-
ذكر سبب العداوة والشحناء بين عبد الملك وبين عمرو بن سعيد
كان الشرّ بينهما قديما، لأنّ ابني سعيد وابني مروان أعنى: محمد بن سعيد وعمرو بن سعيد، ومعاوية بن مروان، وعبد الملك بن مروان، كانوا وهم غلمان لا يزالون يأتون أمّ مروان بن الحكم الكنانيّة يلعبون عندها. فكانت تصنع لهم الطعام، ثم تأتيهم به وتضع بين يدي كلّ واحد صحفة على حدة، ثم تؤرّش بين معاوية بن مروان وبين محمد بن سعيد وبين عبد الملك بن مروان وعمرو بن سعيد، فيقتتلون، وربما تصارموا الحين لا يكلّم بعضهم بعضا. فكان ذلك دأبهما كلّما أتوها حتى ثبتت الشحناء في صدورهم على الصبى، ثم نشأت تلك العداوة معهما.
فذكر أنّ خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك ذات يوم:
« عجب منك ومن عمرو بن سعيد كيف أصبت غرّته فقتلته! » فقال عبد الملك:
أدنيته مني ليسكن ذعره ** فأصول صولة حازم مستمكن
ثم إن ولد عمرو بن سعيد دخلوا على عبد الملك بعد الجماعة وهم أربعة:
أمية، وسعيد، وإسماعيل، ومحمد. فلما نظر إليهم عبد الملك، قال:
« إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون أنّ لكم على جميع قومكم فضلا لم يجعله الله لكم، وإنّ الذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثا، بل كان قديما في أنفس أوّليكم على أوّلينا في الجاهليّة. » فأقطع بأميّة بن عمرو وكان أكبرهم سنّا وأنبلهم وأعقلهم، فلم يتكلّم بشيء.
فقام سعيد بن عمرو، وكان الأوسط، فقال:
ذكر كلام نفع عند سلطان حقود
« يا أمير المؤمنين، ما تبغى علينا أمرا كان في الجاهليّة، وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك، ووعد جنّة، وحذّر نارا. فأما الذي بينك وبين عمرو، فإنّ عمرا ابن عمّك، وأنت أعلم وما صنعت، وقد وصل عمرو إلى ربّه وكفى بالله حسيبا. ولعمري لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لبطن الأرض خير لنا من ظهرها. » فرقّ لهم عبد الملك رقّة شديدة، وقال:
« إنّ أباكم خيّرنى بين أن أقتله أو يقتلني، فاخترت قتله على قتلى. فأما أنتم فما أرغبنى فيكم، وأوصلنى لقرابتكم، وأرعانى لحقّكم! » فأحسن جائزتهم.
مسير عبد الملك إلى العراق لحرب مصعب
ثم سار عبد الملك من الشام إلى العراق لحرب مصعب وذلك في سنة سبعين.
وكان قال له خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد:
« إن وجّهتنى إلى البصرة مستخفيا في مواليّ وأتبعتني خيلا يسيرة، رجوت أن أغلب لك عليها. » فأنفذه عبد الملك. فقدمها في مواليه، ونزل على عمرو بن أصمع، ولم يتمّ له ما أراد، وعلم به، فهرب بعد أن أثار فتنة، وقاتل مدّة. وبادر مصعب إلى البصرة، فوجد خالدا قد خرج بمن معه، فأتبعه بخداش بن يزيد، فأدرك مرّة بن محكان، فأخذه وقتله.
وكتب عبد الملك إلى المروانيّة من أهل العراق، فأجابه كلّهم، وشرط كلّ واحد ولاية إصبهان، فأنعم بها لهم. منهم: حجّار بن أبجر، وعتّاب بن ورقاء، والغضبان بن القبعثرى، وزحر بن قيس، ومحمد بن عمير، وغيرهم.
وسار عبد الملك وعلى مقدمته محمد بن مروان، وعلى ميمنته عبد الله بن يزيد بن معاوية، وعلى ميسرته خالد بن يزيد، وسار مصعب وقد خذله أهل الكوفة، وأشار رؤساء أهل الشام على عبد الملك أن يقيم ويقدّم الجيوش، فطن ظفروا، فذاك. وإن لم يظفروا أمدّهم بالجيوش خشية على الناس، وإن أصيب في لقائه مصعبا لم يكن وراءه ملك.
فقال عبد الملك:
« لا يقوم بهذا الأمر إلّا قرشيّ له رأى، ولعلّى أبعث من له شجاعة وليس له رأى، وإني أجد في نفسي أنّى بصير بالحرب، شجاع بالسيف إن ألجيت إليه، ومصعب في بيت شجاعة، أبوه شجاع قريش وهو شجاع ولا علم له بالحرب، ومعه من يخالفه، ومعي من ينصح لي. » فسار عبد الملك حتى نزل مسكن، وسار مصعب إلى باجميرا، وكتب عبد الملك إلى أهل العراق، فأقبل إبراهيم بن الأشتر بكتاب عبد الملك مختوما لم يقرأه، فدفعه إلى مصعب، فقال له مصعب:
« ما فيه؟ » قال:
« ما قرأته. » فقرأه، فإذا هو يدعوه إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق، فقال لمصعب:
« إنّه والله ما كان أحد آيس منه مني. ولقد كتب إلى أصحابك كلّهم بمثل ما كتب إليّ. فأطعنى فيهم واضرب أعناقهم. » قال:
« إذا لا يناصحنا عشائرهم. » قال:
« فأوقرهم حديدا وابعث بهم إلى أبيض كسرى فاحبسهم هنالك، ووكّل بهم من إن غلبت، ضرب أعناقهم، وإن غلبت مننت بهم على عشائرهم. » فقال:
« يا با النعمان، أنا لفى شغل عن ذلك، يرحم الله أبا بحر، إن كان ليحذّرنى غدر أهل العراق، كأنه كان ينظر إلى ما نحن فيه. » وتمثّل مصعب:
وإنّ الأولى بالطفّ من آل هاشم ** تأسّوا، فسنّوا للكرام التأسّيا
فعلم الناس أنه قد استقتل.
مقتل إبراهيم الأشتر
ولمّا تدانى العسكران تقدّم إبراهيم بن الأشتر، فحمل على محمد بن مروان فأزاله عن موضعه، وهرب، فوجّه عبد الملك عبد الله بن يزيد بن معاوية، والتقى القوم، فقتل إبراهيم بن الأشتر، وقتل مسلم بن عمرو الباهليّ، وهرب عتّاب بن ورقاء، وكان على الخيل مع مصعب. فقال مصعب لقطن بن عبد الله الحارثيّ:
« أبا عثمان قدّم خيلك. » قال:
« ما أرى ذلك. » قال:
« ولم؟ » قال:
« أكره أن تقتل مذحج في غير شيء. » فقال لحجّار بن أسيد:
« قدّم رايتك. » قال:
« إلى هذه العذرة؟ » قال:
« ما تتأخّر إليه، والله أنتن وألأم. » وقال لعبد الرحمن بن سعيد بن قيس مثل ذلك. فقال:
« ما أرى أحدا فعل ذلك فأفعله. » فقال مصعب:
« يا إبراهيم، ولا إبراهيم لي اليوم. » ولما أخبر ابن خازم وهو بخراسان مسير مصعب إلى عبد الملك، قال:
-
« أمعه عمر بن عبيد الله؟ » قيل:
« لا، استعمله على فارس. » قال:
« أمعه المهلّب؟ » قيل:
« استعمله على الموصل. » قال:
« أمعه عبّاد بن الحصين؟ » قيل:
« لا، استخلفه على البصرة. » فقال:
« وأنا بخراسان. » ثم تمثّل:
خذينى، فجرّينى ضباع وأبشرى ** بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره
وقال مصعب لابنه عيسى بن مصعب:
« يا بنيّ اركب أنت ومن معك إلى عمّك بمكة، فإني مقتول. » وأخبره بما صنع أهل العراق.
فقال ابنه:
« والله لا أخبر قريشا عنك أبدا، ولكن الحق أنت بالبصرة فإنّهم على الجماعة، أو [ الحق ] بأمير المؤمنين. » فقال مصعب:
« لا والله، لا أفرّ، ولكن أقاتل. فلعمري ما السيف بعار وما الفرار لي بعادة. »
مقتل مصعب بن الزبير وابنه عيسى بن مصعب
ثم أرسل عبد الملك إلى مصعب مع أخيه محمد بن مروان:
« إنّ ابن عمّك يعطيك الأمان. » فقال مصعب:
« إنّ مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلّا غالبا أو مغلوبا. » فلما أبي مصعب قبول الأمان، نادى محمد بن مروان عيسى بن مصعب وقال:
« يا بن أخي، لا تقتل نفسك، لك الأمان. » فقال له مصعب:
« قد آمنك عمّك، فامض إليه. » قال:
« لا تحدّث نساء قريش أنّى أسلمتك [ للقتل ]. » وتقدّم بين يدي مصعب، فقاتل حتى قتل. وأثخن مصعب، ونظر إليه زائدة بن قدامة، فشدّ عليه، فطعنه، وقال:
« يا لثارات المختار. » فصرعه، ونزل إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان، فاحتزّ رأسه، فأتى به عبد الملك، فأمر له بألف دينار، فأبى أن يأخذه، وقال:
« إني لم أقتله على طاعتك. إنما قتلته على وتر صنعه بي. » يعنى بذلك أخاه، لأنّ مصعبا أتى بالنابئ بن زياد بن ظبيان ورجل من بنى نمير قد قطعا الطريق، فقتل النابئ وضرب النميري بالسياط وتركه.
وحدّث ابن عباس عن أبيه قال: إنّا لوقوف مع عبد الملك وهو يحارب مصعبا إذ دنا منه زياد بن عمرو، فقال:
« يا أمير المؤمنين، إنّ إسماعيل بن طلحة كان لي جار صدق، وقلّ ما أرادنى مصعب بسوء إلّا دفعه عني. فإن رأيت أن تؤمنه على دمه. » قال:
« وهو آمن. » فمضى زياد، وكان ضخما وعلى ضخم حتى صاح بين الصفّين:
« أين أبو النحترى إسماعيل بن طلحة؟ » فخرج إليه. فقال:
« إني أريد أن أذكر لك شيئا. » فدنا حتى اختلفت أعناق دوابّهما، وكان الناس يتنطّقون بالحواشى المحشوّة. فوضع زياد يده في منطقة إسماعيل، ثم اقتلعه عن سرجه وكان نحيفا، فقال:
« أنشدك الله يا أبا المغيرة، فإنّ هذا ليس بالوفاء لمصعب. » فقال:
« هذا أحبّ إليّ لك من أن أراك غدا مقتولا. » ولما قتل مصعب وابنه عيسى، قال عبد الملك:
« واروه، فقد كانت الحرمة بيننا قديمة، ولكنّ هذا الملك عقيم. » وكان عبد الملك ومصعب يتحدّثان إلى حبّى، وهما بالمدينة. فلمّا قيل لها: قتل مصعب، قالت:
« تعس قاتله. » قيل:
« فإنّما قتله عبد الملك. » قالت:
« بأبي القاتل والمقتول. » وقد روى أنّ مقتل مصعب والحرب بينه وبين عبد الملك كان في سنة اثنتين وسبعين.
ومن المقامات المشهورة مقام تقدّم فيه رجل بالأدب
لمّا دخل عبد الملك الكوفة، وجاءته القبائل تبايعه، خاطب كلّا بما بسطه حتى تقدّم إليه عدوان. قال معبد بن خالد الجدلي: فقدّمنا رجلا وسيما جميلا، وتأخّرت ومعبد كان دميما.
فقال عبد الملك: « من؟ » فقال الكاتب: « عدوان. » فقال عبد الملك:
غدير الحيّ من عدوا ** ن كانوا حيّة الأرض
بغى بعضهم بعضا ** فلم يرعوا على بعض
ومنهم كانت السادا ** ت والموفون بالقرض
ثم أقبل على الرجل، فقال:
« إيه. » فقال:
« لا أدري. » فقلت من خلفه:
ومنهم حكم يقضى ** فلا ينقض ما يقضى
ومنهم من يجيز الحج ** ج بالسنّة والفرض
وهم من ولدوا أشبوا ** بسرّ الحسب المحض
قال: فتركني عبد الملك، ثم أقبل على الجميل فقال:
« من يقول هذا؟ » قال:
« لا أدري. » فقلت من خلفه:
« ذو الإصبع. » « فأقبل على الجميل، فقال:
« لم سمّى ذا الإصبع؟ » فقال:
« لا أدري. » فقلت من خلفه:
« لأن إصبعه قطعت يوم الكلاب. »
فقال للجميل:
« وما اسمه؟ » فقال:
« لا أدري. » فقلت من خلفه:
« حرثان بن الحارث. » فأقبل على الجميل فقال:
« من أيّكم كان؟ » قال:
« لا أدري. » فقلت من خلفه:
« من بنى تاج »، وهو يقول:
أبعد بنى تاج وسعيك بينهم ** فلا تتبعن عينيك من كان هالكا
إذا قلت معروفا لأصلح بينهم ** يقول وهيب: لا أصالح ذلكا
فأضحى كظهر العير جبّ سنامه ** يطيف به الولدان أحدب باركا
ثم أقبل على الجميل، فقال:
« كم عطاؤك؟ » فقال:
« سبعمائة. » وقال لي:
« في كم أنت؟ » قلت:
« في ثلاثمائة. » فأقبل على الكاتبين فقال:
« حطّا من عطاء هذا أربعمائة، وزيداها في عطاء هذا. »
فرجعت وأنا في سبعمائة وهو في ثلاثمائة.
ثم فرّق عبد الملك عمّاله ولم يف لأحد شرط عليه ولاية إصبهان.
وفي هذه السنة، وجّه عبد الملك بن مروان الحجّاج بن يوسف لحرب عبد الله بن الزبير.
توجيه عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف لحرب عبد الله بن الزبير
وكان السبب في توجيه دون غيره أنّ عبد الملك لمّا أراد الرجوع إلى الشام، قام الحجاج بن يوسف، فقال:
« يا أمير المؤمنين، إني رأيت في منامي أنى أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعثني إليه، وولّنى قتاله. » فبعثه في جيش من أهل الشام كثيف. فخرج ولم يعرض للمدينة، وسلك طريق العراق، فنزل بالطائف، وكان يبعث البعوث فيقتتلون هناك. فكلّ ذلك تهزم خيل ابن الزبير، وترجع خيل الحجّاج بالظفر.
ثم كتب الحجّاج إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم عليه وحصاره، وأخبره أنّ شوكته قد كلّت وتفرّق عنه أصحابه. فأذن له. وكتب عبد الملك إلى طارق بن عمرو يأمره أن يلحق بمن معه من الجند، بالحجّاج وكان بالبصرة واليا عليها. فسار في خمسة آلاف من أصحابه حتى لحق بالحجّاج وذلك في شعبان سنة اثنتين وسبعين.
حصر ابن الزبير ومقتله
-
لما دخل ذو القعدة، رحل الحجّاج من الطائف حتى نزل بئر ميمون، وحصر ابن الزبير، وقدم عليه طارق لهلال ذي الحجّة، ولم يطف بالبيت، ولم يصل إليه، وكان يلبس السلاح، ولا يقرب النساء ولا الطيب، إلى أن قتل ابن الزبير ولم يحجّ ابن الزبير ولا أصحابه في هذه السنة لأنهم لم يقفوا بعرفة.
وحجّ الحجّاج بالناس في هذه السنة، ثم حصر ابن الزبير ثمانية أشهر، ونصب المجانيق على البيت. فلما رمى البيت رعدت السماء وعلا صوت الرعد والبرق صوت الحجارة، فأعظم ذلك أهل الشام وأمسكوا أيديهم. فرفع الحجّاج برقة قبائه فغرزها في منطقته، ورفع الحجر فوضعه في المنجنيق، ثم مدّه وقال لأصحابه:
« ارموا! » ورمى معهم. فلما أصبحوا جاءت صاعقة تتبعها أخرى، فقتلت من أصحابه اثنى عشر رجلا. فانكسر أهل الشام، فقال الحجّاج:
« يا قوم، لا تنكروا ذلك، فإني ابن تهامة وهذه صواعقها، وهذا الفتح قد حضرنا، فأبشروا، إنّ القوم سيصيبهم مثل ما أصابكم. » فصعقت من الغد، فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدّة. فقال الحجّاج:
« ألا ترون أنهم قد أصيبوا وأنتم على الطاعة وهم على الخلاف؟ » فتفرّق عامّة من كان مع الزبير، وخرجوا إلى الحجّاج في الأمان حتى بلغ عدّة المستأمنة عشرة آلاف. وكان في من خرج إلى الحجّاج في الأمان حتى بلغ عدّة المستأمنة عشرة آلاف. وكان في من خرج إلى الحجّاج ابنا عبد الله ابن الزبير:
حمزة وخبيب، بعد أن أخذا أمانا لأنفسهما.
فدخل على أمّه أسماء بنت أبي بكر، فقال:
ما قالته لابن الزبير أمه أسماء بنت أبي بكر
« يا أمّه، قد خذلنى الناس حتى ولدي وأهلى، فلم يبق إلّا اليسير، من ليس عنده من الدفع إلّا صبر ساعة. والقوم يعطونني من الدنيا، فما رأيك؟ » فقالت:
« أنت والله يا بنيّ أعلم بنفسك. إن كنت تعلم أنّك على حقّ فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكّن من رقبتك تلعّب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت. أهلكت نفسك، ومن قتل معك. فإن قلت: إني كنت على حقّ، فلما وهن أصحابي، ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن. » فدنا ابن الزبير، فقبّل رأسها، وقال:
« هذا رأيي، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدينى بصيرة، فانظرى يا أمّه، إني مقتول من يومي هذا، فلا يشتدّ حزنك، وسلّمى لأمر الله، فإنّ ابنك لم يتعمّد إتيان منكر، ولا عمل بفاحشة، ولم يجر في حكم، ولم يتعمّد ظلم مسلم ولا معاهد.
اللهمّ، إني لا أقول هذا تزكية لنفسي، ولكن تعزية لأمي لتسلو عني. » فقالت أمّه:
« إني لأرجو أن يكون عزائى فيك حسنا. اخرج، حتى أنظر إلى ما يصير أمرك. » قال:
« يا أمّه، لا تدعى لي الدعاء قبل وبعد. » قالت:
« لا أدعه أبدا. » ثم قالت:
« اللهمّ ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكّة وبرّه بأبيه وبي. اللهمّ إني قد أسلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فائتني في عبد الله ثواب الشاكرين الصابرين. » ثم دنا عبد الله فقبّلها، فقالت:
« هذا وداع فلا تبعد. » وكان عليه الدرع. فلمّا عانقها وجدت مسّ الدرع، فقالت:
« ما هذا صنيع من يريد ما تريد. » قال:
« ما لبسته إلّا لأشدّ منك. » قالت:
« فإنّه لا يشدّ مني. » - فنزعها، ثم أدرج كمّيه، وأدخل أسفل قميصه وجبّة خزّ عليه في أسفل المنطقة، وهو يقول:
إني إذا أعرف يومي أصبر ** إذ بعضهم يعرف ثم ينكر
قال بعضهم: والله لقد رأيت ابن الزبير يخرج وقد كثره الناس، فيحمل فلا يبقى بين يديه أحد، وينهزم الناس، فيقف بالأبطح ما يدنو منه أحد، حتى ظننت أنّه لا يقتل.
وكان الحجّاج وطارق بن عمرو جميعا في ناحية الأبطح إلى المروة والبابين، لكلّ طائفة منهم باب. فمرّة يحمل عبد الله بن الزبير في هذه الناحية ومرّة في هذه الناحية ولكأنّه أسد في أجمة، ما يقدم عليه الرجال فيعدو في أثرهم، ثم يصيح:
« أبا صفوان، ويل أمّة فتحا لو كان له رجال، لو كان قرني واحدا كفيته. » فقال أبو صفوان:
« إى والله وألف. » فلما كان يوم الثلاثاء، وقد أخذت علينا الأبواب، أذّن المؤذّن فصلّى بأصحابه، وقرأ ن وَالْقَلَمِ حرفا حرفا، ثم سلّم وقام وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
« اكشفوا وجوهكم حتى أنظر. » وعليهم المغافر والعمائم. فكشفوا وجوههم فقال:
« يا آل الزبير، لو طبتم لي نفسا عن أنفسكم كنّا أهل بيت من العرب اصطلمنا، لم تصبنا ربّانيّة. أما بعد، يا آل الزبير، فلا يرعكم وقع السيوف، فإنى لم أحضر موطنا قطّ إلّا ارتثثت فيه بين القتلى، وما أجد من دواء جراحها أشدّ مما أجد من ألم وقعها. صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، لا أعلم امرأ كسر سيفه واستبقى نفسه، فإنّ الرجل إذا ذهب سلاحه فهو كالمرأة. غضّوا أبصاركم عن البارقة، وليشغل كلّ امرئ منكم قرنه، ولا يلهينّكم السؤال عنى. فلا تقولنّ:
أين عبد الله بن الزبير؟ ألا من كان سائلا فإني في الرعيل الأول. احملوا على بركة الله. » ثم حمل حتى بلغ الحجون، فرمى بآجرّة، فأصابت في وجهه، فأرعش لها، ودمى وجهه. فلما وجد سخونة الدم تسيل على وجهه ولحيته، قال:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ** ولكن على أقدامنا تقطر الدّما
وتمثّل أيضا:
عن أيّ يوميّ من الموت أفرّ ** أيوم لم يقدر، أم يوم قدر
وصاحت مولاة لآل الزبير مجنونة:
« وا أمير المؤمنيناه! » فأشارت لهم إليه، فقتل.
وجاء الخبر إلى الحجّاج، فسجد وجاء هو وطارق حتى وقفا عليه، فقال طارق:
« ما ولدت النساء أذكر من هذا. » فقال الحجّاج:
« أتمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين؟ » قال:
« نعم، هو أعذر لنا، ولو لا هذا ما كان لنا عذر. إنّا لمحاصروه وهو في غير خندق ولا حصن ولا منعة منذ سبعة أشهر، ينتصف منّا بل يفضل علينا في كلّ ما التقينا. » فبلغ كلامهما عبد الملك، فصوّب طارقا.
ثم دخل الحجّاج مكّة، فبايع من بها من قريش، وبعث برأس ابن الزبير وجماعة من أهله إلى المدينة، فنصبت بها، ثم ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان.
وبعث عبد الملك إلى عبد الله بن خازم، وهو بخراسان يقاتل بحير بن ورقاء الصريمى يدعوه إلى طاعته ويقول له:
« إنّ خراسان لك طعمة سبع سنين، فبايع لي. » وكان عبد الملك بعث إليه برأس ابن الزبير، فغسله وحنّطه وكفّنه وبعث به إلى أهله بالمدينة. وحلف لا يعطى عبد الملك طاعة أبدا.
-
فقال ابن خازم للرسول:
« لو لا أنّ الرسل لا تقتل، لأمرت بضرب رقبتك، ولكن كل كتابه. » وأكله.
مقتل ابن خازم في مرو
وكتب عبد الملك إلى بكير بن وساج أحد بنى عوف بن سعد، وكان خليفة ابن خازم على مرو بعهده على خراسان، ووعده ومنّاه. فخلع بكير عبد الله بن الزبير ودعا إلى عبد الملك بن مروان، فأجابه أهل مرو، وبلغ ابن خازم، فخاف أن يأتيه بكير بأهل مرو، فيجتمع عليه أهل مرو، وأهل أبر شهر الذين مع بحير. فأقبل إلى مرو أن يأتى ابنه بالترمذ، فاتبعه بحير فلحقه بقرية يقال لها: شاه مزغند، بينها وبين مرو ثلاثة فراسخ. فقاتله ابن خازم، فقتل عبد الله بن خازم، وكان الذي ولى قتله وكيع بن عميرة القريعى، اعتون عليه بحير بن ورقاء وعمار بن عبد العزيز الجشمي ووكيع، فطعنوه وصرعوه، فقعد وكيع على صدره فقتله.
فقال بعض الولاة لوكيع:
« كيف قتلت ابن خازم؟ » قال:
« غلبته بفضل القنا. لمّا صرع قعدت على صدره، فحاول القيام، فلم يقدر عليه، وقلت: يا لثارات دويلة. » ودويلة أخ لوكيع من أمّه، قتل في تلك الأيام.
قال: فتنخّم في وجهى، وقال:
« لعنك الله، تقتل كبش مضر بأخيك: علج لا يساوى كفّا من نوى - أو قال: - من تراب؟ » قال: فما رأيت أحدا أكثر ريقا منه على تلك الحال عند الموت، لقد ملأ وجهى منه. فذكر ابن هبيرة يوما هذا الحديث، فقال:
« هذه والله البسالة. » وبعث بحير ساعة قتل ابن خازم رجلا من بنى غدانة إلى عبد الملك بقتل ابن خازم، ولم يبعث بالرأس، وأقبل بكير بن وساج في أهل مرو حين قتل ابن خازم، فأراد أخذ رأس ابن خازم. فمنعه بحير، فضربه بكير بعمود، وأخذ الرأس، وقيّد بحيرا وحبسه. وبعث بكير بالرأس إلى عبد الملك، وكتب إليه يخبره أنه هو الذي قتله.
ولاية المهلب حرب الأزارقة من قبل عبد الملك
وفي هذه السنة وجّه عبد الملك أخاه بشر بن مروان من الكوفة إلى البصرة واليا عليها. ثم كتب إليه:
« أمّا بعد، فابعث المهلّب في أهل مصره إلى الأزارقة لينتخب من أهل مصره ووجوههم وفرسانهم أولى الفضل والتجربة منهم، فإنّه أعرف بهم، وخلّه ورأيه في الحرب، فإني أوثق شيء بتجربته ونصيحته للمسلمين، وابعث من أهل الكوفة بعثا كثيفا، وابعث عليهم رجلا معروفا حسيبا شريفا يعرف بالبأس والنجدة والتجربة للحرب، ثم أنهض إليهم أهل المصرين، فليتبعوهم أيّ وجه ما توجّهوا حتى يبيرهم الله ويستأصلهم، والسلام عليك. » فدعا بشر المهلّب، فأقرأه الكتاب، وأمره أن ينتخب من شاء. فبعث بجذيع بن قبيصة وهو خال ابنه يزيد، فأمره أن يأتى الديوان، فينتخب الناس. فشقّ على بشر أنّ إمرة المهلّب جاءت من قبل عبد الملك فلا يستطيع أن يبعث غيره.
فأوغرت صدره عليه حتى كأنّ له إليه ذنبا. ودعا بشر بن مروان عبد الرحمن بن مخنف، فبعثه على أهل الكوفة، وأمره أن ينتخب فرسان الناس ووجوههم وأولى الفضل منهم والنجدة.
قال عبد الرحمن بن مخنف، قال لي بشر:
« إنّك قد عرفت منزلتك مني وأثرتك عندي، وقد ولّيتك هذا الجيش للذي عرفت من جرأتك وغنائك وشرفك وبأسك، فكن عند أحسن ظنّى بك، انظر هذا الكذّاب - يعنى المهلّب ووقع فيه وسبعه - (كذا) فاستبدّ عليه بالأمر، ولا تقبلنّ له مشورة ولا رأيا. » وتنقّصه وقصّر به.
قال عبد الرحمن: فترك أن يوصيني بالجند وقتال العدوّ والنظر لأهل الإسلام، وأقبل يغرينى بابن عمّى حتى كأنّى سفيه من السفهاء، أو ممّن يستصبى ويستجهل. ما رأيت شيخا في مثل سنّى ومنزلتي طمع منه في مثل ما طمع فيه هذا الغلام مني. شبّ عمرو عن الطوق.
قال: ولما رءانى لست بالنشيط إلى جوابه قال:
« ما لك؟ » قلت:
« أصلحك الله، وهل يسعني إلّا أن أنقاد لأمرك في كلّ ما أحببت أو كرهت؟ »
قال:
« امض راشدا. » فودّعته وخرجت من عنده.
وخرج المهلّب حتى نزل رامهرمز، فلقى الخوارج، فخندق عليه، وأقبل عبد الرحمن بن مخنف بأهل الكوفة، فنزل قريبا من المهلّب على ميل، أو ميل ونصف، حيث يتراءى العسكران برامهرمز، فلم يلبث الناس إلّا عشرا حتى أتاهم نعى بشر، وتوفّى بالبصرة، وارفضّ الناس من أصحاب المهلّب وأصحاب عبد الرحمن بن مخنف، وهم رؤساء أهل البصرة والكوفة، وبقيا في قلّة. وكان بشر استخلف خالد بن عبد الله بن أسيد، وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث، وكان ممن انصرف من أهل الكوفة: زحر بن قيس، وإسحاق بن محمد بن الأشعث، ومحمد بن عبد الرحمن بن سعد بن قيس. فبعث عبد الرحمن ابنه جعفرا في آثارهم، فردّ إسحاق ومحمدا، وفاته زحر بن قيس، فحبسهما يومين، ثم أخذ عليهما ألّا يفارقاه. فما لبثا إلّا يوما حتى انصرفا ولحقا بزحر بن قيس بالأهواز، فاجتمع بها ناس كثير ممن يريد البصرة، فبلغ ذلك خالد بن عبد الله، فكتب إلى الناس كتابا، وبعث رسلا تضرب وجوه الناس وتردّهم. فقدم مولى له، فقرئ الكتاب على الناس وقد جمعوا له، وكان فيه حضّ على الجهاد وتوبيخ للرؤساء، وتهديد لعامّة الناس، ويقول في آخره:
« أيها الناس، اعلموا على من اجترأتم ومن عصيتم. إنه عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين الذي ما فيه غميزة، ولا عنده رخصة على من خالفه وعصى أمره، وإنما سوطه سيفه، فلا تجعلوا على أنفسكم سبيلا، فإني لم آلكم نصيحة. اذهبوا إلى مكتبكم وطاعة خليفتكم، ولا ترجعوا عاصين مخالفين، فأقسم بالله لا أثقف عاصيا بعد كتابي هذا إلّا قتلته والسلام. » فلم يلتفت الناس إلى ما في الكتاب، وأقبل رؤساء الكوفة حتى نزلوا إلى جانب الكوفة في قرية لآل الأشعث، وكتبوا إلى عمرو بن حريث:
« أما بعد، فإنّ الناس لما بلغهم وفاة الأمير رحمه الله، تفرّقوا فلم يبق معنا أحد، فأقبلنا إلى الأمير، وإلى مصرنا، وأحببنا ألّا ندخل الكوفة إلّا بإذن الأمير وعلمه، والسلام. » فكتب إليهم:
« أما بعد، فإنّكم تركتم مكتبكم وأقبلتم عاصين مخالفين، فليس لكم عندنا أمان ولا إذن. » فلما أتاهم كتابه انتظروا حتى إذا كان الليل دخلوا إلى رحالهم، فلم يزالوا مقيمين حتى قدم الحجّاج بن يوسف.
سبب عزل بكير بن وساج عن خراسان
وفي هذه الأيام عزل عبد الملك بكير بن وساج عن خراسان، وولّاها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. وكان سبب ذلك أنّ تميما اختلفت بخراسان، فصار منهم قوم يتعصّبون لبحير ويطلبون بكيرا، وصار منهم يعذرون بكيرا ويتعصّبون له. فخاف أهل خراسان أن تعود الحرب وتفسد البلاد ويقهرهم عدوّهم من المشركين. فكتبوا إلى عبد الملك أنّ خراسان لا تصلح بعد الفتنة إلّا على رجل من قريش لا يحسدونه.
فوجّه عبد الملك أمية بن عبد الله، وكان يحبّه ويقول:
« هو لدتى. » وكان بحير كما كتبنا في ما تقدّم من خبره، في حبس بكير لما كان منه في رأس ابن خازم حين قتله. فلم يزل محبوسا عنده حتى استعمل عبد الملك أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. فلما بلغ ذلك بكيرا أرسل إلى بحير ليصالحه، فأبى عليه وقال:
« ظنّ بكير أنّ خراسان تبقى له في الجماعة. » فمشى بينهم السفراء، فأبى بحير.
ذكر رأي صواب أشير به على بحير فقبله
ثم دخل عليه ضرار بن حصن الضبي، فقال:
« إني لا أراك مائقا، يرسل إليك ابن عمّك يعتذر إليك وأنت أسير في يده فلا تقبل منه! لو قتلك ما حبقت فيه عنز. ما أنت بموفّق، اقبل الصلح، واخرج وأنت على أمرك. » فقبل مشورته وصالح بكيرا.
قال: فأرسل إليه بكير بأربعين ألفا، وأخذ على بحير ألّا يغتاله. فلما بلغ بحيرا أنّ أمية قارب أبرشهر، قال لرجل من عجم مرو:
« دلّنى على طريق قريب لألقى الأمير قبل قدومه ولك كذا وكذا. » وأجزل له العطيّة. وكان عالما بالطريق. فخرج إلى أرض سرخس في ليلة، ثم مضى به إلى نيسابور.
فوافى أمية حتى قدم أبر شهر، فلقيه، فأخبره عن خراسان وما يصلح أهلها ويحسن طاعتهم ويخفّ على الموالي مؤونتهم، ورفع على بكير أموالا قد أصابها، وحذّره غدره، وسار معه حتى قدم مرو. وكان أمية سيّدا كريما. فلم يعرض لبكير ولا لعمّاله، وعرض عليه أن يولّيه شرطته، فأبى بكير، فولّاها بحيرا. وقد كان لام بكيرا رجال من قومه وقالوا:
« أبيت أن تلى حتى ولّاها بحيرا، وقد عرفت ما كان بينكما. » قال:
« كنت أمس والى خراسان تحمل الحراب بين يديّ وأصبر اليوم على الشرطة أحمل الحربة! » وقال أمية لبكير:
-
« اختر ما شئت من عمل خراسان. » قال:
« طخارستان. » قال:
« هي لك. » قال: فتجهّز بكير، وأنفق مالا كثيرا، فقال بحير لأميّة:
« إن أتى بكير طخارستان خلعك. » فلم يزل يحذّره حتى حذره، وأمره بالمقام.
ذكر تولية عبد الملك الحجاج بن يوسف العراق وسيرة الحجاج
ولمّا توفّى بشر بن مروان، كاتب عبد الملك الحجّاج بن يوسف وهو بالمدينة وولّاه العراق. فأقبل في اثنى عشر راكبا على النجائب، حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار. فجاءه، وكان بشر بعث المهلّب إلى الحروريّة، وانصرف كثير من الناس عنه بعد وفاته. وقد كتبنا أمره في ما تقدّم. فبدأ الحجّاج بالمسجد، فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثّم بعمامة حمراء خزّ، فقال:
« عليّ بالناس. » فحسبوه وأصحابه خارجة. فهمّوا به، حتى إذا اجتمع إليه الناس قام فكشف عن وجهه، ثم قال:
« أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا ** متى أضع العمامة تعرفوني
أما والله، إني لأحمل الشرّ محمله، وأخذوه بنعله وأجزيه بمثله، وإني لأرى رؤوسا قد أينعت، وحان قطافها، وإني لأنظر إلى الدماء ترقرق بين العمائم واللّحى. قد شمّرت عن ساقها تشميرا.
هذا أوان الشدّ، فاشتدّى زيم ** قد لفّها الليل بسوّاق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم ** ولا بجرّار على ظهر وضم
قد لفّها الليل بعصلبيّ ** مهاجر ليس بأعرابيّ
إني والله، يا أهل العراق ما أغمز تغماز التين، ولا يقعقع لي بالشّنان، ولقد فررت عن ذكاء وفتّشت عن تجربة، وجريت من الغاية. إنّ أمير المؤمنين نثل كنانته، ثم عجم عيدانها، فوجدني أمرّها عودا [ وأصلبها مكسرا ] فرماكم بي. فإنّكم طال ما أوضعتم في الفتن وسننتم سنن الغيّ. والله لألحونّكم لحو العود، ولأعصبنّكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. إني والله لا أعد إلّا وفيت، ولا أخلق إلّا فريت، فإيّاى وهذه الجماعات وقيلا وقالا وما يقول وفيم أنتم وذاك، والله لتستقيمنّ على سبل الحقّ، أو لأدعنّ لكلّ رجل منكم شغلا في جسده. من وجدناه بعد ثالثة من بعث المهلّب سفكت دمه وأنهبت ماله. » ثم دخل منزله ولم يزد على ذلك.
ويقال: إنّه لمّا طال سكوته تناول محمد بن عمير حصى ليحصبه بها، وقال:
« قاتله الله، ما أعياه وآدمه! » فلما تكلّم الحجّاج جعل الحصى ينتشر من يده ولا يعقل به.
ثم دعا الحجّاج بالعرفاء، وقال:
« الحقوا بالمهلّب وائتوني بالبراءات بموافاتهم، ولا تغلقنّ أبواب الجسر ليلا ونهارا، فقد بلغني رفضكم للمهلّب وإقبالكم إلى مصركم عصاة مخالفين.
وإني لأقسم لكم بالله ما أجد أحدا بعد ثلاثة إلّا ضربت عنقه. » فلما كان اليوم الثالث سمع تكبيرا في السوق، فخرج حتى جلس على المنبر، فقال:
« يا أهل العراق وأهل الشقاق ومساوئ الأخلاق، إني سمعت تكبيرا لا يراد به الله في الترغيب، ولكنّه تكبير يراد به الترهيب. وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف. يا بنى اللكيعة وعبيد العصا وأبناء الأيامى، إن لا تربع رجل على ظلعه ولا يحسن حقن دمه ويبصر موضع قدمه، فأقسم باللَّه لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالا لما قبلها وأدبا لما بعدها. » فقام إليه عمير بن ضابئ التميمي ليتكلم بعذره فقال:
« أسمعت كلامنا بالأمس؟ » قال:
« نعم، » قال:
« ألست الذي غزا أمير المؤمنين عثمان؟ » قال:
« بلى. » قال:
« فما حملك على ذلك؟ » قال:
« حبس أبي وكان شيخا كبيرا. » قال:
« أوليس الذي يقول:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ** تركت على عثمان تبكى حلائله
إني لأحسب في قتلك صلاح المصرين. قم إليه يا حرسيّ فاضرب عنقه. » فقام إليه الحرسيّ، فأخرجه وضرب عنقه، وأنهب ماله، وأمر مناديا فنادى:
« ألا إنّ عميرا أتى بعد ثالثة وقد كان سمع النداء، فأمرنا بقتله. ألا إنّ ذمّة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلّب. » فخرج الناس، فازدحموا على الجسر، فعبر في تلك الليلة أربعة آلاف مذحج.
وخرج العرفاء إلى المهلّب، وهو برامهرمز، فأخذوا كتبه بالموافاة.
وقال المهلّب لأصحابه:
« قدم العراق أمير ذكر، اليوم قوتل العدوّ. »
قال عمرو بن سعيد: فو الله إني لأسير بين الكوفة والحيرة إذ سمعت زجرا مضريا، فعدلت إليه وقلت:
« ما الخبر؟ » قالوا:
« قدم علينا رجل من شرّ أحياء العرب، من هذا الحيّ، من ثمود، أسقف الساقين، أشرح الجاعرتين، أخفش العينين. فقدّم سيد الحيّ عمير بن ضابئ فضرب عنقه. » ولقي ابن الزبير إبراهيم بن عامر، فسأله عن الخبر، فقال وذلك في السوق:
أقول لإبراهيم لمّا لقيته ** أرى الأمر أضحى منصبا متشعّبا
تجهّز وأسرع فالحق الجيش، لا أرى ** سوى الجيش، إلّا في المهالك مذهبا
تخيّر فإمّا أن تزور ابن ضابئ ** عميرا وإمّا أن تزور المهلّبا
هما خطّتا حتف نجاؤك منهما ** ركوبك حوليّا من الثلج أشهبا
فأمسى ولو كانت خراسان دونه ** رءاها مكان السوق، أو هي أقربا
ثم أسرع الحجاج إلى البصرة
ولما قتل الحجّاج عمير بن ضابئ، خرج من فوره حتى قدم البصرة، فقام فيهم بخطبة، مثل التي قام بها في أهل الكوفة، وتوعّدهم مثل وعيده إيّاهم. فأتى برجل من بنى يشكر، وقيل له:
« هذا عاص. » فقال:
« إنّ لي فتقا، وقد رءاه بشر فعذرنى، وهذا عطائي مردود في بيت المال. » فلم يقبل منه، وقدّمه فضرب عنقه. ففزع أهل البصرة، فخرجوا حتى تداكّوا على العارض برامهرمز، فقال المهلّب:
« جاء الناس أمر ذكر. »
ذكر وثوب الناس بالحجاج
خرج الحجّاج بالناس حتى نزل رستقباذ، ومعه وجوه أهل البصرة، وكان بينه وبين المهلّب ثمانية عشر فرسخا. فقام في الناس، فقال:
« إنّ ابن الزبير زادكم في أعطياتكم زيادة فاسق منافق ولست أجيزها. » فقام إليه عبد الله بن الجارود العبدى، فقال:
« ولكنّها زيادة أمير المؤمنين عبد الملك، وقد أثبتها لنا. » فكذّبه وتوعّده، فخرج ابن الجارود على الحجّاج، وبايعه وجوه الناس.
فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل عبد الله بن الجارود وجماعة ممن ثار معه، وبعث الحجّاج برأسه ورؤوس عدّة من أصحابه إلى المهلّب، ونصب برامهرمز ثمانية عشر رأسا من وجوه الناس. فساء ذلك الخوارج، وكانوا رجوا أن يكون من الناس فرقة واختلاف. وانصرف الحجّاج إلى البصرة، وكتب إلى المهلّب وإلى عبد الرحمن بن مخنف:
« أما بعد، إذا أتاكم كتابي هذا، فناهضوا الخوارج. والسلام. » فناهض المهلّب وعبد الرحمن الأزارقة، فأجلوهم عن رامهرمز من غير قتال شديد، ولكنّهم زحفوا إليهم حتى أزالوهم، وخرج القوم كأنهم على حامية، حتى نزلوا بكازرون.
ذكر توان لعبد الرحمن حتى قتل وقتل معه خلق
وسار المهلّب وعبد الرحمن حتى نزلوا بهم، فخندق المهلّب ولم يخندق عبد الرحمن، فقال المهلّب لعبد الرحمن:
« إن رأيت أن تخندق عليك فعلت. » فقال أصحاب عبد الرحمن:
-
« خندقنا سيوفنا. » فلما كان الليل زحف الخوارج إلى المهلّب ليبيّتوه، فوجدوه قد أخذ حذره، فمالوا نحو عبد الرحمن، فوجدوه لم يخندق. فنهض عبد الرحمن وقاتلهم وانهزم عنه أصحابه، ونزل في جماعة من أهل الحفاظ والصبر، فقاتلوا حتى قتل عبد الرحمن وقتلوا كلّهم حوله.
فلما أصبح المهلّب جاء حتى دفنه وصلّى عليه، وكتب بمصابه إلى الحجّاج، فكتب الحجّاج بذلك إلى عبد الملك ونعى عبد الرحمن وذمّ أهل الكوفة. وبعث الحجّاج على عسكر عبد الرحمن بن مخنف، عتّاب بن ورقاء، وأمره إذ ضمّتها الحرب أن يسمع للمهلّب ويطيع. فساءه ذلك ولم يجد بدّا من طاعة الحجّاج، ولم يقدر على مراجعته. فجاء حتى أقام في ذلك العسكر، وقاتل الخوارج، وأمره إلى المهلّب، وهو في ذلك يعنى أموره ولا يكاد يستشير المهلّب في شيء. فلما رأى المهلّب ذلك اصطنع رجالا من أهل الكوفة فيهم بسطام بن مصقلة، فأغراهم بعتّاب.
فلما كان ذات يوم، أتى عتّاب المهلّب يسأله أن يرزق أصحابه. فأجلسه المهلّب معه على مجلسه، فسأله عتّاب سؤالا فيه تجهّم وغلظة وترادّا الكلام حتى قال له المهلّب:
« يا بن اللخناء. » وذهب ليرفع القضيب عليه، فوثب إليه ابنه المغيرة، فقبض على القضيب وقال:
« أصلح الله الأمير، شيخ من أشياخ العرب وشريف من أشرافهم. إن سمعت منه ما تكره فاحتمله. » فقبله وقام عتّاب، فاستقبله بسطام بن مصقلة يشتمه ويقع فيه. فلما رأى عتّاب ذلك كتب إلى الحجّاج يشكو إليه المهلّب ويخبره أنه أغرى به سفهاء أهل البصرة ويسأله أن يضمّه إليه، ووافق ذلك حاجة من الحجّاج إليه في ما لقي من شبيب، وما لقيه أيضا أشراف الكوفة منه. وسنذكر من خبره ما يليق بهذا الكتاب إن شاء الله. فبعث إليه الحجّاج أن:
« اقدم واترك أمر ذلك الجيش إلى المهلّب. » فبعث المهلّب ابنه حبيبا، وأقام المهلّب يقاتلهم سنة.
ذكر ما كان من شبيب بن يزيد وما لقي الحجاج وأشراف الكوفة منه
كان ابتداء أمر شبيب صحبته لرجل يعرف بصالح بن مسرّح، وكان صالح يرى رأى الصفريّة وكان ناسكا مصفرّ الوجه صاحب عباده، وله أصحاب يقريهم القرآن ويفقّههم ويقصّ عليهم، وقدم الكوفة فيقيم بها الشهر أو الشهرين، وكان بأرض الموصل والجزيرة، وله قصص محفوظ وكلام مستحسن، وكان إذا فرغ من التحميد والصلاة على محمد ذكر أبا بكر فأثنى عليه، وثنّى بعمر، وذكر عثمان وما كان من أحداثه، ثم عليّا وتحكيمه الرجال في أمر الله، ويتبرّأ من عثمان وعليّ، ثم يدعو إلى مجاهدة أئمّة الضلال ويقول:
« تيسّروا يا إخوانى للخروج من دار الفناء، إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة، ولا تجزعوا من القتل في الله، فإنّ القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم عند ما ترجم الظنون، فيفرّق بينكم وبين آبائكم وأبنائكم وحلائلكم ودنياكم، وإن اشتدّ لذلك جزعكم. ألا، فبيعوا أنفسكم طائعين وأموالكم، تدخلوا الجنّة. » وأشباه ذلك من الكلام. وكان في من يحضره من أهل الكوفة سويد والبطين.
