-
« والله لا أفلحت. » وكان الهفتى مربوعا ذا كدنة والمعتصم رجلا معرّقا خفيف اللحم فجعل المعتصم يسبق الهفتيّ في المشي فإذا تقدّمه ولم ير الهفتيّ معه التفت إليه فقال له:
« ما لك لا تمشى؟ » يستعجله.
فلمّا كثر ذلك من أمر المعتصم على الهفتى قال له الهفتيّ مداعبا له:
« أصلحك الله، كنت أرانى أماشى خليفة ولم أكن أرانى أماشى فيجا والله لا أفلحت. » فضحك المعتصم وقال:
« ويلك وهل بقي من الفلاح شيء لم أدركه بعد الخلافة؟ » فقال له الهفتى:
« أتحسب أنّك قد أفلحت الآن؟ إنّما لك من الخلافة الاسم، والله ما يجاوز أمرك أذنيك. وإنّما الخليفة الفضل بن مروان الذي يأمر فينفذ أمره من ساعته. » قال المعتصم:
« وأيّ أمر لي لم ينفذ؟ » فقال: « أمرت لي بكذا وكذا منذ شهرين فما أعطيت ممّا أمرت به منذ ذاك حبّة. » وكان هذا أوّل ما حرّك المعتصم في القبض على الفضل بن مروان.
وكان محمد بن عبد الملك الزيّات يتولّى ما كان أبوه يتولّاه للمأمون من عمل الفساطيط وآلة الجمّازات ويكتب عليها ممّا جرى على يدي محمد بن عبد الملك. وكان يلبس إذا حضر الدار الدرّاعة السوداء والسيف بالحمائل.
فدعاه الفضل يوما وقال له:
« ما هذا الزيّ إنّما أنت تاجر فما لك والسواد والسيف؟ » فترك ذلك محمد. وأخذه الفضل برفع حسابه إلى دليل بن يعقوب النصراني فأحسن دليل إليه ولم يزرأه شيئا. وعرض عليه محمد هدايا فأبى دليل أن يقبل منها شيئا. ثم غضب المعتصم على الفضل بن مروان وأهل بيته وأمرهم برفع ما جرى على أيديهم وصيّر محمد بن عبد الملك مكانه.
فلمّا صار محمد بن عبد الملك وزيرا استدعى الفضل يوما وقد دخل دار السلطان بسواد وسيف وهو إذ ذاك مغضوب عليه يحاسب، فقال:
« ما هذا الزيّ؟ الزم منزلك، فإن احتيج إليك استدعيت. »
ودخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين
وقعة كانت بين بغا وبابك
وفي هذه السنة كانت بين بغا الكبير وبابك وقعة بناحية هشتاذ سر فهزم بغا واستبيح عسكره.
ذكر الخبر عن ذلك
كان بغا قدم بالمال الذي مضى ذكره ففرّقه الأفشين على أصحابه وتجهّز بعد النيروز عند زوال البرد ومكروه الثلج، ووجّه بغا في عسكر ليدور حول هشتاذ سر وينزل في خندق محمد بن حميد ويحكمه ويخفره، ووجّه أبا سعيد من وجه آخر ورحل الأفشين من برزند، فتجهّز بغا من غير مواقفة الأفشين وسار حتى نزل قرية البذّ في وسطها وأقام بها يوما واحدا واحتاج إلى الميرة والأعلاف، فوجّه ألف رجل في علّافة له، فخرج عسكر من عساكر بابك فاستباح العلّافة وقتل البعض وأسر البعض ورجع بغا إلى خندق محمد بن حميد شبيها بالمنهزم وكتب إلى الأفشين يعلمه ذلك ويسأله المدد فقال الأفشين:
« ما عمل شيئا وأقدم بغير أمرنا. » ثم وجّه إليه أخاه الفضل بن كاوس وأحمد بن الخليل بن هشام وابن جوشن وصاحب شرطة الحسن وقرابة للفضل بن سهل. ثم كتب الأفشين إلى بغا يعلمه أنّه يغزو بابك في يوم سمّاه له ويأمره أن يغزوه في ذلك اليوم بعينه ليحاربه من كلا الوجهين. فخرج الأفشين في ذلك اليوم يريد بابك وخرج بغا، فعسكر على دعوة فهاجت ريح شديدة ومطر شديد فلم يكن للناس صبر على البرد وشدّة الريح فانصرف بغا إلى عسكره وواقعهم الأفشين من الغد وبغا غير حاضر، فهزمه الأفشين وأخذ عسكره وخيمته، ونزل الأفشين في معسكر بابك.
ثم تجهّز بغا من الغد وصعد هشتاذ سر، فوجد العسكر الذي كان مقيما بإزائه قد انصرف إلى بابك فترك بغا في موضعه وأصاب قماشا وخرثيّا قد تركوه، ثم انحدر من هشتاذ سر يريد البذّ وكان على مقدّمته داود سياه فبعث إليه:
« إنّا قد توسّطنا الموضع الذي تعرفه يعنى الذي كنا فيه في المرّة الاولى وهذا وقت المساء وقد تعب الرجّالة، فانظر جبلا حصينا يسع معسكرنا حتى نعسكر فيه ليلتنا هذه. » فالتمس داود سياه ذلك، فصعد إلى قلّة جبل فأشرف فرأى أعلام الأفشين ومعسكره شبه الخيال فقال:
« هذا موضعنا. » فجاءهم في تلك الليلة سحاب وبرد ومطر وثلج كثير، فلم يقدر أحد حين أصبحوا أن ينزل من الجبل لأخذ ماء ولا سقى دابّة من شدّة البرد وكثرة الثلج وكأنهم كانوا في نهارهم ذلك في ليل من الضباب المتراكم وشدّة الظلمة. فلمّا كان اليوم الثالث قال الناس لبغا:
« قد فنى ما معنا من الزاد وأضرّ بنا البرد فانزل على أية حال كانت، إمّا راجعين وإمّا نحو الكافر. »
تبييت بابك الأفشين
وقد كان في يوم الضباب بيّت بابك الأفشين ونقض عسكره وانهزم الأفشين وانصرف إلى معسكره فضرب بغا بالطبل وانحدر يريد البذّ. فلمّا صار إلى بطن الوادي نظر إلى السماء منجلية والدنيا طيّبة غير رأس الجبل الذي كان عليه. فعبّأ بغا أصحابه ميمنة وميسرة ومقدّمة وتقدّم يريد البذّ وهو لا يشكّ أنّ الأفشين في موضع معسكره فمضى حتى صار لزق جبل البذّ ولم يبق بينه وبين أن يشرف على أبيات البذّ إلّا صعود قدر نصف ميل، وكان على مقدّمته غلام لابن البعيث، وكان ابن البعيث هذا ذا نكاية في بابك وأصحابه وكان للغلام قرابة بالبذّ، فلقيتهم طلائع لبابك، فعرف بعضهم الغلام فقال له:
« فلان؟ » قال: « نعم. » قال: « من هذا هاهنا؟ » فسمّى له من معه من أهل بيته فقال:
« ادن مني حتى أكلّمك. » فدنا منه الغلام فقال له:
« ارجع وقل لمن تعنى به يتنحّى فإنّا قد بيّتنا الأفشين وهزمناه، ونحن قد تهيّأنا لكم في عسكرين، فعجّل الانصراف لعلّك أن تنفلت. »
فرجع الغلام فأخبر صاحبه ابن البعيث، فأخبر ابن البعيث بغا بذلك، فوقف بغا يشاور أصحابه، فقال بعضهم:
-
« هذا باطل وهذه خدعة، ليس من هذا شيء. » وقال بعض الكوهانيّين:
« إنّ هذا جبل أعرفه. من صعد إلى رأسه نظر إلى عسكر الأفشين. » فصعد بغا والفضل بن كاوس وجماعة منهم ممّن نشط، فأشرفوا على الموضع فلم يروا فيه أحدا، فيقن أنّه مضى وتقرّر رأيه على أن ينصرف في صدر النهار قبل أن يجنّهم الليل، فأمر داود سياه بالانصراف، فجدّ في السير ولم يعد في الطريق الذي دخل منه مخافة المضايق والعقاب، وأخذ الطريق الذي دخل منه في المرّة الأولى يدور حول هشتاذ سر وليس فيه مضيق إلّا في موضع واحد. فسار بالناس وبعث الرجّالة فرموا بأسلحتهم وطرحوا الرماح في الطريق ودخلتهم وحشة شديدة ورعب عظيم وصار بغا والفضل بن كاوس وجماعة من القوّاد في الساقة، وظهرت طلائع بابك ونزل بغا فتوضّأ وصلّى ووقف في وجوههم وتخوّف بغا على عسكره أن يوافقه الطلائع من ناحية ويدور عليهم في بعض الجبال والمضايق قوم آخرون فشاور من حضره وقال:
« لست آمن أن يكون هؤلاء الذين بإزائنا مشغلة يحبسوننا عن المسير ويسبقوننا إلى المضايق قوم آخرون. » فأشار الفضل بن كاوس أن يوجّه إلى داود سياه وهو على المقدّمة أن يسرع السير ولا ينزل حتى يجاوز المضيق ولو في نصف الليل. فأمّا نحن فنقف هاهنا ونماطلهم حتى تجيء الظلمة، فإنّ هؤلاء لا يعرفون حينئذ لنا موضعا، فإن أخذ علينا المضيق تخلّصنا بأفراسنا من طريق هشتاذ سر أو من طريق آخر.
وأشار غيره على بغا فقال:
« إنّ العسكر قد تقطّع وليس يدرك أوّله آخره والناس قد رموا بسلاحهم وقد بقي المال والسلاح على البغال وليس معه أحد ولا نأمن أن يخرج علينا من يأخذ المال والسلاح والأسير الذي معنا» - وكان معهم ابن جويدان أسيرا.
فلمّا ذكر ذلك لبغا أشفق منه ووجّه إلى داود سياه: « حيثما رأيت جبلا حصينا فعسكر عليه. » فعدل داود إلى جبل مؤرّب لم يكن للناس فيه موضع للجلوس من شدّة نصوبه، فعسكر عليه وضرب لبغا مضرب على طرف الجبل في موضع شبيه بالحائط ليس فيه مسلك، فنزل فيه وأنزل الناس وقد كلّوا وفنيت أزوادهم، فباتوا على تعبئة يتحارسون من ناحية المصعد وجاءهم العدوّ من الناحية الأخرى، فعلّقوا بالجبل حتى صاروا إلى مضرب بغا، فكبسوه وبيّتوا العسكر وخرج بغا راجلا حتى نجا وخرج الفضل بن كاوس ونجا وقتل ابن جوشن وقرابة الفضل بن سهل وجماعة غيرهم، ووجد بغا بعد خروجه من العسكر دابّة فركبها، ومرّ بابن البعيث فأصعده على هشتاذ سر حتى انحدر به على عسكر محمد بن حميد وخندقه، فوافاه في جوف الليل وأخذ الخرّمية المال والعسكر والسلاح والأسير ولم يتبعوا الناس ومرّ الناس متقطعين حتى وافوا بغا.
وأقام بغا خمسة عشر يوما في خندق محمد بن حميد حتى أتاه كتاب الأفشين يأمره بالرجوع إلى المراغة. وانصرف الفضل أخو الأفشين وجمع من كان في عسكر الأفشين إلى الأفشين، وفرّق الأفشين الناس في مشاتيهم تلك السنة حتى جاء الربيع من السنة المقبلة.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين
وفيها وجّه المعتصم بالله إلى الأفشين جعفر بن دينار الخيّاط مددا له، ثم أتبعه بإيتاخ ووجّه معه ثلاثين ألف ألف درهم للجند والنفقات. فلمّا جاء الربيع ووصل إلى الأفشين ما وجّه من المال والمدد فوافاه ذلك كلّه وهو ببرزند سلّم إليه إيتاخ المال والرجال وانصرف وأقام جعفر الخيّاط إلى أن حضر الوقت الذي يمكن فيه الغزو وطاب الزمان.
فتح البذ مدينة بابك واستباحتها
وفي هذه السنة فتحت البذّ مدينة بابك ودخلها المسلمون واستباحوها.
ذكر الخبر عن ذلك وسببه
لمّا عزم الأفشين على الدنوّ من البذّ جعل يزحف قليلا قليلا على خلاف زحفه قبل ذلك إلى المنازل التي كان ينزلها وكان يتقدّم الأميال الأربعة فيعسكر في موضع على طريق المضيق الذي ينحدر إليه ولا يحفر خندقا ولكنّه يقيم معسكرا في الحسك، وكتب إليه المعتصم يأمره أن يجعل الناس نوائب كراديس، تقف على ظهور الخيل كما يدور العسكر بالليل، فبعض القوم معسكر وبعض وقوف على ظهور دوابّهم على ميل كما يدور العسكر بالليل والنهار، مخافة البيات، كي إن دهمهم أمر كان الناس على تعبئة والرجّالة في العسكر، فضجّ الناس من التعب وقالوا:
« كم نقعد هاهنا في المضيق ونحن قعود في الصحراء وبيننا وبين العدوّ أربعة فراسخ ونحن نفعل فعال من يرى العدوّ بإزائه؟ قد استحيينا من الناس والجواسيس الذين يمرّون بنا، وبين العدوّ وبيننا أربعة فراسخ ونحن قد متنا من الفزع، اقدم بنا فإمّا لنا وإمّا علينا. » فقال: « أنا والله أعلم أنّ ما تقولون حقّ، ولكن أمير المؤمنين أمرنى بهذا ولا أجد بدّا منه. » فلم يلبث أن ورد عليه كتاب المعتصم يأمره أن يتحرّى بدرّاجة الليل، فانحدر في خاصّته حتى نزل روذ الروذ وتقدّم حتى شارف الموضع الذي واقعه عليه بابك في العام الماضي، فنظر إليه فإذا عليه كردوس من الخرّمية فلم يحاربوه ولم يحاربهم فقال بعض العلوج: « ما لكم تجيئون وتفرّون، أما تستحيون؟ » فأمر الأفشين ألّا يجيبوهم ولا يبرز إليهم أحد، فلم يزل مواقفهم إلى قريب من الظهر ثم رجع إلى عسكره فلم يزل على ذلك أيّاما وكان يأمر أبا سعيد أن يذهب فيواقفهم ولا يحرّكهم ولا يهيجهم وأمر الفعلة وكانوا يسمّون الكلغريّة أن يحملوا شكاء الماء والكعك.
