ثم حكى أبو رية ما روي عن إبراهيم: (كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة، ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة، كانوا يرون في حديث أبي هريرة شيئًا ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة إلا ما كان من حديث صفة جنة أو نار، أو حث على عمل صالح، أو نهي عن شر جاء بالقرآن، دعني من حديث أبي هريرة، إنهم كانوا يتركون كثيرًا من حديثه).
أقول: ذكر ابن كثير في البداية (8: 109) بعض هذه الكلمات عن ابن عساكر، ولم يسق السند بتمامه، وباقيها أخذه أبو رية من شرح النهج لابن أبي الحديد (1: 360) حكاه ابن أبي الحديد عن الإسكافي، وراجع (ص 109). وقد تقدم (ص121) أخذ إبراهيم بحديث أبي هريرة الذي أخبرت عائشة بخلافه فترك أبو هريرة
128
الإفتاء به وقال: «إنما حدثنيه الفضل بن عباس» وأخذه به يدل على ثقة بالغة بأبي هريرة وحديثه، ثم إن صحت تلك الكلمات أو بعضها فقوله: (كان أصحابنا) يريد بهم أشياخه من الكوفيين وإليهم يرجع الضمير في قوله: (كانوا) وحق هذه الكلمات -إن صحت عن إبراهيم – أن تنتقد عليه لا على أبي هريرة. وقد تقدم بيان حال أبي هريرة عند الصحابة وثناؤهم عليه وسماعهم منه وروايتهم عنه، ويأتي لذلك مزيد، وبان سقوط كل ماخالف ذلك من مزاعم أهل البدع وظهرت حجة أبي هريرة فيما انتقده بعضهم عليهم، ثم إن التابعين من أهل الحجاز وعلمائه وهم أبناء علماء الصحابة وتلاميذهم والذين حضروا مناظرتهم لأبي هريرة وعرفوا حقيقة رأيهم فيه أطبقوا هم وعلماء البصرة والشام وسائر الأقطار -سوى ما حكي عن بعض الكوفيين- على الوثوق التام بأبي هريرة وحديثه. وقد كان بين الكوفيين والحجازيين تباعد، والكوفيون نشأوا على الأحاديث التي عرفوها من رواية الصحابة الذين كانوا عندهم، ثم حاولوا تكميل فقههم بالرأي وجروا على مقتضاه، ثم كانوا إذا جاءهم بعد ذلك حديث بخلاف ما قد جروا عليه وألفوه تلكأوا في قبوله وضربوا له الأمثال، وإذ كان أبو هريرة مكثرًا كانت الأحاديث التي جاءتهم عنه بخلاف رأيهم أكثر من غيره، فلهذا ثقل على بعضهم بعض حديثه، وساعد على ذلك ما بلغهم أن بعض الصحابة قد انتقد بعض أحاديث أبي هريرة، وقد كان أهل الحجاز أيضًا ينفرون عن الأحاديث التي تأتيهم عن أهل العراق حتى اشتهر قولهم: نزلوا أهل العراق منزلة أهل الكتاب، لا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وعلى كل حال فقد انحصر مذهب أهل العراق في أصحاب أبي حنيفة، وقد علمت بأن أبا هريرة عندهم عدل ضابط، واعتراف محققيهم بأنه مع ذلك فقيه مجتهد، والأحاديث التي يخالفونها من مروياته سبيلها سبيل ما يخالفونه من مرويات غيره من الصحابة، والحق أحق أن يتبع، والله الموفق.
قال أبو رية (ص171): (وقال أبو جعفر الإسكافي: وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي بالرواية).
أقول:
وقد زادني حبًا لنفسي أنني ** بغيض إلى كل امرئ غير طائل
قال: (ضربه عمر وقال: «أكثرت من الحديث، وأحرى بك أن تكون كاذبًا على رسول الله»).
أقول: عزاه أبو رية إلى شرح النهج لابن أبي الحديد، وقد مر النظر فيه (ص 109) وراجع (ص 119).
قال: وفي
الإحكام للآمدي (أنكر الصحابة على أبي هريرة كثرة روايته.. ).
أقول: قد فرغنا من هذا.
129
قال: (وجرت مسألة المصراة في مجلس الرشيد، فتنازع القوم فيها وعلت أصواتهم، فاحتج بعضهم بالحديث الذي رواه أبو هريرة، فرد بعضهم الحديث وقال: أبو هريرة متهم، ونحا نحوه الرشيد).
أقول: جواب الحكاية في تتمتها التي حذفها أبو رية وأخفى المصدر، وقد كنت وقفت عليها بتمامها في
تاريخ بغداد أحسب، ولم أهتدِ إليها الآن، وقد كان يحضر مجلس الرشيد بعض رءوس البدعة ك
بشر المريسي.