فقال يوما لأصحابه:
« ما تنتظرون؟ ما يزداد أئمّة الجور إلّا عتوّا وعلوّا وتباعدا من الحقّ، وجرأة على الربّ، فراسلوا إخوانكم حتى يأتوكم وننظر ما نحن صانعون وأيّ وقت إن خرجنا نحن خارجون. » فبينا هو كذلك، إذ أتاه المحلّل بن وائل بكتاب شبيب وقد كتب إلى صالح:
« أما بعد، فقد كنت دعوتني إلى أمر استجبت له، فإن كان ذلك، فإنّك شيخ المسلمين، ولم نعدل بك منّا أحدا، وإن أردت تأخير ذلك، أعلمتنى، فإنّ الآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تخترمنى المنيّة ولمّا أجاهد الظالمين. جعلنا الله وإيّاك ممّن يريد الله بعمله، والسلام عليك. » فأجابه صالح بجواب جميل يقول فيه:
« إنّه لم يمنعني من الخروج مع ما أنا فيه من الاستعداد إلّا انتظارك، فاقدم علينا ثم اخرج بنا، فإنّك ممن لا تقصّى الأمور دونه، والسلام. » فلما ورد كتابه على شبيب دعا نفرا من أصحابه فجمعهم إليه، منهم: أخوه مصاد بن يزيد والمحلّل بن وائل، والصفر بن حاتم، وإبراهيم بن حجر، وجماعة مثلهم. ثم خرج حتى قدم على صالح بن مسرّح، وهو بدارا من أرض الموصل.
فبثّ صالح رسله، وواعدهم الخروج في هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست وسبعين. فاجتمع بعضهم إلى بعض، واجتمعوا عنده في تلك الليلة.
فتحدّث فروة بن لقيط قال: إني لمعهم تلك الليلة وكان رأى استعراض الناس لما رأيت من المنكر والفساد في الأرض. فقمت إليه، فقلت:
« يا أمير المؤمنين، كيف ترى السيرة في هؤلاء الظلمة؟ أنقتلهم قبل الدعاء، أم ندعوهم قبل القتال؟ فإني أخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني برأيك فيهم. إنّا نخرج على قوم طاغين باغين، قد تركوا أمر الله، أو راضين بذلك، فأرى أن تضع فيهم السيف. » فقال:
« لا، بل ندعوهم، فلعمري، لا يجيبك إلّا من يرى رأيك، وليقاتلنّك من يزرى عليك، والدعاء أقطع لحجّتهم، وأبلغ في الحجة لك عليهم. » قال: فقلت له:
« فكيف ترى في من قاتلنا فظفرنا به، وما تقول في دمائهم وأموالهم؟ » فقال:
« إن قاتلنا وغنمنا فلنا، وإن تجاوزنا وعفونا، فموسّع علينا ولنا. » فأحسن لنا القول.
ثم قال صالح لأصحابه ليلته:
« اتّقوا الله عباد الله، ولا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس إلّا أن يكونوا يريدونكم، فإنّكم خرجتم غضبا لله حيث انتهكت محارمه، وعصى في الأرض، وسفكت الدماء بغير حقّها، وأخذت الأموال غصبا، فلا تعيبوا على قوم أعمالا ثم تعملوا بها. وهذه دوابّ لمحمد بن مروان في هذا الرستاق، فابدءوا بها، فاحملوا رجلكم وتقوّوا بها على عدوّكم. » ففعلوا ذلك وتحصّن منهم أهل دارا، وبلغ خبرهم محمد بن مروان، وهو يومئذ أمير الجزيرة، فاستخفّ بأمرهم، وبعث إليهم عديّ بن عميرة في خمسمائة، وكان صالح في مائة وعشرة، فقال عديّ:
« أصلح الله الأمير، تبعثني إلى رأس الخوارج ومعه رجال سمّوا لي، وإنّ الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة. » فقال له:
« فإني أزيدك خمسمائة، فسر إليهم في ألف فارس. » فسار من حرّان في ألف رجل وكأنما يساق إلى الموت. وكان عديّ رجلا يتنسّك. فلما نزل ذوغان نزل بالناس وأنفذ إلى صالح بن مسرّح رجلا دسّه إليه.
فقال له:
« إنّ عديّا بعثني إليك يسألك أن تخرج من هذا البلد وتأوى بلدا آخر وتقاتل أهله، فإنّ عديّا للقائك كاره. » فقال صالح:
« ارجع إليه، فقل له: إن كنت ترى رأينا فأرنا من ذلك ما نعرف، ثم نحن مدلجون عنك، وإن كنت على رأى الجبابرة وأئمّة السوء، رأينا رأينا. فإمّا بدأنا بك، وإمّا رحلنا إلى غيرك. » فانصرف إليه الرسول، فأبلغه. فقال عديّ:
« ارجع إليه فقل له: إني والله لا أرى رأيك، ولكني أكره قتالك وقتال غيرك من المسلمين، فقاتل غيري. »
-
ذكر مكيدة صالح على عدي
فقال صالح لأصحابه: اركبوا. فركبوا. وحبس الرجل عنده حتى خرجوا، ثم تركه ومضى بأصحابه حتى أتى عديّا في سوق ذوغان وهو قائم يصلّى الضحى، فلم يشعر إلّا والخيل طالعة عليهم. فلما دنا صالح منهم رءاهم على غير تعبئة، وقد تنادوا، وبعضهم يجول في بعض. فأمر شبيبا، فحمل عليهم في كتيبة، ثم أمر سويدا، فحمل في كتيبة، وكانت هزيمتهم. وأتى عديّ بدابّته فركبها، ومضى على وجهه، واحتوى صالح على عسكره وما فيه. وذهب فلّ عديّ حتى لحقوا بمحمد بن مروان. فغضب، ثم دعا خالد بن جزء السلمى، فبعثه في ألف وخمسمائة، ودعا الحارث بن جعونة فبعثه في ألف وخمسمائة، وقال لهما:
« أخرجا إلى هذه الخارجة القليلة الخبيثة وعجّلا. فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه. » فخرجا، وأغذّا السير، وجعلا يسألان عن صالح، فقيل لهما:
« توجّه نحو آمد. » فاتّبعاه حتى انتهيا إليه بآمد، فنزلا ليلا وخندقا وهما يتساندان كلّ واحد منهما على حدته. فوجّه صالح شبيبا إلى الحارث بن جعونة في شطر أصحابه، وتوجّه هو نحو خالد السلمى، فاقتتلوا أشدّ قتال اقتتله قوم، حتى حجز بينهم الليل وقد انتصف بعضهم من بعض.
فتحدّث بعض أصحاب صالح قال: كنّا إذا حملنا عليهم استقبلتنا رجّالتهم بالرماح، ونضحتنا رماتهم بالنبل وخيلهم تطاردنا في خلال ذلك، فانصرفنا عند الليل وقد كرهناهم وكرهونا. فلمّا رجعنا وصلّينا وتروّحنا وأكلنا من الكسر دعانا صالح وقال:
« يا أخلّائي ماذا ترون؟ » فقال شبيب:
« أنا أرى إن قاتلنا هؤلاء وهم معتصمون بخندقهم لم ننل منهم طائلا. والرأي أن نرحل عنهم. » فقال صالح:
« أنا أرى ذلك. » فخرجوا من تحت ليلتهم حتى قطعوا أرض الجزيرة وأرض الموصل، ومضوا حتى قطعوا الدسكرة. فلما بلغ ذلك الحجّاج سرّح إليهم الحارث بن عميرة في ثلاثة آلاف. فسار، وخرج صالح نحو جلولا وخانقين، واتّبعه الحارث حتى انتهى إلى قرية يقال لها: الريح وصالح يومئذ في تسعين رجلا. فعبّى الحارث بن عميرة أصحابه ميمنة وميسرة، وجعل صالح أصحابه كراديس ثلاثة، فهو في كردوس وشبيب في ميمنته في كردوس، وسويد بن سليم في كردوس من ميسرته، وفي كلّ كردوس منهم ثلاثون رجلا. فلما شدّ عليهم الحارث بن عميرة انكشف سويد بن سليم وثبت صالح، فقتل، وضارب شبيب حتى صرع عن فرسه، فوقع في رجاله، فجاء حتى انتهى إلى موقف صالح، فوجده قتيلا، فنادى:
« يا معشر المسلمين. » فلاذوا به، وقال لأصحابه:
« ليجعل كلّ رجل منكم ظهره إلى ظهر صاحبه، وليطاعن عدوّه إذا أقدم عليه حتى ندخل هذا الحصن ونرى من رأينا. » ففعلوا ذلك حتى دخلوا الحصن وهم سبعون رجلا مع شبيب، وأحاط بهم الحارث بن عميرة ممسيا، وقال لأصحابه:
« أحرقوا الباب، فإذا صار جمرا فدعوه، فإنّهم لا يقدرون على خروجهم حتى نصبّحهم فنقتلهم. » ففعلوا ذلك بالباب، ثم انصرفوا إلى معسكرهم. فقال شبيب لأصحابه:
« ما تنظرون يا هؤلاء؟ فو الله، لئن صبّحوكم إنه لهلاككم. » فقالوا:
« مرنا بأمرك. » فقال لهم:
« بايعوني إن شئتم، أو من شئتم منكم، ثم اخرجوا بنا حتى نشدّ عليهم في عسكرهم فإنّهم آمنون منكم، فإني أرجو أن ينصركم الله. » قالوا:
« فابسط يدك. » فبايعوه. فلما جاءوا إلى الباب وجدوه جمرا، فأتوا باللبود، فبلّوها بالماء، ثم ألقوها عليه، وخرجوا، ولم يشعر الحارث بن عميرة إلّا وشبيب وأصحابه يضربونهم بالسيوف في جوف عسكرهم. فضارب الحارث حتى صرع، واحتمله أصحابه وانهزموا وخلّوا لهم العسكر وما فيه، ومضوا حتى نزلوا المدائن. وكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب.
فأما صالح بن مسرّح فإنّه أصيب من سنة كما حكينا من أمره، ثم ارتفع في أدانى أرض الموصل، ثم ارتفع نحو آذربيجان يجبى الخراج.
وكان سفيان بن أبي العالية قد أمر أن يدخل في خيل معه طبرستان، فأمر بالقفول، فصالح صاحب طبرستان، وأقبل في نحو من ألف، وورد عليه كتاب الحجّاج:
« أما بعد، فأقم بالدسكرة في من معك حتى يأتيك جيش الحارث بن عميرة من ذي الشغار، وهو الذي قتل صالح بن مسرّح، ثم سر إلى شبيب حتى تناجزه. » ففعل سفيان ذلك ونزل الدسكرة، ونودى في جيش الحارث بن عميرة بالكوفة والمدائن:
« برئت الذمّة من رجل من جيش الحارث بن عميرة لم يواف ابن العالية بالدسكرة. » قال: فخرجوا حتى أتوه، وارتحل سفيان في طلب شبيب، ثم ارتفع عنهم كأنه يكره لقاءهم وقد أكمن لهم مصادا في خمسين رجلا في هزم من الأرض. فلمّا رأوه جمع أصحابه، ثم مضى في سفح من الجبل مشرقا. فقالوا:
« هرب عدوّ الله. » واتّبعوه.
ذكر رأي رءاه عدي بن عميرة في تلك الحال فلم يقبل حتى هلك الجيش
فقال لهم عديّ بن عميرة الشيبانى:
« أيها الناس، لا تعجلوا عليهم حتى نضرب في الأرض فنستبرئها، فإن يكونوا كمنوا كمنا حذرناه، وإلّا كان طلبهم بأيدينا، لن يفوتنا. » فلم يسمع منه الناس، وأسرعوا في آثارهم. فلما رأى شبيب أنهم قد تجاوزوا الكمين خرجوا إليهم. فحمل شبيب من أمامهم، وصاح بهم الكمين من وراءهم.
فلم يقاتل أحد وكانت الهزيمة وثبت ابن أبي العالية في نحو مائتي رجل، فقاتلهم قتالا شديدا حتى انتصف من شبيب، فقال سويد بن سليم:
« أمنكم من يعرف أمير القوم ابن أبي العالية؟ » فقال شبيب:
« أنا من أعرف الناس به. أما ترى صاحب الفرس الذي دونه المرامية، فإنه هو. فإن كنت تريده فأمهله قليلا. » ثم قال:
« يا قعنب، اخرج في عشرين، ثم ائتهم من وراءهم. » فخرج قعنب في عشرين، فارتفع عليهم. فلما رأوه يريد أن يأتيهم من ورائهم جعلوا ينقصون ويتسلّلون. وحمل سويد بن سليم على سفيان بن أبي العالية، فطاعنه، فلم يصنع رمحاهما شيئا، ثم اضطربا بسيفيهما، ثم اعتنق كلّ أحد منهما، فوقعا إلى الأرض يعتركان، ثم تحاجزا، وحمل عليهم شبيب، فانكشف من كان معه. ونزل غلام لسفيان، يقال له غزوان [ نزل ] عن برذونه، وقال لسفيان:
« اركب يا مولاي. » فركب سفيان وأحاط به أصحاب شبيب، فقاتل دونه غزوان حتى قتل، وكانت معه رايته. وأقبل سفيان بن أبي العالية منهزما حتى انتهى إلى بابل مهروذ، فنزل بها، وكتب إلى الحجّاج، وكان الحجّاج أمر سورة بن أبجر أن يلحق بسفيان، فكاتب سورة سفيان وقال: انتظرني. فلم يفعل، وعجّل نحو الخوارج. فلما عرف الحجّاج خبر سفيان، وقرأ كتابه، قال للناس:
« من صنع كما صنع هذا وأبلى كما أبلى، فقد أحسن. » ثم كتب إليه يعذره ويقول له:
« إذا خفّ عليك الوجع، فأقبل مأجورا إلى أهلك. » وكتب إلى سورة:
« أما بعد، يا بن أمّ سورة، فما كنت خليقا أن تجتزئ على ترك عهدي وخذلان جندي، فإذا أتاك كتابي فابعث رجلا ممن معك صليبا إلى المدائن، فلينتخب من الخيل التي بها خمسمائة رجل، ثم ليقدم بهم عليك، ثم سر بهم حتى تلقى هذه المارقة، وأخبرني في أمرك، وكد عدوّك، فإنّ أفضل أمر الحرب المكيدة. والسلام. »
فلما أتى سورة كتاب الحجّاج، بعث عديّ بن عميرة إلى المدائن وكان بها ألف فارس، فانتخب منهم خمسمائة رجل، ثم رحل بهم حتى قدم على سورة ببابل مهروذ. فخرج في طلب شبيب، وخرج شبيب يجول في جوخى، وسورة في طلبه. فجاء شبيب إلى المدائن وتحصّن منه أهلها وهي أبنية المدائن الأولى، فدخل المدائن وأصاب دوابّ من دوابّ الجند، وقتل من ظهر له، ولم يدخلوا البيوت، فأتى فقيل:
« هذا سورة بن أبجر قد أقبل إليك. » فخرج في أصحابه حتى انتهى إلى النهروان، فنزل به، وتوضّأ هو وأصحابه، ثم أتوا مصارع إخوانهم الذين قتلهم عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، فاستغفروا لإخوانهم، وتبرّأوا من عليّ وأصحابه، وبكوا فأطالوا البكاء، ثم عبروا جسر النهروان، فنزلوا من جانبه الشرقي، وجاء سورة حتى نزل بقطراثا، وجاءته عيونه، فخبّرته بمنزل شبيب بالنهروان.
ذكر سوء رأي سورة في الإقدام حتى هزم وفل
فدعا سورة رؤساء أصحابه، فقال لهم:
« إنّهم قلّ ما يلقون مصحرين أو على ظهيرة إلّا انتصفوا، وقد حدّثت أنهم لا يزيدون على مائة رجل، وقد رأيت أن أنتخبكم وأسير في ثلاثمائة رجل منكم من أقويائكم وشجعانكم فأبيّتهم، فإنّهم آمنون لبياتكم. فإني والله أرجو أن يصرعهم الله مصرع إخوانهم بالنهروان من قبل. » فقالوا:
« اصنع ما أحببت. » فاستعمل على عسكره حازم بن قدامة، وانتخب ثلاثمائة من شجعاء أصحابه، ثم أقبل بهم حتى قرب من النهروان، وبات وقد أذكى الحرس ثم بيّتهم. فلما دنا أصحاب سورة منهم نذروا بهم. فاستووا على خيولهم، وتعبّوا بتعبئتهم. فلما انتهى إليهم سورة وأصحابه أصابوهم قد حذروا. فحمل عليهم سورة، ثم صاح شبيب بأصحابه، فحمل عليهم حتى تركوا العرصة، وحمل شبيب وجعل يضرب ويقول:
من ينك العير ينك نيّاكا ** [ جندلتان اصطكّتا اصطكاكا ]
ورجع سورة إلى أصحابه مفلولا قد هزم فرسانه وأهل القوّة من أصحابه.
-
فضحك بهم وأقبل نحو المدائن، وتبعهم شبيب حتى انتهى سورة إلى بيوت المدائن، ودفع شبيب إليهم وقد دخل الناس، وخرج ابن أبي العصيفر، وهو أمير على المدائن، فرماهم الناس بالنبل ومن فوق البيوت بالحجارة، ثم سار إلى تكريت. فبينا ذلك الجند بالمدائن إذ أرجف الناس بينهم فقالوا:
« هذا شبيب قد أقبل يريد أن يبيّت أهل المدائن. » فارتحل عامّة الجند، فلحقوا بالكوفة، وإنّ شبيبا لبتكريت. ولما أتى الحجّاج خبره قال:
« قبّح الله سورة، ضيّع العسكر، وخرج يبيّت الخوارج. والله لأسوءنّه. » ثم دعا الحجّاج الجزل وهو عثمان بن سعيد، فقال له:
« تيسّر للخروج إلى هذه المارقة، فإذا لقيتهم، فلا تعجل عجلة الخرق النزق، ولا تحجم إحجام الوانى الفرق. هل فهمت؟ » قال:
« نعم، أصلح الله الأمير، قد فهمت ما قال. » قال:
« فاخرج، فعسكر بدير عبد الرحمن حتى يخرج إليك الناس. » فقال:
« أصلح الله الأمير، لا تبعثنّ معي أحدا من الجند المفلول المهزوم، فإنّ الرعب قد دخل قلوبهم، وقد خشيت أن لا ينفعك والمسلمين منهم أحد. » قال:
« ذلك لك ولا أراك إلّا وقد أحسنت الرأي ووفّقت. » ثم دعا أصحاب الدواوين، فقال:
« اضربوا على الناس بالبعث، فأخرجوا أربعة آلاف من الناس وعجّلوا. » فجمعت العرفاء، وأجلس أصحاب الدواوين، وضربوا البعث [ وأخرجوا أربعة ] آلاف. فأمرهم بالعسكر، ثم نودى فيهم بالرحيل. ثم ارتحلوا ونادى منادى الحجّاج أن:
« برئت الذمّة من رجل أصبناه من بعث الجزل متخلّفا. » فمضى الجزل بهم حتى أتى المدائن، فأقام بها ثلاثا، ثم خرج وبعث إليه ابن أبي عصيفر بفرس وبرذون وألفى درهم، ووضع للناس من الجزر والعلف ما كفاهم ثلاثة أيام، وأصاب الناس من ذلك ما شاءوا.
ثم إنّ الجزل خرج بالناس في أثر شبيب، فطلبه في أرض جوخى، فجعل شبيب يريه الهيبة، فيخرج من رستاق إلى رستاق، ومن طسّوج إلى طسوج يريد بذلك أن يفرّق الجزل أصحابه، ويتعجّل إليه فيلقاه في عدد يسير على غير تعبئة.
فجعل الجزل إلّا على تعبئة، ولا ينزل إلّا خندق على أصحابه. فلما طال ذلك على شبيب دعا يوما أصحابه، وهم مائة وستون رجلا، فجعل على كلّ أربعين منهم رجلا، فهو في أربعين، ومصاد أخوه في أربعين، وسويد بن سليم في أربعين، والمحلّل بن وائل في أربعين، وقد أتته عيونه أنّ الجزل بن سعيد قد نزل بئر سعيد، فقال لأخيه وللأمراء الذين ذكرناهم:
« إني أريد أن أبيّت الليلة هذا العسكر، فائتهم أنت يا مصاد من قبل حلوان، وسآتيهم أنا من أمامهم من قبل الكوفة، وائتهم أنت يا محلّل من قبل المغرب، وليلحّ كلّ امرئ منكم على الجانب الذي يحمل عليه، ولا تقلعوا عنهم حتى يأتيكم أمري. » قال فروة بن لقيط: وكنت أنا في الأربعين الذين كانوا معه، فقال لجماعتنا:
« تيسّروا، وليسر كلّ امرئ منكم مع أميره، ولينظر ما يأمر به أميره فليتّبعه. » فلمّا قضمت دوابّنا، وذلك أوّل ما هدأت العيون، خرجنا حتى انتهينا إلى دير الخرّارة، فإذا للقوم مسلحة عليهم عياض بن أبي لينة فما هو إلّا أن رءاهم مصاد أخو شبيب حتى حمل عليهم في أربعين رجلا، وكان أمام شبيب، أراد أن يرتفع عليهم حتى يأتيهم من ورائهم كما أمره. فلما لقي هؤلاء قاتلهم، فصبروا ساعة، وقاتلوهم. ثم إنّا دفعنا إليهم جميعا فهزمناهم، وأخذوا الطريق الأعظم، وليس بينهم وبين عسكرهم بدير يزدجرد إلّا نحو ميل. فقال لنا شبيب:
« اركبوا معاشر المسلمين أكتافهم حتى تدخلوا معهم عسكرهم إن استطعتم. » فاتّبعناهم ملظّين بهم، ملحّين عليهم، ما نرفّه عنهم وهم منهزمون، ما لهم همّة إلّا عسكرهم. ومنعهم أصحابهم أن يدخلوا عليهم ورشقوهم بالنبل، وكانت لهم عيون قد أتتهم فأخبرتهم بمكاننا. وكان الجزل قد خندق عليه وتحرّز، ووضع هذه المسلحة الذين لقيناهم، ووضع مسلحة أخرى مما يلي حلوان. فلما اجتمعت المسالح، ورشقوهم أصحابهم بالنبل، ومنعونا من خندقهم، نظر شبيب أنه لا يصل إليهم، فقال لأصحابه:
« سيروا ودعوهم. » فلما سار عنهم أخذ الطريق حلوان حتى كان منهم على سبعة أميال. قال لأصحابه:
« انزلوا، فأقضموا دوابّكم وقيلوا وتروّحوا، وصلّوا ركعتين، ثم اركبوا. » ففعلوا. ثم أقبل بهم راجعا إلى عسكر أهل الكوفة، وقال:
« سيروا على تعبئتكم التي عبّأتكم عليها أول الليل، وأطيفوا بعسكرهم كما أمرتكم. » فأقبلنا معه، وقد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم، وقد أمنوا، فما شعروا حتى سمعوا وقع حوافر خيولنا، فانتهينا إليهم قبل الصبح، وأحطنا بعسكرهم، ثم صحنا بهم من كلّ ناحية، فإذا هم يقاتلوننا ويرموننا بالنبل من كلّ جانب، فقال شبيب لأخيه مصاد:
« خلّ لهم سبيل الكوفة. » وكان يقاتلهم من ذلك الوجه. فلما راسله أخوه شبيب بهذا، أقبل إليه، وجعلنا نقاتلهم من الوجوه الثلاثة، فلم نقدر أن نستفلّ منهم أحدا. فسرنا، فتركناهم، وخرج الجزل مع الصبح يتبعهم ويطلبهم، وجعل لا يسير إلّا على تعبئة، ولا ينزل إلّا على خندق، وكان شبيب يدعه ويضرب في أرض جوخى وغيرها يكسر الحجّاج، فطال ذلك على الحجّاج.
ذكر عجلة للحجاج وسوء رأي له حتى أهلك ذلك العسكر
فكتب الحجّاج إلى الجزل كتابا قرئ على الناس، نسخته:
« أما بعد، فإني قد بعثتك في فرسان أهل المصر ووجوه الناس، وأمرتك باتّباع هذه المارقة وأن لا تقلع عنها حتى تقتلها أو تفنيها. فوجدت التعريس في القرى والتخييم في الخنادق أهون عليك من المضيّ لمناهضتهم ومناجزتهم. » فشقّ ذلك على الجزل.
قال: فأرجفنا بأميرنا وقلنا: يعزل. فما لبثنا أن بعث الحجّاج على ذلك الجيش سعيد بن المجالد وعهد إليه أنه، إذا لقي المارقة، أن يزحف إليهم ولا يناظرهم ولا يطاولهم ولا يصنع صنيع الجزل. وكان الجزل يومئذ قد انتهى في طلب شبيب إلى النهروان وقد لزم عسكره وخندق عليه.
وجاء سعيد حتى دخل عسكر أهل الكوفة أميرا. فقام فيهم خطيبا. فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
« يا أهل الكوفة، إنكم قد عجزتم ووهنتم وأغضبتم عليكم أميركم. أنتم في طلب هذه الأعاريب العقف منذ شهرين، قد أخربوا بلادكم وكسروا خراجكم وأنتم حذرون في جوف هذه الخنادق ولا تزايلونها إلّا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم ونزلوا بلدا سوى بلدكم. أخرجوا على اسم الله إليهم. » فخرج وأخرج الناس معه، وجمع إليه خيول أهل العسكر، فقال له الجزل:
« ما تريد أن تصنع؟ » قال:
« أريد أن أقدم على شبيب في هذه الخيل. » فقال له الجزل:
« أقم أنت في جماعة الناس فارسهم وراجلهم ودعني أصحر له، ولا تفرّق أصحابك، فإنّ ذلك شرّ لهم وخير لك. » فقال له:
« قف أنت في الصفّ. » فقال:
« يا سعيد بن مجالد، ليس في ما صنعت رأى، أنا بريء من رأيك هذا. سمع الله ومن حضر من المسلمين. » فقال:
« هو رأى إن أصبت فالله وفّقنى، وإن يكن غير صواب فأنتم منه برءاء. » قال: فوقف الجزل في صفّ أهل الكوفة، وقد أخرجهم من الخندق. وجعل على ميمنتهم عياض بن أبي لينة الكندي، وعلى ميسرتهم عبد الرحمن بن عوف أبا حميد الراسبي. ووقف الجزل في جماعتهم واستقدم سعيد بن مجالد، فخرج وأخرج الناس معه وقد أخذ شبيب إلى براز الروز، فنزل قطيطا، وأمر دهقانها أن يشترى لهم ما يصلحهم ويتخذ لهم غذاء.
ففعل. فدخل مدينة قطيطا، وأمر بالباب فأغلق، فلم يفرغ [ من الغداء ] حتى أتاه سعيد بن مجالد في أهل العسكر. فصعد الدهقان ثم نزل قد تغيّر لونه، فقال:
« ما لك؟ » قال:
« قد والله جاءك جمع عظيم. » فقال:
« بلغ شواؤك؟ » قال:
« لا. » قال:
« دعه. »
قال: ثم أشرف إشرافة أخرى، فقال:
« قد أحاطوا بالجوسق. » قال:
« هات شواءك. » فجعل يأكل غير مكترث لهم. فقال لمّا فرغ:
« قوموا إلى الصلاة. » وقام وتوضّأ وصلّى بأصحابه الأولى، ولبس درعه وتقلّد سيفه وأخذ عمود حديد، ثم قال:
« أسرجوا لي البغلة. » فقال أخوه مصاد:
« أخي هذا اليوم تسرج بغلة؟ » قال:
« نعم، أسرجوها. » فركبها، ثم قال:
-
« يا فلان أنت على الميمنة، وأنت يا فلان على الميسرة. » وقال لمصاد:
« أنت على القلب. » وأمر الدهقان، ففتح الباب في وجوههم، فخرج إليهم وهو يحكّم. فجعل سعيد وأصحابه يرجعون القهقرى حتى صار بينهم وبين الدير ميل، وجعل سعيد يصيح:
« يا معشر همدان، أنا ابن ذي مرّان، إليّ إليّ. » ونزع سرابانة كانت عليه. فنظر شبيب إلى مصاد فقال له:
« استعرضهم استعراضا، فإنّهم قد تقطّعوا. فإني حامل على أميرهم، وأثكلنيك الله إن لم أثكل ولده. » ففعل مصاد ما أمره به وحمل هو على سعيد بن مجالد، فعلاه بالعمود، فسقط ميّتا وانهزم أصحابه، وما قتل منهم يومئذ إلّا قتيل واحد. وانكشف أصحاب سعيد بن مجالد حتى انتهوا إلى الجزل، فناداهم الجزل:
« أيها الناس، إليّ إليّ. » وناداهم عياض بن أبي لينة:
« أيها الناس، إن يكن أميركم هذا القادم هلك، فهذا أميركم الميمون النقيبة.
أقبلوا إليه. » فأقبلوا إليه. فمنهم من أقبل إليه، ومنهم من ركب رأسه منهزما. وقاتل الجزل قتالا شديدا حتى صرع، وقاتل عنه خالد بن نهيك وعياض بن أبي لينة حتى استنقذاه وهو مرتثّ. وأقبل الناس منهزمين حتى دخلوا الكوفة، وأتى بالجزل حتى دخل المدائن، وكتب إلى الحجّاج بن يوسف:
« أما بعد، فإني أخبر الأمير، أصلحه الله، أنّى خرجت من الجند الذي وجّهنى فيه إلى عدوّه، وقد كنت حفظت عهد الأمير إليّ فيهم ورأيه. فكنت أخرج إليهم إذا رأيت الفرصة، وأحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة، فلم أزل كذلك وقد أرادنى العدوّ بكلّ ريدة، فلم يصب مني غرّة حتى قدم عليّ سعيد بن مجالد رحمه الله، فأمرته بالتؤدة، ونهيته عن العجلة، وأمرته ألّا يقاتلهم إلّا في جماعة الناس عامّة فعصاني وتعجّل إليهم في الخيل، وكنت أشهدت الله عليه وأهل المصرين، أنّى بريء من رأيه الذي رأى، وأنّى لا أهوى ما صنع. فمضى، تجاوز الله عنه، ودفع الناس إليّ، فنزلت ودعوتهم إليّ، ورفعت لهم رايتي، وقاتلت حتى صرعت فحملني أصحابي من بين القتلى، فما أفقت إلّا وأنا في أيديهم على رأس ميل من المعركة، فأنا اليوم بالمدائن في جراحات قد يموت الإنسان من دونها، ويعانى من مثلها. فليسأل الأمير، أصلحه الله، عن نصيحتي له ولجنده، وعن مكايدتى عدوّه، وعن موقفي يوم البأس. فإنّه يستبين له عند ذلك أنّى قد صدقته ونصحت له. والسلام. » فكتب إليه الحجّاج:
« أما بعد، فقد أتانى كتابك وقرأته وفهمت كلّ ما ذكرته فيه من أمر سعيد وأمر نفسك وقد صدّقتك في نصيحتك لأميرك، وحيطتك على أهل مصرك، وشدّتك على عدوّك وقد رضيت عجلة سعيد وتؤدتك. فأما عجلته فانّها أفضت به إلى الجنة وأما تؤدتك فإنها ما لم تدع الفرصة إذا أمكنتك، حزم، وقد أحسنت وأصبت وأجرت، وأنت عندي من أهل السمع، والطاعة والنصيحة، وقد أشخصت إليك حيّان بن أعسر ليداويك ويعالج جراحتك، وبعثت إليك بألفي درهم، فأنفقها في حاجتك وما ينوبك. والسلام. » وبعث عبد الله بن أبي عصيفر إلى الجزل بألف درهم، وكان يعوده ويتعاهده باللّطف والهديّة.
وأقبل شبيب حتى قطع دجلة عند الكرخ، وبعث إلى سوق بغداد، وكان ذلك يوم سوقهم، فآمنهم، وكان بلغه أنهم يخافونه، وهو وأصحابه يريدون أن يشتروا من السوق دوابّ وثيابا وأشياء ليس لهم منها بدّ، ثم أخذ بهم نحو الكوفة، فساروا، وبلغ الحجّاج مكانه بحمّام [ أعين ] فبعث إلى سويد بن عبد الرحمن السعدي، فجهّزه في ألفى فارس نقاوة وقال له:
« اخرج إلى شبيب، فالقه واجعل ميمنة وميسرة، ثم انزل إليهم في الرجال، فإن استطرد لك فدعه ولا تتّبعه. » فخرج، فعسكر بالناس بالسبخة، وبلغه أنّ شبيبا قد أقبل. فسار نحوه وكأنما يساقون إلى الموت. وأمر الحجّاج عثمان بن قطن فعسكر بالناس في السبخة، ونادى:
« ألا، برئت الذمّة من رجل من هذا الجند بات الليلة بالكوفة ولم يخرج إلى عثمان بن قطن بالسبخة. » فبينا سويد بن عبد الرحمن يسير في الألفين الذين معه وهو يعبّئهم ويحرّضهم، إذ قيل له:
« قد غشيك شبيب. » فنزل، ونزل معه جلّ أصحابه، وقدّم رايته، فأخبر أنّ شبيبا لمّا أخبر بمكانك، تركك، ووجد مخاضة فعبر الفرات يريد الكوفة من غير الوجه الذي أنت به.
ثم قيل لهم:
« أما تراهم؟ » فنادى في أصحابه، فركبوا في آثارهم وإنّ شبيبا أتى دار الرزق، فنزلها، فقيل له:
« إنّ أهل الكوفة بأجمعهم معسكرون. » فلمّا بلغ مكان شبيب، ماج بعضهم في بعض، وجالوا وهمّوا بدخول الكوفة حتى قيل لهم:
« هذا سويد بن عبد الرحمن في آثارهم قد لحقهم وهو يقاتلهم في الخيل. » ومضى شبيب حتى أخذ على شاطئ الفرات، ثم أخذ على الأنبار، ثم دخل وقوقا، ثم ارتفع إلى أدانى آذربيجان. فتركه الحجّاج، وخرج إلى البصرة، واستخلف على الكوفة عروة بن شعبه. فما شعر الناس بشيء حتى جاء كتاب مادر واسب دهقان بابل مهروذ إلى عروة بن المغيرة بن شعبة أنّ تاجرا من تجّار أهل بلادي أتانى يذكر أنّ شبيبا يريد أن يدخل الكوفة في أول هذا الشهر المستقبل، وأحببت إعلامك لترى رأيك ثم لم ألبث أن جاءني جائيان من جيراني، فحدّثانى أنه قد نزل خانيار.
فأخذ عروة كتابه، فأدرجه وسرّح به إلى الحجّاج بالبصرة. فلما قرأه الحجّاج أقبل جادّا إلى الكوفة، وأقبل شبيب حتى انتهى إلى قرية يقال لها: حزى، على شاطئ دجلة، فعبر منها، وقال لأصحابه:
« يا هؤلاء، إنّ الحجّاج ليس بالكوفة وليس دون الكوفة شيء إن شاء الله، فسيروا بنا. » فخرج يبادر الحجّاج إلى الكوفة.
وكتب عروة إلى الحجّاج:
« إنّ شبيبا أقبل مسرعا يريد الكوفة، فالعجل العجل. » فطوى الحجّاج المنازل، واستبقا إلى الكوفة: فنزلها الحجّاج صلاة العصر، ونزل شبيب السبخة صلاة المغرب والعشاء الآخرة، ثم أصاب هو وأصحابه من الطعام شيئا يسيرا، ثم ركبوا خيولهم. فدخل الكوفة، وجاء شبيب حتى انتهى إلى السوق. ثم شدّ حتى ضرب باب القصر بعموده.
قال: فحدّثني جماعة أنهم رأوا ضربة شبيب باب القصر، ثم أقبل حتى وقف عند المصطبّة وقال:
وكأنّ حافرها بكلّ خميلة ** فرق يكيل به شحيح معدم
ثم اقتحم أصحابه المسجد، وكان لا يفارقه قوم يصلّون فيه، فقتل جماعة.
ومرّ بدار حوشب وهو على الشرط، فوقفوا على با به وقالوا:
« إنّ الأمير يدعو حوشبا. » فأخرج ميمون غلامه برذون حوشب فكأنّه أنكرهم وأراد أن يدخل إلى صاحبه، فقالوا له:
« كما أنت حتى يخرج صاحبك. » فسمع حوشب الكلام، فأنكر القوم، فلما رأى جماعتهم أنكرهم وذهب لينصرف فعجّلوا نحوه، ودخل وأغلق الباب وقتلوا غلامه ميمونا وأخذوا برذونه ومضوا. حتى مرّوا بالجحّاف بن بسيط الشيبانى من رهط حوشب. فقال له سويد:
« انزل إلينا. » فقال:
« ما تصنع بنزولى؟ » قال سويد:
« انزل أقضك ثمن البكرة التي كنت ابتعتها منك بالبادية. » فقال له الجحّاف:
« بئس ساعة القضاء هذه الساعة، وبئس المكان لقضاء الدين، أما ذكرت أداء أمانتك إلّا والليل مظلم وأنت على متن فرسك! قبّح الله دينا لا يصلح ولا يتمّ إلّا بقتل وسفك لدماء أهل القبلة. » ثم مرّوا بمسجد بنى ذهل، فلقوا ذهل بن الحارث، وكان يصلّى في مسجد قومه فيطيل الصلاة، فصادفوه منصرفا إلى منزله، فقتلوه. ثم خرجوا متوجّهين نحو الردمة، وأمر الحجّاج فنودي:
« يا خيل الله اركبي وأبشرى. » وهو فوق القصر وهناك مصباح مع غلام له قائم. فكان أول من جاء من الناس عثمان بن قطن ومعه مواليه وناس من أهله، فقال:
« أعلموا الأمير مكاني، أنا عثمان بن قطن، ليأمرنى بأمره. » فناداه ذلك الغلام:
« قف مكانك حتى يأتيك أمر الأمير. » وجاء الناس من كلّ جانب، وبات عثمان في من اجتمع إليه من الناس حتى أصبح.
وكان عبد الملك بن مروان قد بعث محمد بن موسى بن طلحة على سجستان، وكتب له عليها عهده، وكتب إلى الحجّاج:
« إذا قدم عليك محمد بن موسى بن طلحة فجهّز معه ألفى رجل، وعجّل سراحه إلى سجستان. » فلما قدم محمد بن موسى الكوفة جعل يتحبّس ويتجهّز. فقال له نصحاؤه:
-
« تعجّل أيها الرجل إلى عملك، فإنّك لا تدرى ما يحدث. » فأقام على حاله وحدث من أمر شبيب ما حدث.
حيلة الحجاج على محمد بن موسى حتى حارب الخوارج وقتل
فقيل للحجّاج:
« إن سار هذا إلى سجستان مع نجدته وصهره لعبد الملك فلجأ إليه ممن تطلب أحد، منعك منه؟ » قال:
« فما الحيلة؟ » قالوا:
« تأتيه فتسلّم عليه وتذكر نجدته وبأسه وأنّ شبيبا في طريقه وقد أعياك، وأنّك ترجو أن يريح الله منه على يديه، فيكون له ذكر ذلك وشهرته. » فكتب إليه الحجّاج:
« إنّك عامل على كلّ بلد مررت به، وهذا شبيب في طريقك تجاهد ومن معه ولك ذكره وصيته، ثم تمضى إلى عملك. » فاستجاب له.
ثم إنّ الحجّاج بعث بشر بن غالب الأسديّ في ألفى رجل وزيادة بن قدامة في ألفين، وأبا الضريس مولى تميم في ألف من الموالي، وأعين صاحب حمّام أعين مولى بشر بن مروان في ألف، وجماعة غيرهم. واجتمع تلك الأمراء في أسفل الفرات، فترك شبيب الوجه الذي فيه جماعة أولئك القوّاد، وأخذ نحو القادسيّة. فوجّه الحجّاج زحر بن قيس في جريدة خيل نقاوة ألف وثمانمائة فارس، وقال له:
« اتّبع شبيبا حتى تواقعه حيث ما أدركته ما لم يعطف عليك وينزل فيقيم لك فلا تبرح حتى تواقعه. » فخرج زحر حتى انتهى إلى السيلحين، وبلغ شبيبا مسيره إليه، فأقبل نحوه فالتقيا، فجعل زحر على ميمنته عبد الله بن كناز اليهوديّ، وكان شجاعا وعلى ميسرته عديّ بن عميرة الكنديّ، وجمع شبيب خيله كلّها كبكبة واحدة، ثم اعترض بها الصفّ يوجف وجيفا حتى انتهى إلى زحر بن قيس. فنزل زحر فقاتل حتى صرع وانهزم أصحابه. فظنّ القوم أنّهم قتلوه. فلما كان في السحر وأصابه البرد قام يمشى حتى دخل قرية فبات فيها وحمل منها إلى الكوفة وبوجهه أربع عشرة ضربة، فمكث أياما ثم أتى الحجّاج وعلى وجهه القطن، فأجلسه معه على السرير.
وقال أصحاب شبيب لشبيب، وهم يظنّون أنّهم قتلوا زحرا:
« قد هزمنا لهم جندا، وقتلنا أميرا من أمرائهم عظيما. انصرف بنا الآن وافرين. » فقال لهم:
« إنّ قتلنا هذا الرجل وهزيمتنا هذا الجند قد أرعبت هذه الأمراء، فاقصدوا بنا قصدهم، فو الله لئن نحن قتلناهم، ما دون قتل الحجّاج وأخذ الكوفة شيء. » فقالوا:
« نحن طوع أمرك، فرأيك. » قال: فانقضّ بهم جوادا حتى أتى نجران الكوفة بناحية عين التمر، ثم استخبر عن القوم فعرّف اجتماعهم بروذآباد في أسفل الفرات على رأس أربعة وعشرين فرسخا من الكوفة، وبلغ الحجّاج مسير شبيب إليهم، فبعث إليهم يقول لهم:
« إن جمعكم قتال، فأميركم زايدة بن قدامة. » قال عبد الرحمن: فانتهى إلينا شبيب وفينا سبعة أمراء، على جماعتهم زايدة بن قدامة، وقد عبّى كلّ أمير أصحابه على حدة وهو واقف في أصحابه.
فأشرف على الناس شبيب وهو على فرس له كميت أغرّ، فنظر إلى تعبئتهم، ثم رجع إلى أصحابه، فأقبل في ثلاث كتائب يوجفون، حتى إذا دنا من الناس مضت كتيبة فيها سويد بن سليم، فيقف في ميمنتنا، وفيها زياد بن عمرو العتكيّ، ومضت كتيبة فيها مصاد أخو شبيب، فوقفت بإزاء ميسرتنا، وفيها بشر بن غالب الأسدى، وجاء شبيب في كتيبة حتى وقف مقابل القلب.
قال: فخرج زايدة بن قدامة يسير في الناس بين الميمنة والميسرة يحرّض الناس ويقول:
« عباد الله، إنكم الطيّبون الكثيرون، وقد نزل بكم الخبيثون القليلون. اصبروا، جعلت لكم الفداء لكرّتين أو ثلاث، ثم هو النصر، ليس دونه شيء إلّا ترونهم.
والله ما يكونون مائتي رجل، إنما هم أكلة رأس، وهم السرّاق المرّاق، إنّما جاءوكم ليهريقوا دماءكم ويأخذوا فيئكم، فلا يكونوا على أخذه أقوى منكم على منعه، وهم قليل وأنتم كثير، وهم أهل فرقة وأنتم أهل جماعة، وغضّوا الأبصار واستقبلوهم بالأسنّة، ولا تحملوا عليهم حتى آمركم. » ثم انصرف إلى موقفه. وحمل سويد بن سليم على زياد بن عمرو، فانكشف صفّهم، وثبت زياد في جماعة، ثم ارتفع عنهم سويد قليلا، ثم كرّ عليهم ثانية.
قال فروة بن لقيط: إطّعنّا ساعة وصبروا لنا حتى ظننت أنهم لن يزولوا. وقاتل زياد بن عمرو قتالا شديدا. فلقد رأيت سويد بن سليم يومئذ وإنّه لأشدّ العرب قتالا وأشجعهم وما يعرض لهم. قال: ثم ارتفعنا عنهم، فإذا هم يتقوّضون، فقال لنا أصحابنا:
« ألا تراهم يتقوّضون؟ احملوا عليهم. » فراسلنا شبيب:
« خلّوهم حتى يخفّوا. » فتركوهم قليلا، ثم حمل عليهم الثالثة، فانهزموا. فنظرت إلى زياد بن عمرو وإنّه ليضرب بالسيوف، وما من سيف يضرب به إلّا نبا عنه، ولقد اعتوره أكثر من عشرين سيفا وهو مجفّف، فما ضرّه شيء منها. ثم إنّه والله انهزم. ثم انتهينا إلى محمد بن موسى بن طلحة عند المغرب، فقاتلنا قتالا شديدا وصبرنا. ثم إنّ مصادا حمل على بشر بن غالب في الميسرة، فصبر وأبلى وكرم، ونزل معه رجال من أهل الصبر نحو خمسين، فضاربوا بأسيافهم حتى قتلوا. فلما قتلوا انهزم أصحابه.
قال: وشددنا على أبي الضريس فهزمناه حتى انتهى إلى موقف أعين. ثم شددنا عليه وعلى أعين فهزمناهم حتى انتهوا إلى زايدة بن قدامة. فلما انتهوا إليه، نزل ونادى:
« يا أهل الإسلام، الأرض الأرض، إليّ إليّ. لا يكونوا على كفرهم أصبر منكم على إيمانكم. » فقاتل عامة الليل إلى السحر.
ثم إنّ شبيبا شدّ عليه في جماعة من أصحابه، فقتله وربضة حوله من أهل الحفاظ.
وقال شبيب لأصحابه:
« ارفعوا السيف عن الناس وادعوهم إلى البيعة. » فدعوهم عند الفجر إلى البيعة. قال عبد الرحمن بن جندب: فكنت ممن قدّم فبايعته وهو واقف على فرس وخيله واقفة دونه. فكلّ من جاء ليبايعه نزع سيفه عن عاتقه وأخذ سلاحه، ثم يدنى من شبيب فيسلّم عليه بأمير المؤمنين، ثم يبايع.
