فصل
وقد استدل البخاري في صحيحه على بطلان الحيل بقوله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة
فإن هذا النهي يعم ما قبل الحول وما بعده
واحتج بقوله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png في الطاعون: إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه
وهذا من دقة فقهه رحمه الله فإنه إذا كان قد نهى
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png عن الفرار من قدر الله تعالى إذا نزل بالعبد رضا بقضاء الله تعالى وتسليما لحكمه فكيف بالفرار من أمره ودينه إذا نزل بالعبد
واحتج بأنه
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png نهى عن بيع فضل الماء ليمنع به الكلأ
فدل على أن الشيء الذي هو في نفسه غير محرم إذا قصد به أمر محرم صار محرما
واحتج أحمد رحمه الله على بطلان الحيل وتحريمها بلعنة رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png للمحلل وبقوله: لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل
واحتج على تحريم الحيل لإسقاط الشفعة بقوله: فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه
واحتج ابن عباس وبعده أيوب السختياني وغيره من السلف: بأن الحيل مخادعة لله تعالى وقد قال تعالى: يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم. قال ابن عباس: ومن يخادع الله يخدعه
ولا ريب أن من تدبر القرآن والسنة ومقاصد الشارع جزم بتحريم الحيل وبطلانها فإن القرآن دل على أن المقاصد والنيات معتبرة في التصرف والعادات كما هي معتبرة في القربات والعبادات فيجعل الفعل حلالا أو حراما وصحيحا أو فاسدا وصحيحا من وجه فاسدا من وجه كما أن القصد والنية في العبادات تجعلها كذلك
وشواهد هذه القاعدة كثيرة جدا في الكتاب والسنة فمنها: قوله تعالى في آية الرجعة ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا. وذلك نص في أن الرجعة إنما تثبت لمن قصد الصلاح دون الضرار فإذا قصد الضرار لم يملكه الله تعالى الرجعة
ومنها: قوله تعالى في آية الخلع: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به. وهذا دليل على أن الخلع المأذون فيه إنما هو إذا خاف الزوجان أن لا يقيما حدود الله وأن النكاح الثاني إنما يباح إذا ظنا أن يقيما حدود الله فإنه شرط في الخلع عدم خوف إقامة حدوده وشرط في العود ظن إقامة حدوده
ومنها: قوله تعالى في آية الفرائض من بعد وصية يوصى بها أودين غير مضار. فإنه سبحانه وتعالى إنما قدم على الميراث وصية من لم يضار الورثة فإذا كانت الوصية وصية ضرار كانت حراما وكان للورثة إبطالها وحرم على الموصى له أخذ ذلك بدون رضا الورثة وأكد سبحانه وتعالى ذلك بقوله: تلك حدود الله فلا تعتدوها.
وتأمل كيف ذكر سبحانه وتعالى الضرار في هذه الآية دون التي قبلها لأن الأولى تضمنت ميراث العمودين والثانية تضمنت ميراث الأطراف: من الزوجين والإخوة والعادة أن الميت قد يضار زوجته وإخوته ولا يكاد يضار والديه وولده
والضرار نوعان: جنف وإثم فإنه قد يقصد الضرار وهو الإثم وقد يضار من غير قصد وهو الجنف فمن أوصى بزيادة على الثلث فهو مضار قصد أو لم يقصد فللوارث رد هذه الوصية وإن أوصى بالثلث فما دون ولم يعلم أنه قصد الضرار وجب إمضاؤها
فإن علم الموصى له أن الموصى إنما أوصى ضرارا لم يحل له الأخذ ولو اعترف الموصي أنه إنما أوصى ضرارا لم تجز إعانته على إمضاء هذه الوصية
وقد جوز سبحانه وتعالى إبطال وصية الجنف والإثم وأن يصلح الوصي أو غيره بين الورثة والموصى له فقال تعالى: فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه. وكذلك إذا ظهر للحاكم أو الوصى الجنف أو الإثم في الوقف ومصرفه أو بعض شروطه فأبطل ذلك كان مصلحا لا مفسدا وليس له أن يعين الواقف على إمضاء الجنف والإثم ولا يصحح هذا الشرط ولا يحكم به فإن الشارع قد رده وأبطله فليس له أن يصحح ما رده الشارع وحرمه فإن ذلك مضادة له ومنقاضة
ومن ذلك: قوله تعالى: ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. فهذا دليل على أنه إذا عضلها لتفتدي نفسها منه وهو ظالم لها بذلك لم يحل له أخذ ما بذلته له ولا يملكه بذلك
ومن ذلك: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن. فحرم سبحانه وتعالى أن يأخذ مها شيئا مما آتاها إذا كان قد توسل إليه بالعضل
ومن ذلك: أن جداد النخل عمل مباح أي وقت شاء صاحبه لكن لما قصد به أصحابه في الليل حرمان الفقراء عاقبهم الله تعالى بإهلاكه ثم قال: ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون. ثم جاءت السنة بكراهة الجداد بالليل لكونه ذريعة إلى هذه المفسدة ونص عليه غير واحد من الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره
فصل
قال أصحاب الحيل: قد أسمعتمونا على بطلان الحيل وتحريمها ما فيه كفاية فاسمعوا الآن على جوازها واستحبابها ما نقيم به عذرنا
قال الله سبحانه وتعالى: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم فالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم.