وذكر أبو رية كلامًا لجولدزيهر اليهودي وغيره من المستشرقين لا شأن لنا به؛ لأننا نعرف هؤلاء وافتراءهم على رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png وعلى القرآن، وراجع (ص72 و 94 و 99).
وقال أبو رية (ص172): (أخذه عن كعب الأحبار…. اليهودي الذي أظهر إسلامه خداعًا وطوى قلبه على يهوديته).
أقول: قد تقدم النظر في حال كعب بما فيه كفاية، وسيلقى المجازف عاقبة تهجمه، { سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ }.
ثم ذكر رواية بعض الصحابة عن كعب، وقد تقدم النظر في ذلك (ص73 و 110 و 115).
قال: (ويبدو أن أبا هريرة كان أول الصحابة انخداعا وثقة فيه).
أقول: إنما الثابت أنه حكى عنه شيئًا مما نسبه كعب إلى صحف أهل الكتاب، وليس في هذا ما يدل على ثقة.
قال: (ورواية عنه وعن إخوانه).
أقول: إننا نتحدى أبا رية أن يجمع عشر حكايات مختلفة يثبت أن أبا هريرة رواها عن كعب، فأما إخوانه فعبد الله بن سلام لا يطعن فيه مسلم، و
تميم الداري قريب منه، ولعله لا يثبت لأبي هريرة عن كل منهما إلا خبر واحد.
وذكر كلامًا من تهويله تعرف قيمته من النظر في شواهده.
قال: (فقد روى الذهبي في طبقات الحفاظ في ترجمة أبي هريرة أن كعبًا قال فيه -أي في أبي هريرة -: «ما رأيت أحدًا لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة». ورواية
البيهقي في المدخل من
[39] طريق بكر بن عبد الله عن
[40] أبي رافع أن أبا هريرة لقي كعبًا فجعل يحدثه ويسأله، فقال كعب: «ما رأيت رجلًا لم يقرأ التوراة أعلم بما في التوراة من أبي هريرة».
أقول: هي حكاية واحدة. فالذي في كتاب الذهبي: (الطيالسي أخبرنا عمران القطان عن بكر بن عبد الله عن أبي رافع…) فذكرها. وعمران القطان ضعيف ولا يتحقق سماعه من بكر؛ وفي القرآن والسنة قصص كثيرة مذكورة في التوراة الموجودة بأيدي أهل الكتاب الآن، فإذا تتبعها أبو هريرة وصار يذكرها لكعب كان ذلك كافيًا لأن يقول كعب تلك الكلمة، ففيم التهويل الفارغ؟
130
قال: (ومما يدلك على أن هذا الحبر الداهية قد طوى أبا هريرة تحت جناحه حتى جعله يردد كلام هذا الكاهن بالنص ويجعله حديثًا مرفوعًا ما نورد لك شيئًا منه، روى البزار [عن أبي سلمة] عن أبي هريرة عن النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png قال: «إن الشمس والقمر ثوران في النار يوم القيامة». فقال الحسن: «وما ذنبهما؟ فقال [أبو سلمة]: أحدثك عن رسول الله وتقول: ما ذنبهما؟» وهذا الكلام نفسه قد قاله كعب بنصه، فقد روى أبو يعلى الموصلي قال كعب: «يجاء بالشمس والقمر كأنهما ثوران عقيران فيقذفن في جهنم».
أقول: عزاه أبو رية إلى حياة الحيوان، وسيأتي ما فيه. قال البخاري في باب صفة الشمس والقمر من بدء الخلق من صحيحه: حدثنا مسدد حدثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا عبد الله الداناج قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png قال: «الشمس والقمر مكوران يوم القيامة».
وفي فتح الباري (6: 214) أن البزار والإسماعيلي و
الخطابي أخرجوه من طريق يونس بن محمد بن عبد العزيز بن المختار، وزادوا بعد كلمة "مكوران": (في النار).
أما حياة الحيوان للدميري مصدر أبي رية فإنه ذكر أولًا حديث البخاري، ثم حديث البزار وفيه (ثوران) كما مر، وظاهر ما في فتح الباري أو صريحه أن الذي في رواية البزار والإسماعيلي والخطابي (مكوران) كرواية البخاري لا (ثوران)
[41] ثم قال الدميري: وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي من طريق درست بن زياد عن يزيد الرقاشي، وهما ضعيفان، عن
أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png قال: «الشمس والقمر ثوران عقيران في النار» وقال كعب الأحبار: «يجاء الشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم ليراهما من عبدهما» كما قال الله تعالى: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } الآية.