المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : يوم عادي جدا



كعبلون
05-06-2011, 12:47 AM
لم يكد يلقاني في إحدى الشوارع المتفرعة عن السوق المركزية حتى امسك برقبتي من الخلف قائلا: أمسكت بك يا خائن.." التفت بسرعة لأشاهد وجه عبد السلام ..شاب عرفته من الكلية ...عرفته لأنني وبمجرد أن سلمت عليه للمرة الأولى في حياتي... حذرني من حولي بأن هذا الرجل يصطنع الوطنية ..لكننه لا يتورع عن نقل أخبار الطلاب ...لفوق!
لا أدري ما الذي استفزني حينها أن ابقي علاقتي معه.. كنت أتلذذ بإطلاق "مسامير" التعليقات لتستقر في أذنه.. فتزعجه... لكنها كانت تعليقات عادية...بريئة في ظاهرها.. لا يمكن أن تستفز الحس الأمني للذين هم "فوق" ..لكنها كافية لتجعل عبد السلام ينفجر غيظا..
استمرت علاقتنا طوال سنوات الدراسة..ثم افترقنا لأذهب أنا إلى مغتربي.. وهو إلى وظيفته مسبقة الصنع..
- أهلا عبد السلام.. كيف الأحوال.. اشتقنا لك يا رجل..
- أنت أيها الخائن.. تعود لبلاد ولا تخبر أحدا...حتى أنا.. أنك عدت..
- لا أنا لا اعد بعد.. هذه جولة تفقدية لأطمئن على استتباب الأمن..
- تعال تعال... دعني ادعوك لكاس من الشاهي ولنتحدث قليلا عن أخبارك..
رافقني مكرها نحو سيارته الفارهة.. ركبت فيها رغم كراهتي لذلك .. وأنا أشعر أن جبل قاسيون جاثم على صدري وأنا اختطف جهارا نهارا واعتقل في سجن هذا الرجل المتحرك.. اقصد سيارته..
ما أن ركبت في السيارة حتى بادرني بالقول.: جئت لتطمئن على الأمن والأمان في هذا البلد؟... أي أمن وأمان وهؤلاء المخربين يحاولون تدمير البلد!؟
- أي مخربين يا عبدالسلام؟
- هؤلاء المخربين الذين يريدون إسقاط سلطة القانون في البلد..."
توقف عبدالسلام بجوار شرط المرور .. فتح الشباك وناوله شيئا في يده وقال : معلم ..أريد إن أوقف السيارة هنا في الممنوع... دقيقتين وأعود بسرعة.." تحرك عبد السلام بالسيارة وأوقفها تماما تحت إشارة ممنوع الوقوف...فضحكت وأنا أتذكر حديثه قبل لحظات عن القانون..
دخلنا للمقهى.. وعلى الباب اصطدم عبد السلام بدون قصد بشاب ضخم الجثة يلبس معطفا جلديا ونظارة سوداء.. اعتذر بطريقة مبالغ فيها .. بصراحة شعرت بالسرور أنني رأيت عبدالسلام ذليلا بهذه الصورة... تابع عبدالسلام الحديث ولكن بصوت خفيض وهو يجلس على الكرسي..: طول عمره المواطن يشعر بالعزة والكرامة في هذا البلد..وله مطلق الحرية أن يعبر عن كل ما يجلو بخاطره... بالطرق المشروعة... القانون يكفل لك حرية التظاهر السلمي.. لكن يا أخي ليس بهذه الطريقة.. هناك قانون..
أبديت بلاهة متعمدة وأنا أقول: لم أفهم ما تقول؟ تتحدث عن أن القانون يكفل لك حق التظاهر.. ثم تقول لا يجوز التظاهر لان هناك قانون.. اشرح لي بالعربي!
- إذا أردت التظاهر فعليك أن تبلغ السلطات برغبتك في ذلك... وان تبلغها بالهدف والموعد.. وإلا فأنت تخالف القانون..
- أفهم منك أن كل هذه التظاهرات "العفوية" التي نراها في التلفاز هي إما غير قانونية وأصحابها مخربون للبلد.. أو أنها مسبقة التدبير وبالتالي فهي ليست عفوية!؟.
- لا يا أخي ..هناك فرق..
- طيب متل ما بدك..
- هؤلاء المندسين يريدون تخريب اللحمة الوطنية..
