. وأنت أيها الأمير ما الذي حملك على أن تتحامل لبعض رعيتك على بعض، وأنت تجد مندوحة بأن ترضي من مالك من تـُعنى به تحدّ الحقّ لأجله؟!"
فاتعظ الأمير وقال: "جزاك الله خيراً يا ابن ظريف." (عن تاريخ قضاة الأندلس للنباهي)

ذكاء القاضي وسعة علمه
ولا بد للقاضي الذي أعطاه القانون هذه الحصانة والحماية والتقدير من أن يكون ذكياً فطنا عالماً، ذا عقل راجح واطلاع واسع، ليستطيع التوصل إلى الحق رغم محاولات الخصوم.

عديّ ابن أرطأة وزوجته
وفي التاريخ العربي قضاة، كانوا آية في الذكاء والفطنة، وكان منهم الأديب والشاعر والمحدّث. وقد كان عديّ بن أرطأة والياً على العراق في عهد عمر بن عبد العزيز، فتزوج امرأة وشرط لها الدار التي أسكنها فيها.
ولما أراد العودة إلى الشام، دخل على القاضي شريح وقال إني رجل من الشام.
فقال القاضي: من مكان سحيق.
فقال: وتزوجت عندكم.
قال: بالرفاه والبنين.
قال: وأردت أن أرحل.
قال: الرجل أحق بأهله.
قال: وشرطت لها دارها.
قال: الشرط أمْلـَك.
قال: فاحكم بيننا.
قال: قد حكمت.

وهكذا حكم شريح على والي العراق أثناء عرض القصة بهذا الأدب الجميل والإيجاز البديع.

القاضي الأديب والفتى السكران
ومن طرائف تذوق القضاة للأدب والشعر، أن قاضي مدينة (البيرة) في الأندلس واسمه محمد بن عبد الله بن أبي عيسى كان ذواقة للأدب. وقد ركب مرة في مركب حافل مع وجوه البلد إذ خرج من بعض الأزقة فتى متأدب يتمايل سكراً، فلما رأى القاضي هابه وأراد الفرار، فخانته رجلاه، فاستند إلى الحائط، فلما قرب منه القاضي أنشأ يقول:

ألا أيها القاضي الذي عمّ عدلهُ
فأضحى به في العالمين فريدا
فإن شئت أن تجلد فدونكَ مَنكِباً
صبوراً على ريب الخطوب جليدا
وإن شئت أن تعفو تكن لكَ منةٌ
تروح بها في العالمين حميدا
وإن كنت تختار الحدود فإن لي
لساناً على هجو الرجال حديدا

والسلام عليكم

محمد شهير أرسلان – حلب