ووجه الاستدلال: أنه سبحانه وتعالى إنما عذرهم بتخلفهم وعجزهم إذ لم يستطيعوا حيلة يتخلصون بها من المقام بين أظهر الكفار وهو حرام فعلم أن الحيلة التي تخلص من الحرام مستحبة مأذون فيها وعامة الحيل التي تنكرونها علينا هي من هذا الباب فإنها حيل تخلص من الحرام ولهذا سمى بعض من صنف في ذلك كتابه المخارج الحرام والتخلص من الآثام واعتبر هذا بحيلة العينة فإنها تخلص من الربا المحرم
وكذلك الجمع بن الإجارة والمساقاة يخلص من بيع الثمرة قبل بدو صلاحها وهو حرام
وكذلك خلع اليمين يخلص من وقوع الطلاق الذي هو حرام أو مكروه أو من مواقعة المرأة بعد الحنث وهو حرام وكذلك هبة الرجل ماله قل الحول لولده أو امرأته يخلصه من إثم منع الزكاة كما يتخلص من إثم المنع بإخراجها فهما طريقان للتخلص
فالحيل تخلعص من الحرج وتخلص من الإثم والله تعالى قد نفى الحرج عنا وعن ديننا وندبنا إلى التخلص منه ومن الآثام فمن أفضل الأشياء معرفة ما يخلصنا من هذا وهذا وتعليمه وفتح طريقه
ألا ترى أن الرجل إذا حلف بالطلاق: ليقتلن أباه أو ليشربن الخمر أو ليزنين بامرأة ونحو ذلك كانت الحيلة تخليصه من مفسدة فعل ذلك ومن مفسدة خراب بيته ومفارقة أهله فإن من لا يرى الحيلة ليس له عنده مخرج إلا بوقوع الطلاق فإذا علم أنه يقع به الطلاق فزال فعل المحلوف عليه فأي شيء أفضل من تخلصيه من هذا وهذا
وكذلك من وقع عليه الطلاق الثلاث ولا صبر له عن امرأته ويرى اتصالها بغيره أشد من موته فاحتلنا له بأن زوجناها بعبد فوطئها ثم وهبناه منها فانفسخ نكاحه وحلت لزوجها المطلق بعد انقضاء عدتها
قالوا: وقد قال الله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام وقد حلف ليجلدن امرأته مائة: وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث. قال سعيد عن قتادة: كانت امرأته قد عرضت له بأمر وأرادها إبليس على شيء فقال لها: لو تكلمت بكذا وكذا إنما حملها عليها الجوع فحلف نبي الله لئن شفاه الله تعالى ليجلدنها مائة جلدة قال: فأمر بأصل فيه تسعة وتسعون قضيبا والأصل تكملة المائة فيضربها به ضربة واحدة فأبر الله تعالى نبيه وخفف عن أمته
وقال عبد الرحمن بن جبير: لقيها إبليس فقال لها: والله لو تكلم صاحبك بكلمة واحدة لكشف عنه كل ضر ولرجع إليه ماله وولده فأخبرت أيوب فقال: ويلك ذاك عدو الله إنما مثلك مثل المرأة الزانية إذا جاءها صديقها بشيء قبلته وأدخلته وإن لم يأتها بشيء طردته وأغلقت بابها عنه لما أعطانا الله تعالى المال والولد آمنا به وإذا قبض الذي له منا نكفر به إن أقامني الله تعالى من مرضي لأجلدنك مائة فأفتاه الله بما أخبر به: أن يأخذ ضغثا وهو الحزمة من الشيء مثل الشماريخ الرطبة والعيدان ونحوها مما هو قائم على ساق فيضربها ضربة واحدة وهذا تعليم منه سبحانه لعباده التخلص من الآثام والمخرج من الحرج بأيسر شيء وهذا أصلنا في باب الحيل فإنا قسنا على هذا وجعلناه أصلا قالوا: وقد أرشد النبي
ص إلى التخلص من صريح الربا بأن يبيع التمر بدراهم ثم يشتري بتلك الدراهم تمرا وروى أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: جاء بلال إلى النبي
صص بتمر برنيي فقال له النبي