- على سيرة اللحمة.. سمعت أن أسعارها انخفضت بعد أن قرر البعض في الحكومة أن اللحوم لا تكفي الشعب وتجار التصدير.. فأعطوها سنة للتجار.. وهذه السنة هي من نصيب الشعب... صحيح؟!
- يا أخي أنا أكلمك عن الوطن.. وأنت تكلمني عن اللحمة!
- طيب ..دعنا نتكلم عن الخيار... والفقوس!
- اسمعني...هؤلاء يريدون تخريب البلاد... هل تريد أن نصبح مثل تونس ومصر؟
حانت مني التفاته للتلفزيون القابع في زاوية المقهى.. كان ينقل صورة شاب مصري يرفع إصبعه الملوث بالحبر الأحمر دلالة على مشاركته في الاستفتاء على الدستور..وهو يبتسم ابتسامة عريضة لإحساسه أنه فعل شيئا مهما ..لأول مرة في حياته.. رددت بسرعة: لا ..أعوذ بالله.. من يريد أن يصبح كتونس ومصر؟..
- هؤلاء يسعون باتجاه تأزم الأمور بحيث يحل بنا الخراب ...تماما كليبيا...هم يريدون سيلا من الدماء وتلالا من الجثث..
- ولماذا تفترض أن النظام هنا..كالقاذفي؟ لماذا تفترض أنه سيلجأ للحل الدموي لحل خلاف بين أبناء الوطن؟
هز برأسه يمنة ويسرى وقال دون أن ينظر إلي: أقصد... انظر الآن لطائرات التحالف وهي تقصف ليبيا.. هل يرضيك هذا؟
رددت بلا مبالاة: الحق على الثائر القادم من الصحراء.. لو أنه استمع لرغبة الشعب لما حصل كل هذا.. وهو ما زال يقتل شعبه بدل أن يدافع عن ليبيا ضد هذا الغزو المفترض...على كل حال لا أريد لبلدي أن يصبح ليبيا أخرى..
همس ثانية:..لا تغير الموضوع..اكبر دليل على أن لهؤلاء أجندة خارجية هو توقيت هذه العملية..رغم أن الحكومة وعدت بالاصطلاح والقضاء على الفساد وتطبيق العدالة والرخاء والحرية..ماذا يريدون؟
-جميل أن اسمع أن الحكومة تعترف بانعدام هذه الأمور حاليا.... أو على الأقل .. بفشلها في تحقيقها حتى الآن
- يا أخي لا تغير الموضوع... هؤلاء المندسين لهم أجندة خارجية.. هم ينادون بالقضاء على الفساد..
- يا لطيف .. يخرب بيتهم... وكيف سيعيش الموظفون إذا قضي على الفساد؟ أكيد لهم أجندات خارجية..
- أسألك بالله أن تكلمني جد ولو مرة واحدة في حياتك... الوطن يتعرض لخطر وأنت ولا على بالك.... لقد وعدت الحكومة بان جنسية بلادنا ستصبح حلما لكل الناس..
- يا له من خبر!.. يعني سنصبح جميعا ..."بدون"؟
- لا تجنني... هؤلاء المجرمين صهاينة.. صهاينة بالتأكيد..
- على فكرة.. أنا حتى الآن لم افهم عمن تتحدث... فأنا وصلت البارحة فقط..
- ألم تسمع بالتظاهرات التي حصلت في السوق أول البارحة... هؤلاء يهددون الأمن والأمان والاستقرار في البلاد..
- الأمن والأمان..هممممممممم...." نظرت لذلك الشاب الذي يلبس نظارات سوداء ويجبر جميع من في المقهى على التحدث بصوت خفيض... تابعت قائلا: لربما!... ولكن بماذا ينادون؟
- ينادون بالحرية.. تخيل!
- الحرية!!!!..يخرب بيتهم فردا فردا ودار دار ... وزنقة زنقة... الحرية! أنا طوال عمري أقول أن جماهير نادي الحرية يهود.. صهاينة.. والآن تأكدت...
قفز كالملسوع من على الكرسي قائلا: يا بني آدم ... يريدون حرية...هم يقولون" ورفع عقيرته ومد صوته وهو يقول:" ... حريــة ..حريـة.... البلد فيها فساد... ولازم يتغير النظام... فهمت؟!

قفزت كالمسلوع وغادرت الطاولة وأنا أقول: هؤلاء أكيد مخربين... أنا مالي علاقة لا بهم .....ولا بك..