فإنّا لكذلك، إذا أضاء الفجر، ومحمد بن موسى بن طلحة في أقصى العسكر مع أصحابه قد صبروا. وأمر مؤذنه فأذّن، فلما سمع الأذان قال:
« ما هذا؟ » قالوا:
« هذا محمد بن موسى بن طلحة، لم يبرح. » قال:
« ظننت أنّ حمقه وخيلاءه سيحمله على هذا. نحّوا هؤلاء عنّا، وانزلوا بنا فلنصلّ. »
فنزل، وأذّن هو، ثم استقدم، فصلّى بأصحابه، فقرأ: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ، و: أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. ثم سلّم وركبوا.
فأرسل شبيب إلى محمد:
« إنك امرؤ مخدوع، قد اتقى بك الحجّاج وأنت جار لي، ولك حقّ. فانطلق لما أمرت به ولك الله ألّا أريبك. » فأبى إلّا محاربته. فأعاد إليه الرسول، فأبى إلّا قتاله. فقال له شبيب:
« كأنّى بأصحابك لو التقت حلقتا البطان، لأسلموك، فصرعت مصرع أصحابك فأطعنى وانطلق لشأنك، فإني أنفس بك عن القتل. » فأبى ودعا إلى البراز، فبرز له البطين، ثم قعنب، ثم سويد، فأبى إلّا شبيبا.
فقالوا لشبيب:
« قد رغب عنّا إليك. » قال:
« فما ظنّكم؟ هم الأشراف. » فبرز له شبيب، وقال:
« أنشدك الله في دمك، فإنّ لك جوارا. » فأبى. فحمل عليه بعموده الحديد، وكان فيه اثنى عشر رطلا. فهشم بيضة عليه ورأسه، ثم نزل إليه فكفنه ودفنه. وابتاع ما غنموا له من عسكره، فبعث به إلى أهله واعتذر إلى أصحابه. قال:
« هو جاري بالكوفة، ولى أن أهب ما غنمت لأهل الردّة. » فقال له أصحابه:
« مادون الكوفة أحد يمنعها. » فنظر، فإذا أصحابه قد جرحوا. فقال لهم:
« ما عليكم أكثر مما فعلتم. »
-
وخرج بهم إلى نفّر، ثم خرج بهم إلى بغداد نحو خانيجار، فأقام بها. ولما بلغ الحجّاج أنّ شبيبا قد أخذ نحو نفّر، ظنّ أنّه يريد المدائن وهي باب الكوفة، ومن أخذ المدائن كان ما في يديه من أرض الكوفة أكثر. فهال ذلك الحجّاج، وبعث إلى عثمان بن قطن، وسرّحه إلى المدائن وولّاه منبرها والصلاة ومعونة جوخى كلها وخراج الأستان. فخرج مسرعا حتى نزل المدائن، وعزل الحجّاج ابن أبي عصيفر، وكان بها الجزل مقيما يداوى جراحاته، وكان ابن أبي عصيفر يعوده ويكرمه ويلطفه. فلما قدم عثمان بن قطن لم يكن يتعاهده ولا يلطفه بشيء.
فكان الجزل يقول:
« اللهمّ زد ابن أبي عصيفر جودا، وزد عثمان بن قطن ضيقا وبخلا. » ثم إنّ الحجّاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقال له:
« انتخب الناس. » وأخرج من قومه ستمائة من كندة، ومن سائر الناس ستة آلاف، واستحثّه الحجّاج، فعسكر بدير عبد الرحمن. فلما أراد الحجّاج إشخاصهم كتب إليهم كتابا قرئ عليهم. « أما بعد، فقد اعتدتم عادة الأذلّاء وولّيتم الدبر يوم الزحف دأب الكافرين. وإني قد صفحت عنكم مرّة بعد مرّة، وتارة بعد أخرى. وإني أقسم لكم باللَّه قسما صادقا، لئن عدتم لذلك لأوقعنّ بكم إيقاعا أكون به أشدّ عليكم من هذا العدوّ الذي تهربون منه في بطون الأودية والشعاب، وتسترون منه بأفناء الأنهار وألواذ الجبال. فخاف من كان له معقول على نفسه، ولم يجعل عليها سبيلا، وقد أعذر من أنذر، والسلام. » وارتحل عبد الرحمن في الناس حتى مرّ بالمدائن، فنزل بها يوما حتى تشرّى به أصحابه حوائجهم، ثم نادى في الناس بالرحيل، فارتحلوا. ثم أقبل حتى دخل على عثمان بن قطن، ثم أتى الجزل، فسأله عن جراحته. وحدّثه ساعة. فقال له الجزل:
« يا ابن عمّ، إنّك تسير إلى فرسان العرب، وأبناء الحرب، وأحلاس الخيل والله لكأنّما خلقوا من ضلوعها، ثم بنوا على ظهورها، ثم هم أسد الأجم الفارس منهم أشدّ من مائة، إن لم يبدأ به بدأ، وإن هجهج أقدم. وإني قد قاتلتهم وبلوتهم، فإذا أصحرت لهم انتصفوا مني وكان لهم الفضل عليّ وإذا خندقت عليّ أو قاتلتهم في مضيق نلت منهم ما أحبّ، وكان لي عليهم، فلا تلقهم وأنت تستطيع، إلّا في تعبئة أو خندق. » ثم ودّعه، وقال له الجزل:
« هذه فرسي الفسيفساء، خذها فإنّها لا تجارى. » فأخذها. ثم خرج بالناس نحو شبيب، فلما دنا منه ارتفع عنه شبيب إلى دقوقا وشهرزور. فخرج عبد الرحمن في طلبه حتى إذا كان على التخوم، أقام، وقال:
« إنما هو في أرض الموصل، فليقاتلوا عن بلادهم أو ليدعوا. » فكتب إليه الحجّاج:
« أما بعد، فاطلب شبيبا واسلك في أثره أين سلك، حتى تدركه فتقتله، أو تنفيه. فإنّما السلطان سلطان أمير المؤمنين، والجند جنده. والسلام. »
فخرج عبد الرحمن حتى قرأ الكتاب في طلب شبيب. فكان شبيب يدعه حتى إذا دنا منه يبيّته فيجده قد خندق، وحذر، فيمضى ويدعه، فيتبعه عبد الرحمن. فإذا بلغه أنه قد تحمّل، وأنه يسير، أقبل في الخيل. فإذا انتهى إليه، وجده قد صفّ الخيل والرجّالة المرامية، فلا تصيب له غرّة ولا غفلة، فيمضى ويدعه. ولما رأى شبيب أنه لا يصيب غرّته، ولا يصل إليه، جعل يخرج، كلّما دنا منه عبد الرحمن حتى ينزل على مسيرة عشرين فرسخا منه، ثم يقيم في أرض غليظة خشنة، فيجيء عبد الرحمن في خيله وثقله، حتى إذا دنا من شبيب ارتحل عنه شبيب، فسار خمسة عشر فرسخا أو عشرين فرسخا، فنزل منزلا غليظا خشنا. ثم يقيم حتى يدنو عبد الرحمن. فكان شبيب قد عذّب ذلك العسكر، وشقّ عليهم، وأحفى دوابّهم، ولقوا منه كلّ بلاء. فلم يزل عبد الرحمن يتبعه حتى مرّ به على خانقين، ثم جلولاء، ثم تامرّا، ثم أقبل إلى البتّ ونزل بها، وعلى تخوم الموصل، ليس بينها وبين سواد الكوفة إلّا نهر حولايا. وجاء عبد الرحمن حتى نزل شرقيّ حولايا وهو في راذان الأعلى من أرض جوخى، ونزل في عواقير من النهر، ونزلها عبد الرحمن حيث نزلها وهي تعجبه، يرى أنها مثل الخندق والحصن، وأرسل إلى عبد الرحمن:
« هذه الأيام أيّام عيد لنا ولكم، فإن رأيتم أن توادعونا حتى تمضى هذه الأيام فعلتم. » فأجابه عبد الرحمن إلى ذلك ولم يكن شيء أحبّ إلى عبد الرحمن من المطاولة والموادعة.
فكتب عثمان بن قطن إلى الحجّاج:
« أما بعد، فإني أخبر الأمير، أصلحه الله، أنّ عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد حفر جوخى كلّها خندقا واحدا، وخلّى شبيبا، وكسر خراجها، فهو يأكل أهلها. والسلام. » وكتب إليه الحجّاج:
« قد فهمت ما ذكرت، وقد - لعمري - فعل عبد الرحمن غير مرضيّ، فسر إلى الناس، فأنت أميرهم، وعاجل المارقة حتى تلقاهم. » وبعث الحجّاج إلى المدائن مطرّف بن المغيرة بن شعبة، وخرج عثمان حتى قدم على عبد الرحمن ومن معه وهم معسكرون على نهر حولايا قريبا من البتّ وذلك يوم التروية عشاء. فنادى الناس وهو على بغله:
« أيها الناس، أخرجوا إلى عدوّكم. » فوثب إليه الناس فقالوا:
« ننشدك الله، هذا المساء قد غشينا، والناس لم يوطّنوا أنفسهم على القتال.
فبت الليلة، ثم اخرج على تعبئة. » فجعل يقول:
« لأناجزنّهم، فلتكوننّ الفرصة لي أولهم. » فأتاه عبد الرحمن، فأخذ بعنان بغلته وناشده الله لما نزل، وقال له عقيل بن شدّاد السلولي:
« إنّ الذي تريد من مناجزتهم الساعة، أنت فاعله غدا وهو خير لك وللناس.
إنّ هذه ساعة ريح وغبرة وقد أمسيت، فانزل، ثم ابكر بنا غدوة. » فنزل، فسفت عليه الريح، وشقّ عليه الغبار، ودعا صاحب الخراج العلوج، فبنوا له قبّة وبات فيه. ثم أصبح وخرج بالناس، فاستقبلهم ريح شديدة وغبرة.
فصاح الناس إليهم وقالوا:
« ننشدك الله أن تخرج بنا في هذا اليوم، فإنّ الريح علينا. » فأقام ذلك اليوم، وكان شبيب يخرج إليهم. فلما رءاهم لم يخرجوا إليه أقام.
فلما كان من الغد خرج عثمان يعبّئ الناس على أرباعهم، وسألهم:
« من كان على ميمنتكم وميسرتكم؟ » قالوا:
« كان خالد بن نهيك بن قيس الكندي على ميسرتنا، وعقيل بن شدّاد السلولي كان على ميمنتنا. » فقال لهما:
« قفا مواقفكما التي كنتما بها، فقد ولّيتكما المجنّبتين، فاثبتا ولا تفرّا، فو الله لا أزول حتى تزول نخيل راذان عن أصولها. » فقالا:
« فنحن والله الذي لا إله إلّا هو، لا نفرّ حتى نظفر أو نقتل. » فقال لهما:
« جزاكما الله خيرا. » ثم أقام حتى صلّى بالناس الغداة، ثم خرج بالخيل، ونزل يمشى في الرجال.
-
وخرج شبيب وهو يومئذ في مائة وأحد وثمانين رجلا. فقطع إليهم النهر، وكان هو في ميمنة أصحابه، وجعل على ميسرته سويد بن سليم، وجعل في القلب مصادا أخاه، وزحفوا. وكان عثمان بن قطن يقول فيكثر:
« لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل، وإذا لا تمتّعون إلّا قليلا. » ثم قال شبيب لأصحابه:
« إني حامل على ميسرتهم مما يلي النهر، فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتى على ميمنتهم، ولا يبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمري. »
وحمل في ميمنة أصحابه مما يلي النهر على ميسرة عثمان بن قطن، فانهزموا، ونزل عقيل بن شدّاد مع طائفة من أهل الحفاظ، فقاتل حتى قتل، وقتلوا معه. ودخل شبيب عسكرهم، وحمل سويد بن سليم في ميسرة شبيب على ميمنة عثمان بن قطن، فهزمها وعليها خالد بن نهيك الكندي. فنزل خالد فقاتل قتالا شديدا، وحمل عليه شبيب من ورائه، فلم ينثن حتى علاه بالسيف فقتله.
ومشى عثمان بن قطن، وقد نزلت معه العرفاء وأشراف الناس والفرسان نحو القلب، وفيه أخو شبيب في نحو من ستين رجلا. فلما دنا منهم عثمان بن قطن شدّ عليهم في الأشراف وأهل الصبر، فضربوهم حتى فرّقوا بينهم. وحمل شبيب من ورائهم بالخيل، فما شعروا إلّا والرماح في أكتافهم يكبّهم لوجوههم.
وعطف عليهم سويد بن سليم أيضا في خيله، ورجع مصاد وأصحابه، وقاتل عثمان بن قطن، فأحسن القتال. ثم إنهم شدّوا عليه، فأحاطوا به، وحمل عليه مصاد أخو شبيب، فضربه ضربة بالسيف استدار لها، وقال:
« وكان أمر الله قدرا مقدورا. » ثم إنّهم قتلوه، وقتل معه العرفاء ووجوه الناس، فقتل من كندة يومئذ مائة وعشرون رجلا، وقتل من سائر الناس نحو من ألف، ووقع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فعرفه ابن أبي سبرة، فنزل وناوله الرمح وقال له: اركب، فركب وارتدف ابن أبي سبرة وقال له عبد الرحمن:
« ناد في الناس: الحقوا بدير ابن أبي مريم. » فنادى. ثم انطلقا ذاهبين، وأمر شبيب أصحابه، فرفعوا عن الناس السيف ودعاهم إلى البيعة، فأتاه من بقي من الرجال، فبايعوه. وبات عبد الرحمن بدير النعار، فأتاه فارسان. فخلا أحدهما بعبد الرحمن طويلا يناجيه، وقام الآخر قريبا منهما، ثم مضى مع صاحبه، فكان الناس يتحدّثون أنّ ذاك كان شبيبا وأنه كان كاتبه. ثم خرج عبد الرحمن آخر الليل، فسار حتى أتى دير ابن أبي مريم، فإذا هو بأصحاب الخيل قد وضع لهم ابن أبي سبرة صبر الشعير والقتّ كأنّها القصور ونحر لهم من الجزر ما شاءوا، واجتمع الناس إلى عبد الرحمن فقالوا له:
« إن علم شبيب بمكانك أتاك وكنت له غنيمة، قد تفرّق عنك الناس وقتل خيارهم، فالحق أيها الرجل بالكوفة. » فخرج، وخرج معه الناس، وجاء حتى اختبأ من الحجّاج، إلى أن أخذ له الأمان بعد ذلك.
ثم إنّ شبيبا اشتدّ عليه الحرّ وعلى أصحابه، فأتى ماه بهراذان، فتصيّف بها ثلاثة أشهر. وأتاه ناس ممن كان يطلب الدنيا كثير، ولحق به ناس ممن كان يطلبهم الحجّاج بمال وتباعات. فمنهم رجل يقال له: الحرّ بن عبد الله بن عوف، كان قتل دهقانين من أهل درقيط كانا ضيفين عليه، ولحق بشبيب حتى شهد معه مواطنه، حتى قتل شبيب، وله مقام عند الحجّاج وكلام سلم به من القتل يجب أن نثبته. وهو أنّ الحجّاج، لمّا آمن بعد قتل شبيب كلّ من خرج إليه من أصحاب المال، خرج إليه الحرّ في من خرج. فجاء أهل الدهقانين يستعدون عليه الحجّاج. فأتى به.
كلام للحر لما أتى به ليقتل سلم به
فقال له الحجّاج:
« يا عدوّ الله قتلت رجلين من أهل الخراج؟ » فقال له:
« قد كان - أصلحك الله - مني ما هو أعظم من هذا. » قال:
« وما هو؟ » قال:
« خروجي من الطاعة وفراقي الجماعة. ثم إنّك آمنت كلّ من خرج إليك وهذا أمانى وكتابك لي. » فقال له الحجّاج:
« قد لعمري فعلت أولى لك. » وخلّى سبيله.
رجعنا إلى حديث شبيب. ثم إنّه لمّا انفسخ الحرّ عن شبيب خرج من ماه في نحو من ثمانمائة رجل. فأقبل نحو المدائن وعليها مطرف بن المغيرة بن شعبة.
فجاء حتى نزل قناطر حذيفة بن اليمان. فكتب ماذرواسب، وهو عظيم بابل مهروذ، إلى الحجّاج يخبره خبر شبيب. فقام الحجّاج في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
« أيها الناس، لتقاتلنّ عن بلادكم وعن فيئكم أو لأبعثنّ إلى قوم هم أطوع وأسمع وأصبر على البلاء منكم، فيقاتلون عدوّكم ويأكلون فيئكم. » فقام إليه الناس من كلّ جانب يقولون:
« نحن نقاتلهم ونعتب الأمير، فليندبنا إليهم، فإنّا حيث سرّه. »
وقام إليه زهرة بن حويّة. وهو يومئذ شيخ كبير، لا يستتمّ قائما حتى يؤخذ بيده، فقال:
« أصلح الله الأمير. إنّك إنما تبعث الناس متقطّعين، فاستنفر الناس إليهم كافّة، وابعث عليهم رجلا متينا شجاعا، محربا مجرّبا ممن يرى الفرار هضما وعارا، والصبر مجدا وكرما. فقال له الحجّاج:
« فأنت ذاك. فاخرج! » فقال له:
« أصلح الله الأمير. إنما يصلح الناس في هذا رجل يحمل الرمح والدرع، ويهزّ السيف ويثبت على متن الفرس، وأنا لا أطيق من هذا شيئا. قد ضعفت وضعف بصرى، ولكن أجرى في الناس مع أمير، فإني أثبت على الرحالة، فأكون مع الأمير في عسكره وأشير عليه برأى. » فقال له الحجّاج:
« جزاك الله عن الإسلام والطاعة في أوّل الإسلام وآخره خيرا. فقد نصحت وصدقت. أنا مخرج الناس كافّة، ألا، فسيروا أيها الناس. » فانصرف الناس وجعلوا يتيسّرون ولا يدرون من أميرهم.
-
ذكر رأي سديد للحجاج
وكتب الحجّاج إلى عبد الملك بن مروان:
« أما بعد، فإني أخبر أمير المؤمنين، أكرمه الله، أنّ شبيبا قد شارف المدائن، وإنّما يريد الكوفة، وقد عجز أهل الكوفة عن قتاله في مواطن كثيرة، في كلّها تقتل أمراؤهم وتفلّ جنودهم. فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إليّ أهل الشام فيقاتلوا عدوّهم ويأكلوا بلادهم، فليفعل. » فلما أتى عبد الملك كتابه، بعث إليه سفيان بن الأبرد في أربعة آلاف، وبعث إليه حبيب بن عبد الرحمن بن مذحج في ألفين، فسرّحهم حين أتاه كتاب الحجّاج، وكان بعث الحجّاج إلى عتّاب بن ورقاء ليأتيه، وكان على خيل الكوفة مع المهلّب وهم الجيش الذي كان بشر بن مروان بعث عليهم عبد الرحمن بن مخنف إلى قطري، وقد أخبرنا في ما مضى بمقتل عبد الرحمن بن مخنف. فبعث الحجّاج عتّاب بن ورقاء على ذلك الجيش الذي أصيب فيهم عبد الرحمن، وكان جرى لعتّاب مع المهلّب كلام تأدّى إلى وحشة.
فلما أن جاء في هذا الوقت كتاب الحجّاج إلى عتّاب بن ورقاء بأن يأتيه، سرّ بذلك، ودعا الحجّاج أشراف الكوفة، فيهم: زهرة بن حويّة، وقبيصة بن والق، فقال:
« من ترون أن أبعث على هذا الجيش؟ » فقالوا:
« رأيك أيها الأمير أفضل. » « فإني قد بعثت إلى عتّاب بن ورقاء، وهو قادم عليكم الليلة، فيكون هو الذي يسير في الناس. » قال زهرة بن حويّة:
« أصلح الله الأمير، رميتهم بحجرهم، لا والله، ما يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل. »
ذكر رأي جيد رءاه قبيصة بن والق
فقال قبيصة بن والق:
« إني أشير عليك برأى اجتهدته نصيحة لأمير المؤمنين، وللأمير ولعامة المسلمين. إنّا قد تحدّثنا وتحدّث الناس. إنّ جيشا فصل إليك من أهل الشام، وإنّ أهل الكوفة قد هزموا، وهان عليهم الفرار والعار من الهزيمة، فقلوبهم كأنّما هي في قوم آخرين. فإن رأيت أن تبعث إلى جيشك الذي أمددت به من أهل الشام فيأخذوا حذرهم، ولا يلبثوا إلّا وهم يرون أنهم ميّتون، فعلت. فإنّك تحارب حوّلا قلّبا، طعّانا رحّالا، وقد جهّزت إليه أهل الكوفة، ولست واثقا بهم كلّ الثقة، وإنّما إخوانهم هؤلاء القوم الذين بعثوا إليك من الشام. إنّ شبيبا، بينا هو في أرض، إذ هو في أرض أخرى، ولا آمن أن يأتيهم وهم غارّون. وإن يهلكوا نهلك وتهلك العراق. » فقال:
« لله أنت! ما أحسن ما رأيت لي، وما أحسن ما أشرت به عليّ. » فبعث إلى من أقبل إليه من الشام، فأتاهم كتاب الحجّاج وقد نزلوا هيت، فقرءوه، فإذا فيه:
« أما بعد، فإذا حاذيتم هيت فدعوا طريق الفرات والأنبار وخذوا على عين التمر حتى تقدموا الكوفة إن شاء الله. » فأقبل القوم سراعا، وقدم عتّاب بن ورقاء في الليلة التي قال الحجّاج إنه قادم. فأمره الحجّاج، فخرج بالناس وعسكر بحمّام أعين، وأقبل شبيب حتى انتهى إلى كلواذى، فقطع منها دجلة. ثم أقبل حتى نزل مدينة بهر سير، وصار بينه وبين مطرّف بن المغيرة بن شعبة جسر دجلة، فقطع مطرّف الجسر، وبعث إلى شبيب أن ابعث رجالا من وجوه أصحابك.
مكيدة للمطرف بن المغيرة كاد بها شبيبا حتى حبسه عن وجهه
وأظهر مطرّف أنّه يريد أن يدار سهم القرآن وينظر في ما يدعو إليه، فإن وجده حقّا تبعه. فبعث إليه شبيب رجالا فيهم قعنب وسويد والمحلّل، ووصّاهم شبيب ألّا يدخلوا السفينة حتى يرجع رسوله من عند مطرّف، وبعث إلى مطرّف أن:
« ابعث إليّ من أصحابك بعدّة أصحابي يكونوا رهنا في يدي حتى ترد على أصحابي. » فقال مطرّف لرسوله:
« القه وقل له: كيف آمنك على أصحابي إذا بعثت بهم الآن وأنت لا تأمننى على أصحابك. » فأبلغه الرسول، فقال شبيب:
« إنّك قد علمت أنّا لا نستحلّ الغدر في ديننا، وأنتم تستحلّونه وتفعلونه. » فبعث إليه مطرّف جماعة من وجوه أصحابه. فلما صاروا في يد شبيب، سرّح إليه أصحابه. فأتوا مطرّفا، فمكثوا أربعة أيّام يتناظرون، ثم لم يتّفقوا على شيء.
فلما تبيّن لشبيب أن مطرّفا غير تابعه، تعبّى للمسير، وجمع أصحابه وقال لهم:
« إنّ هذا الثقفيّ قطعني عن رأيي منذ أربعة أيام. وذاك أنّى هممت أن أخرج في جريدة من الخيل حتى ألقى هذا الجيش المقبل من الشام، رجاء أن أصادف غرّتهم قبل أن يحذروا، وكنت ألقاهم متقطّعين عن المصر ليس عليهم أمير كالحجّاج يستندون إليه، ولا مصر كالكوفة يعتصمون به، وقد جاءتني عيون أنّ أوائلهم قد دخلوا عين التمر، فهم الآن قد شارفوا الكوفة. وجاءتني أيضا عيوني من نحو عتّاب أنّه قد نزل بجماعة أهل الكوفة والبصرة. فما أقرب ما بيننا وبينهم. فتيسّروا بنا للمسير إلى عتّاب بن ورقاء. » وكان عتّاب يومئذ قد أخرج معه جماعة أهل الكوفة مقاتلتهم وشبّانهم، فوافى معه أربعون ألفا من المقاتلة، وعشرة آلاف من الشباب. فكانوا خمسين ألفا. وهدّدهم الحجّاج إن هربوا كعادة أهل الكوفة، وتوعّدهم.
وعرض شبيب أصحابه في المدائن، فكانوا ألف رجل، فخطبهم، وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
« يا معشر المسلمين، إنّ الله عز وجل قد كان ينصركم وأنتم مائة ومائتان، وأنتم اليوم مئون ومئون. ألا، إني مصلّ الظهر ثم سائر بكم إن شاء الله. » فصلّى، ثم نودى في الناس، فأخذوا يتخلّفون ويتأخّرون.
قال فروة بن لقيط: فلما جاز بنا ساباط، ونزلنا معه قصّ علينا، وذكّرنا بأيام الله وزهّدنا في الدنيا، ورغّبنا في الآخرة. ثم أذّن مؤذّنه، فصلّى بنا العصر، ثم أقبل حتى أشرف بنا على عتّاب بن ورقاء. فلما رءاهم نزل من ساعته، وأمر مؤذّنه فأذّن، ثم تقدّم، فصلّى بهم المغرب، وخرج عتّاب بالناس كلّهم، فعبّأهم، وكان قد خندق أول أيّام نزل. وكان يظهر أنه يريد أن يسير إلى شبيب بالمدائن.
فلما صفّ عتّاب الناس بعث على ميمنته محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وقال له:
« يا بن أخي، إنّك شريف، فاصبر وصابر. » فقال له:
« أمّا أنا فو الله لأقاتلنّ ما ثبت معي إنسان. » وقال لقبيصة بن والق:
« اكفنى الميسرة. » فقال:
« أنا شيخ كبير. غايتي أن أثبت تحت رايتي.. » وكان يومئذ على ثلث بنى تغلب.
«.. أما تراني لا أستطيع القيام، إلّا أن أقام؟ وأخي نعيم بن عليم وهو ذو جزء وغناء. » فبعثه على ميسرته، وبعث حنظلة بن الحارث، ابن عمّ عتّاب وشيخ أهل بيته على الرجّالة، وبعث معه ثلاثة صفوف فيه الرجّالة معهم السيوف، وصفّ هم أصحاب الرماح، وصفّ فيه المرامية. ثم سار بين الميمنة والميسرة، ويمرّ بأهل راية راية، فيحثّهم على الصبر ويقصّ عليهم. وقال في ما حفظ من كلامه:
« إنّ أعظم الناس نصيبا في الجنة الشهداء، وليس الله لأحد من خلقه بأحمد منه للصابرين. ألا ترون أنه يقول: اصْبِرُوا، إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ »؟ وليس الله لأحد أمقت منه لأهل البغي. ألا ترون أنّ عدوّكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه. لا يرون ذلك إلّا قربة لهم عند الله، فهم شرار أهل الأرض وكلاب أهل النار. أين القصّاص؟ » قال ذلك مرارا، فلم يجبه أحد منّا. فلما رأى ذلك، قال:
« أين من يروى شعر عنترة؟ » قال: فلا والله ما ردّ عليه أحد كلمة. فقال:
« إنّا لله، كأنّى بكم قد فررتم عن عتّاب، وتركتموه تسفى في استه الريح. » ثم أقبل حتى جلس في القلب معه زهرة بن حويّة جالس وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث.
وأقبل شبيب وهو في ستمائة وقد تخلّف عنه من الناس أربعمائة، فقال:
« ما تخلّف عني إلّا من لا أحبّ أن أراه فينا. » فبعث سويد بن سليم في مائتين إلى الميسرة، وبعث المجلّل بن وائل في مائتين إلى القلب. ومضى هو في مائتين إلى الميمنة، وذلك بين المغرب والعشاء الآخرة حين أضاء القمر فناداهم:
« لمن هذه الرايات؟ » قالوا:
« رايات ربيعة. » فقال شبيب:
« رايات طال ما نصرت الحقّ، وطال ما نصرت الباطل، لها في كلّ نصيب.
أنا أبو المدلّه، أثبتوا إن شئتم. » ثم حمل عليهم وهم على مسنّاة أمام الخندق، ففضّهم، وثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق. فجاء شبيب حتى وقف عليه، وقال لأصحابه:
« مثل هذا ما قال الله عز وجل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا، فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ، فَكانَ من الْغاوِينَ. » ثم حمل على الميسرة وفيها عتّاب بن ورقاء، وحمل سويد بن سليم على الميمنة، وعليها محمد بن عبد الرحمن، فقاتل في الميمنة في رجال تميم وهمدان، فأحسن القتال. فمازالوا كذلك حتى أتوا، فقيل لهم:
« قتل عتّاب بن ورقاء. » قال: فانفضّوا، ولم يزل عتّاب جالسا على طنفسة في القلب هو وزهرة بن حويّة إذ غشيهم شبيب، فانفضّ عنه الناس وتركوه، فقال عتّاب:
« يا زهرة، هذا يوم كثر فيه العدد وقلّ فيه الغناء. لهفي على خمسمائة فارس معي من وجوه الناس من نحو رجال تميم. ألا صابر لعدوّه! ألا مواس بنفسه؟ »
فمضى الناس على وجوههم. فلمّا دنا منه شبيب وثب في عصابة قليلة صبرت معه، فقال له بعضهم:
« أصلحك الله، إنّ عبد الرحمن بن محمّد قد هرب عنك وانصفق معه ناس كثير. » فقال:
« قد فرّ قبل اليوم، وما رأيت ذلك الفتى يبالى ما صنع. » ثم قاتلهم ساعة وهو يقول:
« ما رأيت كاليوم قطّ موطنا لم أبل بمثله أقلّ ناصرا ولا أكثر هاربا خاذلا. » فرءاه رجل من بنى تغلب من أصحاب شبيب، وكان أصاب دما في قومه، ولحق بشبيب، فقال لشبيب:
« والله، إني لأقتلنّ هذا المتكلّم عتّاب بن ورقاء. » فحمل عليه وطعنه، فوقع ووطئت الخيل زهرة بن حويّة. فأخذ يذبّ بسيفه وهو شيخ كبير لا يستطيع أن ينهض. فجاءه الفضل بن عامر الشيبانى، فقتله، وانتهى إليه شبيب، فوجده صريعا، فعرفه وقال:
« من قتل هذا؟ » فقال الفضل:
« أنا قتلته. » فقال شبيب:
-
« هذا زهرة بن حويّة. أما والله، لئن كنت قتلت على ضلالة لربّ يوم من أيّام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك، وعظم فيه غناؤك، ولربّ خيل للمشركين هزمتها وسريّة له ذعرتها، ومدينة لهم فتحتها، ثم كان في علم الله أن تقتل ناصرا للظالمين. » وقتل وجوه العرب في المعركة، واستمكن شبيب من أهل العسكر، فقال:
« ارفعوا عنهم السيف! » ودعا إلى البيعة. فبايعه الناس من ساعتهم، وأخذ شبيب يبايعهم ويقول:
« إلى ساعة يهربون. » فلما كان في الليل هربوا، واحتوى شبيب على ما في العسكر وبعث إلى أخيه وهو بالمدائن، فأتاه وأقام شبيب ببيت قرّة يومين وقد دخل سفيان بن الأبرد وحبيب بن عبد الرحمن من مذحج في من معها، فشدّوا ظهر الحجّاج، واستغنى بهم عن أهل الكوفة. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
« أما بعد، يا أهل الكوفة، فلا أعزّ الله من أراد بكم العزّ، ولا نصر من أراد منكم النصر، أخرجوا عنّا، فلا تشهدوا معنا قتال عدوّنا، الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود والنصارى، ولا يقاتلن معنا إلّا من كان عاملا لنا ومن لم يشهد قتال عتّاب بن ورقاء. » ثم إنّ شبيبا خرج يريد الكوفة، فانتهى إلى سورا، فقال لأصحابه:
« أيّكم يأتينى برأس عامل سورا؟ » فانتدب إليه بطين وقعنب وسويد ورجلان من أصحابه، وساروا مغذّين، حتى انتهوا إلى دار الخوارج والعمّال في سمّرجه، وكادوا الناس بأن قالوا:
« أجيبوا الأمير! » فقال الناس:
« أيّ الأمراء » فقالوا:
« أمير قد خرج من قبل الحجّاج يريد هذا الفاسق شبيبا. » فاعترّ بذلك العامل منهم. فلما قربوا شهروا السيوف وحكّموا حين وصلوا إليه، فضربوا عنقه، وقبضوا ما وجدوا من مال، ولحقوا بشبيب. فلما رأى شبيب المال، قال:
« أتيتمونا بفتنة المسلمين؟ هلمّ الحربة يا غلام! » فحزّت بها البدور، وأمر أن تنخس الدوابّ التي كانت عليها. فمرّت والمال يتناثر من بدوره حتى وردت الصراة، فقال:
« إن كان بقي شيء فاقذفوه في الماء. »
ذكر دخول شبيب الكوفة دخلته الثانية
وإنّ أبا سفيان بن الأبرد أتى الحجّاج فقال:
« ابعثني إليه حتى أستقبله قبل أن يأتيك. » فقال:
« ما أحبّ أن نفترق حتى ألقاه في جماعتكم الكوفة في ظهورنا والحصن في أيدينا. » وأقبل شبيب حتى نزل موضع حمّام أعين، ودعا الحجّاج الحارث بن معاوية بن أبي زرعة بن مسعود الثقفي، فوجّهه في ناس من الشرط لم يكونوا شهدوا يوم عتّاب، ونحو من مائتي رجل من أهل الشام، فخرج في ألف رجل، فنزل زرارة. وبلغ ذلك شبيبا فتعجّل إليه. فلما انتهى إليه، حمل عليه فقتله وانهزم أصحابه وجاءوا حتى دخلوا المدينة، وأقبل شبيب حتى قطع ودنا من الكوفة، فبعث البطين في عشرة فوارس يرتاد له منزلا على شاطئ الفرات في دار الرزق. فوجّه الحجّاج حوشب بن يزيد في جمع من أهل الكوفة، فأخذوا بأفواه السكك، فقاتلهم البطين، فلم يقو عليهم. فبعث إلى شبيب، فأمدّه بفوارس، فعقروا فرس حوشب وهزموه، ونجا ومضى البطين إلى دار الرزق في أصحابه وعسكر على شاطئ الفرات، فلم يوجّه إليه الحجّاج أحدا. فمضى شبيب حتى نزل السبخة وأقام ثلاثا لا يوجّه إليه الحجّاج أحدا، فابتنى مسجدا في أقصى السبخة عند الإيوان، وكانت امرأته غزالة نذرت أن تصلّى في مسجد الكوفة ركعتين تقرأ فيها البقرة وآل عمران. فجاء شبيب مع امرأته حتى وفت بنذرها في المسجد.
وأشير على الحجّاج أن يخرج بنفسه، فقال الحجّاج لقتيبة بن مسلم:
« اخرج، فإني خارج، وارتد لي معسكرا. » فخرج ثم رجع إليه فقال:
« وجدت المدى سهلا، فسر على اسم الله والطائر الميمون. » فخرج بأصحابه، فأتى على مكان فيه بعض القذر والكناسات فقال:
« ألقوا لي هاهنا. » فقيل له:
« إنّ الموضع قذر. » فقال:
« ما تدعونني إليه أقذر الأرض، تحته طيّبة والسماء فوقه طيّبة. » وأخرج الحجّاج مولى له يقال له أبو الورد عليه تجفاف، وأخرج مجفّفة كثيرة وغلمانا له وقالوا:
« هذا الحجّاج! » فحمل عليه شبيب فقتله، ثم قال:
« إن كان الحجّاج، فقد أرحتكم منه. » ثم إنّ الحجّاج أخرج اليه طهمان في مثل ذلك من العدّة والعدد والهيئة. فحمل عليه شبيب، فقتله، وقال:
« إن كان هذا الحجّاج فقد أرحتكم منه. » ثم إنّ الحجّاج دلف إليه بنفسه وعلى ميمنته مطر بن ناجية وعلى ميسرته خالد بن عتّاب بن ورقاء وهو في زهاء أربعة آلاف. فقيل له:
« أيها الأمير، لا تعرّفه موضعك. »
فتنكّر وأخفى مكانه وغفّل له مولى له، فنظر إليه شبيب وظنّه الحجّاج، فحمل عليه وضربه بعمود فقتله، فغفّل له أعين صاحب حمّام أعين بالكوفة، فقتله. فقال الحجّاج:
« عليّ بالبغلة! » فأتى ببغل محجّل، فقيل له:
« أصلح الله الأمير، إنّ الأعاجم تتطيّر أن تركب في مثل هذا اليوم مثل هذا البغل. » فقال:
« أدنوه مني، فإنّ اليوم يوم أغرّ محجّل. فركبه ودنا، ثم طرحت له عباءة فنزل وجلس، ودعا بكرسيّ له، ثم نادى:
« يا أهل الشام، يا أهل السمع والطاعة، لا يغلبنّ باطل هؤلاء الأرجاس حقّكم، غضّوا الأبصار، واجثوا على الركب، واستقبلوا القوم بأطراف الأسنّة. » فجثوا على الركب وكأنّهم حرّة سوداء. فأقبل إليه، شبيب حتى إذا دنا منهم عبّى أصحابه ثلاثة كراديس: كتيبة معه وكتيبة مع سويد بن سليم وكتيبة مع المحلّل بن وائل.
فقال لسويد:
« احمل عليهم في خيلك. » فحمل عليهم فثبتوا له حتى إذا غشى أطراف الأسنّة وثبوا في وجهه ووجوه أصحابه، فطعنوهم قدما، حتى انصرف، وصاح الحجّاج:
« يا أهل السمع والطاعة، هكذا فافعلوا! قدّم كرسيّ يا غلام. » وأمر شبيب المحلّل بن وائل، فحمل عليهم، ففعلوا به مثل ما فعل بسويد.
فناداهم الحجّاج:
« يا أهل السمع والطاعة، هكذا فافعلوا! قدّم كرسيّ. » ثم إنّ شبيبا حمل عليهم في كتيبته، فثبتوا له حتى إذا غشى أطراف الأسنّة وثبوا في وجهه، فقاتلهم طويلا. ثم إنّ أهل الشام طاعنوه قدما، حتى ألحقوه بأصحابه. فلما رأى صبرهم نادى:
« يا سويد احمل في خيلك على هذه السكّة - يعنى سكّة لحّام بن حرير - لعلّك تزيل أهلها، فتأتى الحجّاج من ورائه ونحمل نحن من أمامه. » فانفرد سويد بن سليم، فحمل على أهل تلك السكّة، فرمى من فوق البيوت وأفواه السكك. فانصرف وقد كان جعل الحجّاج عروة بن المغيرة بن شعبة في نحو من ثلاثمائة رجل من أهل الشام ردءا له ولأصحابه، لئلّا يؤتى من ورائه.
ثم إنّ شبيبا قال لأصحابه:
« يا أهل الإسلام، إنّما شرينا للَّه، ومن شرى لله لم يكن عليه ما أصابه من أذى وألم، الصبر الصبر، شدّة كشدّاتكم في مواطنكم الكريمة. » ثم جمع أصحابه وقال:
« الأرض الأرض، دبّوا تحت تراسكم حتى إذا كانت أسنّتهم فوقها فأدلفوها صعدا، ثم ادخلوا تحتها لتستقبلوا أقدامهم وهي الهزيمة بإذن الله. » فأقبلوا يدبّون إليهم.
رأي جيد رءاه خالد بن عتاب
فقال خالد بن عتّاب بن ورقاء للحجّاج:
« ائذن لي في قتالهم، فإني موتور وأنا ممّن لا يتّهم في نصيحة. » قال:
« فقد أذنت لك. » قال:
« فإني آتيهم من ورائهم حتى أغير على عسكرهم. » فقال له:
« إفعل ما بدا لك. » فخرج معه بعصابة من أهل الكوفة مع مواليه وشاكريّته حتى دخل عسكرهم من ورائهم، فقتل مصادا أخا شبيب، وقتل غزالة امرأته، وحرق في عسكره. وأتى ذلك الخبر الحجّاج وشبيبا والتفتوا فرأوا النار في بيوتهم. فأما الحجّاج وأصحابه فكبّروا، وأما شبيب فوثب هو وكلّ راجل معه على خيولهم.
وقال الحجّاج لأصحابه:
« شدّوا عليهم، فقد أتاهم ما أرعبهم قلوبهم. » فشدّوا عليهم فهزموهم. وتخلّف شبيب في حامية الناس حتى خرج من الجسر، وتبعه خيل الحجّاج.
قال: فجعل يخفق برأسه. قال أصغر الخارجي: كنت معه لمّا انهزم فقلت:
« يا أمير المؤمنين، التفت فانظر من خلفك. » قال: فالتفت غير مكترث، وجعل يخفق برأسه. قال: فدنوا منّا فقلت:
« يا أمير المؤمنين، قد دنوا منك. » قال: فالتفت - والله - غير مكترث وجعل يخفق برأسه. فبينا هو كذلك إذ بعث الحجّاج إلى خيله أن:
« دعوه في حرق الله. » قال: فتركوه ورجعوا.
ومضى شبيب ومن معه حتى قطعوا جسر المدائن، فدخلوا ديرا هنالك وخالد يقفوهم، فحصرهم في الدير، فخرجوا عليه، فهزموه نحوا من فرسخين فألقى خالد نفسه بفرسه، فمرّ به ولواؤه في يده.
قال شبيب:
-
« قاتله الله فارسا وفرسه. هذا أشدّ الناس، وفرسه أقوى فرس في الأرض. » فقيل له:
« هذا خالد بن عتّاب. » فقال:
« معرق له في الشجاعة، والله، لو علمت لأقحمت خلفه ولو دخل النار. » وإنّ الحجّاج دخل الكوفة حين انهزم شبيب، ثم صعد المنبر، فقال:
« والله ما قوتل شبيب قطّ قبلها [ مثلها ]. ولّى هاربا، وترك امرأته يكسّر في استها القصب. » ثم دعا حبيب بن عبد الرحمن الحكمي، فبعثه في أثره في ثلاثة آلاف من أهل الشام. وقال له الحجّاج:
« احذر بياته، وحيث ما لقيته فنازله، فإن الله قد فلّ حدّه وقصم نابه. » فخرج حبيب في أثر شبيب حتى نزل الأنبار.
وبعث الحجّاج إلى العمّال أن:
« دسّوا إلى أصحاب شبيب: أنّ من جاءنا منكم فهو آمن. » فكان كلّ من ليست له بصيرة ممّن هدّه القتال يجيء فيؤمن. وقبل ذلك ما كان الحجّاج نادى فيهم يوم هربوا أنّ:
« من جاء منكم فهو آمن. » فتفرّق عنه ناس كثير من أصحابه.
وبلغ شبيبا منزل حبيب بن عبد الرحمن الأنبار، فأقبل بأصحابه حتى دنا من عسكرهم ونزل، فصلّى بهم المغرب.
قال أبو زيد السكسكي: أنا والله في أهل الشام ليلة جاء شبيب، فبيّتنا. قال:
فلما أمسينا، جمعنا حبيب بن عبد الله، فجعلنا أرباعا وعلى كلّ ربع أمير، وقال لكلّ ربع منّا:
« ليجزئ كلّ ربع جانبه، فإن قتل هذا الربع فلا يعنهم هذا الربع الآخر.
فإنّه بلغني أنّ الخوارج منّا قريب، فوطّنوا أنفسكم على أنكم مبيّتون ومقاتلون. » فمازلنا على تعبئتنا حتى جاءنا شبيب، فبيّتنا، فشدّ على ربع منّا، فضاربهم طويلا. فما زالت قدم إنسان منهم، ثم تركهم وأقبل إلى الربع الآخر، فقاتلهم طويلا، فلم يظفر بشيء. قال: ثم أطاف بنا يحمل علينا حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل، وألزّ بنا حتى قلنا: لا يفارقنا. ثم نازلنا راجلا طويلا، فسقطت والله بيننا وبينهم الأيدى والأرجل، وفقئت الأعين، وكثر القتلى. قتلنا منهم نحوا من ثلاثين، وقتلوا منّا نحوا من مائة، وو الله لو كانوا يزيدون على مائة رجل لأهلكونا، وأيم الله على ذلك ما فارقونا حتى مللناهم وملّونا، وكرهناهم وكرهونا. ولقد رأيت الرجل ما يضرب الرجل منهم فما يضرّه شيئا من الإعياء والضعف. ولقد رأيت الرجل منّا يقاتل جالسا ينفح بسيفه، ما يستطيع أن يقوم من الإعياء.
فلما يئسوا ركب شبيب وقال لمن كان نزل معه:
« اركبوا! » وتوجّه منصرفا عنّا.
قال فروة بن لقيط - وكان شهد معه مواطنه كلّها - قال لنا ليلتئذ، وقد رأى بنا كآبة ظاهرة، وجراحة شديدة:
« ما أشدّ هذا الذي بنا، لو كنّا إنّما نطلب الدنيا، وما أيسر هذا في طاعة الله وثوابه. » فقال أصحابه:
« صدقت يا أمير المؤمنين. » قال: فما أنسى منه إقباله على سويد بن سليم، ولا مقالته له:
« يا سويد! قتلت أمس منهم رجلين: أحدهما أشجع الناس والآخر أجبن الناس. خرجت عشيّة أمس طليعة لكم، فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا قرية يشترون منها حوائجهم، فاشترى أحدهم حاجته، ثم خرج قبل أصحابه، وخرجت معه، فقال لي:
« كأنّك لم تشتر علفا. » فقلت:
« إنّ لي رفقاء قد كفونى ذلك. » فقلت له:
« أين ترى عدوّنا هذا؟ » فقال:
« بلغني أنه نزل قريبا منّا، وأيم الله، لوددت أنّى قد لقيت شبيبهم هذا. » قلت:
« فتحبّ ذاك؟ » قال:
« نعم. » قلت:
« فخذ حذرك، فأنا والله شبيب. » وانتضيت سيفي، فخرّ والله ميّتا. فقلت له:
« ارتفع ويحك! » وذهبت أنظر، فإذا هو قد مات. فانصرفت راجعا، فاستقبل الآخر راجعا من القرية، فقال:
« أين تذهب هذه الساعة، وإنّما يرجع الناس إلى عسكرهم. » فلم أكلّمه، ومضيت يقرّب بي فرسي، واتبعني حتى لحقني، فعطفت عليه، وقلت له:
« ما لك؟ » قال:
« أنت والله من عدوّنا. » فقلت:
« أجل والله. » فقال:
« إذا لا تبرح والله حتى أقتلك أو قتلتني. » وحملت عليه، فحمل عليّ، فاضطربنا بسيفنا ساعة، فو الله ما فضلته في شدّة نفس ولا إقدام، إلّا أنّ سيفي كان أقطع من سيفه فقتلته.