ص من أين هذا قال: كان عندنا تمر ردىء فبعت منه صاعين بصاع لنطعم النبي
ص فقال له النبي
ص عند ذلك: أوه عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر بالدراهم ثم اشتر به متفق عليه
وفي لفظ آخر بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا والجمع والجنيب نوعان من التمر
وفي لفظ لمسلم بعه بسلعة ثم ابتع بسلعتك أي التمر شئت فقد أمره أن يبيع التمر بالدراهم أو السلعة ثم يبتاع بها تمرا وهذا ضرب من الحيلة ولم يفرق بين بيعه ممن يشتري منه التمر أو من غيره وقد جاء قوله تعالى إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم. وهذا إرشاد إلى حيلة العينة وما يشبهها فإن السلعة تدور بين المتعاقدين للتخلص من الربا
قالوا: وقد دلت السنة على أنه يجوز للإنسان أن يتخلص من القول الذي يأثم به أو يخاف: بالمعاريض وهي حيلة في الأقوال كما أن تلك حيلة في الأعمال
فروى قيس بن الربيع عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن في معاريض الكلام ما يغني الرجل عن الكذب
وقال الحكم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما: ما يسرني بمعاريض الكلام حمر النعم
وقال الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة ابن أبي معيط وكانت من المهاجرات الأول لم أسمع رسول الله
ص يرخص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث: الرجل يصلح بين الناس والرجل يكذب لامرأته والكذب في الحرب ومعنى الكذب في ذلك هو المعاريض لا صريح الكذب
وقال منصور: كان لهم كلام يدرءون به عن أنفسهم العقوبة والبلايا وقد لقي رسول الله
ص طليعة للمشركين وهو في نفر من أصحابه فقال المشركون: ممن أنتم فقال النبي
ص نحن من ماء ! فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا: أحياء اليمن كثير لعلهم منهم وانصرفوا وأراد
ص بقوله نحن من ماء قوله تعالى: خلق من ماء دافق.
ولما وطىء عبد الله بن رواحة جاريته أبصرته امرأته فأخذت السكين وجاءته فوجدته قد قضى حاجته فقالت: لو رأيتك حيث كنت لوجأت بها في عنقك فقال: ما فعلت فقالت: إن كنت صادقا فاقرأ القرآن فقال:
شهدت بأن وعد الله حق... وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف... وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة شداد... ملائكة الإله مسومينا
فقالت: آمنت بكتاب الله وكذبت بصري فبلغ ذلك رسول الله
ص فضحك حتى بدت نواجذه
قال ابن عبد البر: ثبت ذلك عن عبد الله بن رواحة
ويذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: عجبت لمن يعرف المعاريض كيف يكذب
ودعي أبو هريرة رضي الله عنه إلى طعام فقال: إني صائم ثم رأوه يأكل فقالوا: ألم تقل: إني صائم فقال: ألم يقل رسول الله
ص صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر
وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه غريم ولا شيء معه قال: أعطيك في أحد اليومين إن شاء الله تعالى فيظن أنه أراد يومه والذي يليه وإنما أراد يومي الدنيا والآخرة
وذكر الأعمش عن إبراهيم أنه قال له رجل: إن فلانا أمرني أن آتي مكان كذا وكذا وأنا لا أقدر على ذلك المكان فكيف الحيلة فقال له: قل: والله ما أبصر إلا ما سددني غيري يعني إلا ما بصرك ربك