وبسرعة البرق.. امسك الشاب ذي النظارة السوداء بصاحبي عبد السلام...واقتاده خارج المقهى... بينما هربت أنا من باب المقهى الآخر.. وأنا أفكر بالأمن و... والأمان.

كعبلون
05-06-2011, 12:54 AM
اضطررت اليوم للنزول للشارع المزدحم.. رغم علمي ان المنطقة التي سأذهب إليها ستكون مليئة بالشباب المحتفل بأعراس الوطن.. كنت البس معطفي الاسود الطويل وامشي بصعوبة بين الشباب المندفع الذي يغني للوحدة الوطنية بكل قوته.. كان المظهر من الخارج ابداعيا مبهجا.. مليئا بالألوان..لكنه كان سورياليا ينتمي للمدرسة التكعيبية في فنون السياسة التلونية.. كنت اتجنب ان ارفع رأسي فتلتقي عيني بعين احد اصدقاء الوطن فاضطري ان امضي بقية اليوم في الشارع ..."أتظاهر" ...بالفرح.
لم أدر كيف استطاع ان يميزني بين هذه الجموع رغم أنني اغمس رأسي بين كتفي ولا ارفع عيني عن الأرض.. ضم ساعده بين ساعدي وجسدي وسحبني معه بشدة.. نظرت لعبد السلام وقد كان عنيفا وجديا جدا هذه المرة.. قلت بهدوء هامسا: عبد السلام..أنا آسف ...انت وضعتني في وضع سيء.. في مثل هذه الحالات وحفاظا على الامن والامان كان يجب ان اتصرف كما تصرفت.. هاأنت اعتقلت وخرجت ..اما انا فبالتأكيد كنت سابقى في ضيافة الامن والامان لفترة طويلة..."
لم يهتم عبدالسلام لكلامي كثيرا...رد باقتضاب "لا عليك..." ثم تابع ماشيا... اخذني لنفس المقهى القديم..وهو مقهى مشهور في المنطقة ..وكان كالعادة هناك شاب يرتدي الاسود وبنظارة سوداء ...زاحمه عبد السلام الباب بشكل واضح، وكأنه يريد ان يشتبك معه، ولكن للغرابة لم تكن ردة فعل الشاب الا ان افسح له مساحة اكبر تكفي لمرورنا سوية..يبدو ان عبدالسلام امتلك اخلاق الثورة في السجن.
جلست امام عبدالسلام... رفع عبدالسلام اصبعه راسما إشارة النصر ، ففهم النادل انه يطلب كأسين من الشاهي.. تبسمت قائلا: ليتك طلبت وجبتي فول..فالفول ضرورة تقتضيها استحقاقات المرحلة التاريخية..
لم يرد عبد السلام..وضع مرفقيه على الطاولة واشبك اصابع كفيه ببعضهما ووضعهما تحت ذقنه ثم أطرق نحو الأرض
قررت استفزازه.. قلت بهدوء: ابشرك.. لقد تم قتل الخرفان السوداء التي كانت تشذ عن القطيع طالبة الحرية وقطع ارزاق الموظفين الشرفاء فيما يسمى زورا الحرب على الفساد، وهاهو باقي القطيع يتوزع لحومها واصوافها ويهريق دماءها في الشارع فرحا بالنصر.."
بدى الامتعاض على وجه عبد السلام..خرج عن صمته وقال مشيرا بيده للخارج دون أن يرفع رأسه: هل ترى عرس الوطن؟
رددت متصنعا الدهشة: وهل أعرس الوطن؟ مبارك ..مبارك.. ومتى كان النكاح ما شاء الله؟..
لم تهتز لعبد السلام شعرة وبقي واجما..تابعت محاولا استفزازه: لكن خطر لي خاطر.. طالما ان النكاح لم يعقد حتى اليوم.. ما كان اسم العلاقة التي كانت تربط العريس بالعروس خلال العقود الماضية؟
برم عبد السلام شفته مبديا عدم تلقيه للدعابة.. تابعت سائلا: طيب يا شيخ عبد السلام.. هل يجوز شرعا للابن ان ينكح ما نكح ابوه؟
ايضا لم تستفز هذه الجملة عبد السلام...رفع راسه وسالني وقد ارسل عينيه الواجمتين للافق البعيد: هل سمعت بما حصل هناك؟
رددت بسرعة: نعم للأسف..سمعت ان جميع اجهزة أمن الوطن لم تستطع التنبؤ او السيطرة على تلك الاشباح المسلحة التي كانت تطلق النار عشوائيا على الجميع..ولكن الشيخ رزوق كتب لهم رقية "طفشتهم" والحمد لله..والأمن مستتب الآن..