ذكر مكيدة لشبيب
بلغ شبيبا أنّ جند الشام الذين مع حبيب حملوا معهم حجرا وحلفوا ألّا يفرّون من شبيب حتى يفرّ هذا الحجر. فلما سمع شبيب ذلك أراد أن يكيدهم. فدعا بأربعة أفراس وربط في أذنابها ترسه في ذنب كلّ فرس ترسين، ثم ندب معه ثمانية نفر من أصحابه ومعه غلام له يقال له: حيّان، كان بئيسا شجاعا، وأمره أن يحمل معه إداوة من ماء، ثم سار حتى يأتى ناحية من العسكر، فأمر أصحابه
أن يكونوا في نواحي العسكر، وأن يجعلوا مع كلّ رجلين فرسا، ثم يمسّوها الحديد حتى يجد حرّه ويخلّوها في العسكر، وواعدهم تلعة قريبة من العسكر، فقال:
« من نجا منكم فإنّ موعده هذه التلعة. » وكره أصحابه الإقدام على ما أمرهم به. فنزل حيث رأى ذلك منهم حتى صنع بالخيل مثل الذي أمرهم به. ثم وغلبت في العسكر، ودخل هو يتلوها محكّما، فضرب الناس بعضهم ببعض وماجوا.
فقام حبيب بن عبد الرحمن فنادى:
« أيها الناس إنّ هذه مكيدة، فالزموا الأرض حتى يبين لكم الأمر. » ففعلوا، وبقي شبيب في عسكرهم، فلزم الأرض حيث رءاهم قد سكنوا، وقد أصابته ضربة عمود أوهنه. فلما هذأ الناس، ورجعوا إلى أبنيتهم خرج في غمارهم حتى أتى التلعة، فإذا هو بحيّان، فقال:
« أفرغ على رأسى من الماء يا حيّان. » فلما مدّ رأسه ليصبّ عليه من الماء، همّ حيّان بضرب عنقه وقال لنفسه:
« لا أجد مكرمة لي ولا ذكرا أرفع من قتل هذا في هذه الخلوة، وهو أمانى عند الحجّاج. » فأخذته الرعدة حيث همّ بما همّ به. فلما أبطأ بحلّ الإداوة، قال:
« ما يبطئك بحلّها. » وتناول السكين من موزجه، فخرقها به، ثم ناوله إيّاها، فأفرغ عليه من الماء.
قال حيّان: منعني والله الجبن وما أخذنى من الرعدة أن أضرب عنقه بعد ما هممت به، وما كنت أعهد نفسي جبانا.
ثم خلا شبيب بأصحابه وعسكره.
ذكر هلاك شبيب في هذه السنة باتفاق سيء
-
ثم إنّ الحجّاج أخرج الناس إلى شبيب، وقسم فيهم أموالا عظيمة، وأعطى الجرحى خاصّة، وكلّ ذي جزء وبلاء، وأمر سفيان بن الأبرد أن يسير بهم. فبلغ ذلك حبيب بن عبد الرحمن، فشقّ عليه، وقال:
« تبعث سفيان إلى رجل قد فللته وقتلت فرسانه! » وكان شبيب قد أقام بكرمان حتى حبروا واستراش هو وأصحابه. ومضى سفيان بعد شهرين واستقبله شبيب بجسر دجيل الأهواز، فعبر شبيب إلى سفيان، فوجد سفيان قد نزل في الرجال، وبعث مصاص بن صيفي على الخيل، وبعث على ميمنته بشر بن حسّان الفهري، وعلى ميسرته عمر بن هبيرة الفزاري. وأقبل شبيب في ثلاثة كراديس: هو في كتيبة، وسويد في كتيبة، وقعنب في كتيبة، وخلّف المحلّل في عسكره. فلما حمل سويد وهو في ميمنته، على ميسرة سفيان، وقعنب وهو في ميسرته، على ميمنة سفيان، وحمل هو على سفيان، اضطربوا مليّا حتى رجعت الخوارج إلى المكان الذي كانوا فيه.
قال يزيد السكسكيّ: والله لقد كرّ علينا هو وأصحابه أكثر من ثلاثين كرّة كلّ ذلك لا نزول من صفّنا.
فقال لنا سفيان:
« لا تفرّقوا، ولكن ليزحف الرجال إليهم زحفا. » ففعلنا وما زلنا نطاعنهم حتى اضطررناهم إلى الجسر. فلما انتهى شبيب إلى الجسر، نزل ونزل معه نحو من مائة رجل، فقاتلناهم إلى المساء أشدّ قتال يكون لقوم قطّ. فما هو إلّا أن نزلوا أوقعوا لنا من الطعن والضرب شيئا ما رأينا مثله قطّ، ولا ظننّاه يكون. فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم ولم يأمن ظفرهم، دعا الرماة فقال:
« ارشقوهم بالنبل. » وذلك عند المساء. وكان التقاؤهم نصف النهار، فرماهم أصحاب النبل، وقد كان صفّهم سفيان بن الأبرد على حدة وعليهم أمير. فلما رشقوهم شدّوا عليهم.
فلما شدّوا على رماتنا شددنا عليهم فشغلناهم عنهم. فلما رأوا ذلك ركب شبيب وأصحابه، ثم كرّوا على أصحاب النبل كرّة صرعوا منهم أكثر من ثلاثين رجلا. ثم عطف علينا يطاعننا حتى اختلط الظلام. ثم انصرف عنّا.
فقال سفيان بن الأبرد لأصحابه:
« أيها الناس، دعوهم، لا تتبعوهم حتى نصبّحهم. » قال: فكففنا عنهم وليس شيء أحبّ إلينا من أن ينصرفوا عنّا.
قال فروة بن لقيط: فما هو إلّا أن انتهينا إلى الجسر، فقال:
« اعبروا معاشر المسلمين، فإذا أصبحوا باكرناهم إن شاء الله. » فعبرنا أمامه وتخلّف في آخرنا، فأقبل [ على ] فرس وكانت بين يديه فرس أنثى ماذيانة، فنزا فرسه عليها وهو على الجسر، فاضطربت الماذيانة، وزلّ حافر فرس شبيب عن حرف السفينة، فسقط في الماء. فلما سقط قال:
« لِيَقْضِيَ الله أَمْرًا كانَ مَفْعُولًا. » واغتمس في الماء. ثم ارتفع فقال:
« ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. » فهذا حديث أكثر الناس. وقد قال غيره من أصحاب شبيب إنه كان معه رجال كثير ممّن أصاب من عشائرهم وساداتهم. فلما تخلّف في أخريات الناس من أصحابه، قال بعضهم لبعض:
« هل لكم أن نقطع به الجسر فندرك ثأرنا الساعة؟ » فقطعوا الجسر، فمالت به السفن، ففزع الفرس ونفر ووقع في الماء فغرق. والحديث الأول أشهر.
فتحدّث جماعة من أصحاب سفيان، قالوا: لما سمعنا صوت القوم: « غرق أمير المؤمنين، » عبرنا إلى عسكرهم، فإذا ليس فيه صافر ولا آثر. فنزلنا فيه فإذا أكثر عسكر خلق الله خيرا. فطلبنا شبيبا حتى استخرجناه وعليه الدرع فسمعت الناس يزعمون أنه شقّ عن بطنه وأخرج قلبه. فكان مجتمعا صلبا كأنّه صخرة وانّه كان يضرب به الأرض فيثب قامة الإنسان.
فيحكى أن أمّ شبيب كانت لا تصدّق أحدا نعاه إليها. وكان قيل مرارا: « قتل » فلا تقبل. فلما قيل: إنّه غرق، قبلت وبكت. فقيل لها في ذلك، فقالت:
« إني رأيت في المنام حين ولدته أنه خرج من قبلي شهاب نار، فعلمت أنّه لا يطفئه إلّا الماء. »
ذكر ما كان من المهلب والأزارقة
كان المهلّب مقيما بسابور يقاتل قطريا في الأزارقة بعد ما صرف الحجّاج عتّاب بن ورقاء عن عسكره نحوا من سنة. ثم إنّه زاحفهم يوم البستان فقاتلهم قتالا شديدا، وكانت كرمان في أيدى الخوارج، وفارس في يد المهلّب.
وكان لا يأتيه من فارس مادّة، فضاق الأمر عليه. فحازهم المهلّب حتى خرجوا إلى كرمان، وتبعهم المهلّب حتى نزل بجيرفت وقاتلهم أكثر من سنة قتالا شديدا حتى حازهم عن فارس كلّها. فلما صارت فارس كلّها في يد المهلّب، بعث الحجّاج عليها عمّاله وأخذها من المهلّب.
فبلغ ذلك عبد الملك فكتب إلى الحجّاج:
« أمّا بعد، فدع بيد المهلّب خراج فارس وحيالها، فإنّه لا بدّ للجيش من قوّة، ولا لصاحب الجيش من معونة، ودع له كورة فسّا ودار بجرد، وكورة إصطخر. » فتركها للمهلّب. فبعث المهلّب عليهما عمّاله وكانتا قوّة له، وأقام المهلّب على قتال الأزارقة.
ذكر اختلاف كلمة الخوارج إلى أن هلكوا بأجمعهم
فلم يزالوا يقتتلون إلى أن بعث قطريّ عاملا له على ناحية كرمان يقال له المقعطر، فقتل رجلا كان ذا بأس من الخوارج، فوثبت الخوارج إلى قطريّ، فذكروا ذلك له وقالوا له:
« أمكنّا من المقعطر نقتله بصاحبنا. » فقال لهم:
« ما أرى أن أفعل. رجل تأوّل فأخطأ في التأويل. ما أرى أن تقتلوه وهو من ذوي الفضل والسابقة فيكم. » قالوا:
« بلى! » فقال لهم:
« لا! » فوقع الاختلاف بينهم. فولّوا عبد ربّ الكبير وخلعوا قطريّا، وبقي مع القطريّ عصابة نحو من ربعهم. وبلغ ذلك الحجّاج فكتب إلى المهلّب:
« أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر فيه اختلاف الخوارج بينها. فإذا أتاك كتابي فناهضهم على حال اختلافهم وافتراقهم، قبل أن يجتمعوا فتكون مؤونتهم عليك أشدّ. والسلام. » فكتب إليه:
« أمّا بعد، فقد بلغني كتاب الأمير وكلّ ما فيه قد فهمت، ولست أرى أن أقاتلهم ما دام بعضهم يقتل بعضا، وينقص بعضهم عدد بعض، فإن تمّوا على ذلك فهو الذي نريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلّا وقد رقّق بعضهم بعضا، فأناهضهم على بقيّة ذلك وهم أوهى ما كانوا شوكة إن شاء الله. » فكفّ عنه الحجّاج وتركهم المهلّب، فقاتلوه قتالا شديدا. ثم إنّه فلّهم وقتلهم، فلم ينج منهم إلّا قليل وسباهم، لأنّهم كانوا يسبون المسلمين.
ذكر سبب هلاكهم
كان سبب ذلك ما ذكرنا من تشتّتهم بالاختلاف. ولما وهي أمر قطريّ توجّه مريدا طبرستان وبلغ أمره الحجّاج، فوجّه سفيان بن الأبرد مع جيش عظيم من أهل الشام، فأقبل سفيان حتى أتى الريّ، ثم اتبعهم. وكتب الحجّاج إلى إسحاق بن محمد بن الأشعث، وهو بطبرستان على جيش لأهل الكوفة أن:
« اسمع وأطع لسفيان. » فأقبل إلى سفيان، وسار معه في طلب قطريّ حتى لحقوه في شعب من شعاب طبرستان. فقاتلوه، فتفرّق عنه أصحابه، ووقع عن دابّته في أسفل الشعب، فتدهدأ حتى خرّ إلى أسفله، وأتاه علج من أهل البلد، فقال له قطري:
« اسقنى ماء. » وقد اشتدّ عطشه. فقال العلج له:
« أعطنى شيئا حتى أسقيك. » فقال:
« ويحك! ما معي والله إلّا ما ترى من سلاحي، وأنا مؤتيكه إذا أتيتنى بماء. » قال:
« لا، بل أعطنيه الآن » قال:
« لا، ولكن ائتني بماء قبل. » فانطلق العلج حتى أشرف على قطريّ، ثم حدّر عليه حجرا عظيما من فوقه، دهدأه عليه، فأصاب إحدى وركيه، فأوهنه، وصاح بالناس، فأقبلوا نحوه، والعلج حينئذ لا يعرف قطريّا، غير أنه يظنّ أنه من أشرافهم لحسن هيئته وكمال سلاحه، فدفع إليه نفر من أهل الكوفة، فقتلوه، وادّعى قتله جماعة.
وفي هذه المدّة التي جرى فيها ما جرى من أمر الأزارقة كان قتال أمية بن عبد الله بكير بن وساج بخراسان
ذكر السبب في ذلك
حقد حقده عتّاب اللّقوة، وكان في صحبة بكير. وكنّا ذكرنا أمر بكير مع أميّة، وأنّ أميّة لمّا ولى خراسان سامح بكيرا، ولم يقبل فيه سعاية، ولا حاسب له عاملا، ولكنّه ولّاه طخارستان بعد أن عرض عليه شرطته فأباها. فتجهّز بكير للخروج إليها، وأنفق نفقة كثيرة. ثم وشا به بحير بن ورقاء وقال لأميّة:
« إنّه إن عبر النهر خلع الخليفة ودعا إلى نفسه. » فراسله أميّة:
« أقم، لعلّى أغزو، فتكون معي. » فغضب بكير وقال:
« كأنّه يريد أن يضارّنى. » وكان عتّاب اللّقوة استدان وأنفق نفقة كثيرة ليخرج مع بكير. فلما أقام بكير أخذه غرماؤه فحبس حتى أدّى عنه بكير.
ثم إنّ أميّة أجمع بعد مدّة على الغزو ليغزو بخارى، ثم يأتى موسى بن خازم بالترمذ. فتجهّز الناس معه واستخلف ابنه زيادا على خراسان وسار معه بكير.
فقال له بحير:
« إني لا آمن إن أستخلف أحدا، أن يتخلّف عني الناس، فقل لبكير، فليكن في الساقة وليحشر الناس. » فأمره به، فكان على الساقة، حتى أتى النهر.
وقال أميّة لبكير:
« اقطع يا بكير. » فقال عتّاب اللّقوة:
« أصلح الله الأمير، اعبر أنت، ثم يعبر الناس بعدك. » فعبر، ثم عبر الناس. فقال أميّة لبكير:
« قد خفت ألّا يضبط ابني عمله وهو غلام حدث. فارجع إلى مرو، فاكفنيها فقد ولّيتكها، فزيّن ابني وقم بأمره. » فانتخب بكير فرسانا من فرسان خراسان قد كان عرفهم ووثق بهم، وعبر، ومضى أميّة إلى بخارى. فقال عتّاب اللّقوة لبكير لمّا عبر وقد مضى أميّة:
« إنّا قتلنا أنفسنا وعشائرنا حتى ضبطنا خراسان ثم طلبنا أميرا من قريش يجمع أمرنا، فجاء يلعب بنا، يحوّلنا من سجن إلى سجن. » قال:
« فما ترى؟ » قال:
« أحرق هذه السفن، وامض إلى مرو، فاخلع أميّة وتقيم بمرو وتأكلها إلى يوم ما. » فقال بكير:
« إني أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معي. » فقال:
« أيخاف عدم الرجال؟ أنا آتيك من أهل مرو بما شئت، إن هلك هؤلاء الذين معك. » قال:
« يهلك المسلمون. » قال:
« إنّما يكفيك مناد ينادى: « من أسلم رفعنا عنه الخراج، فيأتيك خمسون ألفا من المسلمين أسمع من هؤلاء وأطوع منهم. » قال:
« فيهلك أميّة ومن معه. » قال:
« ولم يهلك والناس معه لهم عدّة وعدد ونجدة وسلاح كامل ليقاتلوا عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين. » فلم يزل عتّاب بهذا وأشباهه حتى [ حرق ] بكير السفن ورجع إلى مرو، فأخذ ابن أميّة فحبسه، ودعا الناس إلى خلع أميّة، فأجابوه. وبلغ أميّة فصالح أهل بخارى على شيء يسير، وبادر بالرجوع، وأمر باتخاذ السفن فاتّخذت، وقال لمن معه من وجوه تميم:
« ألا تعجبون من بكير؟ إني قدمت خراسان، فحذّرته، ورفع عليه وشكا منه، وذكروا أموالا أصابها، فأعرضت عن ذلك كلّه ولم أفتّشه عن شيء، ولا أحدا من عمّاله، ثم عرضت عليه شرطتي، فأبى، فأعفيته، ثم ولّيته، فحذّرته، وأمرته بالمقام، وما كان ذلك إلّا نظرا له، ثم رددته إلى مرو، وولّيته الأمر، فكفر ذلك، وكافأنى بما ترون. »
فقال له قوم:
« تعرفون أمره أيها الأمير، لم يكن هذا من شأنه. إنّما أشار عليه بإحراق السفن عتّاب اللقوة. » ثم إنّ أميّة لمّا تهيأت له السفن عقد وعبر، وأقبل إلى مرو، وترك موسى بن عبد الله بن خازم.
-
فقال شمّاس بن دثار، وكان غزا مع أميّة:
« أيها الأمير، قدّمنى فإني أكفيه إن شاء الله. » فقدّمه أميّة في ثمانمائة فارس. وسار إليه بكير فقال:
« أما كان في تميم أحد يحاربني غيرك؟ » ولامه. فأرسل إليه شمّاس:
« أنت ألأم وأسوأ صنيعا مني، لم تف لأميّة ولم تشكر صنيعه بك. » قال: فبيّته بكير، ففرّق جمعه وقال:
« لا تقتلوا منهم أحدا وخذوا سلاحهم. » فكانوا إذا أخذوا رجلا سلبوه وخلّوا عنه. فتفرّقوا. وقدّم أميّة كشماهن ورجع إليه شمّاس بن دثار. ثم أقبل أميّة في الناس، فقاتله بكير مدّة، ثم انحاز بكير يوما، فدخل الحائط، فنزل السوق. ونزل أميّة باشان، وكانوا يلتقون في ميدان يزيد. فانكشفوا يوما، فحماهم بكير، ثم التقوا يوما آخر في الميدان، فضرب رجل من تميم على رجله، فجعل يسحبها وهريم يحميه. فقال الرجل:
« اللهمّ أيّدنا بالملائكة. » فقال له هريم:
« أيها الرجل، قاتل عن نفسك، فإنّ الملائكة في شغل عنك. »
فتحامل، ثم أعاد قوله مرارا:
« اللهمّ أيّدنا بالملائكة. » فقال لهم هريم:
« لتكفّنّ عني، أو لأدعنّك والملائكة. » فسكت، وحماه حتى ألحقه بالناس. فكانوا كذلك مدة يتقاتلون، وكان أصحاب بكير يغدون متفضّلين، في ثياب مصبّغة، وملاحف وأزر صفر وحمر، فيجلسون على نواحي المدينة يتحدّثون وينادى مناد:
« من رمى بسهم، رمينا إليه برأس رجل من أهله وولده. » فلا يرميهم أحد. وأشفق بكير وخاف، إن طال الحصار، أن يخذله الناس.
فطلب الصلح، وأحبّ أصحاب أميّة ذلك، لمكان عيالاتهم بالمدينة، وكان يحبّ أميّة العافية، فصالحه على أن يقضى عنه أربعمائة ألف، ويصل إليه أصحابه ويولّيه أيّ كورة خراسان شاء، ولا يسمع قول بحير فيه، وإن راب منه ريب فهو آمن أربعين يوما حتى يخرج من مرو.
وقال: وأخذ الأمان لبكير، وكتب إليه أميّة كتابا، ودخل أميّة المدينة، ووفى لبكير، وعاد إلى ما كان له من الإكرام وحسن الأدب. فأرسل إلى عتّاب اللّقوة فقال:
« أنت صاحب المشورة؟ » قال:
« نعم، أصلح الله الأمير. » قال:
« ولم؟ » قال:
« خفّ ما كان في يدي، وكثر ديني، وأعديت على غرمائي. » قال:
« ويحك! فضرّبت بين المسلمين، وأحرقت السفن والمسلمون في بلاد العدوّ، وما خفت الله. » قال:
« قد كان ذاك وأستغفر الله. » قال:
« كم كان دينك؟ » قال:
« عشرون ألفا. » قال:
« تكفّ عني وعن المسلمين غشّك وأقضى دينك. » قال:
« نعم، جعلني الله فداءك. » فضحك أميّة وقال:
« ظنّى بك غير ما تقول، وأرجو أن تفي. » فأدّى عنه عشرين ألفا.
« وكان أميّة سهلا ليّنا سخيّا لم يعط أحد بخراسان ما أعطاه، وكان مع ذلك ثقيلا على الناس لزهو كان فيه شديد. وكان يقول:
« ما أكتفى بخراسان وسجستان لمطبخى! » وعزل أميّة بحيرا عن شرطته، وكتب إلى عبد الملك بما كان من بكير وصفحه عنه، وعزله بحيرا طلب مرضاته.
عاقبة أمر بكير
وأخذ أميّة الناس بالخراج واشتدّ عليهم فيه. فجلس يوما بكير في المسجد وعنده ناس من بنى تميم، فذكر شدّة أميّة على الناس، فذمّوه وقالوا:
« سلّط علينا الدهاقين في الجباية. » وكان بكير وضرار بن حصن وعبد العزيز بن حارثة في ناحية من المسجد.
فنقل بحير ذلك إلى أميّة، فكذّبه، فادّعى شهادة هؤلاء وشهادة مزاحم بن المحشر. فدعا أميّة مزاحما، فسأله، فقال:
« إنّما كان يمزح. » فأعرض عنه. ثم إنّ بحيرا أتاه، فقال:
« أصلحك الله، إنّ بكيرا دعاني إلى خلعك، وقال: لولا مكانك لقتلت هذا القرشيّ وأكلت خراسان. » فقال أميّة:
« ما أصدّق بهذا وقد فعل وفعلت ما فعلت. » فأتاه بضرار بن حصن وعبد العزيز بن حارثة، فشهدا أنّ بكيرا قال لهما: لو أطعتمانى قتلت هذا القرشيّ المخنّث، ودعانا إلى الفتك بك. » فقال أميّة:
« أنتم أعلم وما شهدتم، وما أظنّ هذا به، وإنّ تركه - وقد شهدتم بما شهدتم به - عجز. » فقال له:
« إنّ عتّابا يحمله على ذلك. » فقال لحاجبه وصاحب حرسه، وكان يومئذ عطاء بن أبي السائب:
« إذا دخل بكير وبدل وشمر دل ابنا أخيه فنهضت فخذوهم. » وجلس أميّة للناس وجاء بكير وابنا أخيه. فلما جلسوا قام أميّة عن سريره، فدخل وخرج الناس، فلما همّ بكير بالخروج حبسوه وابني أخيه. فدعا أميّة ببكير وقال:
« أنت القائل كذا وكذا؟ » فقال:
« تثبّت أصلحك الله ولا تسمع قول ابن المحلوقة. » فحبسه وأخذ جاريته، وكانت تسمّى: العارمة، فحبسها معه، وحبس الأحنف بن عبد الله العنبري. فلما كان من الغد، أخرج بكيرا، فشهد بحير وضرار وعبد العزيز أنّه دعاهم إلى خلعه والفتك به. فقال:
« أصلحك الله، فإنّ هؤلاء أعدائى. » فقال أميّة لبحير:
« أتقتله؟ » قال:
« نعم. » فقام إليه، ونهض أميّة. فقال بكير:
« يا بحير، إنّك تفرّق أمر بنى سعد إن قتلتني، فدع هذا القرشيّ يلي مني ما يريد. » فقال بحير:
« لا والله، يا بن الإصبهانيّة! لا تصلح بنو سعد ما دمنا حيّين. » فقال:
« فشأنك يا بن المحلوقة. » وقتل أميّة ابن أخي بكير، ووهب جاريته العارمة لبحير.
ثم وجّه أميّة رجلا من خزاعة إلى موسى بن عبد الله بن خازم، فقتله عمرو بن خالد بن حصن الكلابي غيلة، فتفرّق جيشه، واستأمن طائفة منهم إلى موسى ورجع بعضهم إلى أميّة. وعزل عبد الملك بن مروان أميّة عن خراسان وولّاها المهلّب من قبل الحجّاج، وسنذكر سببه.
وأخذ الأبناء تحضّ على قتل بحير في الشعر وفي غير الشعر، فتعاقد جماعة منهم على الفتك ببحير. فخرج فتى منهم يقال له الشمر دل من البادية حتى قدم خراسان. فنظر إلى بحير واقفا، فشدّ عليه، فطعنه، فصرعه وظنّ أنّه قتله. فتنادى الناس: « خارجيّ. » فراكضهم، فعثر فرسه وندر عنه فقتل. فكان بحير بعد ذلك يتحرّز من الغيلة، إلى أن خرج صعصعة بن حرب العوفيّ من البادية وقد باع غنيمات له واشترى حمارا، ومضى إلى سجستان فحاور قرابة لبحير هناك ولا طفه وقال:
« أنا رجل من بنى حنيفة من أهل اليمامة. » فلم يزل يأتيهم ويجالسهم حتى أنسوا به.
-
ذكر حيلة صعصعة على بحير حتى اغتاله وقتله
ثم إنه قال لهم:
« إنّ لي بخراسان ميراثا قد غلبت عليه، وبلغني أنّ بحيرا هو عظيم القدر بخراسان، فاكتبوا لي إليه كتابا يعينني على طلب حقّى. » فكتبوا إليه وخرج حتى قدم مرو والمهلّب غاز. فلقى قوما من بنى عوف، فأفشى إليهم سرّه، فأقبل إليه مولى لبكير، فقبّل رأسه، وكان صقيلا، فقال له صعصعة:
« اتّخذ لي خنجرا. » ففعل، وأحماه وغمسه في لبن أتان مرارا، ثم شخص من مرو وقطع النهر حتى أتى عسكر المهلّب. فلقى بحيرا بالكتاب، وقال له:
« إني رجل من بنى حنيفة، كنت من أصحاب ابن أبي بكرة، وقد ذهب مالي بسجستان، ولى ميراث بمرو، فقدمت لأبيعه وأرجع إلى اليمامة. » فأمر له بنفقة وأنزله معه. وقال له:
« استعن بي على ما أحببت. » قال:
« أقيم عندك حتى يقفل الناس. » فأقام شهرا أو نحوا من شهر يحضر معه باب المهلّب ومجلسه حتى عرف به.
وكان بحير مع تحرّزه وخوفه الفتك قد أنس بصعصعة هذا لأجل الكتاب الذي صحبه من عند أصحابه، وظنّه رجلا من بكر بن وائل، فأمنه. فجاء يوما وبحير جالس في مجلس المهلّب، عليه قميص ورداء في نعلين. فقعد خلفه، ثم دنا منه فأكبّ عليه كأنّه يكلّمه. فوجأه بخنجره في خاصرته فغيّبه في جوفه وخضخضه.
فقال الناس:
« خارجيّ! » وقال صعصعة:
« يا لثارات بكير! أنا ثائر ببكير. » فأخذه صاحب شرطة المهلّب في الطريق، فأتى به المهلّب، فقال المهلّب:
« بؤسا لك. ما أدركت بثأرك وقتلت نفسك وما على بحير بأس. » فقال:
« والله قد طعنته طعنة لو قسمت بين الناس لماتوا. ولقد وجدت ريح بطنه في يدي. » فحبسه. ودخل عليه السجن قوم من الأبناء فقبّلوا رأسه. ومات بحير من غد، فقيل لصعصعة:
« مات بحير. » فقال:
« اصنعوا ما بدا لكم الآن. أليس قد حلّت نذور نساء بنى عوف وأدركت ثأرى؟ أما والله لقد أمكننى منه خاليا غير مرّة، فكرهت أن أقتله سرّا. » فقال المهلّب:
« ما رأيت رجلا أسخى نفسا بالموت صبرا من هذا. » وقتله.
وقال المهلّب:
« إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. غزوة أصيب فيها بحير فغضبت عوف بن كعب والأبناء. » وقال:
« علام قتل صاحبنا؟ وإنّما طلب بثأره. » فنازعتهم مقاعس والبطون حتى خاف الناس أن يعظم البأس، إلى أن تلطّف أهل الحجى والرأي وقالوا:
« احملوا دم صعصعة واجعلوا دم بحير بواء ببكير. » فودّوا صعصعة.
ذكر خروج عبد الرحمن بن الأشعث على الحجاج وسبب خلعه لعبد الملك واجتماع الناس عليه
ولمّا فرغ الحجّاج من شبيب، قدم عليه المهلّب وقد فرغ من الأزارقة.
فأجلسه معه، ودعا بأصحاب البلاد من أصحاب المهلّب، فحباهم ووصلهم.
وكاتب عبد الملك بن مروان بالفتح، وكتب عبد الملك إلى الحجّاج بولاية خراسان وسجستان مع العراق، وعزل أميّة عن خراسان، فبعث الحجّاج المهلّب إلى خراسان من قبله، وبعث عبيد الله بن أبي بكرة إلى سجستان، وذلك في سنة ثماني وسبعين، فمكث ابن بكرة بقيّة سنته، ثم غزا رتبيل، وقد كان مصالحا، وكانت العرب قبل ذلك تأخذ منه خراجا، وربما امتنع. فبعث الحجّاج إلى عبيد الله بن أبي بكرة أن ناجزه بمن معك من المسلمين من أهل الكوفة والبصرة، وكان على أهل الكوفة شريح بن هانئ، وكان من أصحاب عليّ بن أبي طالب http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png، وكان عبيد الله على أهل البصرة، وهو أمير الجماعة.
فمضى عبيد الله حتى وغل في بلاد رتبيل، فأصاب من الأموال والغنم ما شاء، وهدم قلاعا وحصونا، وغلب على أرض من أرضيهم كثيرة. وأصحاب رتبيل من الترك. فلما أمعنوا في بلادهم ودنوا من مدينتهم وصاروا منها على ثمانية عشر فرسخا أخذوا على المسلمين بالعقاب والشعاب، فسقط في أيدى المسلمين، وظنّوا أن قد هلكوا.
فراسل ابن أبي بكرة رتبيل على أن يصالحه على سبعمائة ألف. فلقيه شريح فقال له:
« إنّك لا تصالح على شيء إلّا حبسه السلطان عنكم واحتسبه في أعطياتكم. » فقال الناس:
« لو منعنا العطاء ما حيينا، كان أهون علينا من هلاكنا. » فقال له شريح:
« والله لقد بلغت سنّا وقد هلكت لداتي، وما يأتى عليّ ساعة فأظنّها تمضى حتى أموت، ولئن فاتتنى الشهادة وأنا أطلبها منذ زمان ما أخالنى أدركها.
يا أهل الإسلام، تعاونوا على عدوّكم. » فقال له ابن أبي بكرة:
« إنّك شيخ وقد خرفت. » فقال له شريح:
« إنّما حسبك أن يقال: بستان أبي بكرة، وحمّام أبي بكرة. يا أهل الإسلام من أراد الشهادة فإليّ. » فاتّبعه ناس من المتطوّعين كثير وفرسان البأس وأهل الحفاظ، فقاتلوا حتى أصيبوا. وقتل شريح ونجا ابن بكرة في من نجا من المسلمين.
وبلغ ذلك الحجّاج، فأخذه ما تقدّم وتأخّر وبلغ منه كلّ مبلغ، فكتب إلى عبد الملك:
« أمّا بعد، فإنّ جند أمير المؤمنين الذين كانوا بسجستان أصيبوا، فلم ينج إلّا القليل منهم، وقد اجترأ العدوّ على الإسلام، وأردت أن أوجّه إليهم جندا كثيفا من أهل المصرين، وأحببت أن أستطلع رأى أمير المؤمنين في ذلك، فإن رأى ذلك أمضيته، وإن لم يرد ذلك فأمير المؤمنين أعلى بجنده عينا، مع أنّى أتخوّف أنّه إن لم يأت رتبيل ومن معه جند كثيف عاجلا، أن يستولوا على ذلك الفرج كلّه. » فكتب إليه عبد الملك:
« أمّا بعد، فقد أتانى كتابك تذكر فيه مصاب المسلمين بسجستان، وأولئك قوم كتب عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم وعلى الله ثوابهم. وأما رأيي في توجيه الجنود، فإني أرى إمضاء عزمك، فرأيك راشدا موفّقا. » فأخذ الحجّاج في جهاز عشرين ألفا من أهل البصرة وعشرين ألفا من أهل الكوفة، وجدّ في ذلك وشمّر وأعطى الناس أعطياتهم، وأخذهم بالخيول الروابع والسلاح الكامل، وأخذ في عرض الناس، فلا يرى رجلا تذكر فيه شجاعة إلّا أحسن معونته. ولمّا استتمّ له الأمر بعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقدم ابن الأشعث سجستان بمن معه في سنة ثمانين، وكان عبيد الله بن أبي بكرة قد مات قبل قدوم عبد الرحمن.
ويقال: إنّ الحجّاج أنفق على ذلك العسكر، سوى الأعطيات والأرزاق، ألفي ألف درهم. وكان يدعى ذلك الجيش جيش الطواويس، لحسن هيآتهم. فندب عبد الرحمن الناس وعسكر بهم في ظاهر سجستان، ونادى مناديه:
« أيّ رجل تخلّف فقد أحلّ بنفسه العقوبة. » فخرج الناس كلّهم إلى معسكرهم ووضعت لهم [ الأسواق ] وأخذوا في الجهاد والتهيّؤ للحرب.
فبلغ ذلك رتبيل، فكتب إلى عبد الرحمن يعتذر إليه مصاب المسلمين ويخبره أنّه كان لذلك كارها وأنهم ألجئوه إلى قتالهم ويسأله الصفح ويعرض عليه الخراج، فلم يجبه ولم يقبل منه. وسار عبد الرحمن في الجنود حتى دخل أوّل بلاده، وأخذ رتبيل يضمّ إليه جنده ويدع له الأرض رستاقا رستاقا وحصنا حصنا.
وكان ابن الأشعث كلّما حوى بلدا بعث إليه عاملا وبعث معه أعوانا ووضع البرد بين كلّ بلد وبلد، وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب، ووضع المسالح بكلّ مكان مخوف حتى إذا حاز من أرضه شيئا عظيما وملأ يده من البقر والغنم والغنائم العظيمة، حبس الناس عن الوغول في أرض رتبيل، وقال:
« نكتفي بما أصبنا العام من بلادهم حتى نجيئها ونعرفها ويجترئ المسلمون على طرقها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لا نزال ننتقصهم حتى نقاتلهم آخر ذاك على كنوزهم وذراريّهم وممتنع حصونهم، ثم لا نزايل بلادهم حتى يهلكهم الله. » ثم كتب إلى الحجّاج بما فتح من بلاد العدوّ وبما صنع للمسلمين وبهذا الرأي الذي رءاه لهم.
-
ذكر رأي خطأ للحجاج أفسد به أولئك الجند وعبد الرحمن حتى ألجأهم إلى مخالفته وخلعه
وكتب الحجّاج جواب كتابه:
« أما بعد، فإنّ كتابك أتانى وفهمته وهو كتاب امرئ يحبّ الهدنة ويستريح إلى الموادعة. قد صانع عدوّا ذليلا أصابوا من المسلمين جندا كان بلاؤهم حسنا وغناؤهم عظيما، ولعمرك يا بن أمّ عبد الرحمن، إنّك حيث تكفّ عن ذلك العدوّ بجندي وحدّى، لسخيّ النفس عمّن أصيب من المسلمين، وإني لم أعذر رأيك الذي زعمت أنّك رأيته رأى مكيدة، ولكني رأيتك أنّه لم يحملك عليه إلّا ضعفك والتياث رأيك. فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم والهدم لحصونهم، وقتل مقاتليهم، وسبى ذراريّهم. » ثم أردفه كتابا آخر قال فيه: « أمّا بعد، فأمر من قبلك من المسلمين فليحرثوا وليقيموا، فإنّها دارهم، حتى يفتح الله عليهم. » ثم أردفه كتابا آخر فيه:
« أمّا بعد، فامض لما أمرتك من الوغول في أرضهم، وإلّا فإنّ إسحاق بن محمد أمير الناس، فخلّه وما ولّيته. » - يعنى أخاه.
فلما قرأ كتابه، قال:
« أنا أحمل ثقل إسحاق. » ثم دعا الناس وجمعهم فحمد الله وأثنى عليه وقال:
« أيها الناس، قد عرفتم نصحى لكم ومحبتي لصلاحكم ولكلّ ما يعود عليكم نفعه. وقد كان من رأيي لكم في ما بينكم وبين عدوّكم، رأى استشرت فيه ذوي أحلامكم وأولى التجربة في الحرب منكم، فرضوه لكم رأيا، ورأوه لكم في العاجل والآجل صلاحا، فكتبت بذلك إلى أميركم الحجّاج وهذا جوابه، يعجّزنى ويضعّفنى ويأمرنى بتعجيل الوغول بكم في أرض العدوّ، وهي البلاد التي هلك فيها إخوانكم بالأمس، وإنّما أنا رجل منكم، أمضى إذا مضيتم، وآبى إذا أبيتم. » فثار إليه الناس من كلّ جانب.
« لا بل نأبى على عدوّ الله ولا نستمع له ولا نطيع. » وتكلّم وجوه الناس، فكان أولهم واثلة الكناني، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
« إنّ الحجّاج ما يرى لكم إلّا ما يقول القائل الأوّل إذ قال لأخيه:
احمل عبدك على الفرس، فإن هلك هلك، وإن نجا فلك. إنّ الحجّاج والله ما يبالى أن يخاطر بكم فيقحمكم بلادا كثيرة اللهوب واللّصوب، فإن ظفرتم وغنمتم، أكل البلاد وحاز الأموال، وكان ذلك زيادة في سلطانه، وإن ظفر عدوّكم كنتم الأعداء البغضاء الذين لا يبالى عتبهم، ولا يبقى عليهم. اخلعوا عدوّ الله الحجّاج وبايعوا الأمير عبد الرحمن، فإني أشهدكم أنّى أوّل خالع له. » فنادى الناس من كلّ جانب:
« فعلنا فعلنا وخلعنا عدوّ الله. » وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعيّ ثانيا، وكان على شرطته، فقال:
« عباد الله، إنّكم إن أطعتم الحجّاج جعل هذه البلاد بلادكم ما بقيتم، وجمّركم تجمير فرعون، فإنّه بلغني أنّه أوّل من جمّر البعوث، ولم تعاينوا والله الأحبّة في ما أرى، أو يموت أكثركم. فبايعوا أميركم، وانصرفوا إلى عدوّ الله فانفوه عن بلادكم. » فوثب الناس إلى عبد الرحمن ليبايعوه فقال:
« أتبايعوننى على خلع الحجّاج عدوّ الله وعلى النصرة لي والجهاد معي حتى ننفيه من العراق؟ »
فبايعه الناس على ذلك، ولم يذكر عبد الملك إذ ذاك بشيء. ثم استخلف على بست عياض بن همدان، وعلى زرنج عبد الله بن عامر التميمي. وبعث إلى رتبيل، فصالحه على أنّ ابن الأشعث إن ظهر فلا خراج عليه أبدا ما بقي، وإن هزم فأراده، ألجأه عنده وآواه.
خروج عبد الرحمن نحو العراق
وخرج عبد الرحمن نحو العراق وبعث على مقدّمته عطيّة بن عمرو العنبري، وبعث الحجّاج إليه الخيل، فجعل لا يلقى خيلا إلّا هزمها، حتى دخل فارس واجتمع الناس بعضهم إلى بعض وقالوا:
« إنّا إذا خلعنا الحجّاج فقد خلعنا عبد الملك. » فاجتمعوا إلى عبد الرحمن، وكان أوّل من خلع عبد الملك تيحان بن أبجر قام فقال:
« أيها الناس إني قد خلعت أبا دبّان كخلعي قميصي. » فخلعه الناس ووثبوا إلى عبد الرحمن فبايعوه وكانت بيعته:
« تبايعوني على كتاب الله، وسنّة نبيه، وخلع أئمة الضلالة، وجهاد المحلّين. » فإذا قالوا: نعم، بايع.
فلما بلغ الحجّاج ذلك، كتب إلى عبد الملك يخبره، ويسأله أن يعجّل بعثة الجنود إليه. وجاء حتى نزل البصرة، وكان المهلّب بخراسان حين بلغه شقاق عبد الرحمن، فكتب إليه:
« أما بعد، فإنّك يا ابن محمّد قد وضعت رجلك في غرز طويل الغيّ. الله الله، في نفسك لا تهلها، وفي دماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرّقها،
والبيعة فلا تنكثها. فإن قلت: إني أخاف الناس على نفسي، فاللَّه أحقّ أن تخافه عليها من الناس. والسلام. »
رأي سديد رءاه المهلب للحجاج فعصاه
وكتب المهلّب إلى الحجّاج:
« أما بعد، فإنّ أهل العراق قد أقبلوا إليك وهم مثل السيل المنحدر من عل ليس يردّه شيء حتى ينتهى إلى قراره. إنّ لأهل العراق شرّة في أول مخرجهم وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم. فليس شيء يردّهم حتى يسقطوا إلى أهليهم ويشمّوا أولادهم، فافرج لهم، ثم واقعهم فإنّ الله ناصرك عليهم إن شاء الله. » فلمّا قرأ كتابه قال:
« فعل الله به وصنع. لا والله، ما لي نظر، ولكنّ ابن عمّه نصح. » وتجهّز الحجّاج للقاء عبد الرحمن، وترك رأى المهلّب. وكان فرسان أهل الشام يسقطون إلى الحجّاج مائة مائة وخمسين خمسين وعشرة عشرة، وأقلّ على البرد من قبل عبد الملك وهو في كلّ يوم يساقط إلى عبد الملك كتبه ورسله يخبر أنّ ابن الأشعث أيّ كورة نزل، ومن أيّ كورة رحل، وأيّ الناس إليه أسرع. وكان بكرمان أربعة آلاف من فرسان أهل البصرة وأهل الكوفة فلمّا مرّ بهم عبد الرحمن انجفلوا معه.
وسار الحجّاج بأهل الشام حتى نزل قريبا من تستر، وقدّم بين يديه مطهّر بن حييّ. وكان لعبد الرحمن مسلحة عليها عبد الله بن أبان الحارثيّ في ثلاثمائة فارس. فلما انتهى إليهم مطهّر أقدم عليه فهزمته مسلحة عبد الرحمن، وأتت الحجّاج الهزيمة وهو يخطب. صعد إليه رجل فأخبره بهزيمة الناس، فقال:
« أيها الناس، ارتحلوا إلى البصرة، إلى معسكر ومعقل وطعام ومادّة، فإنّ هذا المكان الذي نحن فيه لا يحتمل الجند. » ثم انصرف راجعا وتبعه خيول أهل العراق. فكلّ من أدركوه قتلوه وكلّ ما أصابوا من ثقل حووه. ومضى الحجّاج لا يلوى على شيء حتى نزل الراوية، وبعث إلى طعام التجار بالكلّاء، فأخذه وحمله إليه، وخلّى البصرة لأهل العراق، وكان عامله عليها الحكم بن أيّوب بن الحكم بن عقيل الثقفي. وجاء أهل العراق حتى دخلوا البصرة. وكان الحجّاج حين صدم تلك الصدمة وأقبل راجعا، دعا بكتاب المهلّب وقرأه وقال:
« لله أبوه، أيّ صاحب حرب هو! لقد أشار علينا بالرأي وكلّنا لم نقبل. » وكان مع الحجّاج يوم انهزم من المال مائة وخمسون ألف ألف ففرّقها في قوّاده، وضمّنهم إياها. ولمّا بلغ أهل البصرة هزيمة الحجّاج أراد عبد الله بن عامر بن مسمع أن يقطع الجسر فرشاه الحكم بن أيوب مائة ألف درهم. فكفّ عنه. ودخل الحجّاج البصرة، فأرسل إلى ابن عامر، فانتزع المائة الألف منه.
ولمّا دخل البصرة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بايعه أهلها، كلّهم قرّاؤها وكهولها، على خلع الحجّاج، وخلع عبد الملك جميع أهلها من القرّاء والشيوخ.
وخندق الحجّاج عليه وخندق عبد الرحمن على البصرة، واقتتلوا في المحرم سنة اثنتين وثمانين. فكانت خيل العراق تهزم أبدا خيل الشام حتى إذا كان في آخر المحرّم هزم أهل العراق على عادتهم أهل الشام فنكصت ميمنتهم وميسرتهم، واضطربت رماحهم، وتقوّضت صفوفهم. فلما رأى ذلك الحجّاج جثا على ركبتيه وانتضى نحوا من شبر من سيفه وقال:
« لله درّ مصعب، ما كان أكرمه حين نزل به! » قال: فعلمنا أنّه لا يفرّ.
قال أبو الزبير الهمدانيّ: فغمزمت أبي بعيني ليأذن لي فأضرب الحجّاج بسيفي.
فغمزني غمزة شديدة، فسكتّ، وحانت مني التفاتة، فإذا سفيان بن الأبرد قد حمل عليهم فهزمهم من قبل الميمنة، فقلت:
« أبشر أيّها الأمير، فإنّ الله قد هزم العدوّ. » فقال لي:
-
« قم فانظر. » قال: فقمت فنظرت فقلت له:
« قد هزمهم الله. » فقال:
« قم يا زياد فانظر. » فقام فنظر فقال:
« الحقّ - أصلحك الله - يقينا، قد هزموا. » فخرّ ساجدا.
قال: فلمّا رجعت شتمني أبي وقال:
« أردت أن تهلكني وأهل بيتي. » قال: فانهزم الناس، وأقبل عبد الرحمن إلى الكوفة، وتبعه أهل القوّة من أصحاب الخيل من أهل البصرة.
ولمّا مضى عبد الرحمن إلى الكوفة وثب أهل البصرة إلى عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فبايعوه، فقاتل بهم خمس ليال أشدّ قتال رءاه الناس. ثم انصرف فلحق بابن الأشعث، وقتل الحريش بن هلال وجماعة من الأشراف والوجوه.
قال أبو الزبير: كنت قد أصابتنى جراحة وخرج أهل الكوفة يستقبلون ابن الأشعث حين أقبل، فاستقبلوه عنده قنطرة زبارا. فقال لي:
« إن رأيت أن تعدل عن الطريق فلا يرى الناس جراحتك فإني لا أحبّ أن يستقبلهم الجرحى. » ففعلت، ودخل الناس، فلمّا دخل الكوفة مال إليه الناس كلّهم ودخلوا إليه فبايعوه، وسقط إليه أهل البصرة، وتقوّضت إليه المسالح والثغور، وجاءه في من جاءه من أهل البصرة عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. وكنّا ذكرنا أنّه قاتل الحجّاج بالبصرة بعد خروج ابن الأشعث. فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فقال:
« قاتل الله عديّ الرحمن، قد فرّ وقاتل غلام من غلمان قريش بعده ثلاثا. » وأقبل الحجّاج من البصرة، فسار في البرّ حتى مرّ بالقادسيّة والعذيب، وبعث إليه عبد الرحمن بن الأشعث عبد الرحمن بن العباس في خيل عظيمة من خيل البصرة، فمنعوه من نزول القادسيّة. ثم سايره حتى ارتفعوا على وادي السباع، ثم تسايرا حتى نزل الحجّاج دير قرّة، ونزل عبد الرحمن دير الجماجم. ثم جاء ابن الأشعث فنزل دير الجماجم. فكان الحجّاج بعد ذلك يقول:
« ما كان عبد الرحمن يزجر الطير، حيث رءانى نزلت دير قرّة ونزل دير الجماجم. » واجتمع القرّاء من أهل المصرين وأهل الثغور والمسالح وجماعة أهل الكوفة والبصرة على حرب الحجّاج والذي جمعهم على حربه بغضهم له وإجماعهم على عدوانه وظلمه، وهم إذ ذاك مائة ألف مقاتل ممّن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم مواليهم. وجاءت الحجّاج أمداده من قبل عبد الملك. فكان الحجّاج مخندقا في عسكره والناس يخرجون في كلّ يوم فيقتتلون، فلا يزال أحدهما يدنى خندقه نحو صاحبه، فإذا رءاه الآخر أدنى خندقه أيضا من صاحبه واشتدّ القتال.
ذكر وقعة دير الجماجم
لمّا بلغ أهل الشام ورؤوس قريش قبل عبد الملك مخالفة أهل العراق الحجّاج اجتمعوا إليه، وقالوا:
« إن كان إنّما يرضى أهل العراق أن تنزع عنهم الحجّاج فإنّ نزع الحجّاج أهون من حرب أهل العراق فانزعه عنهم تخلص لك طاعتهم وتحقن به دماءنا ودماءهم. » بعث عبد الملك ابنه عبد الله بن عبد الملك وأخاه محمد بن مروان في خيل إلى أرض العراق، وأمرهما أن يعرضا على أهلها نزع الحجّاج عنهم وأن يجرى عليهم أعطياتهم كما يجرى على أهل الشام وأن ينزل ابن محمد بن الأشعث أيّ بلد شاء من العراق يكون عليه واليا ما كان حيّا وكان عبد الملك واليا. فإن هم قبلوا ذلك فاعزل عنهم الحجّاج ومحمد بن مروان أمير العراق، وإن أبوا أن يقبلوا فالحجّاج أمير جماعة أهل الشام ووليّ القتال، ومحمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك في طاعته.
فلم يأت الحجّاج قطّ أمر كان أشدّ عليه ولا أغيظ له ولا أوجع لقلبه من هذا الأمر مخافة أن يقبلوا فيعزل عنهم. فكتب إلى عبد الملك:
« يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعى عنهم لا يلبثون إلّا قليلا حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلّا جرأة عليك. ألم تر وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على ابن عفّان؟ فلما سألهم: ما الذي تريدون؟ قالوا: نزع سعيد بن العاص. فلما نزعه، لم تتمّ لهم السنة حتى ساروا إليه، فقتلوه. إنّ الحديد بالحديد يقرع. وخار الله لك في ما ارتأيت والسلام. » فأبى عبد الملك إلّا عرض هذه الخصال على أهل العراق طلبا للعافية من الحرب. فلما اجتمعا مع الحجّاج خرج عبد الله بن عبد الملك فنادى أهل العراق وقال:
« أنا عبد الله بن أمير المؤمنين وهو يعطيكم كذا وكذا. » وذكر الخصال التي ذكرناها.
وقال محمد بن مروان:
« أنا رسول أمير المؤمنين إليكم وهو يعرض عليكم كذا وكذا. » وذكر هذه الخصال. فقالوا:
« نرجع العشيّة وننظر. » فرجعوا واجتمعوا عند ابن الأشعث، فلم يبق قائد ولا رأس ولا فارس إلّا أتاه.
ذكر رأي رءاه عبد الرحمن عند هذه الحال
لمّا اجتمع هؤلاء كلّهم عند ابن الأشعث حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
« أمّا بعد، أعطيتم اليوم أمرا انتهازكم إيّاه اليوم فرصة، ولا آمن أن يكون على
ذي الرأي غدا حسرة. وإنّكم اليوم على النصف، وإن كانوا اعتدّوا عليكم بالزاوية فأنتم تعتدّون عليهم بيوم تستر. فاقبلوا ما عرض عليكم وأنتم أعزّاء أقوياء، والقوم لكم هائبون وأنتم لهم منتقصون. فلا والله لا زلتم عليهم جرّاء وعندهم أعزّاء أبدا، إن قبلتم. » فوثب إليه الناس من كلّ جانب، فقالوا:
« إنّ الله قد أهلكهم، فأصبحوا في الأزل والضنك والمجاعة والقلّة والذلّة، ونحن ذوو العدد الكثير والسعر الرفيع والمادة القريبة. لا والله، لا نقبل. » فأعادوا خلعه ثانيا. وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم، أجمع من خلعهم إيّاه بفارس.
فرجع محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك إلى الحجّاج، فقالا:
« شأنك بعسكرك وجندك، فقد أمرنا أن نسمع لك ونطيع. » فقال الحجّاج:
« قد قلت لكما أنّه لا يراد بهذا الخلاف غيركما. » ثم قال:
« إنّما أقاتل لكما وسلطاني سلطانكما. » فكانوا إذا لقياه سلّما عليه بالإمرة، وكان أيضا يسلّم عليهما بالإمرة، وخلّياه والحرب، فتولّاها وبرزوا للقتال.
-
فجعل الحجّاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي، وعلى خيله سفيان بن الأبرد الكلبي، وعلى رجاله عبد الرحمن بن حبيب الحكمي. وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجّاج بن جارية الخثعمي، وعلى ميسرته الأبرد بن قرّة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمن بن العباس بن عامر الشعبي، وسعيد بن جبير، وأبو البختري الطائيّ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. فكانوا يتزاحفون كلّ يوم ويقتتلون. فأما أهل الكوفة والبصرة فتأتيهم موادّهم من السواد فهم في ما شاءوا من خصب. وأما أهل الشام ففي ضيق شديد قد غلب عليهم الأسعار وقلّ عندهم الطعام وفقدوا اللحم وكانوا كأنّهم في حصارهم وهم على ذلك يغادون أهل العراق ويراوحون فيقتتلون أشدّ القتال. وكان الحجّاج يدنى خندقه مرّة وهؤلاء أخرى.
فعبّى ذات يوم الحجّاج أصحابه وزحف فيها. وخرج ابن الأشعث في سبعة صفوف بعضها في أثر بعض وعبّى الحجّاج لكتيبة القرّاء التي فيها جبلة بن زحر ثلاث كتائب وعليهم الجرّاح بن عبد الله الحكمي، فأقبلوا نحوهم.
فتحدّث أبو يزيد السكسكي قال: أنا والله في الخيل التي عبّئت لجبلة بن زحر كلّ كتيبة تحمل حملة، فو الله ما استفضضناهم ولا شيئا منهم.
وقال أبو الزبير الهمداني: كنت في خيل جبلة بن زحر. فلمّا حمل علينا أهل الشام مرّة بعد مرّة نادانا عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه، فقال:
« يا معشر القرّاء، إنّ الفرار ليس بأحد من الناس أقبح منه بكم. إني سمعت عليّا - رفع الله درجته في الصالحين والشهداء والصدّيقين - يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون، إنّه من رأى عدوانا يعمل به ومنكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ونوّر قلبه باليقين. فقاتلوا المحلّين المبتدعين الذين قد جهلوا الحقّ فلا يعرفونه وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه. » وتكلّم أبو البختري بنحو من هذا الكلام وحضّ على قتالهم، وكذلك الشعبيّ، وسعيد بن جبير.
وقال جبلة:
« إذا حملتم عليهم فاحملوا حملة صادقة لا تردّوا فيها وجوهكم حتى تخالطوا صفّهم. » قال: فحملنا حملة بجدّ منّا في قتالهم وقوّة منّا عليهم. فضربنا الكتائب الثلاث حتى تكسّرت بعضها في بعض وتفرّقت. ثم مضينا حتى واقعنا صفّهم فضاربناهم حتى أزلناهم عنه. ثم انصرفنا، فمررنا بجبلة صريعا لا ندري كيف قتل.
قال: فهدّنا ذلك وجئنا فوقفنا موقفنا الذي كنّا به وإنّ قرّاءنا لمتوافرون ونحن نتناعى جبلة بن زحر، كأنّما فقد كلّ واحد منّا أباه أو أخاه، بل هو في ذلك الموطن كان أشدّ علينا فقدا.
فقال لنا أبو البختريّ:
« لا يستبيننّ عليكم قتل جبلة بن زحر، فإنّما كان كرجل منكم أتته منيّته ليومها، وكلّكم ذائق ما ذاق، ومدعوّ فمجيب. » قال: فنظرت في وجوه القرّاء، فإذا الكآبة على وجوههم بيّنة، وإذا ألسنتهم منقطعة، وإذا الفشل قد ظهر فيهم. فسرّ أهل الشام ما رأوا فينا، ثم نادونا:
« يا أعداء [ الله، ] قد هلكتم والله، وقتل الله طاغيتكم. » وقدم علينا، ونحن على تلك الحال، بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني، فشجّع الناس مقدمه وقالوا:
« هذا يقوم مقام جبلة. » فسمع هذا الكلام من بعضهم أبو البختري، فقال:
« قبحتم، إن كان كلّما قتل رجل واحد ظننتم أن قد أحيط بكم، فإن قتل الآن مصقلة ألقيتم بأيديكم وقلتم: لم يبق أحد نقاتل معه. ما أخلقكم أن يخلف رجاؤنا فيكم. » وكان قدم بسطام من الريّ.
قال أبو المخارق: قاتلناهم مائة يوم أعدّها عدّا لا يزيد يوما ولا ينقص يوما وما كنّا قطّ أجرأ عليهم ولا هم أهون علينا منهم في ذلك اليوم. وذلك أنّا قاتلناهم عامة يومنا أحسن القتال قاتلناهم قطّ ونحن آمنون من الهزيمة عالون القوم، إذ خرج سفيان بن الأبرد الكلبي في الخيل من ميمنة أصحابه حتى دنا من الأبرد بن قرّة التميمي وعلى ميسرة عبد الرحمن بن محمد. فو الله ما قاتله كبير قتال حتى انهزم. فأنكرها الناس منه، وكان شجاعا، ولم يكن الفرار له بعادة.
فطن الناس أنّه كان أو من وصولح على أن ينهزم بالناس. فلما فعلوا تقوّضت الصفوف من نحوه، وركب الناس رؤوسهم وأخذوا في كلّ وجه.
فصعد عبد الرحمن بن محمد المنبر، وأخذ ينادى الناس:
« إليّ إليّ، أنا محمد. » فأتاه عبد الله بن رزام الحارثي، فوقف تحت منبره في خيل له، وجاءه عبد الله بن ذؤاب السلمى في خيل له، فوقف قريبا منه وثبت حتى دنا منه أهل الشام، فأخذت نبالهم تحوزه. فقال:
« يا ابن رزام، احمل على هذه الرجّالة. » فحمل عليهم حتى أمعنوا. ثم جاءت خيل أخرى ورجّالة، فقال:
« احمل عليهم يا ابن ذؤاب. » فحمل عليهم حتى أمعنوا وثبت لا يبرح. ودخل أهل الشام العسكر، فصعد إليه عبد الله بن يزيد بن المغفّل الأزدي، فقال:
« انزل، فإني أخاف عليك إن لم تنزل أن تؤسر، ولعلّك إن انصرفت اليوم أن تجمع لهم جميعا في غد يهلكهم الله. » وكانت بنت عبد الله بن يزيد تحت عبد الرحمن بن محمد. فنزل وخلّى أهل العراق العسكر وانهزموا لا يلوون. ومضى عبد الرحمن مع أناس من أهل بيته.
فقال الحجّاج:
« أتركوهم، فليبتدروا ولا تتبعوهم. » ونادى المنادى:
« من رجع فهو آمن. » ورجع محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام بعد الوقعة، وخلّيا العراق والحجّاج.
دخول الحجاج الكوفة وجلوسه للناس
وجاء الحجّاج حتى دخل الكوفة وجلس للناس. فكان لا يبايعه أحد من أهل العراق إلّا قال:
« أتشهد أنّك قد كفرت؟ » فإذا قال: « نعم، » بايعه، وإلّا قتله.
فجاء رجل من خثعم، وكان معتزلا للناس جميعا من وراء الفرات. فسأله عن حاله فقال:
« ما زلت معتزلا وراء هذه النطفة منتظرا أمر الناس حتى ظهرت، فأتيت لأبايعك مع الناس. » فقال:
« أمتربّص؟ أتشهد أنّك كافر؟ » « بئس الرجل أنا إذا! إن كنت عبدت الله ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر. » قال:
« إذا أقتلك. » قال:
« فإن قتلتني، والله ما بقي من عمرى إلّا كظمء حمار، وإني لأنتظر الموت صباح مساء. » قال:
« اضربوا عنقه. » فلما ضربوا عنقه لم يبق أحد حوله من الحرس إلّا رحمه ورثى له من القتل.
قتله كميل بن زياد النخعي وما دار بينهما من كلام
ودعا بكميل بن زياد النخعي، وكان ركينا في الحرب حليما صاحب نجدة وحفاظ من أصحاب عليّ بن أبي طالب http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png، فقال:
« أنت المقتصّ من أمير المؤمنين عثمان؟ قد كنت أحبّ أن أجد عليك سبيلا. » فقال:
« والله ما أدري على أيّنا أنت أشدّ غضبا: عليه حين أقاد من نفسه، أم عليّ حين عفوت عنه؟ » فراجعه الحجّاج. فقال:
« أيها الرجل! لا تصرف عليّ أنيابك، ولا تتهدّم عليّ تهدّم الكثيب، ولا تكشر كشران الذئب. والله ما بقي من عمرى إلّا مثل ظمئ الحمار، فإنّه يشرب غدوة، ويموت عشيّة ويشرب عشيّة ويموت غدوة. اقض ما أنت قاض، فإنّ الموعد الله، وغدا الحساب. » فقال الحجّاج:
« فإنّ الحجّة عليك. » قال:
« إن كان القضاء إليك. » قال:
-
« اقتلوه! » فقتل رحمه الله.
وأتى برجل آخر من بعده طلبه الحجّاج. فقال الحجّاج:
« إني أرى وجه رجل ما أظنّه يشهد على نفسه بالكفر. » قال:
« أخادعى أنت عن نفسي؟ بلى أنا أكفر أهل الأرض، وأكفر من فرعون ذي الأوتاد. » فضحك الحجّاج وخلّى سبيله.
وتوفّى في هذه السنة المهلّب منصرفه من كسّ يريد مرو وأصابته الشوصة فدعا حبيبا ومن حضر من ولده فوصّاهم.
وصية المهلب إلى ولده حين حضرته الوفاة
قال:
« عليكم بتقوى الله، وصلة الرحم. اجمعوا أمركم ولا تختلفوا. تبارّوا لتجتمع أموركم. إنّ بنى الأمّ يختلفون وكيف ببني العلّات. وعليكم بالطاعة والجماعة، ولتكن أفعالكم أفضل من أقوالكم، فإني أحبّ الرجل أن يكون لعمله فضل على لسانه. واتّقوا الجواب وزلّة اللسان، فإنّ الرجل تزلّ قدمه فينتعش من زلّته، ويزلّ لسانه فيهلك. وآثروا الجود على البخل وأحبّوا العرب، واصطنعوا العرف. فإنّ الرجل تعده العدة فيموت دونك، فكيف الصنيعة عنده! عليكم في الحرب بالأناة والمكيدة، فإنّها أنفع من الشجاعة، وإذا كان [ اللقاء ]، ونزل القضاء. فإن أخذ رجل بالحزم وظهر على العدوّ، قيل: [ أتى ] الأمر من وجهه ثم ظفر. وإن لم يظفر بعد الأناة، قيل: ما فرّط ولا ضيّع، ولكنّ القضاء غالب.
وعليكم بقراءة القرآن وتعلّم السنن وآداب الصالحين. وإيّاكم والخفّة وكثرة الكلام في مجالسكم. اعرفوا حقّ من يغشاكم، فكفى بغدوّ الرجل ورواحه إليكم تذكرة له. وقد استخلفت عليكم يزيد. » فقال المفضّل:
« لو لم تقدّم يزيد لقدّمناه. » ومات المهلّب وصلّى عليه حبيب، ثم سار بالجند إلى مرو. فكتب يزيد إلى عبد الملك بوفاة أبيه واستخلافه إيّاه، فأقرّه الحجّاج. وذلك في سنة اثنتين وثمانين.
ذكر وقعة الحجاج وابن الأشعث بمسكن
لمّا انهزم ابن الأشعث من دير الجماجم، وتفرّق أصحابه حصل خلق منهم بالمدائن مع محمد بن أبي وقّاص وجماعة مع عبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي سمرة بن جندب. وخرج الحجّاج في آثارهم، فبدأ بالمدائن. فلمّا بلغ محمد بن سعد عبوره خرج مع أصحابه حتى لحق بابن الأشعث. وخرج إليه عبيد الله بن عبد الرحمن أيضا، واجتمع إليه الناس من كلّ أوب حتى عسكروا معه على دجيل بمسكن، وأتاه فلّ الكوفة، وتلاوم الناس على الفرار، وبايع أكثرهم بسطام بن مصلقة على الموت، وخندق عبد الرحمن على أصحابه، وبثق الماء من جانب، فوجّه القتال من وجه واحد.
وقدم عليه خالد بن حرير بن عبد الله القسري من خراسان في ناس كانوا معه من بعث الكوفة، فاقتتلوا خمس عشرة ليلة من شعبان أشدّ قتال حتى قتل زياد بن عثيم من أصحاب الحجّاج وكان على مسالحه، فهدّه ذلك وهدّ أصحابه. وعبّى أصحابه وحضّهم على القتال، وباكرهم بقاتل لم ير مثله قطّ. وجاءه عبد الملك بن المهلّب مجفّفا وقد كشفت خيل سفيان بن الأبرد.
فقال له الحجّاج:
« ضمّ إليك يا عبد الملك هذا النشر لعلّى أحمل عليهم. » ففعل، وحمل الناس من كلّ جانب، فانهزم أهل العراق أيضا وقتل أبو البختري الطائيّ وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وكانا قالا قبل أن يقتلا:
« إنّ الفرار كلّ ساعة لقبيح بنا. » فصبرا وأصيبا.
ومشى بسطام بن مصقلة في أربعة آلاف ممّن بايعوه على الموت، فهزم أهل الشام مرارا وكشفهم حالا بعد حال، ولم يكن الحجّاج يعرف إليهم طريقا إلّا الطريق الذي يلتقون فيه. فأتى بشيخ كان راعيا، فدلّه على طريق من وراء أجمة في الكرخ طوله ستّة فراسخ في ضحضاح من الماء. فبات الحجّاج الليلة وانتخب من جلد أهل الشام أربعة آلاف، وقال لقائدهم:
« ليكن هذا العلج أمامك وهذه خمسة آلاف درهم. فان أقامك على عسكرهم فادفع إليه المال، وإن كذبنا فاضرب عنقه. فإن رأيتهم فاحمل عليهم في من معك وليكن شعاركم: يا حجّاج يا حجّاج. » فانطلق القائد صلاة العصر، والتقى عسكر الحجّاج وعسكر ابن الأشعث حين فصل القائد بمن معه. فاقتتلوا إلى الليل، فانكشف الحجّاج من جهة بسطام بن مصقلة كما حكينا من أمره قبل، حتى عبر السّيب ودخل ابن الأشعث عسكره فانتهبه.
ذكر تكاسل كان من ابن الأشعث عاد بوبال عليه واتفاق محمود للحجاج
قيل لابن الأشعث:
« الرأي أن تتبعه ولا تنفّس عنه. » فقال:
« [ قد ] تعبنا ولحقنا نصب. » فرجع إلى عسكره، وألقى أصحابه السلاح وباتوا آمنين، في أنفسهم لهم الظفر، وهجم القوم عليهم نصف الليل يصيحون بشعارهم. فجعل الرجل من أصحاب ابن الأشعث لا يدرى أين يتوجّه، دجيل من يساره وجدلة أمامه ولها جرف منكر.
فكان من غرق أكثر ممن قتل. وسمع الحجّاج الصوت، فعبر السيب، وكان قد قطعه إلى عسكره، ثم وجّه خيله إلى القوم، فالتقى العسكران على ابن الأشعث، فانهزم في ثلاثمائة. فمضى على شاطئ دجلة حتى أتى دجيلا، فعبره في السفن وعقروا دوابّهم، وانحدر في السفن إلى البصرة. فدخل الحجّاج عسكره وقتل من وجد، حتى قتل أربعة آلاف، فيهم بسطام بن مصقلة وجماعة من أهل الشرف والصبر.
وخرج ابن الأشعث بمن معه من الفلّ منهزمين نحو سجستان فلمّا دخل كرمان تلقّاه عمرو بن لقيط وكان عامله عليها. فسأله نزلا، ونزل.
فقال له شيخ من عبد القيس يقال له معقل:
« والله، لقد بلغنا عنك يا بن الأشعث أنّك جبان في مواطنك. » فقال عبد الرحمن:
« ما جبنت، والله لقد دلفت إلى الرجال بالرجال، ولففت الخيل بالخيل، ولقد قاتلت وقاتلت راجلا، فما انهزمت، ولا تركت العرصة للقوم في موطن حتى لا أجد مقاتلا، ولا أرى معي مقاتلا، ولكني زاولت ملكا مؤجّلا. » ثم مضى ابن الأشعث بمن معه حتى فوّز في مفازة كرمان وخيل الشام تتبعه، ثم مضى حتى خرج إلى زرنج مدينة سجستان، وفيها رجل من بنى تميم كان استعمله عبد الرحمن عليها يقال له عبد الله بن عامر بن بنى مجاشع. فلمّا قدم عليه ابن الأشعث منهزما أغلق باب المدينة دونه، ومنعه دخولها. فأقام عبد الرحمن أيّاما رجاء افتتاحها ودخولها. فلمّا رأى أنه لا يصل إليها خرج حتى أتى بست، فكان استعمل عليها رجلا يقال له: عياض بن هميان السدوسي، فاستقبله وقال له:
« انزل. »
ذكر طمع عياض في ابن الأشعث
فجاء ابن الأشعث حتى نزل به وانتظر حتى غفل أصحاب عبد الرحمن، وتفرّقوا عنه وثب عليه، فأوثقه وأراد أن يأمن بها عند الحجّاج ويتخذ بها عنده مكانا، وقد كان رتبيل حين سمع بمقدم عبد الرحمن عليه استقبله في جنوده، وجاء حتى أحاط ببست، وبعث إلى البكريّ، والله، لئن آذيته بما يقذى عينه أو ضررته ببعض المضرّة، أو رزأته حبلا من شعر، لا أبرح العرصة حتى أستنزلك فأقتلك وجميع من معك، ثم أسبى ذراريّكم، وأقسّم بين الجند أموالكم، وأقتل من عاند منكم. » فأرسل إليه البكري أن:
« أعطنا أمانا على أنفسنا وأموالنا ونحن ندفعه إليك سالما وما كان له من مال موقّرا. »
فصالحه على ذلك وآمنهم. ففتحوا لابن الأشعث وخلّوا سبيله، فأتى رتبيل فقال له بعد ما أنس وتساءلا:
« هذا الرجل كان عاملي على هذه المدينة، وركب مني ما رأيت، فأذن لي في قتله؟ » قال:
« آمنته وأكره الغدر به. » فقال:
« فأذن لي في لهزه ودفعه والتصغير به. » فقال:
« أمّا هذا فنعم. » ففعل به عبد الرحمن، ثم مضى مع رتبيل حتى دخل بلاده، فأنزله رتبيل وأكرمه وعظّمه وكان معه ناس من الفلّ كثير.
-
ذكر ما اغتر به عبد الرحمن حتى فارق رتبيل ثم اضطر إلى معاودته
كان جماعة من أصحاب عبد الرحمن وعظم فلوله ممّن لم يقبلوا أمان الحجّاج وناصبوه في مواطنه لم يكن لهم عنده وجه، فاضطرّوا إلى الخروج في إثر عبد الرحمن، فلم يزالوا يتساقطون إلى نواحي سجستان حتى اجتمع منهم وممّن اتّبعهم من أهل البلد نحو من ستين ألفا. فنزلوا على عبد الله بن عامر، فحصروه وكتبوا إلى عبد الرحمن يخبرونه بعددهم وجماعتهم وهو عند رتبيل، وكان يصلّى بهم عبد الرحمن بن العبّاس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب، وكتبوا إليه أن:
« أقبل، لعلّنا نسير إلى خراسان، فإنّ بها منّا جندا عظيما، فلعلّهم يبايعوننا على قتال أهل الشام وهي بلاد واسعة عريضة فيها حصون. »
فخرج إليه عبد الرحمن بمن معه، فحصروا عبد الله بن عامر حتى استنزلوه، فأمر به عبد الرحمن، فضرب وعذّب وحبس. ثم إنّه توجّه إليهم خيل الشام، عليهم عمارة بن تميم اللخميّ.
ذكر آراء أشير بها على ابن الأشعث ورأى رءاه وحده سديد لو ساعدوه عليه
أشار أصحاب عبد الرحمن عليه أن يخرج عن سجستان، وقالوا له:
« هلمّ بنا، نأتى خراسان وندع لهم سجستان. » فقال عبد الرحمن:
« على خراسان يزيد بن المهلّب وهو شابّ شجاع صارم وليس بتارك سلطانه، ولو قد دخلتموها وجدتموه سريعا إليكم، ولن يدع أهل الشام اتّباعكم، فأكره أن يجتمع عليكم أهل خراسان وأهل الشام، وأخاف ألّا تنالوا ما تظنّون. » فقالوا:
« إنّما أهل خراسان منّا، ونحن نرجو أن لو دخلناها أن يكون من يتّبعنا منهم أكثر ممّن يقاتلنا، وهي أرض طويلة عريضة نتنحّى فيها حيث شئنا ونمكث حتى يهلك الله الحجّاج أو عبد الملك، أو نرى رأينا. » فقال لهم عبد الرحمن:
« سيروا على اسم الله. » فساروا حتى بلغوا هراة. فلم يشعروا بشيء حتى خرج من عسكره عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة بن جندب القرشيّ في ألفين، ففارقه وأخذ طريقا سوى طريقهم.
فلمّا أصبح ابن الأشعث خطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
« أمّا بعد، فإني قد شهدتكم في هذه المواطن، وليس منها مشهد لا أصبر لكم فيه نفسي حتى لا يبقى فيه منكم أحد، وقد كنت لمّا رأيتكم لا تصبرون ولا تصدقون القتال، أتيت ملجأ ومأمنا فكنت فيه. فجاءتني كتبكم بأن: أقبل إلينا فإنّا قد اجتمعنا وأمرنا واحد، لعلّنا نقاتل عدوّنا. فأتيتكم، فرأيتم أن أمضى إلى خراسان وزعمتم أنّكم مجتمعون لي، وأنّكم لن تتفرّقوا عني، فحسبي منكم يومي هذا. قد صنع عبيد الله ما قد رأيتم، فاصنعوا أنتم أيضا ما بدا لكم. أما أنا فمنصرف إلى صاحبي الذي أتيتكم من قبله. فمن أحبّ منكم أن يتبعني فليتبعني، ومن كره ذلك فليذهب حيث أحبّ في كنف الله. » فتفرّقت منهم طائفة ونزلت معه طائفة وبقي عظم العسكر. فوثبوا إلى عبد الرحمن بن عباس الهاشميّ لما انصرف ابن الأشعث، فبايعوه ثم مضى عبد الرحمن بن الأشعث إلى رتبيل ومضوا هم إلى خراسان حتى انتهوا إلى هراة، فلقيهم الرقاد بن عبيد العتكيّ، فقتلوه وخرج إليهم يزيد بن المهلّب، وأرسل إليهم وإلى الهاشميّ:
« قد كان لك في البلاد متّسع ومن هو أكلّ مني حدّا وأهون شوكة، فارتحل إلى بلد ليس [ لى ] فيه سلطان، فإني أكره قتالك. وإن أحببت أن أمدّك بمال لسفرك أعنتك عليه. » فأرسل إليه:
« ما نزلنا هذه البلاد لمحاربة ولا انتقام، ولكنّا أردنا أن نريح ثم نشخص إن شاء الله، وليست بنا حاجة إلى ما عرضت. » فانصرف رسول يزيد إليه، وأقبل الهاشميّ على الجباية وبلغ يزيد، فقال:
« من أراد أن يريح ثم يجتاز لم يجب الخراج. » فقدّم المفضّل في خمسة آلاف ثم أتبعه في أربعة آلاف.
ووزن يزيد نفسه بسلاحه، فكان أربعمائة رطل، فقال:
« ما أرانى إلّا قد ثقلت عن الحرب. أيّ فرس يحملني! » ثم دعا بفرسه الكامل، فركبه حتى أتى هراة، وأرسل إلى الهاشميّ:
« قد أرحت وأسمنت وجبيت، فلك ما جبيت، وإن أردت زيادة زدناك.
فاخرج، فو الله ما أريد أن أقاتلك. » فأبى إلّا القتال، ودسّ الهاشميّ إلى جند يزيد يمنّيهم ويعدهم إلى نفسه. فأخبر بعضهم يزيد، فقال:
« جلّ الأمر عن العتاب. أتغدّى بهذا قبل أن يتعشّى بي. » فسار إليه حتى تدانى العسكران وتأهّبوا للقتال، وألقى ليزيد كرسيّ، فقعد عليه، وولّى الحرب أخاه المفضّل، وقال له:
« قدّم خيلك. » فتقدّم بها وتهايجوا، فلم يكن بينهم كبير قتال حتى تفرّق الناس عن عبد الرحمن الهاشميّ، وصبر وصبرت معه طائفة من أهل الحفاظ، فكثرهم الناس، فانكشفوا. فأمر يزيد بالكفّ عن اتّباعهم، وأخذوا ما كان في عسكرهم، وأسروا منهم أسرى فيهم سعيد بن أبي وقّاص، وموسى بن عمر بن عبيد الله بن معمر، وعيّاش بن الأسود بن عوف الزهري، والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، ويزيد بن الحصين، وعبد الرحمن بن طلحة بن عبيد الله بن خلف، وعبد الله بن فضالة الزهراني. ولحق الهاشمي بالسند، وابن سمرة قصد مرو.
ثم انصرف يزيد إلى مرو، وبعث بالأسرى إلى الحجّاج مع ابن عمّ له، وخلّى عن ابن طلحة وعبد الله بن فضالة.
وسعى قوم عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة، فأخذه يزيد، وحبسه. فأمّا محمد بن سعد بن أبي وقّاص، فيقال: إنّه قال ليزيد:
« أسألك بدعوة أبي لأبيك. » ولقوله هذا حديث فيه طول.
ذكر ما تقدم به الأسرى عند الحجاج
لمّا قدم الأسرى على الحجّاج، قدّم موسى بن عمر بن عبد الله بن معمر، فقال:
« أنت صاحب عديّ الرحمن. » فقال:
« أصلح الله الأمير، كانت فتنة شملت البرّ والفاجر، فدخلنا فيها، وقد أمكنك الله منّا، فإن عفوت فبحلمك وبفضلك، وإن عاقبت، عاقبت ظلمة مذنبين. » فقال الحجّاج:
« أمّا قولك: شملت البرّ والفاجر فكذبت، ولكنّها شملت الفجّار وعوفي منها الأبرار، وأمّا اعترافك بذنبك فعسى أن ينفعك. » فعزل، ورجا له الناس العافية. حتى قدّم الهلقام بن نعيم، فقال له الحجّاج:
« أخبرني عنك، ما رجوت اتّباع عبد الرحمن بن محمد، أرجوت أن يكون خليفة؟ » قال:
« نعم، رجوت ذلك وطمعت أن ينزلني منزلتك من عبد الملك. » فغضب الحجّاج، وقال:
« اضربوا عنقه! » ونظر إلى موسى بن عمر بن عبد الله بن معمر وقد كان نحّى عنه، فقال:
« اضربوا عنقه! » وقتل، وقتل بقيّتهم.
كلام للشعبي لما حمل إلى الحجاج
كان الحجّاج لمّا هزم الناس نادى مناديه:
« من لحق بقتيبة بن مسلم بالريّ فهو أمانه. » فلحق ناس كثير بقتيبة وفيهم عامر الشعبيّ. فذكره الحجّاج يوما وقال:
« أين هو، وما فعل؟ » قال له يزيد بن أبي مسلم، وهو كاتب الحجّاج:
« بلغني أيها الأمير أنّه لحق بقتيبة. » فكتب الحجّاج إلى قتيبة أن يبعث إليه بالشعبى حين ينظر في كتابه. فسرّحه إليه.
قال الشعبي: كنت لابن أبي مسلم صديقا. فلمّا قدم بي على الحجّاج لقيته وقلت له:
« أشر عليّ. » قال:
« ما أدري ما أشير به عليك، غير أن: اعتذر ما استطعت من عذر. » فلمّا دخلت سلّمت بالإمرة ثم قلت:
« أيها الأمير إنّ الناس قد أمرونى أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق.
وأيم الله لا أقول في هذا المقام إلّا حقا. قد والله سوّدنا عليك، وخرجنا واجتهدنا عليك كلّ الجهد فما ألونا. فما كنّا بالفجرة الأقوياء، ولا بالبررة الأتقياء. ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرّت إلينا أيدينا، وإن عفوت عنّا فبحلمك. وبعد فالحجّة لك علينا. » فقال له الحجّاج:
« أنت والله أحبّ إليّ ممّن يدخل عليّ يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول: ما فعلت وما شهدت. قد أمنت عندنا يا شعبيّ. » قال: فانصرفت. فلما مشيت قليلا، قال:
« هلّم يا شعبيّ! » قال: فوجل لذلك قلبي، ثم ذكرت قوله: « قد أمنت ». فاطمأنّت نفسي. قال:
« كيف وجدت الناس بعدنا يا شعبيّ؟ » وكان لي مكرما. فقلت:
« أصلح الله الأمير، اكتحلت والله بعدك السهر، واستوعرت الجناب واستحلست الخوف وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفا. » قال:
-
« انصرف يا شعبيّ. » فانصرفت.
فيروز يمنع الحجاج أن ينال ماله
وقيل: إنّ الحجّاج لمّا أتى بالأسرى من عند يزيد بن المهلّب، قال لحاجبه:
« إذا دعوت بسيّدهم فأتنى بفيروز فأبرزوا سريره. » وهو حينئذ بواسط القصب، قبل أن تبنى مدينة واسط. ثم قال لحاجبه:
« جئني بسيّدهم. » فقال لفيروز:
« قم! »
فقال له الحجّاج:
« أبا عثمان ما أخرجك مع هؤلاء؟ فو الله ما لحمك من لحومهم، ولا دمك من دمائهم. » فقال:
« فتنة عمّت الناس فكنّا فيها. » فقال:
« أكتب لي أموالك. » قال:
« ثم ما ذا؟ » قال:
« أكتبها أوّل. » قال:
« ثم أنا آمن على دمى؟ » قال:
« أكتبها، ثم أنظر. » قال:
« أكتب يا غلام: ألف ألف، ألفي ألف. » حتى ذكر مالا عظيما. فقال الحجّاج:
« أين هي، وعند من هذه الأموال؟ » قال: [ « عندي. » قال:
« فأدّها. » قال:
« وأنا آمن على دمى؟ » قال:
« والله، لتؤدّينّها، ثم لأقتلنّك. » قال: ] « لا والله لا، جمعت مالي ودمى. » فقال الحجّاج للحاجب:
« نحّه! »
فنحّاه ثم أمر به فعذّب. وكان في ما عذّب به أن كان يشدّ عليه القصب الفارسيّ المشقّق، ثم يجرّ حتى تحزّز جسده، ثم ينضح عليه الخلّ والملح.
فلما أحسّ بالموت، قال لصاحب العذاب:
« إنّ الناس لا يشكّون أنّى قتلت. ولى ودائع أموال عند الناس لا تؤدّى إليكم أبدا. فأظهرونى للناس ليعلموا أنّى حيّ فيؤدّوا المال. » فأعلم الحجّاج فقال:
« أظهروه. » فأخرج، فصاح في الناس:
« من عرفني فقد عرفني، ومن أنكرنى فأنا فيروز الحصين. إنّ لي عند أقوام مالا. فمن كان لي عنده شيء فهو له وهو في حلّ فلا يؤدّينّ أحد منه درهما. ليبلغ الشاهد الغائب. » فأمر به الحجّاج فقتل.
ذكر خديعة للحجاج ظن الناس بها أنه آمنهم حتى قتلهم
كان الحجّاج أمر مناديا فنادى عند الهزيمة يوم الزاوية:
« ألا لا أمان لفلان ولا لفلان. » سمّى رجالا من الأشراف ولم يقل: الناس آمنون. فقال الناس:
« قد آمن الناس كلّهم إلّا هؤلاء النفر. » فأقبلوا إلى حجرته. فلما اجتمعوا أمرهم بوضع أسلحتهم، ثم قال:
« لآمرنّ بكم اليوم رجلا ليس بينه وبينكم قرابة. » فأمر بهم عمارة بن تميم اللخميّ، ففرّقهم وقتلهم.
فروى النضر بن شميل عن هشام بن حسّان أنّه قال يوما: قتل الحجّاج صبرا مائة ألف وعشرين ألفا، أو مائة ألف وثلاثين ألفا، منهم يوم الزاوية أحد عشر ألفا، ما استبقى منهم إلّا رجلا واحدا كان ابنه في الكتّاب مع ابن الحجّاج، فدعا الصبيّ وقال:
« أهبه لك »، قال:
« نعم. » فخلّى سبيله.
ذكر هلاك عبد الرحمن بن الأشعث ورأي لبعض أصحابه صحيح
كان مع عبد الرحمن بن الأشعث لمّا انصرف من هراة راجعا إلى رتبيل، رجل من أود يقال له: علقمة بن عمرو. فقال له:
« إني ما أريد أن أدخل معك. » قال له عبد الرحمن:
« ولم؟ » قال:
« لأنّى أتخوف عليك وعلى من معك. » قال:
« وكيف؟ » قال:
« والله لكأنّى بكتاب من الحجّاج قد جاء فوقع إلى رتبيل يرغبه ويرهبه، فإذا هو قد بعث بك سلما أو قتلك ومن معك. ولكن هاهنا خمسمائة رجل قد تبايعنا على أن ندخل مدينة فنتحصّن فيها ونقاتل حتى نعطى أمانا، أو نموت كراما. » فقال عبد الرحمن:
« كلّا، فادخل معي، فإني أواسيك وأكرمك. » فأبى عليه. ودخل عبد الرحمن إلى رتبيل وخرج هؤلاء الخمسمائة. فبعثوا عليهم مودودا البصريّ. فأقاموا حتى قدم عليهم عمارة بن تميم اللخميّ، فحاصرهم، فقاتلوه، وامتنعوا منه حتى آمنهم. فخرجوا إليه، فوفى لهم.
وتتابعت كتب الحجّاج إلى رتبيل في عبد الرحمن أن:
« ابعث به إليّ، فو الله لأوطينّ أرضك ألف ألف مقاتل. » وكان عمارة قد انتهى إلى سجستان في ثلاثين ألفا، وكان عند رتبيل رجل من تميم من بنى يربوع يقال له: عبيد بن أبي سبيع، وكان مع ابن الأشعث، فخصّ برتبيل، وكان قديما رسول ابن الأشعث فخفّ عليه. فلمّا رأى رتبيل لا يسلم ابن الأشعث خلا به وخوّفه الحجّاج، وقال:
« أنا آخذ لك من الحجّاج عقدا ليكفّنّ الحجّاج عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه ابن الأشعث. » فقال رتبيل:
« فإني أفعل. » فكاتب الحجّاج وأعلمه أنّ رتبيل لا يعصيه وأنّه يتوصّل له إلى أخذ ابن الأشعث، وأخذ من الحجّاج مالا، وخرج إلى عمارة بن تميم، فاستجعل منه ألف ألف درهم، وأخذ من رتبيل أيضا مالا، واشترط لرتبيل ألّا يغزى بلاده عشر سنين، وأن يؤدّى بعد العشر سنين في كلّ سنة تسعمائة ألف درهم. فأعطى هو وابن أبي سبيع، وأرسل رتبيل إلى ابن الأشعث، فأحضره وثلاثين من أهل بيته وقد أعدّ لهم الجوامع والقيود، فألقى في عنقه جامعة، وفي عنق أخيه القاسم بن محمد بن الأشعث جامعة، وأرسل بهم إلى أدنى مسلحة عمارة منه. وقال لجماعة من كان مع ابن الأشعث:
« تفرّقوا إلى حيث شئتم. » ولمّا قرب ابن الأشعث من عمارة، ألقى نفسه من فوق قصر، فمات واحتزّ رأسه، فأتى به وبالأسرى عمارة فضرب أعناقهم، وأرسل برأس الأشعث وبرؤوس أهله إلى الحجّاج، فأرسل به الحجّاج إلى عبد الملك، فأرسل به عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز وهو يومئذ على مصر.
فحكى ابن عائشة: انّه لمّا أتى عبد الملك برأس ابن الأشعث، أرسل به مع خصيّ له إلى امرأة من بنات عمر بن الأشعث كانت تحت رجل من قريش. فلمّا وضع بين يديها نهضت إليه وقالت:
« مرحبا برأس لا يتكلّم، ملك ابن ملوك، طلب ما هو أهله، فأبت المقادير. » فذهب الخصيّ ليأخذ الرأس واجتذبته من يده وقالت:
« لا والله حتى أبلغ حاجتي منه. » ثم دعت بخطميّ فغسلته وغلّفته، ثم قالت:
« شأنك به الآن. » فأخذه. ثم أخبر عبد الملك، فلما دخل عليه زوجها قال له:
« إن استطعت أن تصيب منها سحلة. »
ذكر سبب عزل يزيد بن المهلب عن خراسان
كان الحجّاج يهاب ناحية يزيد بن المهلّب بعد فراغه من عبد الرحمن بن محمد ويعرف منزلته من عبد الملك فيخشاه على موضعه وقد كان أذلّ أهل العراق كلّهم، إلّا آل المهلّب، فأكثر على عبد الملك في شأن يزيد بن المهلّب، وخوّفه غدره وعيّره، فإنّه وأهل بيته زبيريّون.
فكتب إليه عبد الملك:
« قد أكثرت في معنى يزيد، وإنّ الذي دعا آل المهلّب إلى الوفاء لابن الزبير هو الذي يدعوهم إلى الوفاء لي. » وبلغ يزيد بن المهلّب ما يريد الحجّاج. فكان يكثر الغزوات ويعتلّ على الحجّاج إذا استقدمه أنّه بإزاء عدوّ وحروب. إلى أن أذن عبد الملك في عزل يزيد وتقليد قتيبة بن مسلم خراسان.
فكتب الحجّاج إلى يزيد بن المهلّب أن:
« استخلف أخاك المفضّل. » وكتب إلى المفضّل بولاية خراسان. فجعل المفضّل يستحثّ يزيد. فقال له يوما يزيد:
« يا أخي، إنّ الحجّاج لا يقرّك بعدي، وإنما دعاه [ إلى ] ما صنع مخافة أن أمتنع عليه. » قال:
« بل حسدتني. » قال يزيد:
-
« أنا أحسدك يا بن بهلة؟ ستعلم. » وقد كان يزيد قال لنصحائه:
« من ترون الحجّاج يولّى خراسان؟ » قالوا:
« رجلا من ثقيف. » قال:
« كلّا، ولكنّه يكتب إلى رجل منكم بعهده. فإذا قدمت عليه عزله، فولّى رجلا من قيس، وأخلق بقتيبة. » قال: فلمّا قال له أخوه ما قال وولّاه الحجّاج بعد يزيد تيقّن يزيد ما كان يظنّه قبل ذلك. فاستشار الحصين بن المنذر، فقال له:
« أقم واعتلّ، فإنّ أمير المؤمنين حسن الرأي فيك، وإنّما أتيت من قبل الحجّاج، فإن أقمت رجوت أن يكتب إليه بإقرارك. » قال يزيد:
« إنّا أهل بيت بورك لنا في الطاعة، وأنا أكره المعصية والخلاف. » فقال الحصين بن المنذر:
أمرتك أمرا حازما فعصيتني ** فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
فما أنا بالباكى عليك صبابة ** وما أنا بالدّاعى لترجع سالما
فلمّا قدم قتيبة خراسان، قال لحصين:
« كيف قلت ليزيد؟ » قال: قلت له:
أمرتك أمرا حازما فعصيتني ** فنفسك ولّ اللّوم إن كنت لائما
فإن يبلغ الحجّاج أن قد عصيته ** فإنّك تلقى أمره متفاقما
قال:
« فما ذا أمرته فعصاك؟ » قال:
« أمرته ألّا يدع صفراء ولا بيضاء إلّا حملها إلى الأمير. » فقال رجل لعباط بن الحصين:
« أمّا أبوك فوجده قتيبة حين فرّه قارحا بقوله: أمرته ألّا يدع صفراء ولا بيضاء إلّا حملها إلى الأمير. » فكان عزل يزيد عن خراسان وخروج قتيبة إليها في سنة خمس وثمانين، وذلك أنّه لمّا حصل يزيد عند الحجّاج عزل المفضّل وولّى قتيبة.
وفي هذه السنة قتل موسى بن عبد الله بن خازم بالتّرمذ
ذكر السبب في ذلك
كنّا ذكرنا ما كان من عبد الله بن خازم من قبل مع بنى تميم. فتفرّق عنه عظم من كان معه منهم، فخرج إلى نيسابور، وخاف بنى تميم على ثقله بمرو، فقال لابنه موسى:
« حوّل ثقلي من مرو، واقطع نهر بلخ حتى تلجأ إلى حصن تثق به فتقيم فيه. » فشخص موسى في مائتين وعشرين فارسا من الصعاليك، فصار في أربعمائة وانضمّ إليه رجال من بنى سليم، فقطع النهر وأتى بخارى فسأل صاحبها أن يلجأ إليه فأبى وخافه وقال:
« رجل فاتك وأصحابه مثله طالبو حرب وشرّ، ولا آمنهم. » فبعث إليهم بصلة من عين ودوابّ وكسوة، فنزل على عظيم من عظماء بخارى في نوقان، فقال له الرجل:
« إنّه لا خير لك في المقام وهم لا يأمنونك. » فخرج يلتمس ملكا يلجأ إليه أو حصنا. فلم يأت بلدا إلّا كرهوا مقامه فيهم، وسألوه أن يخرج عنهم حتى أتى سمرقند وصاحبها طرخون. فأنزله وأكرمه.
فجرى بينهما ما استوحش منه طرخون، فقال له:
« لولا أنّى أعطيتكم الأمان لقتلتكم، فاخرجوا عن بلدي. » ووصله وأخرجه. فخرج موسى وأتى كسّ. فكتب صاحب كسّ إلى طرخون يستنصره. فأتاه فخرج إليه موسى في سبعمائة، فقاتلهم حتى أمسوا وتحاجزوا وبأصحاب موسى جراح كثير.
فلمّا أصبحوا أمرهم موسى فحلقوا رؤوسهم كما تصنع الخوارج، وقطعوا صفنات أقبيتهم كما تصنع العجم إذا استماتوا، ودسّ إلى طرخون زرعة بن علقمة، فقال:
« إنّ القوم مستقبلون، فما حاجتك إلى أن تقتل من لا تصل إليه حتى يقتل من أصحابك عدّتهم، ولو قتلته وإيّاهم جميعا ما نلت حظّا، لأنّ له قدرا في العرب، فلا يلي أحد خراسان إلّا طالبك بدمه، فإن سلمت من واحد لا تسلم من آخر. » قال:
« ليس إلى ترك كسّ عليه سبيل. » قال:
« فكفّ عنه حتى يرتحل. » فكفّ عنه. وأتى موسى الترمذ وبها حصن يشرف على النهر. فنزل موسى على بعض الدهاقين خارجا من الحصن، والدهقان مجانب لترمذ شاه. فقال لموسى:
« إنّ صاحب الترمذ متكرّم شديد الحياء، فإن ألطفته وهاديته أدخلك حصنه. » فأهدى له وألطفه موسى حتى لطف الذي بينهما. وخرج فتصيّد معه وكثر ألطاف موسى له. فصنع يوما صاحب الترمذ طعاما، وأرسل إليه:
« إني أحبّ أن أكرمك، فتغدّ عندي، وائتني في مائة من أصحابك. » فانتخب موسى مائة من أصحابه، فدخلوا على خيولهم، فقيل لهم:
« انزلوا. » فنزلوا، وأدخلوا بيتا خمسين في خمسين، وغدّوهم. فلمّا فرغوا من الغداء اضطجع موسى. فقالوا له:
« اخرج. » قال:
« لا أصيب منزلا مثل هذا. فلست بخارج منه حتى يكون بيتي أو قبرى. » وقاتلوهم في المدينة. فقتل خلق من أهلها وهرب الآخرون. فدخلوا منازلهم وغلب موسى على المدينة وقال لترمذشاه:
« اخرج، فإني لست أعرض لك ولا لأحد من أصحابك. » فخرج الملك وأهل المدينة، فأمّوا الترك يستنصرونهم. فقالوا:
« دخل عليكم مائة رجل فأخرجوكم عن بلادكم، وقد قاتلناهم بكسّ، فعرفناهم، فنحن لا نقاتل هؤلاء. » وأقام ابن خازم بالترمذ، ودخل إليه أصحابه، وكانوا سبعمائة. فلمّا قتل أبوه انضمّ إليه من أصحاب أبيه أربعمائة فارس، فقوى، فكان يخرج ويغير على من حوله. فراسله الترك بقوم ليعلموا ما الذي يريد، ويتقرّر أمورهم على صلح، ويكفّوا عن الغارة.
فلمّا قدموا قال موسى لأصحابه:
« إنّ هؤلاء يسمّونكم جنّا وأريد أن أكيدهم بمكيدة، وذلك في أشدّ ما يكون من زمان الحرّ. »
ذكر مكيدة ضعيفة تمت على قوم أغتام
ثم أمر موسى بنار، فأجّجت، وألبس أصحابه ثياب الشتاء، ولبسوا فوقها لبودا، ومدّوا أيديهم إلى النار كأنّهم يصطلون، وأذن موسى للترك، فدخلوا. فلمّا رأوهم على تلك الحال فزعوا وقالوا:
« ما هذا، ولم صنعتم ما نرى؟ » قالوا:
« إنّا نجد البرد في هذا الوقت ونجد الحرّ في الشتاء. » فلمّا رجعوا أخبروا أصحابهم، فقالوا:
« هذا صنيع الجنّ، ولا خير في قتال هؤلاء، والرأي مقاربتهم. » ولمّا ولى بكير بن وساج خراسان لم يعرض له ولم يوجّه إليه أحدا.
ثم قدم أميّة، فسار بنفسه يريده. فخالفه بكير وخلع ورجع إلى مرو، كما حكينا في ما تقدّم. فلمّا صالح أميّة بكيرا وحال الحول، وجّه إلى موسى رجلا من خزاعة في جمع كثير. فعاد أهل الترمذ إلى الترك، فاستنصرهم، وقالوا:
« نجتمع عليهم مع من غزاهم منهم فنظفر بهم. » فسارت الترك مع أهل الترمذ في جمع كثير، فأطاف بموسى الترك والخزاعيّ.
فكان يقاتل الخزاعيّ أوّل النهار والترك آخره. فقاتلهم ثلاثة أشهر على ذلك.
ثم قال موسى لعمرو بن خالد بن حصن الكلبي، وكان فارسا:
-
« قد طال أمرنا هؤلاء، وقد أجمعت أن أبيّت عسكر الخزاعيّ، فإنّهم للبيات آمنون، فما ترى؟ » قال:
« البيات نعمّا هو، فليكن ذلك بالعجم، فإنّ العرب أشدّ حذرا وأسرع فزعا وأجرأ على الليل من العجم. » فعمل موسى على بيات الترك. فلمّا ذهب الليل ثلثه خرج في أربعمائة، وقال لعمرو بن خالد:
« اخرجوا بعدنا وكونوا قريبا، فإذا سمعتم التكبير فكبّروا. » وأخذ على شاطئ النهر حتى ارتفع فوق العسكر. ثم أخذ من ناحية كفنان.
فلمّا قرب من عسكرهم جعل أصحابه أرباعا. ثم قال:
« أطيفوا بعسكرهم، فإذا سمعتم تكبيرنا فكبّروا. » وأقبل وقدّم حمرا بين يديه ومشوا خلفه. فلمّا رءاهم أصحاب الأرصاد قالوا:
« من أنتم؟ » قالوا:
« عابروا سبيل. » فقال لهم صاحب الرصد:
« جوزوا. » فلمّا جازوا الرصد تفرّقوا وأطافوا بالعسكر وكبّروا، فلم يشعر الترك إلّا بوقع السيوف. فثاروا، وأقبل بعضهم يقتل بعضا. ثم ولّوا وحووا عسكرهم وأصابوا سلاحا ومالا، وأصبح الخزاعيّ وأصحابه وقد كسرهم ذلك وخافوا مثلها من البيات، فتحرّزوا.
ذكر مكيدة لعمرو بن خالد
فقال عمرو بن خالد لموسى:
« إنّك لا تظفر إلّا بمكيدة، وأرى لهم أمدادا فهم يكثرون. فتناولني بضرب فلعلّى أصيب من صاحبهم فرصة فأقتله ويتفرّق عنك هؤلاء الجمع. » فقال له:
« تتعجّل الضرب، ثم تتعرض للقتل. » قال:
« أمّا القتل فأنا متعرّض له في كلّ يوم، وأمّا الضرب فما أيسره في جنب ما أريد. » فتناوله بالضرب، ضربه خمسين سوطا، فخرج من عسكره موسى، فأتى عسكر الخزاعيّ مستأمنا، وقال:
« أنا رجل من أهل اليمن، كنت مع عبد الله بن خازم. فلمّا قتل أتيت ابنه، فلم أزل معه. فلمّا قدمت اتّهمنى وتنكّر لي، ثم تغضّب عليّ وقال: أنت عين له، فضربني ولم آمن القتل وقلت: ليس بعد الضرب إلّا القتل، فهربت منه. » فآمنه الخزاعيّ، وأقام معه إلى أن دخل يوما وهو خال، ولم ير عنده سلاحا، فقال له كأنّه يتنصّح له:
« إنّ مثلك في مثل حالك لا ينبغي أن يكون في حال من أحواله بغير سلاح. » فقال:
« إنّ معي سلاحا. » ورفع صدر فراشه، وإذا سيف منتضى. فتناوله عمرو فضربه به حتى قتله.
وخرج فركب فرسه ونذر به الناس وقد أمعن. فطلبوه، ففاتهم ورجع إلى موسى، وتفرّق ذلك الجيش وأتى بعضهم موسى مستأمنا، فآمنه.
ولم يوجّه إليه أميّة أحدا إلى أن قدم المهلّب، فلم يعرض له ووصّى بنيه، فقال:
« إيّاكم وموسى، فإنّكم لا تزالون ولاة هذا الثغر ما أقام هذا الرجل بمكانه، فإنّ قتل كان أوّل طالع عليكم أميرا على خراسان رجل من قيس. » فمات المهلّب، وولّى يزيد فلم يعرض له.
وكان المهلّب ضرب حريث بن قطبة الخزاعيّ، فخرج هو وأخوه ثابت إلى موسى. فلمّا ولى يزيد بن المهلّب أخذ أموالهما وحرمهما، وقتل أخا لأمّهما يقال له الحارث بن منقذ. فبلغهما صنيع يزيد، وكان ثابت محبّبا في العجم بعيد الصوت فيهم يعظّمونه ويثقون به، حتى إنّهم كانوا يحلفون بحياته فلا يكذبون.
فخرج ثابت إلى طرخون، فشكا إليه ما صنع به، فغضب له طرخون، وجمع له نيزك والسّيل وأهل بخارى والصغانيان، فقدموا مع ثابت إلى موسى بن عبد الله وقد سقط إلى موسى فلّ عبد الرحمن بن عباس القرشي من هراة وفلّ ابن الأشعث من العراق وغيرهم.
فاجتمع إلى موسى ثمانية آلاف من تميم وقيس وربيعة واليمن. فقال له ثابت:
« سر حتى تقطع النهر، فتخرج يزيد بن المهلّب من خراسان ونولّيك، فإنّ طرخون ونيزك والسيل وأهل بخارى معنا. » فهمّ أن يفعل، فقال له نصحاؤه:
« إنّ ثابتا وأخاه خائفان من يزيد، وإن أخرجت يزيد عن خراسان تولّيا الأمر وغلباك على خراسان، فأقم بمكانك. » فقبل رأيهم، وأقام بالترمذ وقال لثابت:
« إن أخرجنا يزيد قدم عامل عبد الملك ولكنّا نخرج عمّال يزيد من وراء النهر ما يلينا، ونحصّل لنا ما وراء النهر فنأكلها. » ورضى ثابت، وأخرج عمّال يزيد من وراء النهر، وحملت إليهم الأموال، فقوى أمرهم.
وانصرف طرخون ونيزك والسيل وأهل بخارى إلى بلادهم وتدبير الأمر كلّه لثابت وحريث، والأمير موسى ليس له غير الاسم. فألحّ أصحاب موسى عليه في الفتك بثابت وحريث، فأبى وقال:
« ما كنت لأغدر بهم. » فبيناهم على ذلك إذ أخرجت عليهم الهياطلة والتبّت والترك في سبعين ألفا لا يعدّون الحاسر ولا صاحب بيضة جمّاء إلّا أن تكون البيضة ذات قونس.
فخرج موسى لقتالهم إلى ربض المدينة، ووقف ملك الترك على تلّ في مائة ألف.
فقال موسى لأصحابه:
« إن أزلتم هؤلاء، فليس الباقون بشيء. » فقصد لهم حريث، وألحّ عليهم حتى أزالهم عن التلّ، ورمى حريث في جبهته بنشّابة. ثم بيّتهم موسى، وحمل أخوه خازم بن عبد الله بن خازم حتى وصل إلى شمعة ملكهم، فقتله وقتل العجم قتلا ذريعا، ونجا من نجا منهم بشرّ. ومات حريث بعد يومين، وحملوا الرؤوس إلى الترمذ، فبنوا من تلك الرؤوس جوسقين.
فقال أصحاب موسى:
« وقد كفيت أمر حريث، فأرحنا من أمر ثابت. » فأتى وبلغ ثابتا بعض ما يخوضون فيه، فدسّ غلاما كان في خدمة موسى وأعطاه مالا وقال له:
« إيّاك أن تتكلّم بالعربيّة، وإن سألوك: من أنت؟ فقل: من سبى باميان. » فكان الغلام ينقل إلى ثابت خبرهم إلى أن واقفوا يوما موسى على الفتك بثابت. فقال موسى:
« قد أكثرتم، وفيه هلاككم، فعلى أيّ وجه تفتكون به وأنا لا أغدر به؟ » فقال نوح بن عبد الله بن خازم:
« إذا غدا إليك غدوة عدلنا به إلى بعض الدور فضربنا عنقه فيها قبل أن يصل إليك. » فقال:
« أما والله، إنّه لهلاككم. » فخرج الغلام، فأعلمه، فخرج من تحت ليلته، وأصبحوا وقد ذهب وفقد الغلام.
فعلموا أنّه كان عينا له عليهم، وخرج إلى ثابت قوم، فقصد خشوان. فقال موسى:
« قد فتحتم على أنفسكم بابا فسدّوه. » وسار إليه موسى، وراسل ثابت طرخون، فأقبل معينا له، وبلغ موسى مجيء طرخون، فرجع إلى الترمذ، وصار ثابت في ثمانين ألفا، فحصروا موسى وقطعوا عنه المادة حتى جهدوا. فلما اشتدّ عليهم الحصار، قال يزيد بن هذيل:
« إنّما مقام هؤلاء مع ثابت، والله أفتكنّ بثابت، أو لأموتنّ، فالقتل أحسن من الموت جوعا. » فخرج إلى ثابت مستأمنا، فقال ظهير لثابت:
« أنا أعرف بهذا منك، والله ما أتاك رغبة فيك، ولا جزعا منك، ولقد جاءك بغدرة، فخلّنى وإيّاه. » فقال:
« ما كنت لأقدم على رجل أتانى لا أدري أكذلك هو أم لا. » قال:
« فدعني أرتهن منه رهنا. » قال:
« أمّا هذا فنعم. » فقال ثابت ليزيد بن هذيل:
-
« أمّا أنا فواثق بك وابن عمّك أعلم بك مني، فانظر ما يقول لك. » فقال يزيد لظهير:
« أبيت يا با سعيد إلّا حسدا. ما يكفيك ما ترى من الذلّ، تشرّدت عن العراق عن أهلى، وصرت بخراسان على ما ترى، أما يعطفك الرحم؟ » فقال له ظهير:
« أما والله، لو تركت ورأيي فيك لما كان هذا، ولكن أرهنّا ابنيك قدامة والضحّاك. » فدفعهما، فكانا في يدي ظهير. فأقام يزيد يلتمس غرّة ثابت، فلا يجدها حتى مات ابن لزياد القصير الخزاعي، أتاه نعيه من مرو. فخرج ثابت متفضّلا إلى زياد ليعزّيه ومعه ظهير وطائفة من أصحابه وفيهم يزيد بن هذيل وقد تقدّم ظهير في أصحابه، فدنا من ثابت وضربه، فعضّ السيف برأسه، فوصل إلى الدماغ، ورمى يزيد بنفسه في نهر الصغانيان، فنجا سباحة، وحمل ثابت إلى منزله.
فلمّا أصبح طرخون أرسل إلى ظهير:
« ائتني بابني يزيد. » فأتاه بهما فقتلهما. وكان يزيد بن هذيل سخيّا شجاعا شاعرا، وعاش ثابت سبعة أيّام، ثم مات، وقام بأمر العجم طرخون، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت قياما ضعيفا وانتشر أمرهم، وأجمع موسى على بياتهم. فجاء رجل فأخبر طرخون، فضحك وقال:
« موسى يعجز أن يدخل متوضّأه، فكيف يبيّتنا، لقد طار قلبك، لا يحرسنّ الليلة أحد العسكر. » فلمّا ذهب من الليل ثلثه خرج موسى في ثلاثمائة، وأخوه في ثلاثمائة، ويزيد بن هذيل في ثلاثمائة، ورقبة بن الحرّ في ثلاثمائة، وقال لهم:
« تفرّقوا أرباعا حتى تدخلوا عسكرهم من أربع نواحي، ولا يمرّ أحد منكم بشيء إلّا ضربه. » فدخلوا عسكرهم من النواحي لا يمرّون بدابّة ولا رجل ولا خباء، ولا جوالق إلّا ضربوه، وهجم نوح بن عبد الله بن خازم على سرادق طرخون.
فبرز إليه فتجاولا، وطعن طرخون فرس نوح في خاصرته فشبّ ودلّى بنوح حتى سقط في نهر الصغانيان، وراسل طرخون موسى:
« كفّ أصحابك، فإنّا نرتحل إذا أصبحنا. » فرجع موسى إلى عسكره، وارتحل طرخون وجميع من معه، فأتى كلّ قوم بلادهم.
فكان أهل خراسان يقولون:
« ما رأينا قطّ مثل موسى بن عبد الله بن خازم، ولا سمعنا به، قاتل مع أبيه سنتين، ثم خرج يسير في بلاد خراسان، حتى أتى ملكا، فغلبه على مدينته، ثم سار إليه الجنود من العرب والعجم والترك. » فكان يقاتل العرب في أول النهار والعجم آخر النهار، وأقام في حصنه خمس عشرة سنة، وصار ما وراء النهر لموسى لا يعازّه فيه أحد.
فلمّا ولى المفضّل خراسان أخرج عثمان بن مسعود من الحبس، وقال:
« إني أريد أن أوجّهك إلى موسى بن عبد الله. » قال:
« والله، لقد وترني، وإني لثائر بابن عمّى ثابت وما يد أبيك وأخيك عندي وعند أهل بيتي بالحسنة، لقد حبستمونى، وشرّدتم بنى عمّى، واصطفيتم أموالهم. » فقال له المفضّل:
« دع عنك هذا، وسر، فأدرك بثأرك. »
فوجّهه في ثلاثة آلاف، وقال له:
« مر مناديا فليناد: من لحق بنا فله ديوان. » فنادى بذلك في السوق، فتسارع الناس، وكتب المفضّل إلى أخيه مدرك وهو ببلخ أن يسير معه. فنزل عثمان جزيرة بالترمذ يعرف اليوم بجزيرة عثمان، في خمسة عشر ألفا، وكتب إلى السّيل وطرخون، فقدموا عليه، وحصروا موسى، فضيّقوا عليه وعلى أصحابه، وخندق عثمان وحذر البيات، فلم يقدر موسى منه على غرّة، فقال يوما لأصحابه:
« حتى متى؟ أخرجوا بنا، فاجعلوه يومكم، إمّا ظفرتم وإمّا قتلتم. » وقال لهم:
« اقصدوا للصّغد والترك. » وخلّف النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم في المدينة وقال له:
« إن قتلت فلا تسلمنّ المدينة إلى عثمان، بل ادفعها إلى مدرك بن المهلّب. » وخرج، وصيّر بإزاء عثمان قوما من أصحابه وقال:
« لا تهايجوه حتى يقاتلكم. » وقصد لطرخون، فصدقه، فانهزم طرخون والترك، وأخذوا عسكرهم، فجعلوا ينقلونه، وكرّت الصغد والترك راجعة، فحالوا بين موسى وبين الحصين، فقاتلهم، فعقر به، فسقط، فنادى مولى له:
« احملنى ويحك. » فقال:
« الموت كريه، ولكن ارتدف فإن نجونا نجونا معا، وإن هلكنا هلكنا معا. »
فارتدف ونظر إليه عثمان حين وثب، فقال:
« وثبة موسى وربّ الكعبة. » فخرج من الخندق، وحمل وكشف أصحاب موسى، وقصد لموسى، فعثرت دابّة موسى، فسقط هو ومولاه، فابتدروه فقتلوه وبقيت المدينة في يد النضر، فدفعها إلى مدرك وآمنه، وكتب المفضّل بالفتح إلى الحجّاج، وذلك في سنة خمس وثمانين.
ثم دخلت سنة ست وثمانين
وفيها مات عبد الملك بن مروان. فكانت خلافته ثلاث عشرة سنة وخمسة أشهر.
أسماء وزراء عبد الملك بن مروان وما نقل إلينا من آرائهم وتدابيرهم التي يليق ذكرها بهذا الكتاب قبيصة بن ذؤيب
كان يكتب لعبد الملك قبيصة بن ذؤيب الخزاعيّ، ويكنّى أبا إسحق، وكان خاصّا به، وكان يتولّى ديوان الخاتم. وبلغ من لطافة محلّه منه أنّ الكتب الواردة على عبد الملك كان يقرأها قبيصة قبل أن تصل إلى عبد الملك، ثم يدخل بها إليه مفضوضة الختم فيقرأها.
وكان مروان عهد إلى أخيه عبد العزيز بعد عبد الملك، فهمّ عبد الملك، لمّا تمكّن واستقام أمره، بخلعه والعقد لابنيه الوليد وسليمان، فنهاه قبيصة بن ذؤيب كاتبه، وقال:
« انتظر، فلعلّ الموت يأتى عليه فيكفيكه. » وكان قلّده مصر، فورد الكتاب بوفاته سنة خمس وثمانين، فقرأه قبيصة على عادته، ثم دخل على عبد الملك فعزّاه بأخيه، وعقد لابنيه الوليد وسليمان العهد بعده، وكتب إلى البلدان بذلك فبايعوه.
أبو الزعيزعة
وكان يكتب له أبو الزعيزعة مولاه. فيحكى أنّه حضر زفر بن الحارث يوما عند عبد الملك وبحضرته أبو الزعيزعة بعد أن اجتمع إليه، فقال لزفر بن الحارث:
« كيف ترى ما ساقه الله إلينا؟ » فقال زفر:
« الحمد لله الذي نصرك على كره من كره. » فقال أبو الزعيزعة:
« ما كره ذلك إلّا كافر. » فقال له زفر:
« كذبت! قال الله عز وجل لنبيه: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ من بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّ فَرِيقًا من الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ، أمؤمنين سمّاهم أم كفّارا؟ » فغضب عبد الملك، فقال زفر:
« يا أمير المؤمنين، أرأيت لو قلت: الحمد لله الذي نصرك، فقد كنت مسرورا بذلك، أما كنت تمقتني ويمقتني الله وأنا أقاتلك تسع سنين؟ » فقال له:
-
« صدقت. »
روح بن زنباع
وكان يكتب له روح بن زنباع. وروح هذا هو الذي همّ به معاوية، فقال له:
« يا أمير المؤمنين، لا تشمتنّ بي عدوّا أنت وقمته، ولا تسوءنّ فيّ صديقا أنت سررته، ولا تهدمنّ ركنا أنت بنيته. هلّا أتى حلمك وإحسانك على جهلي وإساءتى! » فأمسك عنه.
ربيعة الغار الحرشي
وكان يكتب له ربيعة الغار الحرشي. وكان استشاره عبد الملك في تقليد الوليد ابنه العهد، فقال:
« أمهلنى سنة. » فأمهله. فلمّا انقضت عاوده وقال:
« إني عزمت أن أوليّه شيئا من النواحي، فإذا مضت له مدّة قلّدته العهد. » فقال:
« يا أمير المؤمنين، إنّك بعثت الوليد يقسم الأموال بين الناس ما رضوا عنه، فكيف تبعثه جابيا؟ إن احتاط ذمّ، وإن رفق عجز، وأنت تريد أن تجبيه، فولّه المعاون والصوائف، فيكون ذلك شرفا وذكرا. »
صالح بن عبد الرحمن وهو الذي نقل الدواوين من الفارسية إلى العربية
وكتب له صالح بن عبد الرحمن مولى بنى مرة بن عبيد بن تميم من سبي سجستان، ويكنّى صالح أبا الوليد، وهو الذي نقل الدواوين من الفارسيّة إلى العربيّة. وكان ذلك أنّ الدواوين كانت تجرى فيها وجوه الأموال بالفارسيّة.
وكان بالبصرة والكوفة ديوان بالعربيّة لإحصاء الناس وأرزاقهم وأعطياتهم، وهو الذي كان عمر رسمه. وكان بالشام أيضا ديوانان: أحدهما بالروميّة، والآخر بالعربيّة، فجرى الأمر عليه إلى أيّام عبد الملك، وكان إذ ذاك يتقلّد ديوان الفارسيّة زادانفرّوخ، فخلفه عليه صالح بن عبد الرحمن، فخفّ على قلب الحجّاج وحضّ به. فقال لزادانفرّوخ:
« إني قد خففت على قلب الحجّاج، ولست آمن أن أزيلك عن محلّك لتقديمه إيّاى، وأنت ربيبى. » فقال له زادانفرّوخ: لا تفعل، فإنّه إليّ أحوج مني إليه. » فقال له:
« وكيف ذلك؟ » قال:
« لا يجد من يكفيه الحساب. » فقال له صالح:
« لو شئت حوّلته إلى العربيّة. » فقال له:
« فحوّل منه سطرا. » فحوّل منه شيئا كثيرا.
فقال زادانفرّوخ لأصحابه:
« التمسوا كسبا غير هذا. »
فلمّا بلغ الحجّاج ذلك أمر صالحا بنقل الدواوين، فنقلها إلى العربيّة في سنة ثمان وسبعين. وكان عامّة كتّاب العراق تلامذة صالح.
ولمّا هم صالح بنقل الدواوين، قال له بعض كتّاب الفرس:
« كيف تصنع بواذ. » قال:
« أكتب: أيضا. » فقال:
« كيف تصنع بدهيازده؟ » قال:
« أكتب عشرا. » فقال:
« كيف تصنع بدهبوذه، وبنجبوذه؟ » قال:
« أكتب عشيرا ونصف عشير. » قال له:
« قطع الله أصلك من الدنيا، كما قطعت الفارسيّة. » وقال الحجّاج يوما لصالح، وكان متّهما برأى الخوارج:
« إني فكّرت فيك فوجدت مالك ودمك حلالين لي وأنّنى غير آثم إن تناولتهما. » فقال صالح:
« إنّ أغلظ ما في الأمر - أعزّ الله الأمير - أنّ هذا القول بعد الفكر. » فضحك منه ولم يقل له شيئا.
عبيد بن المخارق
ومن كتّاب الحجّاج عبيد بن المخارق، قلّده الحجّاج الفوجتين، فوردها وقال:
« هل هاهنا دهقان يعاش برأيه؟ » فقيل له:
« هذا جميل بن بصبهرى. » فأحضره وشاوره، فقال له جميل:
« خبّرنى أقدمت لرضى ربّك، أم رضى نفسك، أم رضى من قلّدك؟ » فقال:
« ما استشرتك إلّا برضى الجميع. » قال:
« فاحفظ عني خلالا: لا يختلف حكمك على الرعيّة، ليكن حكمك على الشريف والوضيع سواء، ولا تتّخذنّ حاجبا ليردّ عنك الوارد من أهل عملك، وليكن على ثقة من الوصول إليك، وأطل الجلوس لأهل عملك يتهيّبك عمّالك، ولا تقبل هديّة، فإنّ صاحبها لا يرضى بثلاثين ضعفا لها، فإذا فعلت ذلك فاسلخ جلودهم من فروعهم إلى أقدامهم. » قال: فعملت بوصيّته، فجبيتها خمسة عشر ألف ألف درهم.
يزيد بن أبي مسلم
وكان يزيد بن أبي مسلم - واسم أبي مسلم دينار من موالي ثقيف - كاتبا للحجّاج، وكان أخاه من الرضاعة. فتقلّد له ديوان الرسائل، وكنيته أبو العلاء.
وكان الحجّاج يجرى له في كلّ شهر ثلاثمائة درهم، فكان يعطى امرأته خمسين درهما، وينفق في ثمن اللّحم وما يتّصل به خمسة وأربعين درهما، وينفق باقيها في ثمن الدقيق وسائر عوارض نفقته، وإن فضل منها شيء ابتاع به ماء وسقاه المساكين، وربما ابتاع قطفا وفرّقها فيهم وهو مع ذلك يقتل الخلق للحجّاج.
وحكى أنّ الحجّاج عاده من علّة اعتلّها، فوجد بين يديه كانونا من طين ومنارة خشب، فقال:
« يا أبا العلاء، ما أرى أرزاقك تكفيك. » فقال:
« إن كانت ثلاثمائة لا تكفيني، فثلاثون ألفا لا تكفيني. » ويزيد بن أبي مسلم هو الذي نبّه الحسن البصري على الاستتار حتى سلم من الحجّاج، وذلك أنّه لقيه خارجا من عنده فقال له:
« توار يا با سعيد، فإني لست آمن أن تتبعك نفسه. » فتوارى عنه، وسلم منه. وقيل: إنّه استتر تسع سنين.
عبد الملك وكاتب له قبل هدية
وبلغ عبد الملك أنّ بعض كتّابه قبل هديّة، فقال له:
« أقبلت هديّة منذ ولّيتك؟ » فقال:
« أمورك، يا أمير المؤمنين، مستقيمة، والأموال دارّة، والعمّال محمودون، وخراجك موفّر. » فقال:
« أخبرني عمّا سألتك. » قال:
« نعم، قد قبلت. » قال:
« فو الله لئن كنت قبلت هديّة لا تنوي مكافأة للمهدي لها، إنّك لدنيّ ولئيم، وإن كنت قبلتها لتستكفى رجلا لم تكن لتستكفيه لولاها، إنّك لخائن، ولئن كنت نويت تعويض المهدي عن هديّته ولا تخون له أمانة ولا تثلم له دينا، فلقد قبلت ما بسط عليك لسان معامليك، وأطمع فيك ساير مجاوريك، وسلبك هيبة السلطان، وما في من أتى أمرا لم يخل فيه، من لؤم أو دناءة أو خيانة أو جهل مصنع. » وخلعه عن عمله.
خلافة الوليد بن عبد الملك
وبويع للوليد بن عبد الملك بالخلافة. فخطب الناس لمّا انصرف من دفن أبيه، وقال في آخر خطبته:
« أيّها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإنّ الشيطان مع الفرد. أيّها الناس، من أبدى ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه ومن سكت مات بدائه. » ثم نزل وحاز أدوات الخلافة وأثاثها، وكان جبّارا عنيدا.
ورود قتيبة إلى خراسان
وفي هذه السنة وهي سنة ستّ وثمانين، ورد قتيبة بن مسلم إلى خراسان فقدمها والمفضّل يعرض الجند وهو يريد أن يغزو الموضع الذي يقال له: أخرون وشومان. فخطب الناس قتيبة، وحثّهم على الجهاد، وسار، فلمّا كان بالطالقان تلقاه دهاقين بلخ وعظماؤهم، فساروا معه. فلمّا قطع النهر تلقّاه تيش الأعور ملك الصغانيان بهدايا ومفتاح من ذهب. فدعاه إلى بلاده. فمضى مع تيش إلى الصغانيان، فسلّم إليه بلاده. وسار قتيبة إلى أخرون وشومان وهما من طخارستان فجاءه صاحبها، فصالحه على فدية أدّاها، فقبلها قتيبة ورضى، وانصرف إلى مرو، واستخلف أخاه صالحا، وفتح صالح بعد رجوع قتيبة باسان انبجغر، وكان معه نصر بن سيّار، فأبلى يومئذ، فوهب له قرية تدعى تنجابه.
ثم قدم صالح على قتيبة بعد ذلك فاستعمله على الترمذ، وغزا قتيبة بعد ذلك بيكند، وهي أدنى مدائن بخارى، فلمّا نزل بعقوتهم استنصروا السغد، واستمدّوا من حولهم، فأتوهم في جمع كثير، وأخذوا بالطرق، فلم ينفذ لقتيبة رسول ولم يصل إليه خبر نحو شهرين، وأبطأ خبره على الحجّاج، فأشفق على الجند، وأمر الناس بالدعاء لهم في المساجد وهم يقتتلون في كلّ يوم. وكان لقتيبة عين يقال له تندر من العجم، فأعطاه أهل بخارى مالا على أن يفتأ عنهم قتيبة.
ذكر حيلة لتندر ما نفذت له وقتل لأجلها
أقبل تندر إلى قتيبة، فقال:
« أخلنى! » فنهض الناس واحتبس قتيبة ضرار بن حصين الضبي، فقال تندر:
« هذا عامل يقدم عليك وقد عزل الحجّاج، فلو انصرفت بالناس إلى مرو. » فدعا قتيبة مولاه سيا، فقال له:
« اضرب عنق تندر! » فقتله.
ثم قال لضرار:
« لم يعلم هذا الخبر غيري وغيرك، وإني أعطى الله عهدا، إن ظهر هذا الحديث من أحد حتى تنقضي حربنا، لألحقنّك بتندر، فاملك لسانك، فإنّ انتشار هذا الحديث يفتّ في أعضاد الناس. » ثم أذن للناس، فدخلوا، فراعهم قتل تندر، فوجموا وأطرقوا، فقال قتيبة:
« ما يردعكم من قتل عبد أحانه الله. » قالوا:
« كنّا نظنّه ناصحا للمسلمين. » قال:
-
« بل كان غاشّا، قد مضى لسبيله بذنبه، فاغدوا على قتال عدوّكم والقوهم بغير ما كنتم تلقونهم به. » فغدا الناس متأهبين، فأخذوا مصافّهم، ومشى قتيبة فحضّ أهل الرايات.
فكانت بين الناس مشاولة. ثم إنّهم تزاحفوا والتقوا، وأخذت السيوف مآخذها، فقاتلوهم حتى زالت الشمس، ثم منح الله المسلمين أكتافهم، فانهزم المشركون يريدون المدينة، فاتبعهم المسلمون فشغلوهم عن الدخول، فتفرّقوا، وركبهم المسلمون قتلا وأسرا، واعتصم من دخل المدينة بالمدينة وهم قليل. فوضع قتيبة الفعلة في أصلها ليهدمها، فسألوه الصلح فصالحهم، واستعمل عليهم رجلا من قيس، وارتحل عنهم يريد الرجوع. فلمّا سار مرحلتين نقضوا، وكفروا، وقتلوا العامل وأصحابه وجدعوا آنفهم وآذانهم، وبلغ ذلك قتيبة، رجع إليهم وقد تحصّنوا، فقاتلهم شهرا، ثم وضع الفعلة في أصل المدينة، فعلّقوها بالخشب وهو يريد إذا فرغ من تعليقها أن يحرق الخشب فينهدم. فسقط الحائط وهم يعلّقونه، فقتل أربعين رجلا من الفعلة، فطلبوا الصلح، فأبى، وقاتلهم، فظفر بها عنوة، فقتل من كان فيها من المقاتلة، وكان في من أخذوا في المدينة رجل أعور كان هو الذي استجاش الترك على المسلمين. فقال لقتيبة:
« أنا أفدى نفسي. » فقال له سليم الناصح:
« ما تبدل؟ » قال:
« خمسة آلاف حريرة صينيّة قيمتها ألف ألف. » قال قتيبة:
« ما ترون؟ » قالوا:
« نرى أنّ فداءه زيادة في غنائم المسلمين وما عسى أن يبلغ من كيد هذا؟ » قال:
« لا والله، لا يروّع بك مسلم أبدا. » وأمر به فقتل. وأصاب في بيكند من آنية الذهب والفضّة ما لا يحصى. فولّى الغنائم والقسم عبد الله بن وألان، وكان قتيبة يسمّيه الأمين بن الأمين، وإياس بن بيهس، فأذابا الآنية والأصنام ورفعاه إلى قتيبة، ورفعا إليه خبث ما أذابا، فوهبه لهما، فأعطيا به أربعين ألفا، فأعلماه فرجع فيه، فأمرهما أن يذيباه، فأذاباه، فخرج منه خمسون ألف مثقال. وأصابوا في بيكند شيئا كثيرا، فصار في أيدى المسلمين من بيكند شيء لم يصيبوا مثله بخراسان.
ذكر اتفاق عجيب مع إضاعة حزم وهو السبب الذي سمى به قتيبة عبد الله بن وألان الأمين بن الأمين
كان السبب الذي سمّى قتيبة له عبد الله بن وألان الأمين بن الأمين أنّ مسلما الباهليّ قال لو ألان:
« إنّ عندي مالا أحبّ أن أستودعكه. » فقال:
« أتريد أن يكون مكتوما أو لا؟ » فكره أن يعلمه الناس. قال:
« لا، بل أحبّ أن تكتمه. » قال:
« ابعث به مع رجل تثق به إلى موضع كذا. » وأمره إذا رأى رجلا جالسا في ذلك الموضع أن يضع ما معه وينصرف. قال:
« نعم. » فجعل المسلم المال في خرج وحمله على بغل وقال لمولى له:
« انطلق بهذا البغل إلى موضع كذا، فإذا رأيت رجلا جالسا، فخلّ عن البغل وانصرف. » فانطلق الرجل بالبغل، وقد كان وألان أتى الموضع لميعاده، فأبطأ عليه رسول مسلم، ومضى الوقت الذي وعده، فظنّ أنّه قد بدا له، فانصرف، وجاء رجل من بنى تغلب، فجلس في ذلك الموضع، وحضر الرسول مع البغل والمال، فرأى الرجل جالسا، فخلّى عن البغل ورجع. فقام التغلبيّ، فلما رأى البغل والمال ولم ير معه أحدا قاد البغل إلى منزله وقبض المال إليه.
وكان ظنّ مسلم أنّ المال صار إلى وألان، فلم يسأل عنه حتى احتاج إليه، فلقيه وقال:
« ما لي. » قال:
« ما قبضت شيئا ولا لك عندي مال. »
فكان مسلم يشكوه ويتنقّصه. فأتى يوما مجلس بنى ضبيعة، فشكاه، والتغلبيّ جالس. فقام إليه وخلا به وسأله عن المال، فأخبره، فانطلق به إلى منزله، وأخرج الخرج إليه، وقال:
« أتعرفه؟ » قال:
« نعم، » قال:
« والخاتم؟ » قال:
« نعم. » قال:
« فاقبض مالك. » وأخبره الخبر. فكان مسلم بعد ذلك يأتى القبائل وجميع من شكا وألان عندهم وخوّنه فيعذره ويخبرهم الخبر.
ذكر رأي للحجاج أشار به وهو بواسط على قتيبة وهو بخراسان حتى فتح بخارى وموقف لأصحاب قتيبة مستحسن
غزا قتيبة وردان خذاه ملك بخارى سنة تسع وثمانين، فلم يظفر من البلد بشيء. فرجع إلى مرو، فكتب إليه الحجّاج:
« صوّرها لي والطرق إليها. » فبعث إليه بصورتها. فكتب إليه الحجّاج أن:
« ارجع إلى مراغتك فتب إلى الله عز وجل ممّا كان منك وائتها من مكان كذا وكذا. » فخرج قتيبة إلى بخارى وذلك في سنة تسعين، من حيث أشار به الحجّاج، فأرسل وردان خذاه إلى السغد والترك ومن حولهم يستنصرهم. فأتوهم وقد سبق إليها قتيبة، فحصرهم. فلمّا جاءتهم أمدادهم خرجوا إليهم يقاتلونهم، فقالت الأزد:
« اجعلونا على حدة وخلّوا بيننا وبين قتالهم. » فقال لهم قتيبة:
« شأنكم، تقدّموا. » فتقدّموا، فقاتلوهم وقتيبة جالس عليه رداء أصفر فوق سلاحه، فصبروا جميعا، ثم جال المسلمون وركبهم المشركون، فحطّموهم حتى دخلوا عسكر قتيبة وجازوه حتى ضرب النساء وجوه الخيل وبكين، وقاتلوهم حتى ردّوهم. فوقف الترك على نشز، فقال قتيبة:
« من يزيلهم لنا عن هذا الموقف؟ » فلم يقدم عليهم أحد والأحياء كلّهم وقوف. فمشى قتيبة إلى بنى تميم فقال:
« يا بنى تميم، أنتم بمنزلة الحطمة، فيوما كأيّامكم، فداؤكم أبي. » فأخذ اللواء وكيع بيده وقال:
« يا بنى تميم، أتسلمونى اليوم؟ » فقالوا:
« لا يا با المطرف. » وهريم بن طحفة المجاشعيّ على خيل بنى تميم ووكيع رأسهم. فأحجموا جميعا، فقال وكيع:
« يا هريم، قدّم! »
ودفع إليه الراية، وقال:
« قدّم خيلك. » فتقدّم هريم ودبّ وكيع في الرجال، فانتهى هريم إلى نهر بينه وبين العدوّ، فوقف وقال له وكيع:
« أقحم يا هريم. » فنظر هريم إلى وكيع نظر الجمل الصؤول وقال:
« أنا أورد وأقحم خيلى هذا النهر، فإن انكشفت كان هلاكها. والله إنّك لأحمق. » قال:
« يا بن اللخناء لا أراك تردّ أمري. » وحدفه بعمود كان معه. فضرب هريم فرسه فأقحمه، وقال:
« ما بعد هذا أشدّ من هذا. » وعبر هريم في الخيل، وانتهى وكيع إلى النهر، فدعا بخشب فقنطر على النهر وقال لأصحابه:
« من وطّن منكم نفسه على الموت فليعبر، ومن لا فليثبت مكانه. » فما عبر معه إلّا ثمانمائة رجل، فدبّ حتى إذا أعيوا [ أقعدهم ] فأراحوا حتى إذا دنوا من العدوّ جعل الخيل مجنّبتين، وقال لهريم:
« إني مطاعن القوم فاشغلهم عنّا بالخيل وقل للناس: شدّوا. » فحملوا، فو الله ما انثنوا حتى خالطوهم، وحمل هريم [ فى ] خيله عليهم، فطاعنوهم بالرماح، فما كفّوا عنهم حتى حدّروهم عن موقفهم، ونادى قتيبة:
« من جاء برأس فله مائة. » فزعم موسى بن المتوكل القريعيّ، قال: جاء يومئذ أحد عشر رجلا من بنى قريع كلّ رجل يجيء برأس، فيقال:
« ممّن أنت؟ » فيقول:
« قريعيّ. » فجاء رجل من الأزد برأس، فقالوا له:
« من أنت؟ » فقال:
« قريعيّ. » قال: وجهم بن زحر قاعد، فقال:
« كذب والله، أصلح الله الأمير، والله لابن عمّى. » فقال له قتيبة:
« ويحك! ما الذي دعاك إلى هذا؟ » قال:
« رأيت كلّ من جاء برأس قال: قريعيّ. فظننت أنّه ينبغي لكلّ من جاء برأس أن يقول ذلك. » فضحك قتيبة حتى استغرب.
وفتح الله على يديه بخارى، وفضّ أولئك الجمع. فلمّا تمّ له ذلك هابه أهل الصغد، فرجع طرخون ملك الصغد ومعه فارسان حتى وقف قريبا من عسكر قتيبة وبينهما نهر بخارى، فسأل أن يبعث إليه رجلا يكلّمه، فأمر قتيبة رجلا، فدنا منه فسأل الصلح على فدية يؤدّيها إليهم، فأجابه قتيبة إلى ما طلب، وصالحه وأخذ منه رهنا حتى بعث إليه بما صالحه عليه. وانصرف طرخون إلى بلاده، ورجع قتيبة ومعه نيزك.
-
ذكر غدر نيزك ونقضه عهد قتيبة وظفر قتيبة به بعد ذلك وقتله إياه
أمّا طرخون فقد ذكرنا أنّه هاب قتيبة فصالحه، وأمّا نيزك فإنّه هابه ونقض الصلح. وكان سبب غدره أنّه لمّا فصل من بخارى مع قتيبة رأى ما صنع طرخون فقال لأصحابه وخاصّته:
« إني قد هبت هذا العربيّ لما يتمّ على يده من الفتوح وأنا معه ولست آمنه، وذلك أنّ العربيّ بمنزلة الكلب إذا ضربته نبح، وإذا أرضيته بصبص، وإن أنا غزوته ثم أرضيته شيئا نسى ما صنعت به، وقد قاتله طرخون مرارا، فلمّا أعطاه فدية قبلها، وهو مع ذلك شديد السطوة فلو استأذنته ورجعت، كان الرأي. » قالوا:
« فافعل. » فاستأذنه في الرجوع إلى طخارستان فأذن له، فقال لأصحابه:
« أحدّوا السير. » فساروا سيرا شديدا حتى أتوا النوبهار. فنزل يصلّى فيه ويتبرّك به، وقال لأصحابه:
« إني لا أشك أنّ قتيبة قد ندم حين فارقنا عسكره على إذنه لي، وسيقدم الساعة رسوله على المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسي فأقيموا ربيئة ينظر، فإذا رأيتم الرسول قد جاوز المدينة وخرج من الباب فإنّه لا يبلغ البروقان حتى يبلغ طخارستان. » فبعث المغيرة رجلا فلا يدركنا حتى نبلغ شعب خلم، ففعلوا، وكان كما قال: وأقبل رسول قتيبة إلى المغيرة يأمره بحبس نيزك. فلمّا مرّ الرسول إلى المغيرة وهو بالبروقان - ومدينة بلخ يومئذ خراب - ركب نيزك في أصحابه فمضوا، وقدم الرسول على المغيرة وهو بالبروقان في طلبه، فوجده قد دخل في شعب خلم، فانصرف المغيرة، وأظهر نيزك الخلع، وكتب إلى إصبهبد بلخ، وإلى باذان ملك مروروذ، وإلى سهرك ملك الطالقان، وإلى شهرك ملك الفارياب، وإلى ملك الجوزجان يدعوهم إلى خلع قتيبة، فأجابوه وواعدهم الربيع أن يجتمعوا ويغزوا قتيبة، وكتب إلى كابل شاه يستظهر به، وبعث إليه بثقله، وسأله أن يأذن له، إن اضطرّ إليه، أن يأتيه ويؤمنه في بلاده. فأجابه إلى ذلك، وضمّ ثقله.