فلمّا صاروا إلى روذ الروذ أمر أبا سعيد أن يذهب فيواقفهم على حسب ما كان يواقفهم، وأمر الفعلة أن ينقلوا الحجارة ويحصّنوا الطرق التي تسلك إلى تلك الأجبال، وكانت ثلاثة أجبال حصينة كان اختارها ففعل ذلك فصارت شبه الحصون، ثم أمر فاحتفر على طريق وراء تلك الحجارة على المصعد خندقا، ولم يترك إليها إلّا مسلكا واحدا، ثم أمر أبا سعيد بالانصراف.
فلمّا كان الثامن من الشهر وعلم أنّ ضوء القمر قد أمتع. دفع إلى الرجّالة الكعك والسويق ودفع إلى الفرسان الزاد والشعير ووكّل بمعسكره من يحفظه، وانحدر وأمر الرجّالة بالصعود إلى رؤوس تلك الجبال، وأن يحملوا معهم ما يحتاجون إليه من الماء والزاد، ووجّه أبا سعيد ليواقف القوم على عادته وأمر الناس بالدخول في السلاح وألّا يأخذ الفرسان سروج دوابّهم. ثم خطّ الخندق وأمر الفعلة بالعمل فيه، ووكّل بهم من يستحثّهم، وكان يأمر بالعشيّ أن يتحارسوا ولا يناموا ويدعوا الفعلة فوق الجبال ينامون، ويأمر الفرسان أن يصيروا كراديس بين كلّ كردوس وكردوس مقدار رمية سهم، وتقدّم إلى جميع الكراديس:
« ألّا يلتفتن واحد منكم إلى الآخر وليحفظ كلّ رجل منكم ما يليه. فإن سمعتم هدّة فلا يلتفتنّ أحد منكم إلى أحد فكلّ كردوس قائم بما إليه، ونحن لا نمدّه بأحد. »
ملاطفة بين بابك وأفشين في تلك الحال
فلم تزل الكراديس وقوفا على ظهور دوابّهم إلى الصباح والرجّالة فوق رؤوس الجبال يتحارسون، فلبثوا كذلك عشرة أيّام حتى فرغوا من حفر الخندق، ودخله اليوم العاشر وأمر القواد أن يبعثوا إلى أثقالهم وأثقال أصحابهم على الرفق فينقلوه. وأتاه رسول بابك معه قثّاء وبطّيخ وخيار يعلمه أنّه في أيّامه هذه في جفاء، إنّما يأكل الكعك والسويق هو وأصحابه، وأنّه إن أحبّ أن يلطفه بذلك فعل.
فقال الأفشين للرسول:
« قد عرفت أيّ شيء أراد أخي بهذا. إنّما أراد أن ينظر إلى العسكر، وأنا أقبل برّه وأعطى شهوته. فقد صدق، أنا في جفاء. » وقال للرسول:
« أمّا أنت فلا بدّ لك أن تصعد حتى ترى معسكرنا وترى ما وراءنا. » فأمر بحمله على دابّة، وأن يصعد به، حتى يرى الخندق، وينظر إلى خندق كلان روذ. وخندق برزند ويتأمّل الخنادق الثلاثة ولا يخفى عليه منها شيء ليخبر به صاحبه.
ففعل به ذلك. ثم أطلقه ووصله وقال:
« اذهب واقرأه مني السلام. » ثم إنّ الأفشين كان في كلّ أسبوع يضرب الطبول نصف الليل ويخرج بالشمع والنفّاطات إلى باب الخندق، وقد عرف كلّ إنسان كردوسه من كان في الميمنة ومن كان في الميسرة. فيخرج الناس
-
« أيّها الأمير، لا تحرمنا شهادة إن حضرت، فإنّما قصدنا ثواب الله ووجهه، ولو أردنا الحياة لقعدنا في منازلنا، فدعنا وحدنا حتى نتقدّم بعد أن يكون بأذنك، فلعلّ الله أن يفتح علينا. » فقال الأفشين:
« أرى نيّاتكم حاضرة، وأحسب هذا الأمر يريده الله، وقد نشطتم ونشط أصحابي وقد حدث لي الساعة رأى في ذلك وهو خير إن شاء الله، اعزموا على بركة الله أيّ يوم شئتم حتى نناهضه، لا حول ولا قوّة إلّا بالله. » فخرج القوم مستبشرين، فمن كان أراد الانصراف أقام ومن كان خرج ثم سمع بذلك رجع.
ووعد الناس ليوم، وتقدّم إلى الناس بأخذ الأهبة ثم خرج وأخرج المحامل على البغال لمن لعلّه يجرح، وأخرج المتطبّبين، وزحف الناس، حتى صعد إلى المكان الذي كان يجلس فيه وطرح له النطع ووضع عليه الكرسيّ كما كان يفعل وقال لأبي دلف:
« قل لأصحابك أيّ ناحية هي أسهل عليهم فليقتصروا عليها. » وقال لجعفر:
« العسكر كلّه بين يديك والناشبة والنفّاطون أمامك، فخذ حاجتك واعزم على بركة الله، ادن من أيّ موضع شئت. » قال: « أريد أن أقصد الموضع الذي كنت عليه. » قال: « امض. » ثم دعا أبا سعيد فقال له:
« قف بين يديّ أنت وجميع أصحابك ولا يبرحنّ منكم أحد. » ودعا أحمد بن الخليل فقال له:
« قف أنت أيضا وجميع أصحابك ها هنا ودعوا جعفرا يعبر ومن معه من الرجال، فإن أراد رجالا وفرسانا أمددناه. »
توجه أبي دلف نحو حائط البذ
فتوجّه أبو دلف مع المطوّعة نحو حائط البذّ وعلقوا بالحائط على حسب ما كانوا فعلوا ذلك اليوم وحمل جعفر حملة حتى ضرب باب البذّ كما فعل تلك الدفعة ووقف على الباب وواقفه الخرّمية ساعة، فوجّه الأفشين برجل معه بدرة دنانير وقال:
« قل لأصحاب جعفر: من تقدّم حثوت له ملء كفّى. » ودفع بدرة أخرى دنانير إلى آخر، وقال:
« اذهب إلى موضع المطوّعة وقل مثل ذلك. » وبعث بأطواق وأسورة مع البدرتين، واشتبكت الحرب، ثم فتح الخرّمية الباب وخرجوا على أصحاب جعفر فنحّوهم عن الباب وشدّوا على المطوّعة من الناحية الأخرى فرموهم عن السور، وأخذوا علمين لهم وشدخوهم بالصخر حتى أثّروا فيهم ورقّوا عن الحرب. وصاح جعفر بأصحابه فبدر منهم نحو مائة رجل فبركوا خلف تراسهم التي كانت معهم وواقفوهم متحاجزين لا هؤلاء يقدمون ولا هؤلاء، حتى صلى الناس الظهر يختلف بينهم النشّاب والحجارة.
فلمّا نظر الأفشين إلى ذلك كره أن يطمع العدوّ في الناس، فوجّه إلى جعفر بكردوس فقال جعفر:
« لست أوتى من قلّة الرجال، معي رجال ولكن لست أرى للحرب موضعا وقد انقطعت الحرب. » فبعث إليه:
« انصرف على بركة الله. » فانصرف جعفر وتقدّم الأفشين بحمل الجرحى ومن به وهن من الحجارة في المحامل التي على البغال وأمر الناس بالانصراف فانصرفوا إلى خندقهم بروذ الروذ ويئس الناس من الفتح في تلك السنة وانصرف أكثر المطوّعة.
ثم إنّ الأفشين تجهّز بعد جمعتين فلمّا كان في الليل بعث الرجّالة الناشبة وهم مقدار ألف رجل، فدفع إلى كلّ واحد منهم شكوة وكعكا، ودفع إليهم أعلاما سودا وقال:
« سيروا حتى تصيروا خلف التلّ الذي عليه آذين» - وهو صاحب جيش بابك.
وأرسل مهم الأدلّاء وأمرهم ألّا يعلم بهم أحد حتى يروا أعلام الأفشين عند صلاة الغداة، فحينئذ فركّبوا الأعلام على الرماح واضربوا بالطبول وانحدروا من فوق الجبل وارموا بالنشّاب والصخر على الخرّمية وإن هم لم يروا الأعلام لم يتحرّكوا حتى يأتيهم خبره.
ففعلوا ذلك ووافوا رأس الجبل عند السحر وجعلوا في تلك الشكاء الماء من الوادي.
فلمّا كان السحر وجّه الأفشين إلى القوّاد أن:
« اركبوا في السلاح. » فركبوا، وأخرج النفّاطين والشمع وضرب بالطبل حتى وافى الموضع الذي كان يقف عليه وبسط النطع ووضع الكرسيّ لعادته، وكان بخاراخذه يقف على العقبة التي كان يقف عليها في كلّ يوم فلمّا كان ذلك اليوم صيّر بخاراخذاه في المقدّمة مع أبي سعيد وجعفر الخيّاط وأحمد بن الخليل، فأنكر الناس هذه التعبئة وأمرهم أن يدنوا من التلّ الذي عليه آذين فيحدقوا به، وقد كان ينهاهم عن هذا قبل ذلك اليوم. فمضوا جميعا حتى صاروا كالحلقة حول التلّ وارتفعت الضجّة وتحرّك الكمين واشتبكت الحرب.
فلمّا سمع الرجّالة الناشبة الذين تقدّموا صوت الطبول ورأوا الأعلام وركّبوا أعلامهم وانحدروا على أصحاب آذين وحمل جعفر الخيّاط وأصحابه حتى صعدوا إليهم ثم حملوا حملة منكرة، قلبوه وأصحابه في الوادي.
وكان آذين قد هيّأ فوق الجبل عجلا عليها صخرة. فلمّا حمل الناس دفع العجل على الناس، فأفرج الناس عنها حتى تدحرجت ثم حمل الناس من كلّ وجه.
بابك يريد الأمان
فلمّا نظر الناس إلى ذلك كبّروا ونظر بابك إلى أصحابه قد أحدق بهم، فخرج من طرف البذّ من باب يلي الأفشين يكون بين هذا الباب وبين التلّ الذي عليه الأفشين قدر ميل، فأقبل بابك يسأل عن الأفشين فقال لهم المطوّعة وأصحاب أبي دلف:
« من هذا؟ » فقالوا: « بابك، يريد الأفشين. » فأرسل أبو دلف إلى الأفشين يعلمه ذلك. فأرسل الأفشين رجلا يعرف بابك. فنظر إليه، ثم عاد إليه فقال:
« نعم هو بابك. » فركب إليه الأفشين، فدنا منه حيث يسمع كلامه وكلام أصحابه، والحرب مشتبكة في ناحية آذين، فقال له:
« أريد الأمان من أمير المؤمنين. » فقال له الأفشين:
« قد عرضت عليك هذا وهو لك مبذول متى شئت. »
فقال: « قد شئت الآن على أن تؤجّلنى أجلا أحمل فيه عيالي وأتجهّز. » قال له الأفشين:
« قد والله نصحتك غير مرّة وأنا أنصحك الساعة: خروجك اليوم في الأمان خير من غد. » قال: « قد قبلت أيّها الأمير. » قال له الأفشين:
« فابعث بالرهائن التي كنت سألتك. » قال: « نعم. أمّا فلان وفلان فهم على ذلك الجبل، فمر أصحابك بالتوقّف عنهم. » فجاء رسول الأفشين ليردّ الناس. فقيل له:
« من يردّ الناس؟ إنّ أعلام الفراغنة قد دخلت البذّ وصعدوا بها إلى القصور. » فصاح الأفشين بالناس ودخل ودخلوا وصعد الناس بالأعلام فوق القصور وقد كان بابك كمّن في قصوره وهي أربعة، ستمائة راجل. فوافاهم الناس فصعدوا فوق القصور بالأعلام وامتلأ شارع البذّ وميدانها من الناس وفتح أولئك الكمناء أبواب القصور وخرجوا يقاتلون الناس، ومرّ بابك حتى دخل الوادي الذي يلي هشتاذ سر واشتغل الأفشين وقوّاده بالحرب على أبواب القصور وأحضروا النفّاطين فصبّوا عليهم النفط والناس والنار يهدمون القصور حتى قتلوهم عن آخرهم.
وأخذ الأفشين أولاد بابك وعيالاتهم وأمر الناس بالانصراف فانصرفوا، وكان عامّة الخرّمية في البيوت فرجع الأفشين إلى الخندق بروذ الروذ.
فذكر الناس أنّ بابك وأصحابه حين علموا أنّ الأفشين قد رجع إلى خندقه رجعوا إلى البذّ، فحملوا من الزاد ما أمكنهم حمله وحملوا أموالهم، ثم دخلوا الوادي الذي يلي هشتاذ سر، فلمّا كان من الغد خرج الأفشين حتى دخل البذّ
-
فوقف في القرية وأصعد الكلغريّة فهدموا القصور وحرّقوها. فعل ذلك ثلاثة أيّام حتى أحرق خزائنه وقصوره ولم يدع بيتا واحدا. ثم رجع وقد علم أنّ بابك قد أفلت في بعض أصحابه. فكتب إلى ملوك أرمينية وأصحاب الأطراف يقول: « إنّ بابك قد هرب في عدّة معه وهو مارّ بكم فلا يفوتنّكم. » وجاءت الجواسيس إلى الأفشين فأخبروه بموضعه في الوادي وكان واديا معشبا كثير الشجر طرفه بأرمينية وطرفه الآخر بأذربيجان، ولم يمكن الخيل أن تنزل إليه ولا يرى من يستخفى فيه، إنّما هو غيضة ملتفّة الأشجار والأنهار فوجّه الأفشين إلى كلّ موضع يعلم أنّ منه طريقا ينحدر إلى تلك الغيضة، إذ يمكن بابك أن يخرج منه عسكرا، وكان يوجّه إلى كلّ عسكر من هذه العساكر الميرة من عسكره وكانت عدّة هذه العساكر خمسة عشر عسكرا.
أمان مختوم بالذهب من المعتصم لبابك
وكانوا كذلك حتى ورد كتاب أمير المؤمنين المعتصم بالله مختوما بالذهب فيه أمان لبابك. فدعا الأفشين ممّن كان استأمن إليه من أصحاب بابك وبالأسرى وفيهم ابن له كبير، أكبر ولده فقال لهم:
« هذا ما لم أكن أطمع له فيه، أن يكتب له أمير المؤمنين وهو في هذه الحال بأمان، فمن يأخذه ويذهب به إليه؟ » فلم يجسر على ذلك أحد منهم وقالوا:
« أيّها الأمير ما فينا من يجترئ أن يلقاه بهذا. » فقال الأفشين:
« ويحكم، إنّه يفرح بهذا. » قالوا: « أصلح الله الأمير، نحن أعرف بهذا منك. » قال: « فلا بدّ من أن تهبوا لي أنفسكم وتوصلوا هذا الكتاب إليه. » فقام رجلان منهم فقالا:
« اضمن لنا أنّك تجرى على عيالاتنا. » فضمن لهما. وأخذا الكتاب وتوجّها، فلم يزالا يدوران في الغيضة حتى أصاباه، وكتب معهما ابن بابك يعلمه الخبر ويسأله أن يصير إلى الأمان. فدفعا إليه الكتاب عن ابنه فقرأ الكتاب ابنه وقال:
« أيّ شيء صنعتم؟ » قال: « أسر عيالاتنا ولم نعرف موضعك فنأتيك. » فقال للذي كان معه الكتاب:
« أمّا هذا فلا أعرفه، ولكن أنت يا ابن الفاعلة كيف اجترأت أن تجيئني من عند ابن الفاعلة؟ » - يعنى ابنه.
فأخذه وشدّ الكتاب على صدره مختوما لم يفضّه وضرب عنقه.
ثم قال للآخر:
« اذهب أنت فقل لابني: يا بن الزانية قد تحقّقت الساعة أنّك لست لي بابن، وأنّ أمّك جاءت بك من عهر، لو عشت يوما واحدا وأنت رئيس هذه الدعوة، كان خيرا لك من أن تعيش أربعين سنة وأنت عبد ذليل، ولكنّك من جنس لا خير فيه. » وردّ الرجل مع أدلّاء حتى دلّوه ورجعوا إلى بابك.
فناء زاد بابك
ثم إنّ بابك فنى زاده وخرج ممّا يلي طريقا فيه جبل لا يقيم عليه عسكر لبعده من الماء، وكان الناس قد أقاموا هناك فارسين وكوهيّين يحرسون الطريق بنوبة، فلمّا خرج بابك وأصحابه وكان معه أخواه عبد الله ومعاوية وامرأة له وساروا يريدون أرمينية، نظر إليهم الفارسان والكوهيّان، فتوجّهوا إلى العسكر وعليه أبو الساج، فأعلموه أنّهم رأوا فرسانا خرجوا من الغيضة ومرّوا لا ندري من هم. فركب الناس وساروا فنظروا إليهم من بعد وقد نزلوا على عين ماء يتغدّون عليها. فلمّا نظروا إلى الناس بادر الكافر فركب وركب من كان معه. فأفلت وأخذ معاوية وأمّ بابك والمرأة التي كانت معه، ومع بابك غلام له. فوجّه أبو الساج بمعاوية والمرأتين إلى العسكر ومرّ بابك حتى دخل جبال أرمينية يسير متكمّنا في الجبال فاحتاج إلى طعام، وكان جميع بطارقة أرمينية قد تحفّظوا بنواحيهم وأطرافهم وأوصوا مسالحهم: [ أن ] لا يجتاز عليهم أحد إلّا أخذوه حتى يعرفوه. وكان أصحاب المسالح كلّهم متحفّظين.
بابك والحراث وما فعل ابن سنباط
وأصاب بابك الجوع فأشرف فإذا هو بحرّاث يحرث على فدان له في بعض الأودية. فقال لغلام له:
« انزل إلى هذا الحرّاث وخذ معك دراهم ودنانير، فإن كان معه خبز فخذه وأعطه. » وكان للحرّاث شريك ذهب لحاجته. فنزل الغلام إلى الحرّاث يخاطبه، فنظر إليه شريكه من بعيد فوقف بالبعد يفرق أن يجيء إلى شريكه. فدفع الغلام إلى الحرّاث شيئا، فجاء الحرّاث فأخذ الخبز فدفعه إلى الغلام وشريكه قائم ينظر ويظنّ أنّه إنّما اغتصبه خبزه. فعدا إلى صاحب المسلحة فأعلمه أنّ رجلا عليه سيف وسلاح جاءهم وأخذ خبز شريكه من الوادي.
فركب صاحب المسلحة وكان في جبال ابن سنباط، ووجّه إلى سهل بن سنباط بالخبر. فركب ابن سنباط وجماعة معه حتى جاءه مسرعا، فوافى الحرّاث والغلام عنده فقال:
« ما هذا؟ » قال الحرّاث:
« هذا رجل مرّ بي فطلب خبزا فأعطيته. » فقال للغلام:
« أين مولاك؟ » قال: « هاهنا. » فأومأ إليه، فاتّبعه فأدركه وهو نازل. فلمّا رأى وجهه عرفه، فترجّل له ابن سنباط عن دابّته ودنا منه فقبّل يده ثم قال:
« يا سيّدي إلى أين؟ » قال: « أريد بلاد الروم - أو موضعا سمّاه. » فقال له:
« لا تجد أحدا أعرف بحقّك ولا أحقّ أن تكون عنده مني. أنت تعرف موضعي، ليس بيني وبين السلطان عمل ولا يدخل عليّ أحد من أصحاب السلطان، وأنت عارف بقصتي وبلدي وكلّ من ها هنا من البطارقة، إنّما هم أهل بيتك قد صار لك منهم أولاد. » وذلك أنّ بابك كان إذا علم أنّ عند أحد البطارقة بنتا أو أختا جميلة وجّه يطلبها، فإن بعث بها وإلّا بيّته وأخذها وأخذ جميع ما له من متاع وغيره.
ثم قال له ابن سنباط:
« صر عندي في حصني فإنّما هو منزلك وأنا عبدك فكن فيه شتوتك هذه ثم ترى رأيك. » وكان بابك قد أصابه الضرّ والجهد فركن إلى كلام سهل بن سنباط وقال له:
« ليس يستقيم أن أكون أنا وأخي في موضع واحد، لعلّه أن يعثر بأحدنا فيبقى الآخر، ولكني أقيم عندك وتوجّه عبد الله أخي إلى ناحية ابن اصطفانوس، لأنّه ليس لنا خلف يقوم بدعوتنا. » فقال له ابن سنباط:
-
« ولدك كثير. » قال: « ليس فيهم خير. »
ابن سنباط يكتب الخبر إلى الأفشين وما كان بعد ذلك
وكان يثق بابن اصطفانوس. فلمّا أصبح عبد الله مضى إلى حصن اصطفانوس وأقام بابك عند ابن سنباط. فكتب ابن سنباط إلى الأفشين يعلمه أنّ بابك عنده في حصنه. فكتب إليه:
« إن كان هذا صحيحا فلك عندي وعند أمير المؤمنين - أعزّه الله - الذي تحبّ. » وكتب يجزّيه خيرا.
ووصف الأفشين صفة بابك لرجل من خاصّته ممّن يثق به ووجّه به إلى ابن سنباط، وكتب إليه يعلمه أنّه وجّه إليه برجل من خاصّته يحبّ أن يرى بابك ليحكى للأفشين ذلك. فكبره ابن سنباط ذلك إشفاقا من أن يوحش ذلك بابك. فقال للرجل:
« ليس يمكنك أن تراه إلّا في الوقت الذي يكون منكبّا على طعامه يتغدّى. فإذا رأيتنا قد دعونا بالطعام فالبس ثياب الطبّاخين الذين معنا على هيئة علوجنا وتعال كأنّك تقدّم الطعام أو تتناول شيئا، فإنّه يكون متّكئا على الطعام فتفقّد منه ما تريد، فاذهب فاحكه لصاحبك. » ففعل به ذلك في وقت الطعام فرفع بابك رأسه فنظر إليه فأنكره وقال:
« من هذا الرجل؟ » فقال له ابن سنباط:
« هذا رجل من أهل خراسان منقطع إلينا منذ زمان، نصراني. » فقال له بابك:
« منذ كم أنت هاهنا؟ »
قال: « منذ كذا وكذا سنة. » قال: « وكيف أقمت ها هنا؟ » قال: « تزوّجت ها هنا. » فقال له:
« صدقت، إذا قيل للرجل من أين أنت، قال: من حيث امرأتى. » ثم رجع إلى الأفشين فأخبره ووصف له بابك:
ووجّه الأفشين أبا سعيد وبو زبازه إلى ابن سنباط وكتب إليه معهما وأمرهما إذا صار إلى بعض الطريق قدّما كتابه إلى ابن سنباط مع علج من الأعلاج. وأمرهما إلّا يخالفا ابن سنباط فيما يشير به عليهما.
ففعلا ذلك فكتب إليهما ابن سنباط في المقام بموضع قد سمّاه ووصفه لهما إلى أن يأتيهما رسوله. فلم يزالا مقيمين في الموضع الذي وصفه لهما، ووجّه إليهما ابن سنباط بالميرة والزاد حتى تحرّك بابك للخروج إلى الصيد فقال له:
« ها هنا واد طيّب وأنت مغموم في جوف هذا الحصن، فلو خرجت، ومعنا باز وباشق وما تحتاج إليه فنتفرّج إلى وقت الغداء بالصيد. » فقال له بابك:
« إذا شئت فانفذ ليركبا بالغداء. » وكتب ابن سنباط إلى أبي سعيد وبو زبازه يعلمهما ما عزم عليه ويأمرهما أن يوافياه: واحد من هذا الجانب من الجبل والآخر من الجانب الآخر، وأن يسيرا متكمّنين مع صلاة الصبح، فإذا جاءهما رسوله أشرفا على الوادي فانحدرا عليه إذا رأوهم وأخذوهم.
فلمّا ركب ابن سنباط وبابك وجّه ابن سنباط رسولا إلى هذا ورسولا إلى هذا وأراد أن يشبّه على بابك ويقول:
« هذه خيل قد جاءتنا فأخذتنا ولم يحبّ أن يدفعه إليهما من منزله. » فأشرفا على الوادي فإذا هما ببابك وابن سنباط وكان على بابك درّاعة بيضاء. فانحدرا وأصحابهما عليه هذا من ها هنا وهذا من ها هنا. فأخذاهما ومعهما البواشيق. فلمّا نظر بابك إلى العساكر قد أحدقت به وقف ينظر إليهم.
فقالا له:
« انزل. » فقال: « ومن أنتما؟ » قال أحدهما:
« أنا أبو سعيد. » وقال الآخر:
« أنا بو زبازه. » فقال: « نعم. » وثنّى رجله فنزل - وكان ابن سنباط ينظر إليه - فرفع رأسه إلى ابن سنباط فشتمه وقال:
« إنّما بعتني من اليهود بالشيء اليسير، لو أردت المال مني وطلبته لأعطيتك أكثر ممّا يعطيك هؤلاء. »
بابك يحمل إلى الأفشين
ثم أركبوه وحملوه وجاءوا به إلى الأفشين. فجلس له الأفشين ببرزند في خيمة بين يديها فازة، فاصطفّ الناس له صفّين، فأمر الأفشين ألّا يتركوا غريبا من الصفّين فرقا أن يجرحه إنسان أو يقتله ممّن قتل أولياءه أو صنع به داهية.
وقد كان صار إلى الأفشين نساء كثير وصبيان ذكروا أنّ بابك كان أسرهم وأنّهم أحرار من العرب والدهاقين. فأمر الأفشين بإفرادهم في حظيرة وأجرى عليهم أقواتهم وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم وكل من جاءه فعرف امرأة أو صبيّا أو صبيّة وأقام شاهدين يعرفان أنّها حرمة له أو قرابة دفعها إليه. فكان قد ذهب خلق كثير وبقي ناس كثير منهم ينتظرون أن تجيء أولياؤهم.
فلمّا كان ذلك اليوم وصار بين بابك وبين الأفشين قدر نصف ميل أنزل بابك، فمشى بين الصفّين في درّاعته وعمامته وخفّيه حتى وقف بين يدي الأفشين. فنظر إليه الأفشين ثم قال:
« انزلوا به إلى العسكر. » فنزلوا به راكبا.
فلمّا نظر النساء والصبيان الذين كانوا أفردهم الأفشين في حظيرة لطموا وجوههم وصاحوا وبكوا حتى ارتفعت أصواتهم.
فوجّه الأفشين إليهم:
« أنتم بالأمس تقولون أسرنا وأنتم اليوم تبكون عليه، لعنكم الله. » قالوا: « إنّه كان محسنا إلينا. » فأمر به الأفشين فأدخل بيتا، ووكّل به جماعة من ثقاته. وكان عبد الله أخو بابك مقيما عند عيسى بن اصطفانوس، فأعلم الأفشين بمكانه فكتب إليه يأمره أن يوجّه بعبد الله. فوجّه به عيسى بن اصطفانوس إلى الأفشين.
فلمّا صار في يد الأفشين حبسه مع أخيه في بيت واحد ووكّل بهما قوما يحفظونهما. وكتب إليه المعتصم يأمره بالقدوم بهما عليه.
فلمّا أراد أن يصير إلى العراق وجّه إلى بابك:
« أنظر ما تشتهي من بلاد أذربيجان. » قال: « أشتهى أن أنظر إلى مدينتي. » فوجّهه مع قوم في ليلة مقمرة إلى البذّ حتى دار فيه ونظر إلى البيوت والقتلى فيه إلى وقت الصبح ثم ردّ. فيظنّ أنّه تأمّل مواضع كنوزه.
ودخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين
قدوم الأفشين ببابك على المعتصم وما فعل المعتصم به
فقدم فيها الأفشين على المعتصم ببابك وأخيه سرّ من رأى. وكان المعتصم يوجّه إلى الأفشين كلّ يوم منذ فصل من برزند إلى أن وافى سرّ من رأى فرسا وخلعة، وكان المعتصم لعنايته بأمر بابك وفساد الطريق بالثلج وغيره رتّب بين سرّ من رأى وبين عقبة حلوان خيلا مضمّرة على رأس كلّ فرسخ فرسا معه مجر، وكان يركض بالخبر ركضا حتى يؤدّيه واحد إلى واحد يدا بيد.
-
ثم سار بهم حتى أخرجهم من الغيضة بقية ليلتهم يدور بهم في جبل ولا يخرجهم منه. فقال الأدلّاء:
« هذا الرجل يدور بنا. » فسأله عمّا قال الأدلّاء. فقال الشيخ:
« صدقوا ولكنّ القوم الذين نريدهم خارج الجبل، وأخاف أن أخرج من الجبل بالليل فيسمعوا صوت حوافر الخيل على الصخر فيهربوا، فإذا خرجنا من الجبل ولم تر أحدا قتلتني. فأنا أدوّر بك في هذا الجبل إلى الصبح، فإذا أصبحنا خرجنا إليهم فأريتك إيّاهم. » فقال له:
« ويحك فأنزلنا في الجبل حتى نستريح. » فقال: « رأيك. » فنزلنا على الصخر وأمسكنا لجم دوابّنا حتى الفجر. فلمّا طلع الفجر قال:
« وجّهوا رجلين يصعدان هذا الجبل فيبصران ما فوقه ويأخذان من أدركا فيه. » فصعد أربعة فأصابوا رجلا وامرأة فأنزلوهما وسائلهما العلج عن أهل أنقرة: « أين باتوا. » فسمّيا الموضع. فقال الشيخ:
« خلّوا عن هذين فإنّا قد أعطيناهما الأمان حتى دلّونا. » فخلّى عنهما وسار بهم العلج إلى الموضع. فأشرف بهم على عسكر أهل أنقرة. فلمّا رأوا العسكر صاحوا بالنساء والصبيان فدخلوا الملّاحة ووقفوا على طرفها يقاتلون وأخذوا منهم عدّة أسرى وأصابوا في الأسرى قوما بهم جراحات فسألوهم عنها فقالوا:
« كنّا مع الملك في وقعة الأفشين. » فقالوا لهم:
« فحدّثونا بالقصّة. » فأخبروا أنّ الملك كان معسكرا بلامس حتى جاءه رسول فأخبره أنّ عسكرا ضخما قد دخل من ناحية الارمنياق فاستخلف على عسكره رجلا من أهل بيته وأمره بالقيام في موضعه، فإن ورد عليه مقدّمة ملك الروم واقعه، إلى أن يذهب هو فيواقع هذا العسكر - يعنى عسكر الأفشين.
فقال أميرهم:
« نعم وكنت ممّن سار مع الملك فواقعناهم صلاة الغداة فهزمناهم وقتلنا رجّالتهم كلّهم وتقطّعت عساكرنا في طلبهم. فلمّا كان الظهر رجع فرسانهم فقاتلونا قتالا شديدا حتى اختلطوا بنا فلم ندر أين الملك ولم نزل كذلك إلى العصر، ثم رجعنا إلى موضع معسكر الملك باللّامس فلم نصادفه، ووجدنا العسكر قد انتقض وانصرف الناس عن قرابة الملك الذي كان الملك استخلفه على العسكر، فأقمنا ليلتنا.
فلمّا كان الغد فإذا الملك في جماعة يسيرة فوجد عسكره قد اختلّ فطلب الذي كان استخلفه وضرب عنقه وكتب إلى المدن والحصون: لا يأخذوا رجلا [ ممن انصرف ] من عسكر الملك إلّا ضربوه بالسياط حتى يرجع إلى موضع سمّاه لهم الملك. حتى إذا اجتمع الناس ناهض ملك العرب وأنفذ الملك خصيّا له إلى عمّوريّة إلى أن يلحقه بها. »
لحوق أشناس ثم المعتصم ثم الأفشين بأنقرة
فانصرف المسلمون بما أخذوا وتركوا السبيّ والمقاتلة يريدون عسكر أشناس وساقوا في طريقهم غنما وبقرا كثيرا، وأطلقوا ذلك الشيخ الأسير، وسار أشناس بالأسرى حتى لحق بأنقرة فمكث أشناس يوما واحدا ثم لحقه المعتصم من غد فأخبره بجميع ما ذكره الأسير فسرّ المعتصم. فلمّا كان اليوم الثالث جاءت البشرى من ناحية الأفشين يخبرون بالسلامة وأنّه وارد على أمير المؤمنين بأنقرة.
ثم ورد الأفشين فأقاموا أيّاما ثم ساروا إلى عمّوريّة وقد صيّر المعتصم العسكر ثلاثة عساكر وبين عسكر وعسكر فرسخان، فساروا يخرّبون ويسبون ما بين أنقرة إلى عمّوريّة وبينهما سبع مراحل. ثم توافت العساكر بعمّوريّة فكان أوّل من وردها أشناس فدار حولها دورة، ثم نزل على ميلين منها بموضع فيه ماء وحشيش. ولمّا كان من الغد جاء المعتصم فدار حولها دورة، ثم جاء الأفشين في اليوم الثالث فقسّمها أمير المؤمنين بين القوّاد كما يدور وصيّر إلى كلّ واحد منهم أبراجا منها على قدر كثرة أصحابه وقلّتهم.
وتحصّن أهل عمّوريّة وتحرّزوا، وكان بعموّريّة رجل من المسلمين أسره قديما أهل عمّوريّة فتنصّر وتزوّج فيهم فحبس نفسه عند دخولهم الحصن.
فلمّا رأى أمير المؤمنين ظهر وجاء إلى المعتصم فأعلمه أنّ موضعا من المدينة حمل عليه الوادي من سيل عظيم فوقع السور من ذلك الموضع، فكتب ملك الروم إلى عامل عمّوريّة أن يبنى ذلك الموضع فتوانى في بنائه حتى كان خروج الملك من قسطنطينية إلى بعض المواضع، فتخوّف الوالي أن يمرّ الملك على الناحية فيمرّ بالسور فلا يراه بنى فبنى وجه السور بالحجارة حجرا حجرا وصيّر وراءه من جانب المدينة حشوا، ثم عقد فوقه الشرف كما كان.
فوقف ذلك الرجل المعتصم على هذه الناحية التي وصف فأمر المعتصم بضرب مضربه في ذلك الموضع ونصب المجانيق على ذلك البناء، فانفرج السور من ذلك الموضع.
فلمّا رأى أهل عمّورية انفراج السور علّقوا عليه الخشب الكبار المضمومة بعضها إلى بعض فكان حجر المنجنيق إذا وقع على الخشب تكسّر، فعلّقوا فوق الخشب البراذع.
فلمّا ألحّت المجانيق على ذلك الموضع لم ينفع فيها شيء وتصدّع السور.
فكتب ياطس والخصيّ إلى ملك الروم كتابا يعلمانه أمر السور ووجّها الكتاب مع رجل فصيح بالعربية وغلام رومي فعبرا الخندق ووقعا إلى ناحية عمر الفرغاني، فوجّه بهما إلى أشناس. فحين سألوهما:
« من أنتما؟ » لم يعرفا أحدا من القوّاد بالعسكر يسمّيانه لهم. ففتّشا فوجد معهما الكتاب. فقرئ وإذا فيه:
« إنّ العسكر قد أحاط بالمدينة وأنّه قد عزم على أن يركب ويحمل خاصّة أصحابه على الدوابّ التي في الحصن ويفتح الأبواب ليلا غفلة ويخرج عن العسكر، كائنا فيه ما كان أفلت من أفلت وأصيب من أصيب، حتى يصير إلى الملك. » فلمّا قرأ المعتصم الكتاب أمر للرجل الذي يتكلّم بالعربية وللغلام الرومي بيده فأسلما وخلع عليهما وأمر بهما حين طلعت الشمس فأدارهما حول عمّوريّة فقالا:
« ياطس يكون في هذا القصر. » - يعنون البرج. » فوقفا بحذاءه طويلا وعليهما الخلع وبين أيديهما رجلان يحملان لهما الدراهم ومعهما الكتاب حتى عرف خبرهما جميع الروم وسمعا شتمهم إيّاهما ثم نحّوهما.
ثم أمر المعتصم بحراسة الأبواب نوائب يحصرها الفرسان يبيتون على دوابّهم في السلاح لئلّا يفتح الباب ليلا فيخرج إنسان. فلم يزالوا كذلك حتى انهدم ما بين برجين في الموضع الذي وصف للمعتصم ممّا لم يحكم عمله، فسمع أهل العسكر الوجبة، فارتاعوا وظنّوا العدوّ قد احتال بحيلة وخرج، حتى أرسل المعتصم من طاف على العسكر يعلمهم أنّ ذلك صوت السور قد سقط فطيبوا نفسا.
تدبير حربي فاشل
-
وكان المعتصم اتّخذ مجانيق كبارا وجعلها على كراسيّ تحتها عجل وعملها كأوثق ما تكون، ثم فرّق غنما مما استاقه على أهل العسكر ليأكلوا لحمها ويحشوا جلدها ترابا ثم أتى بالجلود مملوءة ترابا فطرحت في الخندق، وعمل دبّابات كبارا تسع كلّ دبّابة عشرة رجال على أن يدحرجوها على تلك الجلود حتى يمتلئ الخندق. فلمّا طرحت الجلود وقعت مختلفة فلم يمكن تسويتها خوفا من حجارة المنجنيق، فأمر أن يطرح فوقها التراب حتى استوت، ثم قدّمت دبّابة فدحرجوها. فلمّا صارت من الخندق في نصفه تعلّقت بتلك الجلود وبقي القوم فيها فما تخلّصوا إلّا بعد جهد، ثم مكثت تلك العجلة مقيمة باقية هناك لا يمكن فيها حيلة حتى فتحت عمّورية وبطلت الدبابات والمنجنيقات والسلاليم حتى أحرقت. فلمّا كان من الغد قاتلهم على الثلمة وكان المعتصم واقفا على دابّته بإزاء الثلمة وأشناس والأفشين وقوف رجّالة.
ذكر اتفاق سيء من كلام سبق
فقال المعتصم:
« ما كان أحسن الحرب اليوم؟ » فقال عمر الفرغاني:
« الحرب اليوم أجود منها أمس. » فسمعها أشناس وأمسك. فلمّا انصرف المعتصم وانصرف أشناس وقرب من مضاربه ترجّل له القوّاد على عادتهم وفيهم عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل بن هشام فلمّا مشوا بين يديه قال لهم أشناس:
« يا أولاد الزنا، أيّ شيء تمشون بين يديّ؟ كان ينبغي أن تقاتلوا أمس حيث كان يقاتل غيركم. انصرفوا إلى مضاربكم. » فلمّا انصرفا قال أحدهما لصاحبه:
« أما ترى هذا العبد ابن الفاعلة - يعنى أشناس - ما صنع بنا اليوم، أليس الدخول إلى بلاد الروم أهون من هذا الذي سمعناه؟ » فقال عمر الفرغاني لأحمد بن الخليل:
« سيكفيك الله أمره عن قريب. » فأوهم أحمد أنّ عنده خبرا، فالحّ عليه أحمد يسأله فأخبره بما هم فيه، وقال العباس بن المأمون:
« قد تمّ أمره وسيبايع له طاهر أو نقتل المعتصم وأشناس وغيرهما عن قريب. » ثم قال:
« وأنا أشير عليك أن يأتى العباس فتقدّم فتكون في عداد من قد مال إليه. » فقال له أحمد:
« هذا أمر لا أحسبه يتمّ. » فقال عمر:
« قد تمّ وفرغ منه. » وأرشده إلى الحارث السمرقندي، وكان المتولّى لإيصال الرجال إلى العباس وأخذ البيعة عليهم، فقال له عمر:
« أنا أجمع بينك وبين الحارث. » فقال أحمد:
« إن كان هذا الأمر يتمّ فيما بيننا وبين عشرة أيّام فأنا معكم، وإن تجاوز ذلك فليس بيني وبينكم عمل. » فذهب الحارث فأعلم العباس أنّ عمر قد أدخل أحمد بن الخليل بيننا.
فقال:
« ما كنت أحبّ أن يطّلع الخليلي على شيء ممّا نحن فيه، فأمسكوا عنه ودعوه. بهما، » فتركوه.
فلمّا كان الثالث كانت الحرب على أصحاب أمير المؤمنين. ثم أحسّ ايتاخ والمغاربة والأتراك، والقيّم بذلك ايتاخ، فاتسع لهم الموضع المنثلم وكثرت الجراحات في الروم وكان القائد الموكّل بالموضع الذي انثلم يقال له: وندوا، وتفسيره بالعربية ثور. فقاتل قتالا شديدا هو وأصحابه وكثر القتلى فيهم. فاستمدّ ياطس فلم يمدّه هو ولا غيره وقال كلّ واحد:
« نحن نحفظ ما يلينا، فاحفظ أنت ما يليك. » فقال:
« يا قوم إنّ الحرب إنّما هي اليوم عليّ وعلى أصحابي ولم يبق معي أحد إلّا وقد جرح، فصيّروا أصحابكم على الثلمة يرمون، وإلّا افتضحتم وذهبت المدينة. » فلم يلتفتوا إليه فاعتزم هو وأصحابه أن يخرجوا إلى أمير المؤمنين ويسألوه الأمان على الذريّة حتى يسلّموا إليه الحصن بما فيه من السلاح والأثاث وغير ذلك. فلمّا أصبح أمر أصحابه ألّا يحاربوا حتى يخرج ويعود إليهم فخرج بأمان حتى صار إلى العسكر وحمل إلى المعتصم فصار بين يديه وقد أمسك الروم عن المحاربة أعنى أصحاب وندوا والناس يتقدّمون إلى الثلمة ووندوا جالس بين يدي المعتصم.
فدعا المعتصم بفرس فحمله عليه وقاتل حتى صار الناس معهم على حرب الثلمة وعبد الوهّاب بن علي بين يدي المعتصم فأومأ إلى الناس بيده أن: ادخلوا.
فدخل الناس المدينة. فالتفت وندوا وضرب بيده إلى لحيته، فقال له المعتصم:
« ما لك؟ » قال: « جئت أريد أن أسمع كلامك وتسمع كلامي فغدرت بي. » فقال المعتصم:
« كلّ شيء تريد أن تقوله فهو لك عليّ. قل ما شئت، فلست أخالفك. » قال: « كيف لا تخالفني وقد دخلوا المدينة؟ » فقال المعتصم:
« احتكم وقل ما شئت فانّى أعطيكه. »
وصار خلق من الروم إلى كنيسة لهم عظيمة، فقاتلوا هناك قتالا شديدا.
فأحرق المسلمون الكنيسة فاحترقوا عن آخرهم وبقي ياطس في برجه حوله بقية الروم وأصحابه وقد أخذتهم السيوف. فجاء المعتصم حتى وقف حذاء ياطس فكان ممّا يلي أشناس، فصاحوا:
« يا ياطس هذا أمير المؤمنين واقف. » فصاح الروميّ من فوق البرج:
« ليس ياطس ها هنا. » قالوا: « بلى، فلينزل إلى أمير المؤمنين. » قالوا « لا، ما هو ها هنا. » فمرّ المعتصم مغضبا، فصاح الروم:
« هذا ياطس، هذا ياطس. » فنصبت بعض تلك السلاليم المعمولة حتى صعد عليه الحسن الروميّ وهو غلام لأبي سعيد محمد بن يوسف فكلّمه ياطس وقال له:
« هذا أمير المؤمنين، فانزل على حكمه. » فنزل الحسن فأخبر المعتصم أنّه رءاه وكلّمه. فقال المعتصم:
« فاصعد إليه وقل له فلينزل. » فصعد الحسن ثانية فخرج ياطس من البرج متقلّدا سيفا حتى وقف على البرج قائما والمعتصم ينظر إليه فخلع سيفه من عنقه فدفعه إلى الحسن ثم نزل فوقف بين يديّ المعتصم فقنّعه سوطا وانصرف إلى مضربه فقال:
« هاتوه. » فمشى قليلا ثم جاءه رسول يقول:
« احملوه. » فحمل إلى مضرب أمير المؤمنين. ثم أقبل الناس بالأسرى والسبي من كلّ وجه فأمر المعتصم أن يميّز الأسرى فيعزل منهم أهل الشرف في ناحية، ثم أمر بالمقاسم أن ينادى عليها كلّ صاحب عسكر في ناحيته ووكّل مع كلّ قائد من هؤلاء رجلا من قبل أحمد بن أبي دؤاد يحصى عليه فبعث المقاسم في خمسة أيّام يبيع منها ما استباع وأمر بالباقي فضرب بالنار.
ولمّا همّ المعتصم بالرحيل وثب الناس على مغنم ايتاخ الذي كان يبيعه وهو اليوم الذي عجيف وعد فيه الناس أن يثب بالمعتصم، فركض المعتصم بنفسه ركضا وسلّ سيفه فتنحّى الناس من بين يديه وكفّوا عن انتهاب المغنم، فرجع إلى مضربه وأمر من الغد أن لا ينادى على الشيء إلّا ثلاثة أصوات وإلّا بيع العلق. فكان ينادى على الرقيق خمسة خمسة وعشرة عشرة وعلى المتاع الكبير جملة واحدة.
وكان ملك الروم قد وجّه رسولا في أوّل ما نزل المعتصم عمّوريّة، فأنزله المعتصم على ثلاثة أميال حتى فتح عمّورية. فلمّا فتحها أذن له في الانصراف ولم يصل إليه.
حبس العباس بن المأمون
وفي هذه السنة حبس المعتصم العباس بن المأمون وأمر بلعنه.
-
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ عجيف بن عنبسة حين وجّهه المعتصم إلى بلاد الروم مع عمر الفرغاني لم يطلق يده في النفقات كما أطلقت يد الأفشين، واستقصر المعتصم أمر عجيف وأفعاله وحقد عجيف ذلك، فقال للعباس بن المأمون:
« ما كان أضعف همّتك عند وفاة أبيك المأمون حين بايعت أبا إسحاق؟ » ويذمّه على تفريطه، وشجّعه على أن يتلافى ما كان منه. فقبل العباس ذلك.
وكان الحارث السمرقندي أديبا له عقل ومداراة وكان العباس يأنس به فصيّره واسطة بينه وبين القوّاد، فلم يزل يدور في العسكر حتى بايعه جماعة من القوّاد والخواصّ، وسمّى لكلّ واحد من قوّاد المعتصم رجلا من ثقات أصحابه ممّن بايعه وقال:
« إذا أمرنا فليثب كلّ رجل منكم على من ضمنّاه أن يقتله. » فوكّل من خاصّة الأفشين بالأفشين ومن خاصّة أشناس بأشناس وخاصّة المعتصم بالمعتصم، فضمنوا ذلك جميعا. فلمّا أرادوا أن يدخلوا الدرب وهم يريدون أنقرة وعمّورية ودخل الأفشين من ناحية ملطية، أشار عجيف على العباس أن يثب على المعتصم في الدرب وهو في قلّة من الناس وقد تقطّعت عنه العساكر، فيقتله ويأمر الناس بالقفول إلى بغداد فإنّ الناس يفرحون بانصرافهم، فأبى العباس عليه وقال:
« لا أفسد هذه الغزاة. » فلمّا فتحوا عمّورية قال عجيف للعباس: « يا نائم كم تنام؟ قد فتحت عمّورية والرجل ممكن، دسّ قوما ينتهبون هذا الخرثيّ، فإنّه إذا بلغه ذلك ركب من ساعته، فتأمر من يقتله هناك. » فأبى عليه العباس وقال:
« أنتظر حتى أصير إلى الدرب، فيخلو كما خلا في البدأة، فهو أمكن منه هاهنا. » وكان عجيف قد أمر من ينتهب المتاع فانتهب الخرثيّ في عسكر ايتاخ وركب المعتصم وجاء ركضا فسكن الناس ولم يطلق العباس لأحد من أولئك الناس أن يتحرّكوا.
ذكر سوء تحفظ في القول عاد بهلكة
كان عمر الفرغاني قد بلغه الخبر ذلك اليوم، وكان له قرابة غلام أمرد في خاصّة المعتصم. فجاء الغلام إلى أولاد عمر يشرب عندهم تلك الليلة، فأخبرهم أنّ أمير المؤمنين ركب مستعجلا وأنّه كان يعدو بين يديه وقال:
« إنّ أمير المؤمنين غضب فأمرنى أن أسلّ سيفي. » وقال: « لا يستقبلك أحد إلّا ضربته. » فسمع عمر ذلك من الغلام فأشفق عليه أن يصاب فقال له:
« يا بنيّ أنت أحمق أقلّ من الكينونة عند أمير المؤمنين والزم خيمتك، فإن سمعت صيحة مثل هذه الصيحة فلا تبرح من خيمتك، فإنّك غلام غرّ. » وارتحل المعتصم من عمّوريّة يريد الثغر ووجّه الأفشين صاحبا له في خلاف طريق المعتصم، وأمره أن يغير على موضع سمّاه له وأن يوافيه في بعض الطريق، وكان عسكر الأفشين على حدة من عسكر المعتصم بينهما قدر ميلين. فتوجّه صاحب الأفشين حتى أغار وسبى وغنم وأتى عسكر الأفشين بما أصاب من الغنائم.
واعتلّ أشناس فركب المعتصم يعوده ولم يكن الأفشين لحقه بعد. فلمّا عاده وانصرف تلقّاه الأفشين في الطريق، فقال له المعتصم:
« امض إلى أبي جعفر. » وكان عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل عند منصرف المعتصم من عيادة أشناس توجّها إلى ناحية الأفشين ولقيهما الأفشين يريد أشناس، فترجّلا له وسلّما عليه وراءهما حاجب أشناس من بعيد. فلمّا دخل الأفشين إلى أشناس وخرج توجّها إلى عسكر الأفشين لشراء السبي ولم يكن السبي أخرج بعد ووقفا ناحية ينتظران أن ينادى على السبي فيشتريا، ودخل حاجب أشناس على أشناس فقال له:
« رأيت عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل فلقيا الأفشين وهما يريدان عسكره فترجّلا له وسلّما عليه وتوجّها إلى عسكره. فدعا أشناس محمد بن سعيد وقال له:
« اذهب فانظر هل ترى هناك عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل، وانظر عند من نزلا وأيّ شيء قصّتهما. » فجاء محمد بن سعيد فأصابهما واقفين على ظهور دوابّهما فقال:
« ما وقّفكما هاهنا؟ » قالا: « وقفنا ننتظر سبى ابن الأقطع فنشتري بعضه. » فقال لهما محمد بن سعيد:
« وكّلا وكيلا يشترى لكما. »
فقالا: « لا نحبّ أن نشتري إلّا ما نراه. » فرجع محمد فأخبر أشناس بذلك فقال لحاجبه:
« قل لهؤلاء: الزموا عسكركم خير لكم - يعنى عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل - لا تدوروا ها هنا وها هنا. » فذهب الحاجب إليهما فأعلمهما واغتمّا لذلك واتّفقا على أن يذهبا إلى صاحب خبر العسكر فيستعفيا من أشناس فصار إلى صاحب الخبر فقالا:
« نحن عبيد أمير المؤمنين يضمّنا إلى من شاء، فإنّ هذا الرجل يستخفّ بنا، قد شتمنا وتوعّدنا ونحن نخاف أن يقدم علينا. » فأنهى صاحب الخبر ذاك إلى المعتصم من يومه ذلك، واتفق الرحيل من الغد وكان إذا ارتحل الناس سارت العساكر على حيالها وسار أشناس والأفشين وجميع القوّاد في عسكر أمير المؤمنين ووكّلوا حلفاءهم بعساكرهم. فلمّا ذهب أشناس إلى المعتصم قال له:
« أحسن أدب عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل فإنّهما قد حمّقا أنفسهما. » فجاء أشناس ركضا إلى معسكره فسأل عن عمر وأحمد بن الخليل فأصاب عمر وكان ابن الخليل قد مضى فأحضر عمر الفرغاني وقال:
« هاتوا سياطا. » فمكث طويلا مجرّدا ليس يؤتى بالسياط فتقدّم عمّه إلى أشناس وكلّمه فيه وكان عمّه أعجميّا فقال:
« احملوه وألبسوه قباطاق واحملوه على بغل في قبة. » وساروا به وجاء أحمد بن الخليل وهو يركض فقال:
« احبسوا هذا معه. » فأنزل عن دابّته وصيّر عديله فبقيا كذلك يسار بهما على كرامة وأثقالهما وغلمانهما في العسكر لم يحرّك لهما شيء حتى سمع الغلام الفرغاني قرابة عمر بحبس عمر، فذكر للمعتصم ما دار بينه وبين عمر من الكلام في تلك الليلة وقوله: إذا سمعت صوتا مثل هذا فالزم خيمتك.
فقال المعتصم لبغا:
« لا ترحل غدا حتى يجيء أشناس فتأخذ منه عمر وتلحقني به. » وكان هذا بالصفصاف. ففعل بغا ذلك ومضى بعمر إلى المعتصم. فلمّا أفرد أحمد بن الخليل قلق وأنفذ غلاما له ليتبع عمر وينظر ما يصنع به.
-
فرجع الغلام فأخبره أنّه دخل على أمير المؤمنين. فمكث ساعة ثم دفع إلى ايتاخ وكان سائله أمير المؤمنين عن الكلام الذي قاله الغلام قرابته فأنكر وقال:
« هذا الغلام كان سكران ولم يفهم وما قلت شيئا ممّا ذكر. » وسار المعتصم حتى صار إلى باب مضايق البذندون فأقام أشناس هناك ثلاثة أيّام ينتظر أن تتخلّص عساكر أمير المؤمنين، لأنّه كان على الساقة.
فكتب أحمد بن الخليل رقعة إلى أشناس يعلمه أنّ لأمير المؤمنين عنده نصيحة. فبعث إليه أشناس بأحمد بن الخصيب وأبي سعيد محمد بن يوسف يسألانه عن النصيحة فذكر أنّه لا يخبر بها إلّا أمير المؤمنين. فرجعا فأخبرا أشناس بذلك فقال:
« ارجعا فاحلفا له أنّى حلفت بحياة أمير المؤمنين إن هو لم يخبرني بهذه النصيحة أن أضربه بالسياط حتى يموت. » فرجعا فأخبراه بذلك فأخرج جميع من كان يحفظه وبقي أحمد بن الخصيب وأبو سعيد فأخبرهما بما ألقى إليه عمر الفرغاني من أمر العباس وشرح لهما جميع ما كان عنده من خبر الحارث السمرقندي. فانصرفا إلى أشناس وأخبراه بذلك فبعث أشناس في طلب الحدادين فجاءوا بهم فدفع إليهم حديدا وقال:
« اعملوا لي قيدا مثل قيد أحمد بن الخليل وعجّلوه لي الساعة. » ففعلوا ذلك. فلمّا كان وقت العتمة ذهب حاجب أشناس إلى خيمة الحارث السمرقندي فأخرجه منها وجاء به إلى أشناس فقيّده وأمر الحاجب أن يحمله إلى أمير المؤمنين فحمله إليه. واتفق رحيل أشناس صلاة الغداة فجاء أشناس إلى موضع معسكره فتلقّاه الحارث ومعه رجل من قبل المعتصم وعليه خلع، فقال له أشناس:
« مه؟ » قال: « القيد الذي كان في رجلي [ صار ] في رجل العباس. » وكان المعتصم سأل الحارث عن أمره فأخذ عهده إن صدقه ونصحه أطلقه، ثم أقرّ له بجميع أمره وجميع من بايع العباس من القوّاد، فأطلق المعتصم الحارث وخلع عليه ولم يصدّق على أولئك القوّاد لكثرتهم وكثرة من سمّى منهم. وتحيّر المعتصم فدعا به حين خرج من الدرب فأطلقه ومنّاه وأوهمه أنّه قد صفح عنه وتغدّى معه وصرفه إلى مضربه، ثم دعاه بالليل فنادمه [ على ] الشراب وسقاه حتى أسكره واستحلفه أن لا يكتمه من أمره شيئا. فشرح له قصّته وسمّى له جميع من كان دبّ في أمره فكتبه المعتصم وحفظه، ثم دعا الحارث السمرقندي بعد ذلك فسأله عن الأسباب، فقصّ عليه مثل ما قصّ العباس.
ثم أمر بعد ذلك بتقييد العباس.
ثم قال للحارث:
« قد رضتك على أن تكذب فأجد السبيل إلى سفك دمك فلم تفعل. » ثم دفع العباس إلى الأفشين وتتبّع المعتصم أولئك القوّاد فأخذوا جميعا.
فأمّا أحمد بن الخليل فأمر أن يحمل على بغل بأكاف بلا وطاء ويطرح في الشمس إذا نزل ويطعم في كلّ يوم رغيفا واحدا.
وأمّا عجيف بن عنبسة فدفع مع جماعة من القوّاد إلى ايتاخ ودفع أحمد بن الخليل إلى أشناس وأخذ الشاه بن سهل فأحضره المعتصم والعباس بين يديه، فقال له:
« يا ابن الزانية، أحسنت إليك فلم تشكر. » فقال الشاه:
« ابن الزانية هذا الذي بين يديك - يعنى العباس - لو تركني هذا كنت أنت يا هذا لا تقدر أن تقعد في هذا المجلس وتقول ما تقول. » فأمر به المعتصم فضربت عنقه ودفع عجيف إلى ايتاخ فعلّق عليه حديدا كثيرا وحمله على بغل في محمل بلا وطاء.
وأمّا العباس فكان في يد الأفشين، فلمّا نزل المعتصم منبج وكان العباس جائعا فسأل عن الطعام فقدّم إليه طعام كثير فأكل فلمّا طلب الماء منع وأدرج في مسح فمات.
وأمّا عمر الفرغاني فإنّه لمّا نزل المعتصم بنصيبين في بستان دعا صاحب البستان فقال له:
« احفر بئرا في موضع أومأ إليه. » ثم دعا بعمر وقد تناول أقداحا. فلمّا مثل بين يديه جرّد وضرب بالسياط. فلمّا انتهى حفّار البئر ممّا أمره به أمر المعتصم أن يضرب وجه عمر بالخشب. فلم يزل يضرب حتى سقط أنفه وأسنانه ثم قال:
« جرّوه إلى البئر فاطرحوه فيها. » فلم يتكلّم عمر ولم ينطق بحرف حتى طرح في البئر وطمّت عليه.
وأمّا عجيف فإنّه مات في المحمل بباعيناثا فطرح عند صاحب المسلحة فدفن هناك. وذكر أن عجيفا كان في يد محمد بن إبراهيم بن مصعب فسأله المعتصم عنه فقال:
« يا محمد لم يمت عجيف يا با صالح؟ » قال: « يا سيدي اليوم يموت. » فمات ذلك اليوم. وأمّا التركيّ الذي ضمن للعباس قتل أشناس فإنّه كان كريما على أشناس ينادمه ولا يحجب عنه، فأمر أشناس بحبسه قبله في بيت مظلم وسدّ عليه الباب وكان يلقى إليه كلّ يوم رغيف وكوز ماء. فأتاه ابنه في بعض أيّامه، فكلّمه من وراء الحائط فقال له:
« يا بنيّ لو كنت تقدر على سكّين كنت أقدر أن أتخلّص من موضعي هذا. » فلم يزل ابنه يتلطّف للموكّلين حتى فتح له بمقدار دون الدرهم ضوء فطرح إليه من هناك سكّينا فقتل بها نفسه.
وأمّا أحمد بن الخليل فانّه دفعه أشناس إلى محمد بن سعيد فحفر له بئرا وأطبق عليه وفتح فيها كوّة ليرمى إليه منها الخبز والماء فقال له المعتصم:
« ما حال أحمد بن الخليل؟ » فأخبره بحاله. فقال المعتصم:
« أحسبه قد سمن على هذه الحال. » فنقل إلى غيره فسمّه حتى مات.
وقتل باقى القوّاد إلّا هرثمة بن النصر الختّلى فانّه كان يحمل في الحديد من المراغة لأنّه كان هناك. فتكلّم فيه الأفشين واستوهبه من المعتصم فوهبه له وولّاه البلد الذي يصل إليه الكتاب فيه، فوصل إلى الدينور عند العشاء مقيّدا مغلولا فطرح في خان فوافاه الكتاب في بعض الليل وأصبح هو والى الدينور. وقتل من الأتراك والفراغنة وغيرهم ممّن لم يحفظ اسمه خلق كثير وورد المعتصم سرّ من رأى سالما بأحسن حال.
ودخلت سنة أربع وعشرين ومائتين
وفيها أظهر مازيار بن قارن الخلاف على المعتصم بطبرستان
ذكر السبب في ذلك
-
كان مازيار منافرا لآل طاهر لا يحمل الخراج إليهم وكان المعتصم يكتب إليه يأمره بحمله إليهم فلا يحمل ويقول:
« أحمله إلى أمير المؤمنين. » فكان المعتصم يأمر بالمال إذا بلغ همذان أن يستوفيه عامله، ثم يسلّمه إلى صاحب عبد الله بن طاهر ليردّه إلى خراسان. ولمّا ظفر الأفشين ببابك ونزل من المعتصم المنزلة التي لا يتقدّمه فيها أحد وبلغه منافرة مازيار آل طاهر طمع في ولاية خراسان ورجا أن يكون ذلك سببا لعزل عبد الله بن طاهر.
فدسّ الكتب إلى مازيار يعلمه ميله إليه بالدهقنة ويظهر مودّته ويقول أنّه قد وعد بولاية خراسان.
فدعا ذلك مازيار إلى الاستمرار في عداوة آل طاهر وترك حمل الخراج إليه، وما شكّ الأفشين، إن كاشف وخالف، سيطاول عبد الله بن طاهر حتى يحتاج المعتصم أن يوجّهه وغيره إليه ولم يزل يكاتب مازيار ويبعثه على محاربة عبد الله بن طاهر ويهوّن أمره عنده حتى خالف وأخذ رهائن أكابر أهل ناحيته وأمر الأكرة بانتهاب أموال أرباب الضياع وغلّاتهم والأفشين في كلّ ذلك يكاتبه ويعرض عليه النصرة.
وأخذ مازيار الناس بالخراج فجبى جميع الخراج في شهرين وكان يجبى كلّ سنة الثلث في أربعة أشهر. وهرب رجل ممّن أخذت رهينته.
فجمع أبو صالح سرخاستان خليفة المازيار الناس بسارية وقال:
« كيف يثق بكم الملك وهذا فلان ممّن حلف وأعطى الرهينة ثم نكث وخرج فأنتم لا تفون ولا تكرهون الحنث فكيف يرجع لكم الملك إلى ما تحبّون؟ »
فقال بعضهم:
« نقتل الرهينة حتى لا يعود غيره إلى الهرب. » فقال: « أو تفعلون؟ » قالوا: « نعم. » فكتب أبو صالح إلى صاحب الرهائن يأمره أن يوجّه بابن الهارب. فلمّا حمل إلى سارية ندم الناس على ما قالوا وجعلوا يرجعون على من أشار بذلك باللوم، فجمعهم أبو صالح وقال:
« قد ضمنتم لي قتل الرهينة وها هو قد حضر فاقتلوه. » فقال بعضهم:
« أصلح الله الأمير، إنّك أجّلت من خرج عن البلد شهرين وهذا الرهينة قبلك فنسألك أن تؤجّله شهرين فإن رجع أبوه وإلّا أمضيت فيه رأيك. » فغضب ودعا بصاحب حرسه فأمر بصلب الغلام. فسأله الغلام أن يأذن له حتى يصلّى ركعتين. فأذن له فطوّل في صلاته وهو يرعد وقد مدّ له جذع، فجذبوا الغلام من صلاته ومدّوه حتى اختنق ومات.
ثم أمر أهل سارية أن يخرجوا إلى آمل وتقدّم إلى أصحاب المسالح في إحضار أهل الخنادق من الأبناء والعرب فأحضروا ومضى معهم إلى آمل وقال لهم:
« إني أريد أن أشهدكم على أهل آمل وأشهد أهل آمل عليكم وأردّ ضياعكم وأموالكم، فإن لزمتم الطاعة والمناصحة زدناكم من عندنا ضعف ما أخذناه منكم. » فلمّا وافوا آمل ميّز أهل سارية ناحية ناحية ووكّل بهم وكتب أسماء جميع أهل آمل حتى لم يخف عليه منهم أحد، ثم عرضهم على الأسماء حتى اجتمعوا، وتقدّم إلى أصحاب السلاح حتى أخدقوا بهم ووكّل بكلّ رجل رجلين وساقهم مكتّفين حتى وافى بهم جبلا يعرف بهرمزديار وكبّلهم بالحديد وبلغت عدّتهم عشرين ألفا فحبسهم هناك، وفعل مثل ذلك بوجوه العرب والأبناء وكبّلهم وحبسهم ووكّل بهم.
فلمّا تمكّن مازيار واستوى أمره وحبس كلّ من يخشى غائلته وأمن جميع أصحابه وأمر سرخاستان بتخريب سور مدينة آمل فخرّبه بالطبول والمزامير ثم سار إلى ساريه ففعل بها مثل ذلك ثم فعل بطميش - وهي على حدّ جرجان من عمل طبرستان - مثل ذلك وعمل سورا من طميش إلى البحر مقدار ثلاثة أميال. وكانت الأكاسرة بنته بينها وبين الترك لأنّ الترك كانت تغير على أهل طبرستان في أيّامها.
ونزل سرخاستان معسكرا بطميش وصيّر حولها خندقا وثيقا وأبراجا للحرس وصيّر عليها بابا وثيقا ووكّل به الثقات. ففزع أهل جرجان فهرب منهم قوم إلى نيسابور. وانتهى الخبر إلى عبد الله بن طاهر عامل المعتصم على خراسان، فوجّه إليه عمّه الحسن بن الحسين بن مصعب مع جيش كثيف لحفظ جرجان وأمره أن يعسكر على الخندق. فنزل الحسن بن الحسين على الخندق معسكرا وصار بينه وبين سرخاستان عرض الخندق، ثم بعث إليه عبد الله بن طاهر حيّان بن جبلة في أربعة آلاف فارس إلى قومس فعسكر على حدّ جبال شروين.
ووجّه المعتصم من قبله محمد بن إبراهيم بن مصعب أخا إسحاق بن إبراهيم في جمع كثيف وضمّ إليه الحسن بن قارن الطبري العابد ومن كان بالباب من الطبرية، ووجّه منصور بن الحسن صاحب دنباوند إلى الريّ ليدخل طبرستان من ناحية الريّ ووجّه أبا الساج إلى اللّار ودنباوند فأحدقت الخيل بمازيار من كلّ جانب فبعث مازيار إلى أهل المدن المحبّسين عنده:
« إنّ الخيل قد زحفت إليّ من كلّ جانب وإنّما حبستكم ليبعث أميركم فيسأل فيكم - يعنى المعتصم - فلم يكترث بكم وأنتم عشرون ألفا ولست أتقدّم إلى حربه وأنتم ورائي، فأدّوا إليّ خراج سنتين وأخلّى سبيلكم، ومن كان منكم شابّا قويّا قدّمته للقتال. فمن وفي رددت عليه ماله ومن لم يف أكون قد أخذت ديته، ومن كان شيخا ضعيفا صيّرته من الحفظة والحرّاس والبوّابين.
ثم إنّ سرخاستان جمع من أبناء القوّاد وغيرهم من أهل آمل ممّن فيه قوّة وشجاعة مائتين وستين فتى ممّن يخاف ناحيته وأظهر أنّه يريد مناظرتهم وبعث إلى الأكرة الدهاقين. قال لهم:
« إنّ هؤلاء هواهم مع العرب ولست آمن غدرهم وهم أهل الظنّة قد جمعتم فاقتلوهم لتأمنوا ولا يكون في عسكركم من يخالفكم. » ثم كتّفهم ودفعهم إلى الأكرة الدهاقين. فصاروا بهم إلى قناة هناك قد خربت فقتلوهم ورموا بهم في آبار القناة. ثم عطف سرخاستان إلى المحبّسين من أهل المدن فطالبهم بمال المواقفة فقالوا:
« إنّ صاحبك لم يبق لنا مالا ولا ذخيرة ولو علم أنّ وراءنا درهما واحدا لاستخرجه ولكنّا نعطى ضياعنا وأملاكنا بقيمة ما تطلب. » فقال لهم:
« الضياع للملك ولا حقّ لكم فيها فاحتالوا للملك. » فلم يجد عندهم شيئا. فقال لأولئك الأكرة الذين قتلوا من قتلوا:
« إني قد أبحتكم منازل أرباب الضياع وحرمهم إلّا ما كان من جارية جميلة من بناتهم فإنّها تصير للملك. » وقال لهم:
« صيروا إلى الحبس فاقتلوا أرباب الضياع أوّلا ثم حوزوا ما وهبت لكم من منازلهم وحرمهم. » فجبن القوم ولم يقدموا على عشرين ألفا، فلم يقبلوا منه.
وكان الموكّلون بالسور من أصحاب سرخاستان يتحدّثون ليلا مع حرس الحسن بن الحسين بن مصعب حتى استأنس بعضهم ببعض وتآمروا على تسليم السور فسلّموه، ورحل أصحاب الحسن بن الحسين من موضعهم إلى
-
عسكر سرخاستان على غفلة من غير أن يعلم بذلك صاحبهم. فنظر الناس بعضهم إلى بعض فثاروا يدخلون من الحائط. وبلغ الحسن بن الحسين ذلك فأشفق أن تكون حيلة فجعل يصيح ويمنع من الدخول وهم لا يقبلون حتى نصبوا أعلامهم على السور في معسكر سرخاستان.
وانتهى الخبر إلى سرخاستان وهو في الحمّام وسمع الضجيج فلم تكن له همّة إلّا الهرب فخرج هاربا في غلالة ودخل الناس من غير مانع حتى استولوا على جميع ما في العسكر ومضى قوم في الطلب.
فتحدّث زرارة بن يوسف قال: بينا أنا في الطريق إذ صرت في موضع يسرة الطريق فوجلت منه ثم اقتحمته بالرمح ولم أر أحدا ولكنى صحت:
« من أنت ويلك. » فإذا رجل يصيح:
« زينهار. » يعنى: الأمان. فأخرجته وإذا هو شيخ جسيم فقلت:
« من أنت؟ » فقال: « أنا شهريار. » وإذا به أخو سرخاستان صاحب العسكر.
فحملته إلى الحسن بن الحسين فضرب عنقه.
وأمّا سرخاستان فإنّه مضى على وجهه وكان عليلا فلمّا جهده العطش نزل عند غيضة واستلقى وصاح بعض أصحابه ممّن تبعه:
« يا فلان اسقني ماء فقد جهدنى العطش. » فقال: « ليس معي ما أغرف به من هذا الموضع. » فقال له سرخاستان:
« خذ رأس جعبتى فاسقني به. » فنظر الرجل إلى أصحابه وقال لهم:
« هذا الشيطان قد أهلكنا. فلم لا نتقرّب به إلى السلطان ونأخذ لأنفسنا أمانا؟ » فأجابوه إلى ذلك ووثبوا عليه وشدّوه كتافا فقال لهم:
« خذوا منى مائة ألف واتركوني فإنّ العرب لا تعطيكم شيئا. » قالوا: « أحضرها. »
قال: « هاتوا ميزانا. » فقالوا: « من أين لنا ها هنا ميزان؟ » قال: « فمن أين لي هاهنا ما أعطيكم. ولكن صيروا معي إلى المنزل وأعطيكم العهود والمواثيق أنّى أفي لكم بذلك. » فصاروا به إلى الحسن بن الحسين واستقبلهم خيل الحسن بن الحسين.
فضربوا رؤوسهم وأخذوا سرخاستان منهم فهمّتهم أنفسهم، ومضى به أصحاب الحسن إلى الحسن فدعا بوجوه أصحابه وسألهم:
« هل هذا سرخاستان؟ » قالوا:
« نعم هو هو. » فأمر به فضربت عنقه.
وكاتب حيّان بن جبلة من ناحية طميش قارن بن شهريار ورغّبه في الطاعة وضمن له أن يملّكه على جبال أبيه وجدّه وكان قارن هذا ابن أخي مازيار وقد قوّده مع أخيه عبد الله بن قارن وضمّ إليه عدّة من ثقات قوّاده وقراباته، فلمّا استماله حيّان اطمأنّ إليه وضمن له قارن أن يسلّم إليه الجبال أو مدينة ساريه إلى حدّ جرجان على أن يملّكه على مملكة أبيه وجدّه إذا وفي له بالضمان، وكتب بذلك حيّان إلى عبد الله بن طاهر فسجّل له عبد الله بن طاهر بكلّ ما سأل، وكتب إلى حيّان يأمره بالتوقّف ولا يدخل الجبل ولا يوغل حتى يكون من قارن ما يستدلّ به على الوفاء لئلّا يكون منه مكر، وكتب حيّان إلى قارن بذلك.
فدعا قارن بعمّه عبد الله بن قارن أخي مازيار ودعا جميع قوّاده إلى طعامه. فلمّا أكلوا ووضعوا سلاحهم واطمأنّوا أحدق بهم أصحابه في السلاح، وكتفهم ووجّه بهم إلى حيّان بن جبلة. فلمّا صاروا إليه استوثق منهم وركب حيّان في جمعه حتى دخل جبال قارن وبلغ مازيار الخبر، فاغتمّ وقلق وقال له أخوه كوهيار:
« في حبسك عشرون ألفا من المسلمين ما بين إسكاف وخيّاط وقد شغلت نفسك بهم، وإنّما أتيت من مأمنك وأهل بيتك وقراباتك. فما تصنع بهؤلاء المحبّسين عندك. » فأمر بأن يخلّى جميع من في محبسه. ثم دعا بكتّابه وخلفاءه وصاحب خراجه وصاحب شرطه وقال لهم:
« إنّ حرمكم ومنازلكم وضياعكم بالسهل وقد دخلت العرب إليه، وأكره أن أسومكم فاذهبوا إلى منازلكم وخذوا الأمان لأنفسكم. » وواصلهم وأذن لهم في الانصراف.
ولمّا بلغ قوهيار أخا مازيار دخول حيّان ساريه، أطلق محمد بن موسى عامل طبرستان من حبسه وحمله على بغل ومركب ووجّهه إلى حيّان ليأخذ له الأمان ويجعل له جبال أبيه وجدّه، على أن يسلّم إليه مازيار ويوثق له بذلك. وضمّ إليه أحمد بن الصقير وهو من مشايخ الناحية ووجوهها. فلمّا سار محمد بن موسى إلى حيّان وأخبره وسأله قوهيار قال له حيّان:
« من هذا؟ » - يعنى أحمد.
قال: « هذا شيخ هذه البلاد يعرفه الخلفاء ويعرفه الأمير عبد الله بن طاهر. »
ورأى حيّان تحت أحمد برذونا ضخما نبيلا، فبعث إليه يسأله أن يقوده إليه ليراه، فبعث به، فلمّا تأمّله وجده مشطّب اليدين فزهد فيه وقال لرسول أحمد:
« هذا لمازيار ومال مازيار لأمير المؤمنين. » فرجع الرسول فأخبر أحمد، فغضب من فعل حيّان به ذلك، وكتب إلى قوهيار:
« ويحك لم تغلط في أمرك وتترك مثل الحسن بن الحسين عمّ الأمير عبد الله بن طاهر وتدخل في أمان هذا العبد الحائك وتدفع إليه أخاك وتضع من قدرك ويحقد عليك الحسن بن الحسين بتركك إيّاه وميلك إلى عبد من عبيده. » فكتب إليه قوهيار:
« قد غلطت في أوّل الأمر وواعدت الرجل أن أصير إليه بعد غد ولا آمن إن خالفته أن يناهضنى ويحاربني ويستبيح منازلي وأموالى وإن قاتلته وقتلت من أصحابه وجرت الدماء بيننا وقعت الشحناء ويبطل ما نحن فيه. » فكتب إليه أحمد:
« إذا كان يوم الميعاد فابعث إليه رجلا من أهل بيتك، واكتب إليه أنّه عرضت لك علّة منعتك من الحركة وأنّك تتعالج ثلاثة أيّام فإن عوفيت وإلّا صرت في محمل وسنحمله نحن على قبول ذلك منك. » ثم إنّ أحمد بن الصقير ومحمد بن موسى كتبا إلى الحسن بن الحسين وهو في معسكره بطميش ينتظر أمر عبد الله بن طاهر وجواب كتابه بقتل سرخاستان وفتح طميش فكتب إليه أن:
« اركب إلينا لندفع إليك قارن والجبل وإلّا فاتك فلا تقيم. » فلمّا وصل الكتاب إلى الحسن ركب من ساعته وسار مسير ثلاث ليال في ليلة حتى انتهى إلى ساريه. ولمّا أصبح سار إلى خرّماباذ وهو يوم موعد قوهيار، وسمع حيّان وقع طبول الحسن فركب وتلقّاه على رأس فرسخ. فقال له الحسن:
« ما تصنع ها هنا ولم توجّه إلى هذا الموضع وقد فتحت جبال شروين وتركتها وراءك فما يؤمنك أن يغدر بك القوم جميع ما عملت عليك، ارجع إلى الجبل وأشرف على القوم إشرافا لا يمكنهم الغدر إن همّوا به. » فقال له حيّان:
« أنا على الرجوع وأريد أن أحمل أثقالى وأتقدّم إلى رجالي بالرحيل. » فقال له الحسن:
« امض أنت فإني باعث بأثقالك ورجالك خلفك وبت الليلة بساريه حتى يوافوك ثم بكّر من غد. » فخرج حيّان من فوره ولم يقدر على مخالفة الحسن. ثم ورد عليه كتاب عبد الله بن طاهر وهو بلبون من جبال ونداهرمزد من أحصن جباله وكان أكثر مال مازيار بها، وأمره عبد الله ألّا يمنع قارن ممّا يريد من تلك الجبال والأموال. فاحتمل قارن ما كان لمازيار هناك من المال من ذخائر مازيار وسرخاستان وباستاندرة وبقدح السليان واحتوى على ذلك كلّه فانتفض على حيّان جميع ما كان سنح له بسبب ذلك البرذون.
ثم أمر محمد بن موسى وأحمد بن الصقير الحسن وناظراه سرّا فجزاهما خيرا، وكتب إلى قوهيار فوافاه وبرّه وأكرمه وأجابه إلى كلّ ما سأل واتّعد إلى يوم ثم صرفه. وصار قوهيار إلى مازيار فأعلمه أنّه قد أخذله الأمان وتوثّق له ثم ورد عليه المازيار وقوهيار.
وتقدّم المازيار فسلّم عليه بالإمرة فلم يردد عليه الحسن وتقدّم إلى طاهر بن إبراهيم وأوس البلخي فقال:
« خذاه إليكما. »
كتاب بتسليم مازيار وإخوته وأهل بيته إلى المعتصم
-
ثم ورد كتاب عبد الله بن طاهر بتسليم مازيار واخوته وأهل بيته إلى محمد بن إبراهيم ليحملهم إلى المعتصم، ولم يعرض عبد الله لأموالهم، وأمر أن يستقصى جميع ما للمازيار، فبعث الحسن إلى المازيار وأحضره وسأله عن أمواله. فسمّى قوما ذكر أنّ أمواله عندهم، فأحضر قوهيار وكتب عليه كتابا وضمّنه المال الذي ذكر مازيار أنّه عند ثقاته وخزّانه وأصحاب كنوزه وأشهد على نفسه. ثم إنّ الحسن أمر الشهود الذين أحضرهم أن يصيروا إلى المازيار ليشهدوا عليه، فذكر عن بعضهم أنّه قال: لمّا دخلنا على المازيار لنشهد عليه قال المازيار:
« إنّ جميع ما حملت من أموالى وصحبني ستّة وتسعون ألف دينار، وسبع عشرة قطعة زمرّد، وستّ عشرة قطعة ياقوتا أحمر، وثمانية أوقار سلالا مجلّدة فيها ألوان الثياب وتاج وسيف محلّى بذهب وجوهر، وحقّ كبير مملوء جوهرا. »
وقد وضعه بين أيدينا وقد سلمت ذلك إلى محمد بن الصباح وهو جار عبد الله بن طاهر وصاحب خبره على العسكر وإلى قوهيار. » قال: فخرجنا إلى الحسن بن الحسين فقال:
« أشهدتم على الرجل؟ » قال: « نعم. » فقال: « هذا شيء أخبرت به فأحببت أن تعلموا قلّته. » وذكر عليّ بن ربّن كاتب مازيار أنّ ذلك الحقّ كان شراء جوهره وحسبه على المازيار وشروين وشهريار ثمانية عشر ألف ألف درهم، وكان مازيار حمل جميع ذلك إلى الحسن بن الحسين على أن يظهر أنّه خرج إليه في الأمان وأنّه قد آمنه على نفسه وماله وولده وجعل له جبال أبيه فامتنع الحسن بن الحسين من ذلك وعفّ عنه وكان أعفّ الناس عن أخذ درهم أو دينار. فلمّا أصبح أنفذ مازيار مع طاهر بن إبراهيم وعليّ بن إبراهيم الحربي وورد كتاب عبد الله بن طاهر في إنفاذه مع يعقوب بن منصور، وقد ساروا بمازيار مراحل فبعث الحسن فردّه وأنفذه مع يعقوب بن منصور.
قتل قوهيار ذكر ترك حزم بالدالة عاد بهلاك
ثم أمر الحسن القوهيار أخا مازيار بحمل الأموال التي ضمنها ودفع إليه بغالا من العسكر وأمر بإنفاذ جيش معه وامتنع القوهيار وقال: إنه لا حاجة لي فيهم. وخرج وأخرج الأموال ليحملها، فوثب عليه مماليك المازيار من الديالمة وكانوا ألفا ومائتين فقالوا:
« غدرت بصاحبنا وأسلمته إلى العرب وجئت لتحمل أمواله. » فأخذوه وكبّلوه بالحديد، فلمّا جنّه الليل قتلوه وانتهبوا تلك الأموال والبغال.
فانتهى الخبر إلى الحسن فوجّه جيشا إلى الذين قتلوا القوهيار، ووجّه قارن جيشا آخر من قبله في أخذهم، فأخذ منهم صاحب قارن عدّة فيهم ابن عمّ للمازيار يقال له شهريار بن المصمغان وكان رأس العبيد ومحرّضهم، فوجّه به قارن إلى عبد الله بن طاهر فمات في الطريق، وكان جماعة أولئك الديالمة أخذوا على السفح والغيضة يريدون الديلم فنذر بهم محمد بن إبراهيم بن مصعب، فوجّه من قبله الطبرية وغيرهم حتى عارضوهم وأخذوا عليهم الطريق، فأخذوا على طريق الروذبار إلى الرويان.
سبب فساد أمر مازيار
وكان سبب فساد أمر مازيار أنّ جبال طبرستان ثلاثة يتوارثها ثلاثة أولاد لكسرى جبل ونداذ هرمز وجبل أخيه ونداذ سخنان بن الأنداد بن قارن وجبل شروين بن سرخاب بن باب.
فلمّا قوى أمر المازيار بعث إلى ابن عمّه فألزمه بابه وإلى أخيه قوهيار وأنفذ إلى هناك واليا من قبله، فلمّا احتاج مازيار إلى رجال لمحاربة عبد الله بن طاهر دعا ابن عمّه وأخاه وقال:
« أنتما أعلم بجبلكما من غيركما. » وقال: « صيرا في ناحية الجبل. »
وكتب إلى الدرنيّ وضمّ إليه العساكر وولّاه السهل ليحارب عبد الله بن طاهر وظنّ أنّه قد توثّق من الجبل بابن عمّه وأخيه القوهيار، وذلك أنّ الجبل لم يكن يظنّ أنّه يؤتى منه لأنّه ليس فيه للعساكر والمحاربة طريق لكثرة المضايق والشجر الذي فيه، وتوثّق من الموضع الذي يتخوّفه بالدّرنى.
فلمّا وجّه عبد الله بن طاهر عمّه الحسن بن الحسين بن مصعب في عسكر عظيم من خراسان ووجّه المعتصم محمد بن إبراهيم بن مصعب ووجّه معه صاحب خبر يقال له: يعقوب بن إبراهيم مولى الهادي، ويعرف بقوصرة وزحفت العسكر وأحدقت بمازيار دعا ابن عمّ مازيار نار الحقد الذي كان في قلبه على مازيار وتنحيته له عن جبله، إلى أن كاتب الحسن وأعلمه جميع ما يتطلّعه من الأخبار وأخبر خبر الأفشين، وكذلك فعل قوهيار أخوه.
وكانت هذه الأخبار ترد على عبد الله بن طاهر وعبد الله يكاتب بها المعتصم.
فشرط عبد الله بن طاهر لابن عمّ مازيار إن هو وثب بالمازيار أن يردّ عليه جبله وما ورثه عن آباءه فلا يعرض له فيه ولا يحارب. فرضي بذلك وكتب له بذلك كتابا وتوثّق له فيه فلم يشعر المازيار حتى سلّمت الجبال التي كان يأمنها وأتى من مأمنه وأنزل على حكم المعتصم والعسكر الذي مع الدرنيّ بالسهل غارّون في حربهم فأتاهم الحرب من وراءهم وقد أسر مازيار وهلك، فأعطوا حينئذ بأيديهم حتى هلكوا بأسرهم.
وكان عبد الله بن طاهر لمّا أسر مازيار وحصل في يده منّاه ووعده إن هو أظهره على كتب الأفشين، أن يسأل أمير المؤمنين الصفح عنه، وأعلمه عبد الله أنّه قد علم أنّ الكتب عنده، فأمر المازيار بذلك فطلبت الكتب ووجّه بها مع المازيار إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وأمره أن لا يخرج الكتب من يده والمازيار إلّا الى يد المعتصم لئلا يحتال المازيار في الكتب، ففعل إسحاق ذلك فأوصلها من يده إلى يد المعتصم فسأل المعتصم مازيار عن الكتب فلم يقرّ بها فأمر بضربه حتى مات فصلب إلى جانب بابك.