لم يبد ان عبد السلام كان يستمع لي.. قلت بهدوء: يقال ان للأرقام سرا خاصا في التعامل مع عصابات الجن والاشباح.. لربما لم يكن عدد الاجهزة الامنية هو العدد الصحيح لمنع هذه الاشباح.. اقترح ان يراجعوا عالما روحانيا لتحديد الرقم الصحيح..
صمت عبد السلام استفزني.. فقررت الكف عن محاولة استفزازه... بقيت ارقبه ربع ساعة كاملة وهو واجم يطرق راسه في الأرض.. وصل الشاي ولكن عبد السلام لم يرفع رأسه لينظر إلى كاسه...قلت هامسا: هل رأيت ما حصل في المسجد؟ بدا عليه بعض الاهتمام وقال: نعم... الله يرحمهم.."
رفع كاس الشاهي إلى شفتيه ثم اخفضها دون ان يرتشف شيئا .. ثم قال باسما ابتسامة حزينة تظهر انه يصطنع الطبيعية: هذا افضل شاهي في العالم!"
كنت اعرف ان طعم الشاهي في هذا المطعم يشبه طعم مياه الغسيل في مطعم الجيش الذي امضيت فيه عامين كاملين..تبسمت قائلا: هل جربت طعم شاي ايرل غراي؟ نظر إلى عبد السلام ولم يرد.. تابعت: هل تذوقت طعم الشاي الاخضر بالنعناع في مقهى مغربي في احدى شوارع كازابلانكا الجميلة؟ هل تذوقت الشاي العراقي على رائحة شواء السمك في قارب يسبح في مياه دجلة؟ هل شربت كاسا من الشاهي الصيني؟ الهندي ...البريطاني.. ؟
رد بابتسام مصطنع: هذا "شواهي" امبريالية لا يتناولها المناضلون..
رددت متابعا: اذا كيف حكمت ان هذا الشاهي هو افضل شاهي في العالم ..لربما لو سمح لك بتذوق تلك الشواهي لما وجدت هذا الشاهي يصلح للاستخدام البشري أساسا!.
لم يرد.. فتابعت: لربما يحق لك القول ان هذا الشاي هو افضل شاهي تناولته في حياتك البائسة ايها المناضل.. لكن بالتأكيد هناك وارء البحار شواهي اكثر روعة..هناك طعومات والوان وحيوات افضل بكثير مما تعتقد انه الافضل.. لكنه تجهل جماله لانك لم تتذوقه.."
لم يبد عبد السلام أي اهتمام بكلامي..فكرت ان اعود للحديث الذي اثاره فقلت وانا انظر للأفق : يا ترى ما هو ذلك الاحساس الذي يمكن ان يحسه انسان يشعر بالحرية في بقعة صغيرة من الوطن بمساحة مصلى مسجد رغم ان الرصاص يزغرد فوق رأسه.. قلبي يتمنى لو أنني كنت هناك ..معهم في المسجد.. اتنشق عبير الحرية ولو انها ستكلقني حياتي كما كلفتهم.. ولكن عقلي ينظر لافراح الوطن ويقول.. ما انا إلا من غزية إن ثغت...ثغوت وإن ترقد غزية أرقد..فلمن اناضل طالما انني في النهاية مجرد "شاة قاصية" يحتفل الوطن بسفك دمها؟
..صمتت قليلا ثم قلت: اصارحك القول..لكم اتمنى لو كنت هناك...
رفع عبد السلام راسه..كانت عيناه تشع بالم كبير وتكاد تنفجر حمرة وكأنها بركان متوقد..ثم قال محشرجا والدمع في عينيه: ابن عمي كان هناك.."


ملاحظة: كتبت القصة اعلاه في بدايات الثورة السورية.. عندما خرجت المسيرة المليونية لتأييد الرئيس.. تقريبا في اواخر الشهر الثالث آذار وكان الكثير من المراقبين استغربوا خروج مظاهرات بينما كانت درعا تتعرض لاطلاق النار واستشهد منهم كثيرون..