بلى من عمل بالمتفق عليه كان مسلمًا ناجيًا في الآخرة مقربًا عند الله تعالى، وهذا المتفق عليه هو العلم بالدلائل القطعية والظنية من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله الثابتة قطعًا أو ظنًا، فالعالم يتحرى ذلك بالنظر في الأدلة، فإن اشتبهت عليه أو تعارضت أخذ بأحسنها مع تجنب خرق الإجماع الصحيح. والعامي يسأل العلماء ويأخذ بفتواهم، فإن اختلفوا عليه احتاط أو طلب ترجيحًا ما، وإذا علم الله حسن نيته فلابد أن ييسر له ذلك. فأما تقليد الأئمة فمهما قيل فيه فلا ريب أنه خير بكثير من تتبع الرخص. وراجع الموافقات (4: 72-86).
كلام الرسول في الأمور الدنيوية
ثم قال أبو رية (ص20): (حكم كلام الرسول
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png في الأمور الدنيوية) إلى أن قال: (أما كلامه صلوات الله عليه في الأمور الدنيوية فإنه كما قالوا من الآراء المحضة، ويسميه العلماء إرشادًا أي إن أمره
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png في أي شيء من أمور الدنيا يسمى أمر إرشاد… لأنه لا يقصد به القربة ولا فيه معنى التعبد. ومن المعلوم أنه لادليل على وجوب أو ندب إلا بدليل خاص).
أقول: ليس في هذا الكلام ما يصح أن يكون قاعدة ثابتة، فأمور الدنيا خاضعة لأحكام الشرع، وقد أمر الله تعالى بطاعة رسوله وحذر من المخالفة عن أمره، فأمره
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png بشيء دليل قام على وجوبه، إلا أن يقوم دليل يصرف الأمر عن الوجوب إلى غيره. وتفصيل ذلك في كتب الفقه.
ثم قال: (لأن الرسل غير معصومين في غير التبليغ. قال السفاريني… قال ابن حمدان… وإنهم معصومون فيما يؤدونه عن الله تعالى، وليسوا بمعصومين في غير ذلك، وقال ابن عقيل… لم يعتصموا في الأفعال، بل في نفس الأداء، ولا يجوز عليهم الكذب في الأقوال فيما يؤدونه عن الله تعالى... وقال
القاضي عياض: …)
أقول: هذا الذي اقتصر عليه أبو رية يوهم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليسوا معصومين عن تعمد الكذب في غير التبليغ ولا عن الكبائر ولا عن صغائر الخسة. وفي هذه الكتب التي نقل عنها وغيرها بيان عصمتهم عن ذلك وعن غيره مماترى تفصيله فيها. احتاج أبو رية إلى صنيعه ليرد كثيرًا من الأحاديث الصحيحة بزعم أنها لم تكن على وجه التبليغ، وأن الأنبياء إنما عصموا عن الكذب في التبليغ. فليتدبر القارئ
18
هذا مع قول أبي رية نفسه في حاشية (ص39) (ولعنة الله على الكاذبين، متعمدين وغير متعمدين)!
وذكر قصة التأبير، فدونك تحقيقها:
أخرج مسلم في صحيحه من حديث طلحة قال: «مررت مع رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png بقوم على رءوس النخل فقال: ما يصنع هؤلاء؟ فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح، فقال رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png: ما أظن يغني ذلك شيئًا. قال فأخبروا بذلك فتركوه، فأخبر رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png بذلك، فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل». ثم أخرجه عن
رافع بن خديج وفيه: «فقال: لعلكم لولم تفعلوا كان خيرًا. فتركوه فنقصت.. فقال: إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر». قال عكرمة: (أو نحو هذا). ثم أخرجه عن
حماد بن سلمة عن
هشام بن عروة عن أبيه عن
عائشة، وعن ثابت عن أنس… وفيه: «فقال: لو لم تفعلوا لصلح» وقال في آخره: «أنتم أعلم بأمر دنياكم».
عادة مسلم أن يرتب روايات الحديث بحسب قوتها: يقدم الأصح فالأصح. قوله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png في حديث طلحة "ما أظن يغني ذلك شيئًا" إخبار عن ظنه، وكذلك كان ظنه؛ فالخبر صدق قطعًا، وخطأ الظن ليس كذبًا. وفي معناه قوله في حديث رافع (لعلكم…) وذلك كما أشار إليه مسلم أصح مما في رواية حماد؛ لأن حمادًا كان يخطئ. وقوله في حديث طلحة: «فإني لن أكذب على الله» فيه دليل على امتناع أن يكذب على الله خطأ؛ لأن السياق في احتمال الخطأ، وامتناعه عمدًا معلوم من باب أولى، بل كان معلومًا عندهم قطعًا.
