فإنما هو كلب من الكلاب ولا بالحية فإنما هي دويبة منتنة تأكل التراب ولا بالجبل فإنما هو حجر أصم ولا بالبحر فإنما هو غطامط لجب ومن ليس في شعره هذا فليدخل ومن كان في شعره هذا فلينصرف فانصرفوا كلهم إلا إبراهيم بن هرمة فإنه قال له: أنا له يا ربيع فأدخلني. فأدخله فلما مثل بين يديه قال المنصور يا ربيع قد علمت أنه لا يجيبك أحد غيره هات يا بن هرمة. فأنشده قصيدته التي يقول فيها: له لحظات عن حفافى سريره إذا كرها فيها عذاب ونائل لهم طينة بيضاء من آل هاشم إذا أسود من كوم التراب القبائل إذا ما أبي شيئاً مضى كالذي أبى وإذا قال إني فاعل فهو فاعل فقال: حسبك هاهنا بلغت هذا عين الشعر قد أمرت لك بخمسة آلاف درهم. فقمت إليه وقبلت رأسه وأطرافه ثم خرجت فلما كدت أن أخفى على عينيه سمعته يقول: يا إبراهيم. فأقبلت إليه فزعاً فقلت: لبيك فداك أبي وأمي. قال: احتفظ بها فليس لك عندنا غيرها. فقلت: بأبي وأمي أنت أحفظها حتى أوافيك بها على الصراط بخاتم الجهبذ. هي النفس ما حملتها تتحمل وكان في يد المتوكل جوهرتان. فأعطاه التي في يمينه فأطرق متفكراً في شيء يقوله ليأخذ التي في يساره. فقال: مالك مفكراً إنما تفكر فيما تأخذ به الأخرى خذها لا بورك لك فيها. فأنشأ يقول: بسر من رى إمام عدل تغرف من بحره البحار يرجى ويخشى لكل أمر كأنه جنة ونار الملك فيه وفي بنيه ما اختلف الليل والنهار يداه في الجود ضرتان عليه كلتاهما تغار لم تأت منه اليمين شيئاً إلا أتت مثله اليسار وقال آخر في الهول: إذا سألت الندى عن كل مكرمة لم تلف نسبتها إلا إلى الهول لو زاحم الشمس ألفى الشمس مظلمة أو زاحم الصم ألجاها إلى الميل أمضى من الدهر إن نابته نائبة وعند أعدائه أمضى من السيل فأنت أولى بتاج الملك تلبسه من هوذة بن علي وابن ذي يزن فأمر له بعشر آلاف درهم. ودخلت ليلى الأخيلية على الحجاج فأنشدته: إذا ورد الحجاج أرضاً مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سقاها فقال لها: لا تقولي غلام ولكن قولي: همام. ثم قال: أي النساء أحب إليك أنزلك عندها قال: ومن نساؤك أيها الأمير قال أم الجلاس بنت المهلب بنت سعيد بن العاص الأموية وهند بنت أسماء من خارجة الفزارية وهند بنت المهلب بن أبي صفرة العتكية. قالت: القيسية أحب إلي. فلما كان من الغد دخلت عليه. قال: يا غلام أعطها خمسمائة. قالت: أيها الأمير أحسبها أدما. قال قائل: إنما أمر لك بشاء قالت: الأمير أكرم من ذلك. فجعلها إبلاً إناثا على استحياء وإنما كان أمر لها بشاء أولاً.
كتاب الجمانة في الوفود
قال الفقيه أبو عمر أحمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في الأجواد والأصفاد على مراتبهم ومنازلهم وما جروا عليه وما ندبوا إليه من الأخلاق الجميلة والأفعال الجزيلة ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الوفود الذين وفدوا على النبي (ص) وعلى الخلفاء والملوك فإنها مقامات فضل ومشاهد حفل يتخير لها الكلام وتستهذب الألفاظ وتستجزل المعاني. ولا بد للوافد عن قومه أن يكون عميدهم وزعيمهم الذي عن قوته ينزعون وعن رأيه يصدرون فهو واحد يعدل قبيلة ولسان يعرب عن ألسنة. وما ظنك بوافد قوم يتكلم بين يدي النبي (ص) أو خليفته أو بين يدي ملك جبار في رغبة أو رهبة فهو يوطد لقومه مرة ويتحفظ ممن أمامه أخرى أتراه مدخراً نتيجة من نتائج الحكمة أو مستبقياً غريبة من غرائب الفطنة أم تظن القوم قدموه لفضل هذه الخطة إلا وهو عندهم في غاية الحذلقة واللسن ومجمع الشعر والخطابة. ألا ترى أن قيس بن عاصم المنقري لما وفد على النبي (ص) بسط له رداءه وقال: هذا سيد الوبر. ولما توفي قيس بن عاصم قال فيه الشاعر: تحية من ألبسته منك نعمة إذا زار عن شحط بلادك سلما وما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما وفود العرب على كسرى ابن القطامي عن الكلبي قال: قدم النعمان بن المنذر على كسرى وعنده وفود الروم والهند والصين فذكروا من ملوكهم وبلادهم فافتخر النعمان بالعرب وفضلهم على جميع الأمم لا يستثنى فارس ولا غيرها. فقال كسرى - وأخذته عزة الملك - يا نعمان لقد فكر