وكان جبغويه ملك طخارستان ونيزك من عبيده، إلّا أنّه كان ضعيفا واسمه الشذّ، فأخذه نيزك وقيّده بقيد من ذهب مخافة أن يشغب عليه ويمنعه. فلمّا استوثق منه أخرج عامل قتيبة من بلاد جبغويه وكان العامل محمد بن سليم الناصح، وكان محبّبا مصدّقا عند الناس، وبلغ قتيبة خلع نيزك في قبل الشتاء، وقد تفرّق عنه الجند، فلم يبق معه إلّا أهل مرو، فبعث أخاه عبد الرحمن إلى بلخ في اثنى عشر ألفا إلى البروقان وقال:
« أقم ولا تحدث شيئا، فإذا حسر الشتاء فعسكر وسر نحو طخارستان واعلم أنّى قريب منك. » فسار عبد الرحمن، فنزل البروقان، وأمهل قتيبة، حتى إذا كان في آخر الشتاء كتب إلى أهل أبر شهر وأبيورد وسرخس، فقدموا عليه مع أهل هراة، فأوقع بالطالقان لأنّ ملكها طابق نيزك على حرب قتيبة وواعده مع من استجاب للنهوض معه من الملوك لحرب قتيبة.
فسار قتيبة إلى الطالقان، فأوقع بأهلها وقتل منهم مقتلة عظيمة وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في نظام واحد، وبلغ مرزبان مرو الروذ إقباله إلى بلاده، فهرب إلى بلاد الفرس. فقدم قتيبة مرو الروذ، فوجد ابنين له فقتلهما وصلبهما، ومضى إلى ملك الفارياب، فتلقّاه ملكها بالطاعة، فرضي عنه ولم يقتل بها أحدا، واستعمل عليها رجلا، وخرج صاحب الجوزجان هاربا، فترك أرضه ولحق بالجبال.
ثم مضى يتبع أخاه عبد الرحمن وكان خلّف نيزك على فم الشعب مقاتلة، وترك أيضا في قلعة من وراء الشعب مقاتلة، فأقام قتيبة أيّاما يقاتلهم على مضيق الشعب لا يقدم منهم على شيء ولا يقدر على دخوله ولا يعرف طريقا يفضى إلى نيزك إلّا الشعب أو مفازة لا تحمل العساكر. فهو في ذاك متحيّر إذ قدم عليه [ الرؤب خان ] ملك الرؤب، فاستأمنه على أن يدلّه على مدخل القلعة التي من وراء الشعب. فآمنه قتيبة وأعطاه ما سأله، وبعث معه رجالا ليلا، فانتهى بهم إلى القلعة التي من وراء شعب خلم، فطرقوهم وهم آمنون وفلّوهم وهرب من كان في الشعب، ودخل قتيبة، والناس معه، الشعب، وسار إلى نيزك، وقدّم أخاه عبد الرحمن، وبلغ خبره نيزك، فارتحل من منزله وقطع وادي فرغانه، ووجّه بثقله وأمواله إلى كابل شاه، ومضى حتى نزل الكرّز وعبد الرحمن بن مسلم يتبعه، وأخذ عليه مضائق الكرّز، فتحرّز نيزك في الكرّز وليس إليه مسلك إلّا من وجه واحد وذلك الوجه صعب لا تطيقه الدوابّ. فحصره قتيبة شهرين حتى قلّ ما في يد نيزك من الطعام، وأصابهم الجدريّ وجدّر جبغويه، وخاف قتيبة الشتاء، فدعا سليما الناصح فقال له:
« انطلق إلى نيزك، فاحتل أن يأتينى به بغير أمان، فإن أعياك وأبي فآمنه واعلم أنّى إن عاينتك وليس هو معك صلبتك، فاعمل لنفسك. » قال:
« فإن كنت فاعلا فاكتب إلى عبد الرحمن لا يخالفني. » وكان بينهما فرسخان. قال:
« نعم. » فكتب له.
فلمّا قدم على عبد الرحمن، قال:
« ابعث رجالا، فليكونوا على فم الشعب، فإذا خرجت أنا ونيزك فليعطفوا من ورائنا، فليحولوا بيننا وبين الشعب. » قال: فبعث عبد الرحمن خيلا، فكانت حيث أمرهم سليم، وحمل معه من الأطعمة والأخبصة التي تبقى أيّاما أوقارا حتى أتى نيزك، فقال له نيزك:
« خذلتني يا سليم! » قال:
« ما خذلتك، ولكن عصيتني وأسأت إلى نفسك، خلعت وغدرت. » قال:
« دعني من العتاب، ما لرأى؟ » قال:
« الرأي أن تأتيه، فقد أمحكته وليس ببارح موضعه هذا وقد اعتزم على أن يشتو بمكانه، هلك أو سلم. » قال:
« يا سليم آتيه من غير أمان. » قال:
« ما أظنّه يؤمنك، فقد ملأت قلبه غضبا، ولكني أرى ألّا يعلم بك حتى تضع يدك في يده، فإني أرجو إن فعلت ذلك أن يستحى منك ويعفو عنك. » قال:
« أترى ذاك؟ » قال:
« نعم. » قال:
« إنّ نفسي لتأبى هذا وهو إن رءانى قتلني. » قال سليم:
« ما أتيتك إلّا لأشير عليك بهذا، ولو فعلت لرجوت أن تسلم وتعود حالك عنده إلى ما كانت. فأمّا إذا أبيت فأنا منصرف. » قال:
« فتغذّ الآن. » قال:
« لأظنّكم في شغل عن تهيئة الطعام ومعنا طعام كثير. » ودعا سليم بالغداء، فجاؤوا بطعام كثير لا عهد لهم بمثله منذ حصروا، فانتهبه الأتراك، فغمّ ذلك نيزك وتبيّن ذاك في وجهه. فقال له سليم:
« يا با الهيّاج، إني لك من الناصحين، إني أرى أصحابك قد جهدوا، وإن طال بهم الحصار لم آمنهم أن يستأمنوا بك، فانطلق معي حتى تأتى قتيبة. » قال:
« ما كنت لآتيه على غير أمان وإنّ ظنّى به أنّه قاتلي وإن آمنني، ولكنّ
[ الأمان ] أعذر لي وأرجى أن يؤمنني. » قال:
« فقد آمنك، أفتتّهمني؟ » قال:
« لا. » قال:
« فانطلق معي. » فقال له أصحابه:
-
« اقبل قول سليم، فلم يكن ليقول إلّا حقا. » فدعا بدوابّه وخرج مع سليم فلمّا انتهى إلى الدرجة التي يهبط منها إلى قرار الأرض، قال:
« يا سليم، من كان لا يعلم متى يموت فإني أعلم متى أموت. أموت ساعة أعاين قتيبة. » قال:
« كلّا! » فركب ومضى معه جبغويه، وقد كان برأ من الجدريّ. فلمّا خرجوا من الشعب عطفت الخيل التي خلّفها سليم على فوهة الشعب، فحالوا بين الأتراك وبين الخروج، فقال نيزك لسليم:
« هذا أوّل الشرّ. » قال:
« لا تفعل، تخلّف هؤلاء عنك خير لك. » وأقبل سليم ونيزك ومن خرج معه حتى دخلوا على عبد الرحمن بن مسلم.
فأرسل رسولا إلى قتيبة يعلمه، فأرسل قتيبة عمرو بن مهزوم إلى عبد الرحمن أن اقدم بهم. فحبس أصحاب نيزك، ودفع نيزك إلى ابن بسّام الليثي وكتب إلى الحجّاج يستأذنه في قتل نيزك. فجعل ابن بسّام نيزك في قبّته وحفر حول القبّة خندقا، فوضع عليه حرسا، ووجّه قتيبة معاوية بن عامر بن علقمة العليمي، فاستخرج ما كان في الكرّز من المتاع ومن كان فيه فقدم بهم على قتيبة فحبسهم ينتظر كتاب الحجّاج بعد أربعين يوما يأمره بقتل نيزك، فدعا به وقال له:
« هل لك عندي عقد أو عند عبد الرحمن أو عند سليم؟ » قال:
« لي عند سليم. » قال:
« كذبت. » وقام ودخل وردّ نيزك إلى حبسه، فمكث ثلاثة أيّام ولا يظهر للناس. وتكلّم الناس في أمر نيزك، فقال بعضهم:
« لا يحلّ قتله. » وقال بعضهم:
« لا يحلّ له تركه. » وخرج قتيبة في اليوم الرابع، فجلس وأذن للناس، فقال:
« ما ترون في قتل نيزك؟ » فاختلفوا: فقال قائل:
« اقتله. » وقال قائل:
« قد أعطيته عهدا، فلا تقتله. » وقال قائل:
« لا تأمنه على المسلمين. » فدخل ضرار بن الحصين الصبّى. فقال:
« ما تقول يا ضرار؟ » قال:
« أقول: إني سمعتك تقول: أعطيت الله لئن مكّننى منه لأقتلنّه! فإن لم تفعل لم ينصرك عليه. » فأطرق قتيبة طويلا ثم قال:
« والله، لئن لم يبق من أجلى إلّا ثلاث كلمات لقلت: اقتلوه، اقتلوه، اقتلوه، » وأرسل إلى نيزك، فأمر بقتله وقتل أصحابه. فقتلوا وهم سبعمائة.
وفي رواية أخرى: إنّ قتيبة قال لبكر بن حبيب السهمي من باهلة:
« هل بك قوّة؟ » قال:
« نعم، وأزيد. » وكانت في بكر أعرابيّة، قال:
« دونك هؤلاء الدهاقين. » فقتل يومئذ اثنى عشر ألفا، وصلب نيزك وابني أخيه في أصل عين تدعى:
وخش خاشان.
ثم أذن قتيبة للسيل والشذّ، فانصرفا إلى بلادهما، وأطلق جبغويه ومن عليه، وبعث به إلى الوليد، فلم يزل بالشام حتى مات الوليد.
وكان الحجّاج يقول:
« بعثت قتيبة فتى غرّا. فما زدته ذراعا إلّا زادني كراعا. »
فتح شومان وكس ونسف
ثم غزا قتيبة شومان وكسّ ونسف، ففتحها عنوة، وسرّح أخاه عبد الرحمن بن مسلم إلى السغد، فسار حتى نزل بمرج قريب منهم، فراسله ملكها بشيء صالحه عليها، ودفع إليه رهنا كانوا معه، وانصرف عبد الرحمن إلى قتيبة وهو ببخارى، فرجعوا إلى مرو، فقالت السغد لطرخون:
« إنّك قد رضيت بالذلّ، وأعطيت الجزية وأنت شيخ! » فقال:
« إنّ عدوّنا قويّ، وأرى مداراته أدوم لنا وأجمع لشملنا. » فقالوا:
« لا حاجة لنا فيك. » قال:
« فولّوا من أحببتم. » فولّوا غورك وحبسوا طرخون. فقال طرخون:
« ليس بعد سلب الملك والحبس إلّا القتل، فيكون ذلك بيدي أحبّ إليّ من أن يليه مني غيري. » واتّكأ على سيفه حتى خرج من ظهره.
فتح خوارزم
وغزا قتيبة خوارزم، فصالحه صاحبها، ومضى منها إلى السغد، وذلك في سنة ثلاث وتسعين. وكان سبب ذلك أن ملك خوارزم كان ضعيفا، فغلبه أخوه خرّزاذ على أمره، وكان خرّزاذ أصغر منه، فكان إذا بلغه أنّ عند أحد ممّن هو منقطع إلى الملك، جارية أو دابّة أو متاعا فاخرا، أرسل فأخذه، وإذا بلغه أنّ عند أحد منهم بنتا أو أختا جميلة أرسل فغصبه إيّاها، فإذا شكا إلى الملك. قال:
« لا أقوى عليه. » وقد ملأه مع هذا غيظا. فكتب إلى قتيبة يدعوه إلى أرضه، واشترط عليه أن يدفع إليه أخاه وكلّ من كان يضادّه ليحكم فيه ما يرى. وبعث في ذلك رسلا ولم يطلع أحدا من مرازبته على ما كتب به. فقدم رسله على قتيبة في آخر الشتاء وقت الغزو وقد تهيّأ للغزو، فأظهر قتيبة أنّه يريد السغد، ورجع رسل خوارزم شاه إليه بما أحبّ من قبل قتيبة، وجمع خوارزم شاه دهاقنته وأمناءه، فقال لهم:
« إنّ قتيبة يريد السغد وليس بغازيكم، فهلمّوا نتنعّم في ربيعنا. » فأقبلوا على الشرب والتنعّم وأمنوا عند أنفسهم الغزو، فلم يشعروا حتى نزل قتيبة في هزار دشت، فقال خوارزم شاه لأصحابه:
« ما ترون؟ » فقالوا:
« نرى أن نقاتله. » قال:
« لكني لا أرى ذلك، لأنّه عجز عنه من هو أقوى منّا وأشدّ شوكة، ولكنّا نؤدّى إليه شيئا نصرفه به عامنا ونرى رأينا. » قالوا:
« فرأينا رأيك. » فأقبل خوارزم شاه حتى نزل في مدينة الفيل من وراء النهر ومدائن خوارزم ثلاث يطيف بها فارقين واحد، فمدينة الفيل أحصنهنّ، وقتيبة في هزار دشت بينهما نهر بلخ، فلم يعبر، فصالحه على عشرة آلاف رأس وعين ومتاع على أن يعينه على ملك خام جرد وأن يفي له بما كتب إليه. فقبل منه قتيبة ووفى له، وبعث أخاه إلى ملك خام جرد، وكان يعادى خوارزم شاه، فقاتله فقتله عبد الرحمن وغلبه على أرضه، وقدم منهم على قتيبة بأربعة آلاف أسير. فلمّا جاء بهم عبد الرحمن أمر قتيبة بسريره، فأخرج فقتل الأسرى بين يديه.
فحكى المهلّب بن إياس أنّه أخذت سيوف الأشراف يضرب بها الأعناق فكان فيها ما لا يقطع ولا يجرح. فأخذ سيفي فلم يضرب به شيء إلّا أبانه. فحسدنى بعض آل قتيبة، فغمز الذي يضرب به أن اصفح بالسيف، فصفح به قليلا، فوقع في ضرس المقتول فثلمه.
قال: فرأيت السيف وكان أبو الذيّال يقول: هو عندي بعينه.
فتح السغد
ولمّا أخذ قتيبة صلح صاحب خوارزم قام إليه المجسّر بن مزاحم السلمى فقال:
« إنّ لي حاجة فأخلنى. » فأخلاه، فقال:
« إن أردت السغد يوما من الدهر فالآن. فإنّهم آمنون من أن تأتيهم عامك هذا، وإنّما بينك وبينهم عشرة أيّام. » فقال له قتيبة:
« أشار عليك أحد بهذا؟ » قال:
« لا. » قال:
« فأعلمته أحدا؟ » قال:
« لا. » قال:
-
« فو الله، لئن تكلّم به أحد لأضربن عنقك. » فأقام يومه ذلك. فلمّا أصبح من الغد دعا عبد الرحمن فقال:
« سر في الفرسان والمرامية وقدّم الأثقال إلى مرو. » فوجّهت الأثقال إلى مرو، ومضى عبد الرحمن يتبع الأثقال يريد مرو يومه كلّه. فلمّا أمسى كتب إليه:
« إذا أصبحت فوجّه الأثقال إلى مرو، وسر في الفرسان والمرامية نحو السغد واكتم الأخبار فإني بالأثر. » فلمّا أتى عبد الرحمن الخبر أمضى الأثقال إلى مرو، وسار حيث أمره. وخطب قتيبة الناس فقال:
« إنّ الله، عز وجل، قد فتح لكم هذه البلدة في وقت الغزو فيه ممكن وهذه السغد شاغرة برجلها قد نقضوا العهد الذي كان بيننا، ومنعونا من مال الصلح الذي صالحنا عليه صاحبهم، وصنعوا به ما بلغكم. وقال الله، عز وجل: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ. فسيروا على بركة الله فإني أرجو أن تكون خوارزم والسغد كالنضير وقريظة. » فأتى السغد وقد سبقه عبد الرحمن بن مسلم في عشرين ألفا، وقدم عليه قتيبة في أهل خوارزم بعد ثالثة ورابعة، فقال:
« إنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين. » فحصرهم شهرا، فقاتلوه في حصارهم من وجه واحد، وخاف أهل السغد طول الحصار، فكتبوا إلى أهل الشاش وإخشيذ فرغانة:
« إنّ العرب إن ظفروا بنا عادوا عليكم بمثل ما أتونا به، فانظروا لأنفسكم فاجتمعوا على أن تأتوهم. » فأرسلوا إليهم أن:
« أرسلوا إليهم من يشغلهم حتى نبيت عسكرهم. » وانتخبوا فرسانا من أبناء المرازبة والأساورة والأشدّاء الأبطال، فوجّهوهم وأمروهم أن يبيّتوا عسكرهم. وجاءت عيون المسلمين، فأخبروهم، فانتخب قتيبة ثلاثمائة أو ستمائة من أهل النجدة واستعمل عليهم صالح بن مسلم.
وكان ملك الشاش وإخشيذ فرغانة وخاقان لمّا أتاهم كتاب غورك قالوا:
« إنّ صاحب السغد بيننا وبين العرب، فإن وصلوا إليهم كنّا أضعف وأذلّ، فإنّا والله ما نؤتى إلّا من سفلتنا وإنّهم لا يجدون كوجدنا، ونحن معشر الملوك المعنيّون بهذا الأمر. » فانتخبوا أبناء الملوك وفتيانهم وقالوا لهم:
« أخرجوا حتى تأتوا على عسكر قتيبة، فإنّه مشغول بحصار السغد. » وولّوا عليهم ابنا لخاقان. وبلغ قتيبة الخبر كما حكيناه من أمره، فانتخب من أهل النجدة والبأس، فكان منهم: شعبة بن ظهير، وزهير بن حيّان، وعدّة من أمثالهم، فقال لهم:
« إنّ عدوّكم قد رأوا بلاء الله عندكم وتأييده إيّاكم، فأجمعوا على أن يحتالوا ويطلبوا غرّتكم وبياتكم، واختاروا دهاقينهم وملوكهم، وأنتم دهاقين العرب وفرسانهم وقد فضّلكم [ الله ] بدينه، فأبلوا الله بلاءا حسنا تستوجبون به الثواب مع الذبّ عن أحسابكم. » ووضع قتيبة عيونا على العدوّ، حتى إذا قربوا منه قدر ما يصلون إلى عسكرهم من الليل، أخرج الذين انتخبهم، واستعمل عليهم صالح بن مسلم.
فخرجوا من العسكر عند المغرب، فساروا فنزلوا على فرسخين من العسكر على طريق القوم الذين وصف لهم.
وفرّق صالح خيله، وأكمن كمينا عن يساره ويمينه، حتى إذا مضى نصف الليل أو ثلثاه جاء العدوّ باجتماع وإسراع وصمت، وصالح واقف في خيله. فلمّا رأوه شدّوا عليه حتى إذا اختلفت الرماح شدّ الكمينان عن يمين وشمال. فلم ير قوم كانوا أشدّ منهم.
فتحدّث شعبة قال: إنّا لنختلف عليهم بالضرب والطعن إذ تبيّنت قتيبة، فضربت ضربة أعجبتنى وأنا أنظر إلى قتيبة فقلت:
« كيف ترى بأبي أنت وأمي؟ » فقال:
« اسكت دقّ الله فاك. » فقتلناهم، فلم يفلت منهم إلّا الشريد، وأقمنا نحوي الأسلاب، ونحتزّ الرؤوس حتى أصبحنا، ثم أقبلنا إلى العسكر. فلم أر قطّ جماعة جاءوا بمثل ما جئنا به، ما منّا رجل إلّا معلّقا رأسا معروفا باسمه، وسلبا من جيّد السلاح وكريم المتاع ومناطق الذهب ودوابّ فره، وجئنا بالرؤوس إلى قتيبة، فقال:
« جزاكم الله خيرا عن الدين والأحساب. » ثم أكرمنى من غير أن يكون باح لي بشيء، وقرن بي في الصلة والإكرام حيّان العدوى وحليسا الشيبانى. فظننت أنّه رأى منهما مثل الذي رأى مني.
وكسر ذلك أهل السغد وطلبوا الصلح وعرضوا الفدية، فأبى قتيبة وقال:
« أنا ثائر بدم طرخون - يعنى صاحبهم - كان مولاي، وفي ذمّتى. » ووضع قتيبة عليهم المجانيق فرماهم وهو في ذلك لا يقلع عنهم، وناصحه من كان معه من أهل بخارى وأهل خوارزم، وبذلوا أنفسهم.
فأرسل إليهم غورك:
« إنّك إنّما تقاتلني بإخوتى وأهل بيتي من العجم فأخرج إلى العرب. » فغضب قتيبة ودعا الجدليّ وقال:
« اعرض الناس وميّز أهل البأس. » فجمعهم، ثم جلس قتيبة يعرضهم بنفسه، ودعا العرفاء، فجعل يدعو برجل رجل فيقول:
« ما عندك؟ » فيقول العريف:
« شجاع. » ويقول:
« ما هذا؟ » فيقول:
« محتضر. » ويقول:
« ما هذا؟ » فيقول:
« جبان. » فسمّى قتيبة الجبناء الأنتان، وأخذ خيلهم وجيد سلاحهم فأعطاه الشجعاء والمحتضرين، فترك لهم رثّ السلاح، ثم زحف بهم فقاتل بهم فرسانا ورجالا، ورمى المدينة بالمجانيق، فثلم فيها ثلمة فسدّوها بغرائر الدخن وجاء رجل حتى قام على الثلمة، فشتم قتيبة شتما قبيحا فضيحا بالعربيّة. وكان مع قتيبة قوم رماة، فقال لهم:
« اختاروا منكم رجلين. » فاختاروا. فقال:
-
« أيّكما يرى هذا الرجل، فإن أصابه فله عشرة آلاف وإن أخطأ قطعت يده. » فتلكّأ أحدهما وتقدّم الآخر، فلم يخطئ عينه. فأمر له بعشرة آلاف.
فتحدّث يحيى بن خالد بن ثابت مولى مسلم بن عمرو قال: كنت في رماة قتيبة، فلمّا فتحنا المدينة صعدت السور، فأتيت مقام ذلك الرجل الذي كان فيه، فوجدته ميّتا على الحائط ما أخطأت النشّابة عينه حتى خرجت من قفاه.
ثم أصبحوا من غد فرموا المدينة حتى ثلموا فيها. وقال قتيبة:
« ألحّوا عليها حتى تعبروا الثلمة. » فقاتلوهم، ورماهم السغد بالنشّاب، فوضعوا ترستهم على أعينهم، ثم حملوا حتى صاروا على الثلمة، وكانوا طلبوا الصلح، فقال قتيبة:
« لا والله! ما نصالحكم إلّا ورجالنا على الثلمة ومجانيقنا تخطر على مدينتكم. » فصالحهم من غد على ألفي ألف ومائتي ألف في كلّ عام، على أن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس ليس فيه صبيّ ولا شيخ ولا ذو عيب، وعلى أن يخلوا المدينة لقتيبة، فلا يكون لهم فيها مقاتل، فيبنى فيها مسجد فيدخل ويصلّى، ويوضع له فيها منبر، ويتغدّى ويخرج.
فلمّا تمّ الصلح بعث قتيبة بعشرة من كلّ خمس برجلين، فقبضوا ما صالحهم عليه، فقال قتيبة:
« الآن ذلّوا حين صار أزواجهم وأولادهم في أيديكم. » ثم أخلوا المدينة وبنوا مسجدا ووضعوا منبرا، فدخلها قتيبة في أربعة آلاف انتخبهم. فلمّا دخلها أتى المسجد، فصلّى وخطب، ثم تغدّى. وأرسل إلى أهل السغد:
« من أراد منكم أن يأخذ متاعه فليأخذ، فإني لست خارجا منها، وإنّما صنعت هذا لكم، ولست آخذ منكم أكثر مما صالحتكم عليه غير أنّ الجند يقيمون فيها. »
والباهليّون يقولون: صالحهم قتيبة على مائة ألف رأس وبيوت النيران وحلية الأصنام. فقبض ما صالحهم عليه، وأتى بالأصنام فسلبت ووضعت بين يديه وكانت كالقصر العظيم حين جمعت، فأمر بتحريقها.
فقالت الأعاجم:
« إنّ فيها أصناما من حرقها هلك. » فقال قتيبة:
« أنا أحرقها بيدي. » فجاء غورك، فجثا بين يديه وقال:
« إنّ شكرك عليّ واجب، لا تعرّض لهذه الأصنام. » فدعا قتيبة بالنار، فأخذ شعلة بيده، وخرج فكبّر، ثم أشعلها وأشعل الباب، فاضطرمت، فوجدوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضّة خمسين ألف مثقال.
جارية رابعة ليزدجرد أصابها قتيبة
ومن ملح الحديث وإن لم يكن من شرط هذا الكتاب، أنّ قتيبة أصاب بالسغد جارية رابعة من ولد يزد جرد، فقال:
« أترون ابن هذه يكون هجينا؟ » فقالوا:
« نعم، يكون هجينا من قبل أبيه. » فبعث بها إلى الحجّاج، فبعث بها الحجّاج إلى الوليد، فولدت له يزيد بن الوليد.
ما أوصى به قتيبة عبد الله بن مسلم
ولمّا فتح قتيبة سمرقند استخلف عليها عبد الله بن مسلم وخلّف عنده جندا كثيفا وآلة من آلات الحرب كثيرة، وقال:
« لا تدعنّ مشركا يدخل بابا من أبواب سمرقند إلّا مختوم اليد، فإن جفّت الطينة قبل أن يخرج فاقتله، وإن وجدت معه حديدة أو سكّينا فما سواه فاقتله، وإن أغلقت الباب ليلا فوجدت فيها منهم فاقتله.
وقال قتيبة لمّا جمع بين فتح خوارزم وسمرقند:
« هذا العداء لا عداء العيرين. » لأنّه افتتح خوارزم وسمرقند في عام واحد، وذلك أنّ الفارس إذا صرع في طلق واحد عيرين، قيل: عادى بين عيرين.
فتوح أخرى تمت في هذه المدة
وفي هذه المدة التي ذكرنا فيها أمور الحجّاج بالعراق وأخباره مع الخوارج وعبد الرحمن بن الأشعث وغزوات قتيبة والمهلّب قبله كانت غزوات لعبد الله بن عبد الملك أرض الروم، ففتح فيها المصيصة وغيرها، وغزوات لمسلمة بن عبد الملك، ففتح فيها طوانة، وغيرها، وقسطنطنين، وغزالة، وحصن سورية، وعمّورية وهرقلة، وقمولية. وغزا أيضا مسلمة بن عبد الملك في هذه المدة الترك حين بلغ الباب من ناحية أذربيجان.
وأغزى موسى بن نصير الأندلس، ففتحها، وفتح موسى بن نصير من بلاد الأندلس عدّة مدن، وقتل ملكها، وكان رجلا من أهل إصبهان، وكان ملوك الأندلس يلقّبون كما تلقّب الأكاسرة والقياصرة، فيقال لملكها: الأذرينوق، فقتله موسى بعد قتال شديد لم تكن فيها مكيدة، وكانت فيها غزوات العباس بن الوليد أرض الروم.
وغزوات لمروان بن الوليد الروم، فتحوا لهم مدنا وحصونا.
ولم يذكر في جميع ذلك ما يستفاد منه تجربة.
وقتل الحجّاج سعيد بن جبير في سنة خمس وسبعين.
ذكر كلام لسعيد بن جبير كان سبب قتله
قال: لمّا أتى الحجّاج بسعيد بن جبير، قال:
« لعن الله ابن النصرانيّة.. » يعنى خالدا القسريّ وهو الذي كان أرسل به من مكّة.
«.. أتراني ما كنت أعرف مكانه؟ بلى والله والبيت الذي هو فيه بمكّة. » ثم أقبل على سعيد، فقال:
« يا سعيد، ما أخرجك عليّ مع عدوّ الرحمن؟ » قال:
« أصلح الله الأمير، إنّما أنا رجل من المسلمين يخطئ مرّة ويصيب مرّة. » قال: فطابت نفس الحجّاج وتطلّق حتى رجونا أن يتخلّص منه. عاوده في شيء، فقال:
« إنّما كانت له بيعة في عنقي. » قال: فغضب الحجّاج وانتفخ حتى سقط أحد طرفي ردائه عن منكبه، وقال:
« يا سعيد، ألم أقدم مكّة فقتلت ابن الزبير، ثم أخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك؟ » قال:
« بلى. » قال:
« ثم قدمت الكوفة واليا على العراق، فجدّدت لأمير المؤمنين البيعة فأخذت بيعتك له ثانية؟ » قال:
« بلى. » قال:
« فنكثت لأمير المؤمنين بيعتين، ووفيت بواحدة لابن الحائك! يا حرسيّ اضرب عنقه. » ثم قام ليركب، فوضع رجله في الركاب، وقال:
« لا والله، لا أركب حتى تبوّأ مقعدك من النار. » فضربت عنقه، فالتبس عقله مكانه، فجعل يقول:
« قيودنا قيودنا! » فظنّ أنّه يريد القيود التي في رجل سعيد بن جبير، فقطعوا رجليه من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود. فكان إذا نام يراه في منامه كأنّه يأخذ بمجامع ثوبه، فيقول:
« ما لي ولابن جبير؟ »
موت الحجاج بن يوسف
وفيه هذه السنة مات الحجّاج بن يوسف، وكان استخلف في مرضه على حرب العراقين والصلاة بأهلها يزيد بن كبشة، وعلى خراجها يزيد بن أبي مسلم، فأقرّهما الوليد بعد موت الحجّاج، وكذلك فعل بعمّال الحجّاج، أقرّهم على أعمالهم التي كانوا عليها في حياته.
ودخلت سنة ستّ وتسعين
من سيرة الوليد بن عبد الملك
وفيها مات الوليد بن عبد الملك في النصف من جمادى الآخرة منها، وكان عند أهل الشام أفضل خلائفهم، وذلك أنّه بنى مساجد منها مسجد دمشق ومسجد المدينة، ووضع المنار وأعطى المجذّمين وأفردهم، وقال:
« لا تسألوا الناس! » وأعطى كلّ مقعد خادما وكلّ ضرير قائدا.
وفتحت في ولايته فتوح عظام. أمّا موسى بن نصير ففتح الأندلس، وبلغ قتيبة كاشغر، وهي أوّل مدائن الصين، وفتح محمد بن القاسم الهند.
وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ المصانع والضياع. فكان الناس في أيامه إذا التقوا فإنّما يسأل بعضهم بعضا عن البناء والضياع.
ثم ولى سليمان فكان صاحب نكاح وطعام، وكان الناس يسأل بعضهم بعضا عن التزويج والجواري.
فلمّا ولى عمر بن عبد العزيز، كانوا يلتقون فيقولون:
« ما وردك؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ وكم تصوم من الشهر؟ » وكان الوليد وسليمان وليّى عهد عبد الملك. فلمّا أفضى الأمر إلى الوليد أراد أن يبايع لابنه عبد العزيز ويخلع سليمان. فأبى سليمان، فأراده على أن يخلعه من بعده، فامتنع أيضا، فعرض عليه أموالا كثيرة، فأبى. فكتب إلى عمّاله بأن يبايعوا لعبد العزيز، ودعا الناس إلى ذلك فلم يجبه أحد إلّا الحجّاج وقتيبة.
ذكر رأي لعباد بن زياد
فقال عبّاد بن زياد:
« يا أمير المؤمنين، إنّ الناس لا يجيبونك إلى هذا، ولو أجابوك لم آمنهم على الغدر بابنك، فاكتب إلى سليمان فليقدم عليك، فإن لك عليه طاعة، فأرده على البيعة لابنك عبد العزيز من بعده، فإنّه لا يقدر على الامتناع وهو عندك، فإن أبي كان الناس عليه. » فكتب الوليد إلى سليمان يأمره بالمسير إليه، فأبطأ، واعتزم الوليد على المسير إليه وعلى أن يخلعه. فأمر الناس بالتأهّب وأخرجت مضاربه ومات قبل أن يسير.
فتح كاشغر وما دار بين مبعوثي قتيبة وملك الصين
وكان قتيبة قد غزا في هذه السنة مدينة كاشغر وهي أدنى مدائن الصين. فلمّا بلغ فرغانة أتاه موت الوليد، فوغل قتيبة حتى قرب من الصين، فكتب إليه ملك الصين أن:
« ابعث إليّ رجلا من أشراف من معكم يخبرنا عنكم ونسأله عن دينكم. » فانتخب قتيبة من عسكره اثنى عشر رجلا من أفناء القبائل لهم جمال وأجسام وألسن وبأس. وبعد أن سأل عنهم، فوجدهم بحيث أحبّ، فكلّمهم قتيبة وفاطنهم، فرأى عقولا وجمالا، فأمر لهم بعدّة حسنة من السلاح والمتاع والجيّد من الخزّ والوشي والليّن من الثياب والرقيق والبغال والعطر، وحملهم على خيول مطهّمة تقاد معهم، ودوابّ يركبونها، وقال لهم:
« سيروا على بركة الله، فإذا دخلتم عليه فأعلموه أنّى قد حلفت أن لا أنصرف حتى أطأ بلادهم و [ أختم ] ملوكهم وأجبى خراجهم. » فساروا وعليهم هبيرة بن المشمرج، فلمّا قدموا أرسل إليهم ملك الصين يدعوهم. فدخلوا الحمّام، ثم خرجوا، فلبسوا ثيابا بياضا تحتها الغلائل، ثم مسّوا الغالية، ولبسوا النعال والأردية ودخلوا عليه وعنده عظماء أهل مملكته، فجلسوا، فلم يكلّمهم الملك ولا أحد من جلسائه، فنهضوا فقال الملك لمن حضره:
« كيف رأيتم هؤلاء؟ » قالوا:
« رأينا قوما هم نساء، ما بقي منّا أحد حين رءاهم ورأى شعورهم ووجد رائحتهم إلّا انتشر ما عنده. » قال: فلمّا كان الغد أرسل إليهم فلبسوا الوشي وعمائم الخزّ والمطارف وغدو عليه. فلمّا دخلوا إليه قيل لهم:
« ارجعوا! » ثم قال لأصحابه:
« كيف رأيتم؟ » قالوا:
« هذه الهيئة أشبه بهيئة الرجال من تلك [ الهيئة ] الأولى وهم أولئك. » فلمّا كان اليوم الثالث أرسل إليهم فشدّوا عليهم سلاحهم ولبسوا البيض والمغافر، وتقلّدوا السيوف، وأخذوا الرماح، وتنكّبوا القسيّ وركبوا خيولهم. فنظر إليهم صاحب الصين من منظرة له، فرأى أمثال الجبال مقبلة. فلمّا دنوا ركّزوا رماحهم، ثم أقبلوا مشمّرين، فقيل لهم قبل أن يدخلوا:
-
« ارجعوا! » فانصرفوا. فلمّا ركبوا خيولهم اختلجوا رماحهم ثم رفعوا خيولهم كأنّهم يتطاردون بها. فقال الملك لأصحابه:
« كيف ترونهم؟ » قالوا:
« ما رأينا مثل هؤلاء قطّ. » فلمّا أمسى أرسل إليهم أن ابعثوا إليّ زعيمكم وأفضلكم رجلا.
فبعثوا إليه هبيرة، فقال له حين دخل عليه:
« قد رأيتم عظيم ملكي وأنّه ليس أحد يمنعكم مني وأنتم في بلادي بمنزلة الخاتم في كفّى، وأنا سائلكم عن أمر، فإن لم تصدقوني قتلتكم. » قال:
« سل. » قال:
« لم صنعتم ما صنعتم من الزيّ في اليوم الأوّل والثاني والثالث؟ » قال:
« أمّا زيّنا في اليوم الأوّل فلباسنا في أهالينا، وأمّا يومنا الثاني، فإذا أتينا أمراءنا، وأمّا يومنا الثالث فزيّنا لعدوّنا، فإذا هاج هيج كنّا هكذا. » قال:
« ما أحسن ما دبّرتم دهركم! فانصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له ينصرف فإني قد عرفت حرصه وقلّة أصحابه وإلّا بعثت إليه من يهلكه ويهلككم معه. »
ذكر كلام لهبيرة في جواب الملك صار سببا لحمله الخراج وتهيبه الحرب
فأجابه هبيرة وقال:
« كيف يكون قليل الأصحاب من أوّل خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون، وكيف يكون حريصا من خلّف الدنيا وراءه قادرا عليها وغزاك؟ وأمّا تخويفك إيّانا بالقتل فإنّ لنا آجالا إذا حضرت فلسنا نكرهها ولا نخافها. » فقال بعد أن أطرق:
« فما الذي يرضى صاحبك؟ » قال:
« إنّه قد حلف ألّا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويعطى الجزية. » قال:
« فإنّا نخرجه من يمينه: نبعث إليه بتراب أرضنا فيطأه، ونبعث إليه ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها. » قال: فدعا بصحاف من ذهب فيها تراب، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم. ثم أجازهم فأحسن جوائزهم، فساروا فقدموا بما بعثوا به. » فقبل الجزية وختم الغلمة وردّهم ووطئ التراب. فقال في ذلك سوادة بن عبد الله السلولي:
لا عيب في الوفد الذين بعثتهم ** للصين لو سلكوا طريق المنهج
كسروا الجفون على العدى خوف الرّدى ** حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج
لم يرض غير الختم في أعناقهم ** ورهائن دفعت لحمل سمرّج
أدّى رسالتك التي استرعيته ** وأتاك من حنث اليمين بمخرج
قال: فأوفد قتيبة هبيرة إلى الوليد، فمات بقرية من فارس.
من سيرة قتيبة
وكان من سيرة قتيبة إذا بعث طلائع الفرسان أو غيرهم أن يأمر بلوح منقوش فيشقّ شقّتين، فيعطيهم شقّة ويحتبس شقّة ويأمرهم أن يدفنوها في موضع يصفه من مخاضة معروفة، أو تحت شجرة معلومة، ثم يبعث بعده من يستخرجها ليعلم أصادق طليعته أم لا.
خلافة سليمان بن عبد الملك بن مروان
وفي هذه السنة بويع سليمان بن عبد الملك وخالف قتيبة بخراسان وتأدّى أمره إلى أن قتل.
ذكر السبب في ذلك
كان سبب ذلك ما حكيناه من إجابة قتيبة الوليد إلى خلع سليمان.
فلمّا مات الوليد وبويع سليمان خافه قتيبة، وأشفق أن يولّى سليمان يزيد بن المهلّب خراسان لمودّة كانت بين يزيد بن المهلّب وبين سليمان.
فكتب قتيبة كتابا إلى سليمان يهنّئه بالخلافة ويعزّيه عن الوليد ويعلمه بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد وأنّه على مثل ذلك له من الطاعة والنصيحة إن لم يعزله عن خراسان، ثم كتب كتابا آخر يعلمه فيه فتوحه ونكايته وعظم قدره عند ملوك العجم وهيبته في صدورهم وبعد صوته فيهم، ويذمّ المهلّب وآل المهلّب، ويحلف بالله لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنّه.
ثم كتب كتابا ثالثا فيه خلعه.
وبعث بالكتب الثلاثة مع رجل من باهلة وقال:
« ادفع هذا الكتاب، فإن كان يزيد بن المهلّب حاضرا فقرأه ثم ألقاه إليه فادفع إليه هذا الكتاب، فإن قرأه وألقاه إليه فادفع إليه هذا الكتاب الثالث. وإن قرأ الأوّل ولم يدفعه إلى يزيد فاحتبس الكتابين الآخرين. » فقدم رسول قتيبة ودخل على سليمان وعنده يزيد بن المهلّب، فدفع الكتاب الأوّل، فقرأه، ثم ألقاه إلى يزيد، ثم دفع إليه الكتاب الثاني فقرأه ثم رمى به إلى يزيد، ثم أعطاه الكتاب الثالث فتمعّر لونه ثم دعا بطين فختمه ثم أمسكه [ بيده ]. ثم أمر رسول قتيبة أن ينزل. فحوّل إلى دار الضيافة. فلمّا أمسى دعا به سليمان، فأعطاه صرّة فيها دنانير، فقال:
« هذه جائزتك وهذا عهد صاحبك على خراسان، فسر، وهذا رسولي معك بعهده. » فخرج الباهليّ و [ معه ] رسول سليمان. فلمّا كانا بحلوان تلقّاهما الناس بخلع قتيبة واضطراب الأمر. فدفع الرسول العهد إلى رسول قتيبة وانصرف هو.
ذكر عجلة قتيبة بالخلع وما دبره من أمره
فأمّا قتيبة فإنّه لمّا همّ بالخلع استشار إخوته، فقال عبد الرحمن:
« اقطع بعثا، فوجّه فيه كلّ من تخافه، ووجّه قوما إلى مرو وسر حتى تنزل سمرقند، ثم قل لمن معك: من أحبّ المقام فله المواساة، ومن أراد الانصراف فغير مستكره ولا متبوع بسوء، فإنّه لا يقيم معك إلّا ناصح. »
وقال أخوه عبد الله:
« اخلعه مكانك، وادع الناس إلى خلعه، فليس يختلف عليك رجلان. » فأخذ برأى عبد الله فخلع سليمان ودعا الناس إلى خلعه، وخطب:
« أيها الناس، إني قد جمعتكم من عين التمر وفيض البحر، فضممت الأخ إلى أخيه والولد إلى أبيه، وقسمت بينكم فيئكم، وأجريت عليكم أعطياتكم غير مكدّرة ولا مؤخّرة، وقد جرّبتم الولاة [ قبلي، ] أتاكم أميّة، فكتب إلى أمير المؤمنين أنّ خراج خراسان لا يقيم مطبخى، ثم جاءكم أبو سعيد، فدوّم ثلاث سنين ولا تدرون: أفي طاعة أنتم أم في معصية، لم يجب فيئا، ولا نكا عدوّا. ثم جاءكم بنوه بعده. فحل تنازى إليه النساء، وإنّما خليفتكم يزيد بن ثروان هبنّقة القيسي، فلم يجبه أحد.. » فغضب وقال:
«.. لا أعزّ الله من نصرتم، والله لو اجتمعتم على غير ما كسرتم قرنه يا أهل السافلة - ولا أقول العالية - يا أوباش الصدقة، جمعتكم كما تجمع إبل الصدقة من كلّ أوب، يا معشر بكر بن وائل، يا أهل النفح والكذب والبخل! بأيّ يوميكم تفخرون: بيوم حربكم، أم يوم سلمكم؟ يا أصحاب مسيلمة، يا بنى ذميم - ولا أقول: تميم - يا أهل الخور والقصف والغدر، كنتم تسمّون الغدر في الجاهليّة كيسا، يا معشر عبد القيس القساة، تبدّلتم من أبر النخل أعنّة الخيل، يا معشر الأزد تبدّلتم من [ قلوس ] السفن أعنّة الحصن. الأعراب، وما الأعراب! يا كناسة المصرين، جمعتكم من منابت الشيخ والقيصوم ومنابت الفلفل، تركبون البقر والحمر في جزيرة بنى كاوان، حتى إذا جمعتكم كما يجمع قزع الخريف، قلتم كيت وكيت. أما والله، لأعصبنّكم عصب السلمة. يا أهل خراسان! هل تدرون من واليكم؟ يزيد بن ثروان. كأنّى بأمير قد جاءكم، من جاء وحكم فغلبكم على فيئكم وظلالكم. إنّ هاهنا نارا ارموها أرم معكم، ارموا غرضكم الأقصى. قد استخلف عليكم أبو نافع ذو الودعات. الشام أب مبرور، والعراق أب مكفور، حتى متى ينتطح أهل الشام بأفنيتكم وظلال دياركم. يا أهل خراسان! انسبوني تجدوني عراقيّ الأب، عراقيّ الأمّ، عراقيّ المولد، عراقيّ الهوى والرأي والدين، وقد أصبحتم اليوم في ما ترون من الأمن والعافية وقد فتح الله لكم البلاد، وآمن سبلكم، فالظعينة تخرج من مرو إلى بلخ بغير جواز، فاحمدوا الله على النعمة، وسلوه المزيد. » ثم نزل.
فأتاه أهل بيته، فقالوا:
« ما رأينا كاليوم قطّ، والله، ما اقتصرت على العالية وهم شعارك ودثارك، حتى تناولت بكرا وهم أعضادك وأنصارك، ثم لم ترض بذلك حتى تناولت تميما وهم إخوتك، ثم لم ترض حتى تناولت الأزد وهم يدك. » فقال:
« ويحكم! إني لمّا تكلّمت فلم يجيبوا غضبت، فلم أدر ما قلت. أما أهل العالية فكإبل الصدقة وقد جمعت من كلّ أوب، وأمّا بكر فإنّها أمة لا تمنع يد لامس، وأمّا تميم فجمل أجرب، وأمّا عبد القيس فما تضرب العير بذنبه، وأمّا الأزد فأعلاج أشرار لو وسمتهم لما أثمت. » فغضب الناس من شتم قتيبة، فأجمعوا على خلافه، وكرهوا أيضا خلع سليمان. فكان أوّل من تكلّم في ذلك الأزد. فأتوا حصين بن المنذر، فأبى أن يقبل رئاستهم فأرادوا أن يولّوا عبد الله بن ذودان الجهضمي، فأبى وتدافعوها، فرجعوا إلى حصين وقالوا:
« قد تدافعنا الرئاسة، فنحن نولّيك أمرنا وربيعة تخالفك. » قال:
-
« لا ناقة لي في هذا ولا جمل. » قالوا:
« فما ترى؟ » قال:
« إن جعلتم هذه الرئاسة في تميم تمّ أمركم. » قالوا:
« فمن ترى من تميم؟ » قال:
« ما أرى أحدا غير وكيع. » فقال حيّان النبطيّ وكان حاضرا:
« إنّ أحدا لا يتقلّد هذا الأمر ثم يصلى بحرّه ويبذل دمه ويتعرّض للقتل، فإن قدم أمير أخذه بما جنى وكان المهنأ لغيره إلّا هذا الأعرابى - يعنى وكيعا - فإنّه مقدام لا يبالى ما ركب ولا ينظر في عاقبة، وله عشيرة كثيرة تطيعه، وهو موتور يطلب قتيبة برئاسته التي صرفها عنه وصيّرها لضرار بن حصين بن زيد الفوارس الضبيّ. » فمشى الناس بعضهم إلى بعض سرّا، وقيل لقتيبة:
« ليس يفسر أمر الناس إلّا حيّان. » فأراد أن يغتاله. وكان حيّان كثير الملاطفة لحشم الولاة، فلا يخفون عنه شيئا.
فدعا قتيبة رجلا وأمره بقتل حيّان وسمعه بعض الخدم. فأتى حيّان فأخبره.
فأرسل إليه يدعوه، فحذر وتمارض. وأتى الناس وكيعا فسألوه أن يقوم بأمرهم، فقال:
« نعم. » وتمثّل:
سأجنى ما جنيت وإنّ أمري ** لمعتمد على نضد ركين
وبخراسان يومئذ من المقاتلة من جميع القبائل نحو من خمسين ألفا ومن الموالي سبعة آلاف، وكان الذي يلي أمر الموالي حيّان. ويقال: إنه ديلميّ، وقيل:
بل هو من خراسان، وإنّما قيل له نبطيّ للكنته.
فأرسل حيّان إلى وكيع:
« أرأيت إن كففت عنك وأعنتك، أتجعل لي جانب نهر بلخ خراجه ما دمت واليا؟ » قال:
« نعم. » فقال للعجم:
« هؤلاء يقاتلون على غير دين، فدعوهم يقتل بعضهم بعضا. » قالوا:
« نعم. »
فبايعوا وكيعا سرّا. فأتى ضرار بن حصين قتيبة، فقال له:
« إنّ الناس يختلفون إلى وكيع ويبايعونه. » فكان وكيع يأتى منزل عبد الله بن مسلم الفقير أخي قتيبة فيشرب عنده، فقال عبد الله:
« هذا يحسد وكيعا والحديث باطل. وكيع في بيتي يشرب ويسكر ويسلح في ثيابه وهذا يزعم أنّهم يبايعونه. » وجاء وكيع إلى قتيبة، فقال:
« احذر ضرارا، فإني لا آمنه عليك. » فأنزل قتيبة ذاك على الحسد الذي بينهما. وتمارض وكيع، فدسّ قتيبة ضرار بن سنان الضبي إلى وكيع، فبايعه سرّا، فتبيّن لقتيبة أمره، فدعا ضرارا وقال له:
« كنت صدقتني. » قال:
« لم أخبرك إلّا بعلم، فأنزلت ذلك مني على الحسد. » قال:
« صدقت. » فأرسل قتيبة إلى وكيع يدعوه. فوجده الرسول قد طلى على رجليه مغرة وعلّق عليها خرزا وعنده من يرقيه. فقال له:
« أجب الأمير. » قال:
« قد ترى ما برجلي. » فرجع الرسول إلى قتيبة، فأعاده إليه وقال:
« ايتنى به محمولا على سرير. » قال:
« لا أستطيع. » فقال قتيبة لشريك بن الصامت، وكان على شرطته، ولرجل آخر من غنيّ:
« انطلقا إلى وكيع فأتيا به، فإن أبي فاضربا عنقه. » ووجّه معهما خيلا فقال هريم بن طخفة:
« أنا آتيك به أصلحك الله. » قال:
« فانطلق. » قال هريم: فركبت برذوني وركضت مخافة أن يردّنى، فأتيت وكيعا وقد سبق إليه الخبر والخيل يأتيه.
فخرج وخرج معه هريم وهو على يمينه. ونادى وكيع في الناس، فأقبلوا أرسالا من كلّ وجه، وأقبل في الناس وهو يقول:
قرم إذا حمّل مكروهة ** شدّ الشراسيف لها والحزيم
وأمر قتيبة رجلا فقال:
« ناد في الناس: أين بنو عامر؟ » فنادى:
« أين بنو عامر؟ » فقال له مجفر بن جزء الكلابيّ:
« وقد كان جفاؤهم حيث وضعتهم. » قال:
« ناد: أذكّركم الله والرحم. » قال مجفر:
« أنت قطعتها. » قال:
« ناد لكم العتبى. » فناداه مجفر وغيره:
« لا أقالنا الله إذا. » فدعا قتيبة ببرذون له مدرّب كان يلجأ إليه في الزحوف، فقرّب إليه، فجعل يقمص حتى أعياه. فلمّا رأى ذلك عاد إلى سريره وقال:
« دعوه، هذا أمر يراد. » وجاء حيّان النبطي في العجم، فوقف وقتيبة واجد عليه، فوقف معه عبد الله مسلم، وقال لحيّان:
« احمل على أحد هذين الطرفين. » قال:
« لم يأن لي ذلك. » فغضب عبد الله وقال:
« ناولني قوسي. » فقال:
« ليس هذا يوم قوس. » وأرسل وكيل إلى حيّان:
« أين ما وعدتني؟ » فقال حيّان لابنه:
« إذا رأيتنى قد حوّلت قلنسوتي ومضيت، فمل بمن معك من العجم إليّ. » ففعل، ومالت الأعاجم إلى عسكر وكيع، فكبّر أصحابه. وبعث قتيبة أخاه صالحا إلى الناس، فرمى بسهم فأصاب هامته، فحمل إلى قتيبة مائل الرأس، وتهايج الناس، وأقبل عبد الرحمن بن مسلم نحوهم، فرماه أهل السوق والغوغاء فقتلوه، ودنوا من قتيبة، فدعا بدابّة فأتى به، فلم يقرّ ليركبه، فقال:
-
« إنّ له لشأنا. » ورجع فجلس، وجاء الناس حتى بلغوا فسطاطه، فخرج عنه من كان حوله فقتل وقتل معه من بنى مسلم أحد عشر رجلا سبعة منهم لصلب مسلم، وأربعة من بنى أبنائهم، فصلبهم وكيع، وهم: قتيبة، وعبد الرحمن وعبيد الله، وعبد الله الفقير، وصالح، ويسار، ومحمد بنو مسلم، وكثير بن قتيبة، ومفلّس بن عبد الرحمن، ورجلان آخران، ولم ينج من صلب مسلم غير عمرو، وكان عامل الجوزجان، وضرار أخوه استنقذ أخواله، وكانت أمّه الغرّاء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة. وسقطت على قتيبة يوم قتل جارية له خوارزميّة، فوضعت بعد ليزيد بن المهلّب، فأخذها، فهي أمّ خليدة.
ولمّا قتل قتيبة صعد وكيع المنابر، فعلم منه أنّه يأتى بآبدة وهوجة.
فصعد معه عمارة بن خئيّه، فتكلّم فأكثر، فقال وكيع:
« دعنا من هذرك وقذرك. » وتكلّم وكيع فقال:
« مثلي ومثل قتيبة، ما قال الأوّل:
من ينك العير ينك نيّاكا
من أيّ يوميك من الموت تفرّ ** أيوم لم يقدر، أم يوم قدر
«.. أراد قتيبة أن يقتلني وأنا قتّال، والله لأقتلنّ ثم لأقتلنّ، ثم لأصلبنّ. إني لوالغ دماء، إلّا أنّ مرزبانكم هذا ابن الزانية قد أغلى أسعاركم، والله ليصيرنّ القفيز في السوق غدا بأربعة، أو لأصلبنّه. صلّوا على نبيكم http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png. » ثم نزل.
وطلب وكيع رأس قتيبة وخاتمه، فقيل له:
« إنّ الأزد أخذته. » فخرج وكيع وهو يقول:
« دهدرّين سعد القين! والله الذي لا إله غيره لا أبرح حتى أوتى بالرأس، أو يذهب برأسى معه. » ودعا بخشب، فقال:
« إنّ هذه الخيل لا بدّ لها من فرسان يتهدّد بالصلب. » فقال له حصين:
« يا أبا مطرّف، توتى به فاسكن. » وذهب حصين إلى الأزد، وهو سيّدهم، فقال:
« أحمقى أنتم؟ بايعناه وأعطيناه المقادة وعرّض نفسه، ثم تأخذون الرأس! أخرجوه، لعنه الله من رأس! »
فجاؤوه به، فوهب لمن جاء به ثلاثة آلاف درهم. وبعث بالرأس مع رجال من القبائل وعليهم سليط، ولم يبعث من بنى تميم أحدا.
ووفّى لحيّان النبطي بما كان وعده به.
فقال رجل من عجم خراسان:
« يا معشر العرب! قتلتم قتيبة، والله لو كان منّا ثم مات فينا لجعلناه شهيدا وحفظنا تابوته إلى الحشر نستفتح به إذا غزونا. » وقال الإصبهبذ يوما لرجل:
« يا معشر العرب! قتلتم قتيبة ويزيد وهما سيّد العرب. » قال:
« نعم، فأيّهما كان أهيب في صدوركم وأعظم قدرا عندكم؟ » فقال له الإصبهبذ:
« لو كان قتيبة بالمغرب بأقصى جحر به مكبّلا بالحديد ويزيد معنا في بلادنا وال علينا، لكان قتيبة أهيب في صدورنا وأعظم من يزيد. » ورثى الشعراء قتيبة، فأكثروا.
وولّى سليمان يزيد بن المهلّب العراق مكان الحجّاج حربها وخراجها وصلاتها
.
ذكر رأي رءاه يزيد لنفسه عاد مكروها عليه
فكرّ يزيد في نفسه فقال:
« إنّ العراق قد أخربها الحجّاج، وأنا اليوم رجاء أهل العراق، ومتى قدمتها وأخذت الناس بالخراج وعذّبتهم عليه صرت مثل الحجّاج وأعيد عليهم مثل تلك السجون التي قد عافاهم الله منه أو متى لم آت سليمان بمثل ما جاء به الحجّاج لم يقبل مني. » فأتى يزيد سليمان وقال له:
« أدلّك على رجل بصير بالخراج تولّيه إيّاه فتكون أنت الذي تأخذه به؟ » قال:
« نعم. » قال صالح بن عبد الرحمن: قال:
« قد قبلنا رأيك. » وولّاه. فأقبل يزيد إلى العراق وتقدّم صالح فنزل واسطا. فلمّا قدم يزيد خرج الناس يتلقّونه. وقيل لصالح:
« هذا يزيد وقد خرج الناس يتلقّونه. » فلم يخرج حتى قرب يزيد من المدينة، فخرج صالح عليه درّاعة وبين يديه أربعمائة من أهل الشام، فلقى يزيد فسايره، فلمّا دخل المدينة، قال له صالح:
« قد فرّغت لك هذه الدار. » وأشار إلى دار. فنزلها يزيد واحتمل ذلك، ثم ضيّق صالح على يزيد فلم يملكه شيئا.
واتخذ يزيد ألف خوان يطعم الناس عليها، فأخذها صالح. فقال له يزيد:
« أكتب عليّ ثمنها. » واشترى متاعا كثيرا وصكّ صكاكا إلى صالح لباعتها فلم ينفذ. فرجعوا إلى يزيد، فغضب وقال:
« هذا عملي بنفسي. » فلم يلبث [ أن جاء ] صالح، فأوسع له يزيد، فجلس وقال ليزيد:
« ما هذه الصكاك التي لا يقوم لها الخراج. قد أنفذت لك منذ أيّام صكا بمائة ألف درهم وعجّلت لك أرزاقك، ثم سألت مالا للجند، فأعطيتك، فهذا لا يقوم له شيء ولا يرضى به أمير المؤمنين وتؤخذ به. » فقال له يزيد:
« يا با الوليد، أجز هذه الصكاك هذه المرّة. » قال:
« فإني أجيزها، فلا تكثرنّ عليّ. » قال:
« لا. » وضجر يزيد بصالح، فكان لا يصل معه إلى شيء. فدعا عبد الله بن الأهتم، فقال له:
« إني أريدك لأمر قد أهمّنى فأحبّ أن تكفينيه ولك مائة ألف. » قال:
« مرني بما شئت. » قال:
« أنا في ما ترى من الضيق، قد أضجرنى ذلك، وبلغني أنّ أمير المؤمنين ذكر خراسان لعبد الملك أخي، فاخرج واحتل حتى يسمّيها لي. » قال:
« أفعل، سرّحنى إلى أمير المؤمنين في بعض الأمور فإني أرجو أن آتيك بعهدك عليها. »
ما احتال به الأهتم حتى قلد يزيد خراسان
فكتب معه يزيد كتابين إلى سليمان وذكر في أحدهما أمر العراق وأثنى فيه على ابن الأهتم وعلمه بها. ثم وجّهه على البريد وأعطاه ثلاثين ألفا، فسار سبعا.
ثم قدم على سليمان فباسطه سليمان وحادثه وقال له:
« إنّ يزيد بن المهلّب كتب إليّ يذكّر علمك بالعراق وبخراسان، فكيف علمك بها؟ » قال:
« يا أمير المؤمنين، بها ولدت وبها نشأت، فلي بها خبر وعلم. » قال:
« ما أحوج أمير المؤمنين إلى مثلك، فأخبرني عن خراسان. » قال:
« أمير المؤمنين أعلم بمن يريد أن يولّى، فإن ذكر أحدا أخبرته برأى فيه: هل يصلح أم لا. » فسمّى سليمان رجلا من قريش. فقال:
« يا أمير المؤمنين، ليس من رجال خراسان. » قال:
« فعبد الملك بن المهلّب. » قال:
-
« ولا هو. » حتى عدّد رجالا كان في آخرهم وكيع بن أبي سود. فقال:
« يا أمير المؤمنين، ما أحد أوجب شكرا ولا أعظم عندي يدا من وكيع. لقد أدرك بثأرى وشفاني من عدوّى، ولكنّ أمير المؤمنين أعظم حقّا عليّ وإنّ النصيحة تلزمني له. إنّ وكيعا لم يجتمع له قطّ ثلاثمائة عنان إلّا حدّث نفسه بغدرة. خامل في الجماعة نابه في الفتنة. » قال:
« صدقت. ويحك! فمن لها؟ » قال:
« رجل أعلمه لم يسمّه أمير المؤمنين. » قال:
« فمن هو؟ » قال:
« لا أبوح به إلى أن يضمن أمير المؤمنين ستر ذلك عليّ وأن يجيرني منه إن علم. » قال:
« نعم، سمّه لي من هو؟ » قال:
« يزيد بن المهلّب. » قال:
« ويحك! ذاك بالعراق، والمقام بها أحبّ إليه من المقام بخراسان. » قال:
« قد علمت يا أمير المؤمنين، ولذلك استجرت بك، ولكن تكرهه على ذلك، فتستخلف على العراق، ويسير هو. » قال:
« أصبت. » فكتب عهده على خراسان، وأنفذه إليه على يد ابن الأهتم. فقدم به على يزيد، فدعا يزيد ابنه مخلدا، فقدّمه إلى خراسان، فسار من يومه، ثم سار يزيد، واستخلف على واسط الجرّاح بن عبد الله الحكمي، وعلى البصرة عبد الله بن هلال الكوفي، وصيّر مروان بن المهلّب على أمواله وأموره بالبصرة، وكان أوثق إخوته عنده، وعلى الكوفة بشير بن حسّان النهدي. ولمّا قرب مخلد من مرو تلقّاه الناس، فتثاقل وكيع، وكان مخلد قدّم عمرو بن عبد الله بن سنان العتكي حين دنا من مرو. فأرسل عمرو بن عبد الله إلى وكيع:
« انطلق إلى أميرك فتلقّه ولا تكن أعرابيّا أحمق جافيا. » وأخرجه على كره. فلمّا بلغ الناس إلى مخلد ترجّلوا له غير وكيع ومحمد بن حمران وعبّاد بن لقيط. فجاءهم قوم، فأنزلوهم.
ولمّا قدم مخلد مرو حبس وكيعا، فعذّبه وأصحابه قبل قدوم أبيه.
فتحدّث إدريس بن حنظلة قال: لمّا قدم مخلد مرو حبسني، فجاءني ابن الأهتم، فقال لي:
« أتريد أن تنجو؟ » قلت:
« نعم. » قال:
« أخرج الكتب التي كتبها القعقاع بن خليد العبسي وخريم بن عمرو المرّى إلى قتيبة في خلع سليمان. » فقلت له:
« يا بن الأهتم إيّاى تخدع عن ديني؟ » قال: فدعا بطومار وقال:
« إنّك أحمق. » وكتب كتبا عن لسان القعقاع ورجال من قريش إلى قتيبة:
« إنّ الوليد قد مات وإنّ سليمان باعث هذا المزونيّ على خراسان، فاخلعه. » فقلت:
« يا بن الأهتم تهلك والله نفسك. لئن دخلت عليه لأعلمنّه أنّك كتبتها. » فلم يحفل وقال:
« قد قلت: إنّك أحمق. »
ذكر حيلة تمت على مسلمة بن عبد الملك في هذه السنة بأرض الروم حتى كاد يهلك هو والمسلمون
كان وجّه أخاه مسلمة إلى قسطنطينية وأمره أن يقيم عليها حتى يفتحها أو يأتيه أمره. فشتا بها وصاف، وذلك أنّه لمّا دنى من قسطنطينية أمر كلّ فارس أن يحمل على عجز فرسه مدّين من طعام حتى يأتى به قسطنطينية. فأمر بالطعام فألقى ناحية مثل الجبال. ثم قال للمسلمين:
« لا تأكلوا منه شيئا. » فغبروا في أرضهم وازدرعوا، وعمل بيوتا من خشب، فشتا فيها، وزرع الناس. ومكث ذلك الطعام في الصحراء لا يكنّه شيء طول الصيف، والناس يأكلون مما أصابوا من الغارات، ثم أكلوا من الزرع.
فأقام مسلمة على قسطنطينية قاهرا لأهلها ومعه وجوه أهل الشام. واتفق موت ملك الروم، فراسلوا إليون صاحب أرمينية، فشخص إليون من أرمينية ومكر في طريقه بمسلمة، ووعده أن يسلّم إليه قسطنطينية، وكانت قد راسلت الروم إليون:
« إن صرّفت عنّا مسلمة ملّكناك. » ووثّقوا له. فلمّا أتى إليون مسلمة، قال له:
« إنّك لا تصدقهم القتال ولا تزال تطاولهم ما دام هذا الطعام عندك، وقد أحسّوا بذلك، فلو أحرقت الطعام أعطوا بأيديهم. » فأحرقه، ووجّه مسلمة معه من شيّعه حتى نزل بقسطنطينية، وملّكه الروم.
فكتب إلى مسلمة يخبره بما جرى من أمره ويسأله أن يأذن له حتى يدخل من الطعام من النواحي، [ وما ] يعيش به القوم ويصدّقونه بأنّ أمره وأمر مسلمة واحد وأنّهم في أمان من [ السباء ] والخروج من بلادهم، وأن يأذن لهم ليلة واحدة في حمل الطعام وقد [ هيّأ ] إليون السفن والرجال. فأذن له، فما بقي في تلك الحظائر إلّا ما لا يذكر، حمل [ فى ] ليلة واحدة، وأصبح إليون محاربا وقد خدعه خديعة لو كان امرأة لعيب [ بها ]. فلقى الجند ما لم يلق جند قطّ، حتى إن كان الرجل ليخاف أن يخرج من عسكره وحده. وأكلوا الدوابّ والجلود وأصول الشجر والعروق [ و ] الورق، وكلّ شيء حتى الروث، وسليمان مقيم بدابق ونزل الشتاء، فلم يقدر [ على ] أن يمدّهم حتى هلك سليمان.
سليمان يحرض يزيد بذكر فتوح قتيبة
فأمّا يزيد بن المهلّب فإنّه أقام ثلاثة أشهر، وكان سليمان بن عبد الملك كلّما افتتح قتيبة فتحا قال ليزيد بن المهلّب:
« أما ترى ما صنع الله على يدي قتيبة؟ » فيقول له يزيد بن المهلّب:
« ما فعلت جرجان [ التي ] حالت بين الناس والطريق الأعظم وأفسدت قومس وأبر شهر. » ويقول:
« هذه الفتوح ليست بشيء في جرجان. » وكذلك كانت حال جرجان، لأنّ سعيد بن العاص كان صالح أهل جرجان. ثم إنّهم امتنعوا وكفروا، ولم يأتهم أحد بعد سعيد، ومنعوا ذلك الطريق.
فلم يكن يسلك طريق خراسان من ناحيته إلّا بوجل وخوف. كان الطريق من فارس إلى كرمان، فأوّل من صيّر الطريق من قومس قتيبة بن مسلم. ثم غزا مصقلة خراسان في أيّام معاوية في عشرة آلاف، فأصيب هو وجنده بالرّويان، فهلكوا في واد من أوديتها، أخذ العدوّ عليهم بمضائقه، فقتلوا جميعا، فهو يسمّى:
وادي مصقلة، وكان يضرب به المثل: « حتى يرجع مصقلة من خراسان ».
اهتمام يزيد بن المهلب بجرجان
فلمّا ولى يزيد بن المهلّب لم تكن له همّة غير جرجان. فخرج إلى دهستان، وبها صول التركيّ مع الأتراك، وهناك جزيرة في البحر بينها وبين دهستان خمسة فراسخ، وهي من جرجان ممّا يلي خوارزم. فكان صول يغير على فيروز مرزبان جرجان، وبينهما خمسة وعشرون فرسخا، فيصيب من أطرافهم، ثم يرجع إلى البحيرة ودهستان.
فوقع بين فيروز وبين ابن عمّ له يقال له: المرزبان، منازعة، فاعتزله المرزبان، فنزل المياسان، فخاف فيروز أن يغير عليه الترك، فخرج إلى يزيد بن المهلّب وأخذ صول جرجان. فلمّا قدم على يزيد بن المهلّب قال له:
« ما أقدمك؟ » قال:
« خفت صولا فهربت منه. » فقال له يزيد:
« هل من حيلة لقتاله؟ » قال:
« نعم، وشيء واحد إن ظفرت به قتلته، أو أعطى بيده. » قال:
« ما هو؟ » قال:
« أن يخرج من جرجان حتى ينزل البحيرة، فإن أتيته هناك وحاصرته ظفرت به، فاكتب إلى الإصبهبذ كتابا تسأله فيه أن يحتال لصول حتى يقيم بجرجان، واجعل على ذلك جعلا ومنّه، فإنّه يبعث بكتابك إلى صول يتقرّب به إليه، لأنّه يعظّمه، فيتحوّل على جرجان فينزل البحيرة. »
-
ذكر هذه الحيلة التي احتال بها يزيد بمشورة فيروز حتى ظفر به
فكتب يزيد بن المهلّب إلى صاحب طبرستان:
« إني أريد أن أغزو صولا وهو بجرجان، فخفت، إن بلغه أنّى أريد ذلك أن يتحوّل إلى البحيرة فينزلها، وإن يتحوّل إليها لم يقدر عليه، وهو يسمع منك ويستنصحك، فإن حبسته العام بجرجان، فلم يأت البحيرة، حملت إليك خمسين ألف مثقال، فاحتل له بكلّ حيلة حتى تحبسه بجرجان، فإن أقام ظفرت به. » فلمّا أتى الإصبهبذ الكتاب تقرّب به إلى صول. فلمّا أتى صولا الكتاب أمر الناس بالرحيل إلى البحيرة، وحمل الأطعمة ليتحصّن بها وبلغ يزيد مسيره من جرجان إلى البحيرة، وحمل الأطعمة ليتحصّن بها. فخرج إلى جرجان في ثلاثين ألفا ومعه فيروز، واستخلف على خراسان مخلد بن يزيد، وعلى سمرقند وكسّ ونسف وبخارى ابنه معاوية، وعلى طخارستان حاتم بن قبيصة بن المهلّب.
دخول يزيد بن المهلب جرجان
وأقبل حتى أتى جرجان ولم تكن يومئذ مدينة، إنّما هي جبال محيطة بها أبواب ومخارم يقوم عليها الرجل فلا يقدم عليه أحد. فدخلها يزيد لم يعازّه أحد، وأصاب أموالا، وهرب المرزبان عمّ فيروز، وخرج يزيد بالناس إلى البحيرة، وأناخ على صول، فحاصرهم، وكان صول يخرج إليه في الأيّام فيقاتله ثم يرجع إلى حصنه، حتى عجزوا وانقطعت عنهم المواد.
فأرسل إليه صول يطلب الصلح، فقال يزيد:
« لا إلّا على حكمي. »
فأبى. فأرسل إليه:
« إني أصالحك على نفسي ومالي وثلاثمائة من أهل بيتي وخاصّتى على أن تؤمننا فننزل البحيرة. » فأجابه إلى ذلك. فخرج بماله وغلمانه ممّن أحبّ، وصار مع يزيد. فقتل يزيد من الأتراك جماعة صبرا ومن على آخرين، وقال الجند ليزيد:
« أعطنا أرزاقنا. » فدعا إدريس بن حنظلة العمّى، فقال له:
« يا بن حنظلة، أحص لنا ما في البحيرة حتى نعطى الجند. » فدخلها إدريس فلم يقدر على إحصاء ما فيها، فقال ليزيد:
« فيها ما لا يستطاع إحصاؤه في هذه السرعة. وهناك ظروف. فتحصى الجواليق وتعلم ما فيها، ثم تقول للجند: أدخلوا فخذوها. فمن أخذ شيئا عرفنا ما أخذ من حنطة، أو شعير، أو أرز، أو سمسم، أو عسل، فأثبتناه عليه. » قال:
« نعم ما رأيت. » ففعلوا ذلك، وقال للجند:
« خذوا. » فكان الرجل يخرج وقد أخذ ثيابا أو طعاما، أو حمل من شيء فيكتب على كلّ رجل ما أخذ، فأخذوا شيئا كثيرا.
طمع يزيد بن المهلب في طبرستان
ولمّا فرغ يزيد من صول طمع في طبرستان أن يفتتحها، وهمّ بالمسير إليها.
فاستعمل عبد الله المعمر اليشكري على دهستان البياسان، وضمّ إليه أربعة آلاف رجل، وسار إلى آخر حدود جرجان مما يلي طبرستان، فاستعمل اندرشان أسد بن عمرو، ويقال: بل ابنا لعبد الله بن المعمّر وضمّ إليه أربعة آلاف، ودخل يزيد بلاد الإصبهبذ، فراسله الإصبهبذ يسأله الصلح، وأن يخرج من طبرستان ولا يتوغّلها. فأبى يزيد، ورجا أن يفتتحها. فوجّه أخاه أبا عيينة من وجه وخالد بن يزيد من وجه وأبا الجهم الكلبي من وجه. وقال:
« إذا اجتمعتم فأبو عيينة على الناس. » فسار أبو عيينة في أهل المصرين ومعه هريم بن أبي طحمة، ووصّى يزيد أبا عيينة بأن يشاور هريما وقال:
« هو ناصح وذو رأى. » وأقام يزيد معسكرا واستجاش الإصبهبذ بأهل جيلان والديلم، فأتوه والتقوا في سفح جبل، فانهزم المشركون، واتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى فم الشعب، فدخله المسلمون وصعد المشركون واتّبعهم المسلمون، فرماهم وهم فوقهم بالحجارة والنشّاب، فانهزم أبو عيينة والمسلمون، فركب بعضهم بعضا يتساقطون من الجبل، فلم يثبتوا حتى انتهوا إلى عسكر يزيد، وكفّ العدوّ عن اتّباعهم.
وكتب الإصبهبذ إلى المرزبان ابن عمّ فيروز وهو بأقصى جرجان مما يلي البياسان:
« إنّا قد قتلنا يزيد وأصحابه، فاقتل أنت من في البياسان من العرب. » فخرج إلى البياسان والمسلمون غارّون في منازلهم فقتلوا جميعا في ليلة.
وأصبح عبد الله بن المعمّر مقتولا في أربعة آلاف من المسلمين لم ينج منهم أحدا وقتل من بنى عمّ يزيد خمسون رجلا، وكتب المرزبان إلى الإصبهبذ:
« إني قد قتلت من عندي من العرب، فخذ أنت المضائق والطرق على من بقي منهم قبلك. » وبلغ يزيد والمسلمين مقتل عبد الله بن المعمّر وأصحابه، فأعظموا ذلك وهالهم.
ففرغ يزيد إلى حيّان النبطيّ وقال:
« لا يمنعنّك ما كان مني إليك من نصيحة المسلمين. » وكان يزيد قد غرّم حيّان مائتي ألف درهم - وسنذكر ذلك - وشكا يزيد إليه ما يرى بالمسلمين من الوهن بما بلغهم عن جرجان ثم بما أخذ عليهم الإصبهبذ من الطرق، وقال له:
« اعمل في الصلح. » قال:
« أفعل. » فأتى حيّان الإصبهبذ وقال له:
« أنا رجل منكم وإن كان الدين فرّق بيني وبينكم، وأنا لك ناصح، فإنّك أحبّ إليّ على كلّ حال من يزيد، وقد بعث يستمدّ وأمداده منه قريبة، وإنّما أصابوا منه طرفا، ولست آمن أن يأتيك ما لا تقوم له. فأرح نفسك منه وصالحه، فإنّك إن صالحته صيّر حدّه على أهل جرجان بغدرهم وقتلهم من قتلوا. » فقبل الإصبهبذ منه وصالحه على سبعمائة ألف، ويروى خمسمائة ألف وأربعمائة وقر زعفران أو قيمته من العين وأربعمائة رجل على يد كلّ رجل جام فضّة وسرقة حرير وكسوة. ثم رجع إلى يزيد وقال:
« ابعث من يحمل صلحهم الذي صالحتهم عليه. » قال:
« من عندهم، أو من عندنا؟ » قال:
« من عندهم. » وكان يزيد قد طابت نفسه أن يعطيهم ما سألوا ويرجع إلى جرجان. فبعث من يحمل ما صالحهم عليه حيّان، وانصرف إلى جرجان.
فأمّا سبب تغريم يزيد حيّان مائتي ألف درهم وخوفه أنّه لا يناصحه، فهو أنّ مخلد بن يزيد كان ببلخ ويزيد يومئذ بمرو، وعرض لحيّان ما احتاج فيه إلى مكاتبة مخلد. فأحضر كاتبه وأملى عليه:
« من حيّان مولى مصقلة إلى مخلد بن يزيد. » فقال له ابنه مقاتل بن حيّان:
« يا أبه تكتب إلى مخلد وتبدأ بنفسك. » فقال:
« نعم يا بنيّ. فإن لم يرض لقي ما لقي قتيبة. » وتمّم كتابه وأنفذه إلى مخلد. فبعث مخلد بالكتاب إلى أبيه يزيد فأغرمه يزيد مائتي ألف درهم.
-
يزيد بن المهلب يفتح جرجان الفتح الآخر
ثم إنّ يزيد بعد انصرافه من طبرستان ومصالحة الإصبهبذ قصد جرجان وأعطى الله عهدا لئن ظفر بهم ألّا يقلع عنهم ولا يرفع السيف حتى يطحن بدمائهم ويختبز من ذلك الطحين ويأكل منه لغدرهم بجنده ونقضهم لعهده.
فلمّا بلغ المرزبان أنّه قد صالح الإصبهبذ وتوجّه إلى جرجان ضاقت به الأرض، فجمع أصحابه وأتى وجاة وتحصّن فيها وصاحبها لا يحتاج إلى عدّة من طعام وشراب، وأقبل حتى نزل عليها وهم متحصّنون فيها وحولها غياض عظيمة، فليس يعرف لها إلّا طريق واحد. فأقام على ذلك سبعة أشهر لا يقدر منهم على شيء ولا يعرف لهم ما يأتى إلّا من وجه واحد، فكانوا يخرجون إليه في الأيّام ويقاتلونه ثم يرجعون إلى حصنهم.
فبيناهم على ذلك إذ خرج رجل من عسكر يزيد بن المهلّب إلى الصيد ومعه شاكريّة له، فأبصر وعلا في الطريق يرقى في الجبل فاتّبعه وقال لمن معه:
« قفوا مكانكم. » ووقل في الجبل يتبع الوعل، فما شعر بشيء حتى اطّلع على عسكر العدوّ، فرجع يريد أصحابه وخاف ألّا يهتدى إن عاد، فجعل يحرق قباءه وعمامته، ويعقد على الشجر علامات حتى ظفر بأصحابه ينتظرون. ثم رجع إلى العسكر وأتى من أوصله إلى يزيد.
فلمّا رءاه يزيد قال:
« ما عندك؟ » فقال:
« أتريد أن تدخل وجاة بغير قتال؟ » قال:
« نعم. » قال:
« جعالتي؟ » قال:
« احتكم. » قال:
« أربعة آلاف. » قال:
« بل أضعافها. » قال:
« عجّلوا إلى أربعة آلاف، ثم أنتم بعد من وراء الأحساب. » فأمر له بأربعة آلاف، وندب الناس، فانتدب ألف وأربعمائة، فقال:
« الطريق لا يحتمل هذه الجماعة، لا لتفاف الغياض. »
فاختار منهم ثلاثمائة رجل، واستعمل عليهم ابنه خالد بن يزيد، وضمّ إليه جهم بن زحر، وقال لابنه:
« إن غلبت على الحياة، فلا تغلبن علي الموت، وإيّاك أن أراك عندي منهزما. » وقال للناس:
« إذا وصلتم إلى المدينة فانتظروا حتى إذا كان في السحر فكبّروا، ثم توجّهوا نحو باب المدينة فإنّكم تجدوني قد نهضت بجميع الناس إلى بابها. » فلمّا أشرف ابن زحر على المدينة أمهل حتى إذا كانت الساعة التي أمره يزيد أن ينهض فيها، مشى بأصحابه، فأخذ لا يستقبل من أحراسهم أحدا إلّا قتله.
وكبّر ففزع أهل المدينة فزعا لم يدخلهم مثله قطّ، لم يرعهم إلّا والمسلمون معهم في مدينتهم يكبّرون. فدهشوا وأقبلوا لا يدرون أين يتوجّهون.
غير أنّ عصابة منهم أقبلوا نحو جهم بن زحر، فقاتلوا ساعة فدقّت يد جهم وصبر لهم هو وأصحابه، فلم يلبّثوهم إلّا قليلا حتى قتلوهم.
يزيد بن المهلب يدخل باب جرجان ويبر يمينه في أهلها
وسمع يزيد بن المهلّب التكبير، فوثب في الناس إلى الباب، فوجدهم قد شغلهم جهم بن زحر عن الباب، فلم يجد من يمنعه ولا يدفع عنه كبير دفع. ففتح الباب ودخلها من ساعته، فأخرج من كان فيها من المقاتلة، فنصب لهم الجوذع فرسخين عن يمين الطريق وعن يساره، فصلبهم أربعة فراسخ وسبى وأصاب ما كان فيها وقاد أربعين ألفا إلى اندر هرز وادي جرجان وقال:
« من طلبهم بثأر فليقتل. »
فكان الرجل من المسلمين يقتل الجماعة في الوادي، وأجرى الماء على الدم وعليه أرحاء، ليطحن بدمائهم ولتبرّ يمينه، فطحن واختبز وأكل. وهي مدينة جرجان، ولم يكن جرجان يومئذ مدينة.
وكتب بذلك إلى سليمان بن عبد العزيز بالفتح، وعظّم ذلك قال:
« إنّ الله فتح لأمير المؤمنين من جرجان وطبرستان ما أعيا سابور ذا الأكتاف، وكسرى بن قباذ، وكسرى بن هرمز، وأعيا الفاروق عمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان، ومن بعدهما من خلفاء الله. » وكتب في الكتاب أن:
« قد صار عندي من خمس ما أفاء الله على المسلمين بعد أن صار إلى كلّ ذي حقّ حقّه من الفيء والغنيمة ستّة آلاف ألف وأنا حامل ذلك إلى أمير المؤمنين إن شاء الله. »
ذكر رأي أشير به على يزيد بن المهلب فلم يقبله فعاد وبالا عليه
فقال له كاتبه المغيرة بن أبي قرّة:
« لا تكتب بتسمية مال، فإنّك من ذلك بين أمرين: إمّا استكثره فأمرك بحمله، وإمّا سخت نفسه بذلك به فسوّغكه فتتكلّف له الهديّة ولا يأتيه من قبلك شيء إلّا استقلّه، ويحصّل الكتّاب ما سمّيته في دواوينهم فيبقى مخلدا عليك، فإن ولى وال بعده أخذك به، وإن ولى من يتحامل عليك لم يرض منك بأضعافه، فلا تمض كتابك، ولكن اكتب بالتفح وسله القدوم عليه، ثم تشافهه بما أحببت وتقصّر في الكتاب. فإنّك إن تقصّر عمّا أصبت أحرى من أن تكثّر. »
فأبى يزيد وأمضى الكتاب.
ودخلت سنة تسع وتسعين
وفيها توفّى سليمان بن عبد الملك يوم الجمعة لعشر ليال مضين من صفر.
فكانت خلافته سنتين وسبعة أشهر. وكانوا يتبرّكون به ويسمونه مفتاح الخير، وذاك أنّه ذهب عنهم الحجّاج، فأطلق الأسرى وخلّى أهل السجون وأحسن إلى الناس.
خلافة عمر بن عبد العزيز
واستخلف سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز على ما سنحكيه. وهو أنّه لمّا مرض مرضته التي مات فيها، عهد في كتاب كتبه لبعض بنيه وهو غلام لم يبلغ.
قال رجاء بن حبوة: فقلت:
« ما تصنع يا أمير المؤمنين، إنّه ممّا يحفظ به الخليفة في قبره أن يستخلف على المسلمين الرجل الصالح. » فقال سليمان:
« أنا أستخير الله وأنظر فيه، ولم أعزم عليه. » قال: فمكث يوما أو يومين، ثم خرّقه ودعاني، فقال:
« ما ترى في داود بن سليمان؟ » يعنى ابنه. قلت:
« هو غائب عنك بقسطنطينية وأنت لا تدرى أحيّ هو أم ميّت. » فقال لي:
« فمن ترى؟ » قلت:
« رأيك يا أمير المؤمنين. » « وأنا أريد أن أنظر من يذكر. » قال:
« كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ » فقلت:
« أعلمه والله خيّرا فاضلا مسلما. » فقال:
« هو والله على ذلك. » ثم قال:
« والله، لئن ولّيته ولم أولّ أحدا سواه، لتكوننّ فتنة، ولا يتركونه يلي أبدا عليهم إلّا أن يجعل أحدهم بعده. » ويزيد بن عبد الملك يومئذ غائب على الموسم. قال:
« فأجعل يزيد بن عبد الملك بعده، فإنّ ذلك ممّا يسكّنهم ويرضون به. » قلت:
« رأيك. » فكتب:
« بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من عبد الله بن سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز. إني ولّيتك الخلافة من بعدي. ومن بعدك يزيد بن عبد الملك.
فليسمع المؤمنون له وليطيعوا، وليتّقوا الله ولا يختلفوا، فيطمع فيهم. » وختم الكتاب، وبعث به إلى صاحب شرطته يأمره أن يجمع أهل بيته ولمّا اجتمعوا قال سليمان لرجاء:
« اذهب بكتابي إليهم، فأخبرهم أنّه كتابي، ومرهم فليبايعوا من ولّيت فيه. » ففعل رجاء. فلمّا قال رجاء ذلك لهم قالوا: « ندخل ونسلّم على أمير المؤمنين. » قال:
« نعم. »
فدخلوا. فقال لهم سليمان:
-
« في هذا الكتاب - وهو يشير لهم إليه وهم ينظرون إلى يد رجاء بن حبوة - عهدي. فاسمعوا وأطيعوا وبايعوا لمن سمّيت في هذا الكتاب. » فبايعوه رجلا رجلا.
قال: ثم خرج بالكتاب مختوما.
قال رجاء: فلمّا تفرّقوا جاءني عمر بن عبد العزيز، فقال:
« إني أخشى أن يكون هذا قد أسند إليّ شيئا من الأمر. فأنشدك الله وحرمتي ومودّتى إلّا أعلمتنى إن كان ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن تأتى حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه الساعة. » قال رجاء:
« لا والله، ما أنا بمخبرك حرفا. » فذهب عمر غضبان.
قال رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك، فقال:
« يا رجاء، إنّ لي بك حرمة ومودّة قديمة وعندي شكر، فأعلمني فإن كان إليّ علمت، وإن كان إلى غيري تكلّمت، فليس مثلي قصّر به ذلك، ولك الله عليّ ألّا أذكر من ذلك شيئا أبدا. » قال رجاء: فأبيت وقلت:
« لا والله، لا أخبرك حرفا واحدا ممّا أسرّ إليّ. » قال: فانصرف هشام وقد يئس وضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو يقول:
« فإلى من إذا نحّيت عني! أتخرج من بنى عبد الملك؟ »
قال رجاء: ودخلت على سليمان وهو يجود بنفسه، فلقّنته الشهادة، وحرّفته إلى القبلة، وسجّيته، وأجلست على الباب من أثق به، ووصّيته ألّا يبرح حتى آتيه، ولا يدخل على الخليفة أحد. ثم خرجت وأرسلت إلى صاحب الشرطة حتى جمع أهل بيت أمير المؤمنين في مسجد دابق، وتوسّطتهم إلى المنبر، وقلت:
« بايعوا! » فقالوا:
« قد بايعنا مرّة ونبايع أخرى. » قلت:
« هذا عهد أمير المؤمنين. فبايعوا من سمّى في هذا الكتاب المختوم. » فبايعوا الثانية رجلا رجلا. فلمّا بايعوا بعد موت سليمان رأيت أنّى قد أحكمت الأمر. قلت:
« قوموا إلى صاحبكم فقد مات. » قالوا:
« إنّا لله وإنّا إليه راجعون. » وقرأت الكتاب عليهم. فلمّا انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز، نادى هشام بن عبد الملك:
« لا نبايعه أبدا. » قلت:
« أضرب والله عنقك. قم فبايع من قد بايعته مرّتين. » فقام يجرّ رجليه.
قال رجاء: وأخذت بضبعي عمر بن عبد العزيز، فأجلسته على المنبر وهو يسترجع لما وقع فيه وهشام يسترجع لما أخطأه.
ولمّا كفّن سليمان وصلّى عليه عمر ودفنه وأتى بمراكب الخلافة من البراذين والخيل والبغال، ولكلّ دابّة سائس مفرد، فقال:
« ما هذا؟ » قالوا:
« مراكب الخلافة. » قال:
« دابّتى أوفق لي. » وركب دابّته وصرفت تلك الدوابّ. ثم أقبل سائرا. فقيل له:
« منزل الخلافة. » فقال:
« فيه عيال أبي أيّوب - يعنى سليمان - وفي فسطاطى كفاية حتى يتحوّلوا. » فأقام في منزله حتى فرّغوه من بعد.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى العمّال بكلّ بلد بما صار إليه، فأوجز وأحسن.
ثم وجّه إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول منها بمن معه بخيل عتاق وأموال عظيمة.
وعزل يزيد بن المهلّب عن العراق، ووجّه على البصرة عديّ بن أرطاة الفزاريّ، وبعث على الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب من بنى عديّ بن كعب. فضمّ إليه أبا الزياد، فكان أبو الزياد كاتب عبد الحميد بن عبد الرحمن. وبعث عديّ في إثر يزيد بن المهلّب موسى بن الوجيه الحميري.
ودخلت سنة مائة
وفيها خرجت الخارجة على عمر بن عبد العزيز بالعراق
فكتب عمر إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب عامله على العراق، يأمره أن يدعوهم إلى العمل بكتاب الله وسنّة نبيه http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png ففعل.
ولمّا أعذر في دعائهم، بعث إليهم عبد الحميد جيشا فهزمتهم الحروريّة، فبلغ عمر، فبعث إليهم مسلمة بن عبد الملك في جيش من أهل الشام جهّزهم من الرقّة.
وكتب إلى عبد الحميد:
« قد بلغني ما فعل جيشك السوء، وقد بعثت مسلمة بن عبد الملك، فخلّ بينه وبينهم. » فلقيهم مسلمة في أهل الشام، فلم ينشب أن أظهره الله عليهم.
وكان هذا الخارجيّ بسطام من بنى يشكر ويلقّب شوذب، وكان خروجه في ثمانين فارسا أكثرهم من ربيعة. وكان عمر كتب إلى بسطام يدعوه ويسأله عن مخرجه ويقول في كتابه:
« بلغني أنّك خرجت غضبا لله ولنبيه http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png ولست بأولى بذلك مني. فهلمّ أناظرك، فإن كان الحقّ بأيدينا دخلت في ما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرك. » فأمسك بسطام عن الحرب ولم يحرّك ساكنا، وكتب إلى عمر:
« قد أنصفت. وقد بعثت إليك رجلين يدار سانك ويناظرانك. » فلمّا وصل الرجلان إلى عمر، أطالا معه حتى قالا له:
« أخبرنا عن يزيد، لم تقرّه خليفة بعدك. » قال:
« صيّره غيري. » قالا:
« أفرأيت لو وليت مالا لغيرك، ثم وكلته إلى غير مأمون عليه، أتراك كنت أدّيت الأمانة إلى من ائتمنك عليها؟ » فقال:
« أنظرني ثلاثا. » فخرجا من عنده. وبلغ ذلك مروان، فخافوا أن يخرج ما في أيديهم من الأموال وأن يخلع يزيد. فدسّوا إليه من سقاه سمّا. فلم يلبث بعد خروجهما من عنده إلّا ثلاثا حتى مات.