ونقل عن
شفاء عياض قال: وفي حديث ابن عباس في الخرص: فقال رسول الله
ص: «إنما أنا بشر، فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب». أقول: ذكر شارح الشفاء أن البزار أخرجه بسند حسن، وتحسين المتأخرين فيه نظر، فإن صح فكأنهم مروا بشجر مثمر فخرصوه يجربون حدسهم، وخرصها النبي
ص فجاءت على خلاف خرصه. ومعلوم أن الخرص حزر وتخمين، فكأن الخارص يقول: أظن كذا. وقد مر حكمه. والله أعلم
وقال أبو رية قبل هذا: (وقد ثبت أن النبي
ص كان يصدق بعض ما يفتريه المنافقون كما وقع في غزوة تبوك وغيرها، وصدق بعض أزواجه، وتردد في حديث الإفك.. حتى نزل عليه آيات البراءة). وذكر (ص142) عن صاحب المنار: (… والنبي
ص ماكان يعلم الغيب، فهو كسائر
19
البشر يحمل كلام الناس على الصدق إذ لم تحف به شبهة، وكثيرًا ما صدق المنافقين والكفار في أحاديثهم. وحديث العرنيين وأصحاب بئر معونة مما يدل على ذلك… إذ أذن لبعض المعتذرين من المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك، وما علله به وهو قوله تعالى: { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ }. وإذا جاز على الأنبياء والمرسلين أن يصدقوا الكاذب فيما لا يخل بأمر الدين.. ).
وذكر (ص22) عن عياض حديث: «فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له» وفي رواية: «ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع…».
أقول: لم يكن
ص يعلم من الغيب ما لم يُعلمه الله تعالى به، ولم يكن -بأبي وأمي- مغفلًا، ولم يصدق المنافقين -أي: يعتقد صدقهم- بل ولا ظنه، وإنما كان الأمر عنده على الاحتمال، ولهذا عاتبه الله عز وجل على الإذن لهم. هذا واضح بحمد الله. والعرنيون لم يتحقق منهم كذب، فلعلهم كانوا صادقين في إسلامهم، وإنما بدا لهم أن يرتدوا لما وجدوا أنفسهم منفردين بالإبل والراعي بعيدًا عن المدينة. وقصة بئر معونة اختلف فيها فلم يتحقق فيها شاهد على ما نحن فيه. راجع فتح الباري (296: 7). وقصته مع بعض أزواجه أراها في الصحيحين عن عائشة «أن النبي
ص كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلًا، فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي
ص فلتقل: إني لأجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت له ذلك فقال: لا، بل شربت عسلًا عند زينب بنت جحش ولن أعود له. فنزلت: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } إلى (إن تتوبا إلى الله) لعائشة وحفصة…».
وتمام الآية: { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ولو كان النبي
ص صدق المرأة في أن لذاك العسل رائحة كريهة لكان امتناعه لكراهيتها، وكذلك كان خلقه الكريم المطلوب منه شرعًا. وسياق الآية تخالف ذلك كما هو واضح. فالذي يظهر أنه
ص فطن للحيلة وعلم أن قائلة ذلك إنما غارت لطول مكثه عند ضرتها وانفرادها بسقيه العسل الذي يحبه، فحملتها شدة الغيرة، فتكرم فلم يكاشفها، وامتنع من شرب العسل عند ضرتها تطييبًا لنفسها.
وأما تردده في
قصة الإفك فليس فيه ما يوهم التصديق ولا ظن الصدق.
وأما قوله: «فأحسب أنه صادق» فالحسبان هو الظن، ولينظر سند هذه الرواية.
20
وذكر (ص22) عن شفاء عياض (فأما ما تعلق منها (أي: معارف الأنبياء) بأمر الدنيا فلا يشترط في حق الأنبياء العصمة من عدم معرفة الأنبياء ببعضها أو اعتقادها على خلاف ما هي عليه).
أقول: كلمة (اعتقادها) فيها نظر، فينبغي أن يقال بدلها (ظنها).
كتابة الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم