وذكر عمن سمع بختيشوع يقول وهو يعرض بصالح قبل قدوم موسى.
حركنا هذا الجيش الخشن، وأرغمناه، حتى إذا أقبل إلينا تشاغلنا بالنرد والشرب، كأنا بنا وقد اختفينا إذا ورد القاطول! فكان الأمر كذلك.
وغدا طغتا إلى باب ياجور سحر يوم الأربعاء فلقيه مفلح، فضربه بطبرزين، فشجه في جانب جنبيه الأيمن، فكان الذين أقاموا مع صالح الليلة التي استتر فيها من القواد الكبار طغتا بن الصيغون وطلمجور صاحب المؤيد ومحمد بن تركش وخموش والنوشري، ومن الكتاب الكبار أبو صالح عبد الله ابن محمد بن يزداد وعبد الله بن منصور وأبو الفرج. وأصبح الناس يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من المحرم وقد استتر صالح، وغدا أبو صالح إلى دار ياجور، وجاء عبد الله بن منصور، فدخل الدار مع سليمان بن وهب، وتنصح إليهم أن عنده سفاتج بخمسة آلاف دينار.
وذكر أن صالحًا أراد على حملها، فأبى أن يقر الأمر قراره.
وخلع في هذا اليوم على كنجور ليتولى أمر دار صالح وتفتيشها، ومضى ياجور صاحب موسى فأتى بالحسن بن مخلد من الموضع الذي كان فيه محبوسًا من دار صالح.
وفي هذا اليوم من هذا الشهر ولى سليمان بن عبد الله بن طاهر مدينة السلام والسواد، ووجه إليه بخل، وزيد على ما كان يخلع على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر.
وفيه رد المهتدي إلى الجوسق، ودفع عبد الله بن محمد بن يزداد إلى الحسن ابن مخلد.
وفيه أظهر النداء على صالح.
ذكر الخبر عن قتل صالح بن وصيف
ولثمان من صفر من هذه السنة قتل صالح بن وصيف.
ذكر الخبر عن سبب قتله وسبب الوصول إليه بعد اختفائه
ذكر أن سبب ذلك كان أن المهتدي لما كان يوم الأربعاء لثلاث بقين من المحرم سنة ست وخمسين ومائتين أظهر كتابًا، ذكر أن سيما الشرابي زعم أن امرأة جاءت به مما يلي القصر الأحمر، ودفعته إلى كافور الخادم الموكل بالحرم، وقالت له: إن فيه نصيحة، وإن منزلي في موضع كذا فإن أردتموني فاطلبوني هناك، فأوصل الكتاب إلى المهتدي، فلما طلبت في الموضع الذي وصفت حين احتيج إلى بحثها عن الكتاب لم توجد، ولم يعرف لها خبر.
وقد ذكر أن المهتدي أصاب ذلك الكتاب، ولم يدر من رمى به، فذكر أن المهتدي دعا سليمان بن وهب بحضرة جماعة من الموالي فيهم موسى ابن بغا ومفلح وبايكباك وياجور وبكالبا وغيرهم؛ فدفع الكتاب إلى سليمان، وقال له: تعرفهذا الخط؟ قال: نعم، هذا خط صالح بن وصيف فأمره أن يقرأه عليهم، فإذا صالح يذكر فيه أنه مستخلف بسامرا، وأنه إنما استتر متخيرًا للسلامة وإبقاء على الموالي، وخوفًا من إيصال الفتن بحرب إن حدثت بينهم، وقصدًا لأن يبيت القوم، ويكون ما يأتونه بعد بصيرة مما ذكر في هذا الباب.
ثم ذكر ما صار إليه من أموال الكتاب، وقال: إن علمتم ذلك عند الحسن ابن مخلد، وهو أحدهم، وهو في أيديكم. ثم ذكر من وصل إليه ذلك المال وتولى تفريقه، وذكر ما صار إليه من أمر قبيحة، وأشار إلى أن علم ذلك عند أبي صالح بن يزداد وصالح العطار، ثم ذكر أشياء في هذا المعنى، بعضها يتذر به وبعضها يحتج به، ومخرج القول في ذلك يدل على قوة في نفسه.
فلما فرغ سليمان من قراءة الكتاب وصله المهتدي بقول منه يحث على الصلح والهدنة والألفة والاتفاق، ويكره إليهم الفرقة والتفاني والتباغض، فدعا ذلك القوم إلى تهمته، وأنه يعلم بمكان صالح، وأنه يتقدمهم عنده، فكان بينهم في ذلك، كلام كثير ومناظرات طويلة، ثم أصبحوا يوم الخميس لليلتين بقيتا من المحرم سنة ست وخمسين ومائتين، فصاروا جميعًا إلى دار موسى بن بغا في داخل الجوسق يتراطنون ويتكلمون. واتصل الخبر بالمهتدي.
فذكر عن أحمد بن خاقان الواثقي أنه قال: من ناحيتي انتهى الخبر إلى المهتدي؛ وذلك أنى سمهت بعض من كان حاضر المجلس وهو يقول: أجمع القوم على خلع الرجل.
قال: فصرت إليه أخيه إبراهيم، فأعلمته بذلك، فدخل عليه فأعلمه ذلك، وحكاه عني؛ فلم أزل خائفًا أن يعجل أمير المؤمنين فيخبرهم عني بالخبر، فرزق الله السلامة.
وذكر أن أخا بايكباك قال لهم في هذا المجلس لما أطلعوه على ما كانوا عزموا عليه: إنكم قتلتم ابن المتوكل، وهو حسن الوجه، سخى الكف، فاضل النفس، وتريدون أن تقتلوا هذا وهو مسلم يصوم ولا يشرب النبيذ من غير ذنب! والله لئن قتلتم هذا لألحقن بحراسان، ولأشيعن أمركم هناك.
فلما اتصل الخبر بالمهتدي خرج إلى مجلسه متقلدًا سيفًا، وقد لبس ثيابًا نظافًا، وتطيب، ثم أمر بإدخالهم إليه، فأبوا ذلك مليًا، ثم دخلوا عليه، فقال لهم: إنه قد بلغني ما أنتم عليه من أمري؛ ولست كمن تقدمني مثل أحمد بن محمد المستعين، ولا مثل ابن قبيحة؛ والله ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط، وقد أوصيت إلى أخي بولدي، وهذا سيفي؛ والله لأضربن به ما استمسك قائمة بيدي؛ والله لئن سقط من شعري من شعرة ليهلكن أو ليذهبن بها أكثركم. أما دين! أما حياء! أما رعة! كم يكون هذا الخلاف على الخلفاء والإقدام والجرأة على الله! سواء عليكم من قصد الإبقاء عليكم ومن كان إذا بلغه مثل هذا عنكم دعا بإرطال الشراب فشربها مسرورًا بمكروهكم وحبًا لبواركم! خبروني عنكم؛ هل تعلمون أنه وصل إلي من دينايكم هذه شيء! أما إنك تعلم يا بايكباك أن بعض المتصلين بك أيسر من جماعة إخوتي وولدي؛ وإن أحببت أن تعرف ذلك فانظر: هل ترى في منازلهم فرشًا أو وصائف أو خدمًا أو جواري! أو لهم غلات! سوءة لكم! ثم تقولون: إني أعلم علم صالح، وهل صالحٌ إلا رجل من الموالى، وكواحد منكم! فكيف الإقامة معه إذا ساء رأيكم فيه! فإن آثرتم الصلح كان ذلك ما أهوى لجمعكم، وإن أبيتم إلا الإامة على ما أنتم عليه فشأنكم؛ فاطلبوا صالحًا، ثم ابلغوا شفاء أنفسكم؛ وأما أنا فما أعلم علمه. قالوا: فاحلف لنا على ذلك. قال: أما اليمين فإني أبذلها لكم؛ ولكني أؤخرها حتى تكون بحضرة الهاشميين والقضاة والمعدلين وأصحاب المراتب غدًا إذا صليت الجمعة. فكأنهم لانوا قليلًا، ووجه في إحضار الهاشميين فحضروا في عيشتهم، فأذن لهم، فسلموا ولم يذكر لهم شيئًا، وأمروا بالمصير إلى الدار لصلاة الجمعة، فانصرفوا، وغدا الناس يوم الجمعة ولم يحدثوا شيئًا، وصلى المهتدي وسكن الناس وانصرفوا هادنين.
وذكر عن بعض من سم الكلام في يوم الأربعاء يقول: إن المهتدي لما خون صالح قال: إن بايكباك قد كان حاضرًا ما عمل به صالح في أمر الكتاب ومال ابن قبيحة، فإن كان صالح قد أخذ من ذلك شيئًا فقد أخذ مثل ذلك بايكباك؛ فكان ذلك الذي أحفظ بايكباك.
وقال آخر: إنه سمع هذا القول، وإنه ذكر محمد بن بغا، وقال: قد كان حاضرًا والمًا بما أجروا عليه الأمر، والشريك في ذلك أجمع. فأحفظ ذلك أبا نصر.
وقد قيل: إن القوم من لدن قدم موسى كانوا مضمرين هذا المعنى، منطوين على الغل؛ وإنما كان يمنعهم منه خوف الاضطراب ولة الأموال؛ فلما ورد عليهم مال فارس والأهواز تحركوا، وكان ورود ذلك عليهم يوم الأربعاء لثلاث بين من المحرم، ومبلغه سبعة عشر ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم.
ذكر الخبر عن خروج العامة على المهتدي
فلما كان يوم السبت انتشر الخبر في العامة أن القوم على أن يخلعوا المهتدي ويفتكوا به، وأنهم أرادوه على ذلك، وأرهقوه، وكتبوا الرقاع وألقوها في المسجد والطرقات فذكر بعض من زعم أنه قرأ رقعة منها فيه: بسم الله الرحم الرحيم، يا معشر المسلمين، ادعوا الله لخليفتكم العدل الرضى المضاهي لعمر بن الخطاب أن ينصره على عدوه، ويكفيه مؤنة ظالمه، ويتم النعمة عليه وعلى هذه الأمة ببقائه؛ فإن الموالي قد أخذوه بأن يخلع نفسه وهو يعذب منذ أيام، والمدبر لذلك أحمد بن محمد ثوابة والحسن بن مخلد، رحم الله من أحدخلص النية ودعا وصلى على محمد
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png! فلما كان يوم الأربعاء لأربع خلون من صفر من هذه السنة، تحرك الموالي بالكرخ والدور، ووجهوا إلى المهتدى على لسان رجل منهم يقال له عيسى: إنانحتاج أن نلقى إلى أمير المؤمنين شيئًا، وسألوا أن يوجه أمير المؤمنين إليهم أحد إخوته، فوجه إليهم أخاه عبد الله أبا القاسم، وهو أكبر إخوته، ووجه معه محمد بن مباشر المعرف بالكرخي، فمضياإليهم، فسألاهم عن شأنهم، فذكروا أنهم سامعون مطيعون لأمير المؤمنين، وأنه بلغهم أنموسى ان بغا وبايكباك وجماعة من قوادهم يريدونه على الخلم، وأنهم يبذلون دماءهم دون ذلك، وأنهم قد قرءوا بذلك رقاعًا ألقيت في المسجد والطرقات، وشكوا مع ذلك سوء حالهم، وتأخر أرزاقهم، وما صار الإقطاعات إلى قوادهم التي قد أجحفت بالضياع والخراج، وما صار لكبرائهم من المعاون والزيادات من الرسوم القديمة مع أرزاق النساء والدخلاء الذين قد استغرقوا أكثر أموال الخراج. وكثر كلامهم في ذلك، فقال لهم أبو القاسم عبد الله ابن الواثق: اكتبوا هذا في كتاب إلى أمير المؤمنين، أتولى إيصاله لكم! فكتبوا ذلك، وكاتبهم في الذي يكتبون محمد بن ثقيف الأسود؛ وكان يكتب لعيسى صاحب الكرخ أحيانًا. وانصرف أبو القاسم ومحمد بن مباشر، فأوصلا الكتاب إلى المهتدي، فكتب جوابه بخطه، وختمه بخاتمه، وغدا أبو القاسم الكرخ، فوافاهم فصاروا به إلى دار أشناس وقد صيروها مسجدًا جامعًا لهم، فوقف ووقفوا له في الرحبة، واجتمع منهم زهاء مائة وخمسين فارسًا ونحو من خمسمائة راجل، فأقرأهم من المهتدي السلام، وقال: يقول لكم أمير المؤمنين: هذا كتابي إليكم بخطي وخاتمي، فاسمعوه وتدبروه، ثم دفع الكتاب إلى كاتبهم فقرأه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا، أرشدنا الله وإياكم، وكان لنا ولكم وليًا وحافظًا، فهمت كتابكم، وسرني ما ذكرتم من طاعتكم وما أنتم عليه؛ فأحسن الله جزاءكم، وتولى حياطتكم؛ فأما ما ذكرتم من خلتكم وحاجتكم؛ فعزيز على ذلك فيكم، ولوددت والله أن صلاحكم يهيًا بألا آكل ولاطعم ولدي وأهلي إلا القوت الذي لا شب دونه، ولا ألبس أحدًا من ولدي إلا ما ستر العورة، ولا والله - حاطكم الله ما صار إلى منذ تقلدت أمركم لنفسي وأهلي وولدي ومتقدمي غلماني وحشمي إلا خمسة عشر ألف دينار وأنتم تقفون على ما ورد ويرد كل ذلك مصروف إليكم، غير مدخر عنكم. وأما ما ذكرتم مما بلغكم، وقرأتم به الرقاع التي ألقيت في المساجد والطرق، وما بذلتم من أنفسكم؛ فأنتم أهل ذلك. وأين تعتذرون مما ذكرتم ونحن وأنتم نفس واحدة! فجزاكم الله عن أنفسكم وعهودكم وأمانتكم خيرًا. وليس الأمر كما بلغكم، فعلي ذلك فليكن عملكم إن شاء الله. وأما ما ذكرتم من الإقطاعات والمعاون وغيرها، فأنا أنظر في ذلك وأصير منه إلى محبتكم إن شاء الله والسلام عليكم. أرشدنا الله وإياكم، وكان لنا ولكم حافظًا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليمًا كثيرًا.