نهاية الدرني
فأمّا الدرنيّ فإنّه كان في نفسه شجاعا بطلا والتقى مع محمد بن إبراهيم بن مصعب، وكان جمع أموالا ورجالا يريد أن يدخل بها بلاد الديلم فلمّا عارضه محمد بن إبراهيم بين الجبل والغيضة والبحر - والغيضة متصلة بالجبل والديلم - حمل الدرنيّ على أصحاب محمد فكشفهم، ثم سار معارضة من غير هزيمة ليدخل الغيضة ولم يزل يحمل ويكشف الناس ويقرب من الغيضة حتى حمل عليه رجل من أصحاب محمد يقال له فند بن حاجيل فأخذه أسيرا واتبع الجند أصحابه وأخذ جميع ما صحبه من المال والأثاث والدوابّ والسلاح وأمر محمد بقتل أخيه برزجشنس ودعا الدرنيّ فقطعت يده من مرفقه ومدّت رجله فقطعت من الركبة وكذلك اليد الأخرى والرجل الأخرى فقعد الدرنيّ على استه ولم يتكلّم ولا تغيّر، فأمر بضرب عنقه، فأمّا أصحابه فحملوا مكبّلين.
خلاف منكجور الأسروشني بآذربيجان
وفي هذه السنة خالف منكجور الأسروشنى قرابة الأفشين بأذربيجان.
ذكر السبب في ذلك
كان سبب ذلك أنّ الأفشين لمّا فرغ من بابك ولّى أذربيجان منكجور هذا، فأصاب في قرية بابك في بعض منازله مالا عظيما فاحتجنه ولم يعلم به الأفشين ولا المعتصم، وكان على البريد بأذربيجان رجل من الشيعة يقال له عبد الله بن عبد الرحمن، فكتب إلى المعتصم بخبر، المال فكوتب منكجور فيه فأنكره وهمّ منكجور بقتل عبد الله بن عبد الرحمن، وذلك أنّه وقعت بينهما فيه مناظرة فهرب عبد الله وامتنع بأهل أردبيل فمنعوه وقاتلوا، وبلغ ذلك المعتصم فوجّه إليه عسكرا عظيما وبلغ منكجور فخلع وجمع إليه الصعاليك وخرج من أردبيل، وقصده القائد مع العسكر الذي خرج من جهة المعتصم وواقفه فانهزم منكجور وصار إلى حصن لبابك في جبل منيع فبناه وأصلحه وتحصّن فيه ووثب به أصحابه بعد شهر وأسلموه إلى القائد الذي يحاربه، فقدم به سرّ من رأى.
ودخلت سنة خمس وعشرين ومائتين
وفيها أجلس المعتصم أشناس على كرسيّ وتوجّه ووشّحه.
وفيها أحرق غنّام المرتد.
وفيها قدم بمازيار سرّ من رأى وحمل على الفيل.
وكنا ذكرنا أنّ محمد بن عبد الملك قال بيتين في بابك لمّا حمل وهو بهذا أشبه أعنى بمازيار وهما:
قد خضب الفيل كعاداته ** لحمل شيطان خراسان
والفيل لا تخضب أعضاؤه ** إلّا لذي شأن من الشان
-
وقيل: إنّ مازيار امتنع من ركوب الفيل فحمل على بغل بأكاف، وأمر المعتصم فجمع بينه وبين الأفشين فأقرّ مازيار أنّ الأفشين حمله على العصيان وكاتبه وصوّب له ما فعل، فضرب مازيار أربعمائة سوط وطلب ماء فسقى ومات من ساعته فصلب.
وفيها حبس الأفشين.
حبس الأفشين
ذكر السبب في ذلك
كان الأفشين أيّام حرب بابك ومقامه بأرض الخرّمية لا تأتيه هديّة من أهل أرمينية ولا من غيرهم إلّا وجّه بها إلى أسروشنة فيجتاز ذلك بعبد الله بن طاهر فيكتب عبد الله بخبره إلى المعتصم فيكتب المعتصم بتعرف جميع ما يوجّه به الأفشين من الهدايا إلى أسروشنة، فيفعل عبد الله ذلك.
وكان الأفشين كلّما تهيّأ عنده مال حمله في أوساط أصحابه من الدنانير والهمايين وبقدر طاقتهم كان الرجل يحمل ما بين الألف فما فوقه من الدنانير في وسطه فأخبر عبد الله بذلك فبينا هو كذلك إذ نزل رسل الأفشين مع الهدايا بنيسابور ووجّه إليهم عبد الله بن طاهر فأخذهم وفتّشهم فوجد في أوساطهم همايين فأخذها منهم وقال لهم:
« من أين لكم هذا المال؟ » فقالوا: « هذه هدايا الأفشين وهذه أمواله. » فقال: « كذبتم لو أراد أخي الأفشين أن يرسل بمثل هذه الأموال لكتب إليّ يعلمني ذلك لآمر بحراسته وبدرقته لأنّ هذا مال عظيم وإنّما أنتم لصوص. » وأخذ عبد الله المال وأعطاه الجند قبله وكتب إلى الأفشين بما قال القوم وقال:
« أنا أنكر أن تكون وجّهت بمثل هذا المال إلى أسروشنة ولم تكتب إليّ لأبدرقه، فإن كان المال ليس لك فقد أعطيته الجند مكان المال الذي يوجّه به أمير المؤمنين في كلّ سنة، وإن كان المال لك كما زعم القوم فإذا جاء المال من قبل أمير المؤمنين رددته إليك، وإن يكن غير ذلك فأمير المؤمنين أحقّ بهذا المال. وإنّما دفعته إلى الجند لأنّى أريد أن أغزو الترك. » فكتب إليه الأفشين يعلمه أن ماله ومال أمير المؤمنين واحد ويسأله إطلاق القوم ليمضوا إلى أسروشنة، فأطلقهم عبد الله وكان ذلك سبب الوحشة بين عبد الله وبين الأفشين.
ولمّا تواترت أمثال هذه من الأفشين تغيّر له المعتصم وأحسّ الأفشين بتغير حاله عند المعتصم.
ذكر حيل هم بها الأفشين
فعزم الأفشين على أن يهيّئ أطوافا في قصره ويحتال لأن يشغل المعتصم وقوّاده ثم يأخذ طريق الموصل ويعبر الزاب على تلك الأطواف حتى يصير إلى طريق أرمينية إلى بلاد الخزر مستأمنا، ثم يدور من بلاد الخزر إلى بلاد الترك، ويرجع من بلاد الترك إلى بلاد أسروشنة أو يستميل الخزر على أهل الإسلام.
فكان في تهيئة ذلك فطال عليه الأمر وعسر، فهيّأ سمّا كثيرا وعزم على أن يدعو المعتصم وقوّاده فيسمّهم فإن لم يجبه المعتصم استأذنه في قوّاده فيسمّهم مثل أشناس وايتاخ وبغا وأمثالهم في يوم تشاغل المعتصم، فإذا سمّهم وانصرفوا حمل في أوّل الليل تلك الأطواف والآلة على ظهور الجمال حتى يجيء إلى الزاب فيعبر بأثقاله على الأطواف ويعبّر الدوابّ سباحة وكانت أرمينية ولايته.
وكان الأفشين تنوب قوّاده في دار المعتصم كما تنوب أمثالهم. وكان واجن الأسروشنى قد جرى بينه وبين من يطّلع على سرّ الأفشين حديث، فقال له واجن:
« ما أرى هذا الأمر يتمّ لبعده وكثرة ما ينبغي أن يعدّ له. » فذهب الرجل فحكاه للأفشين. فهمّ الأفشين بقتل واجن وأحسّ واجن بذلك فركب من ساعته التي أحسّ بما أحسّ - وكان ليلا - وأتى دار المعتصم وقد كان نام فصار إلى إيتاخ وقال:
« إنّ لأمير المؤمنين عندي نصيحة. » فقال له إيتاخ:
« أليس كنت هاهنا؟ قد نام أمير المؤمنين. » فقال واجن:
« ليس يمكنني أن أصبر إلى غد. » فدقّ إيتاخ الباب على بعض من يخبر أمير المؤمنين بخبر واجن، فقال المعتصم:
« ليبت عند إيتاخ ثم يباكرنى. » فبات عنده. ولمّا أصبح بكّر به إلى المعتصم فأخبره بجميع ما كان عنده، فدعا المعتصم الأفشين، فجاء الأفشين في سواد، فأمر المعتصم بنزع سواده وحبسه. وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في الاحتيال للحسن بن الأفشين حتى لا يفوته. وكان الحسن قد كثرت كتبه إلى عبد الله بن طاهر في نوح بن أسد يعلمه تحامله عليه وظلمه له في ضياعه.
فكتب عبد الله إلى نوح يعلمه ما كتب به المعتصم في أمره ويأمره بجمع أصحابه والتأهّب له حتى إذا ورد عليه الحسن بن الأفشين استوثق منه وحمله، وكتب عبد الله بن طاهر إلى الحسن بن الأفشين:
« إني قد عزلت نوح بن أسد وولّيتك الناحية. » وكتب إليه بكتاب فيه عزل نوح وولايته، فخرج الحسن في قلّة من أصحابه حتى ورد على نوح وعنده أنّه وال، فأخذه نوح فشدّه وثاقا ووجّهه إلى عبد الله فوجّهه عبد الله إلى المعتصم.
وكان المعتصم بنى حبسا للأفشين شبيها بالمنارة وفي وسطها مقدار مجلسه والرجال ينوبون تحتها كما تدور.
فحكى هارون بن عيسى بن المنصور أنّه شهد المجلس الذي عقده المعتصم في داره لمناظرة الأفشين.
ذكر مناظرات وبخ بها الأفشين واحتجاجاته فيها
أحبّ المعتصم أن يبكّت الأفشين ويناظره ولم يكن بعد في الحبس الشديد. فأخليت الدار إلّا من ولد المنصور وأحضر قوم من الوجوه وحضر أحمد بن أبي دؤاد وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ومحمد بن عبد الملك الزيّات، فأتى بالأفشين وأتى بمازيار والموبذ والمرزبان بن تركش وهو أحد ملوك السغد ورجلين من أهل السغد، وكان المناظر له محمد بن عبد الملك الزيّات.
بين محمد الزيات والأفشين
فدعا محمد بن عبد الملك بالرجلين وعليهما ثياب رثّة. فقال لهما:
« ما شأنكما؟ » فكشفا عن ظهورهما، فإذا هي عارية من اللحم فقال محمد:
« أتعرف هذين الرجلين؟ » فقال: « نعم، هذا مؤذّن وهذا إمام، بنيا بأسروشنه مسجدا فضربت كلّ واحد منهما ألف سوط، وذلك أنّ بيني وبين ملوك السغد عهدا وشرطا أن أترك كلّ قوم على دينهم، فوثب هذان على بيت لهم كان فيه أصنامهم فأخرجا الأصنام واتخذاه مسجدا، فخفت أن ينتقض عليّ أمر تلك البلدان فضربتهما على ذلك لتعدّيهما. » فقال محمد:
« ما كتاب عندك قد زيّنته بالحرير والجوهر والديباج فيه الكفر بالله عز وجل. »
قال: « هذا كتاب ورثته عن أبي، فيه آداب العجم وفيه دين القوم الذي هو اليوم كفر، وكنت أستمتع منه بالأدب وأترك ما سوى ذلك، ووجدته محلّى فلم تضطرني الحاجة إلى أخذ الحلية منه فتركته بحاله، ككتاب كليلة ودمنة وكتاب مزدك في منزلك، وما ظننت هذا يخرج من الإسلام. »
بين الموبذ والأفشين
-
ثم تقدّم الموبذ فقال:
« إنّ هذا كان يأكل المخنوقة ويحملني على أكلها ويزعم أنّها أرطب لحما من المذبوحة، وكان يأخذ كلّ يوم شاة سوداء يضرب وسطها بالسيف ثم يمشى بين نصفيها ويأكل لحمها. وقال لي [ يوما ]:
إني قد دخلت لهؤلاء القوم في كلّ شيء أكرهه حتى أكلت الزيت وركبت الجمل ولبست النعل، غير أنّى إلى هذه الغاية لم تسقط مني شعرة - يعنى أنّه لم يختتن. » فقال الأفشين:
« خبّروني عن هذا المتكلّم أثقة هو عندكم في دينه؟ » - وكان الموبذ بعد مجوسيا ثم أسلم على يد المتوكّل.
قالوا: « لا. » قال: « فما معنى قبولكم شهادة من لا تثقون به ولا ترون عدالته؟ » ثم أقبل على الموبذ فقال:
« هل بين منزلي وبين منزلك باب أو كوّة تطلعني منها وتعرف أخبارى؟ »
قال: « لا. » قال: « أفليس كنت أدخلك إليّ فأبثّك سرّى وأخبرك بالأعجمية وميلى إليها وإلى أهلها؟ » قال: « نعم. » قال: « فلست بالثقة في دينك ولا بالكريم في عهدك، إذ أفشيت عليّ سرّا أسررته إليك. » ثم تنحّى الموبذ.
بين المرزبان والأفشين
وتقدّم المرزبان. فقالوا للأفشين:
« هل تعرف هذا؟ » قال: « لا. » فقيل للمرزبان: « هل تعرف هذا؟ » قال: « نعم هذا الأفشين. » فقالوا له: « هذا المرزبان. » ثم قال له المرزبان:
« يا ممخرق كم تمّوه وتدافع؟ » فقال الأفشين:
« يا طويل اللحية ما تقول؟ » قال: « كيف يكتب إليك أهل مملكتك؟ » قال: « كما كانوا يكتبون إلى أبي وجدّى. »
قال: « فقل. » قال: « لا أقول. » قال المرزبان:
« أليس يكتبون إليك بالأسروشنيّة بكذا وكذا؟ » قال: « بلى. » قال: « أفليس بالعربية: إلى إله الآلهة، من عبده فلان بن فلان؟ » قال: « بلى. » قال محمد بن عبد الملك:
« والمسلمون يحتملون أن يقال لهم هذا، فما بقّيت لفرعون حين قال لقومه: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى؟ » قال: « كانت هذه عادة القوم لأبي وجدّى ولى قبل أن أدخل في الإسلام، فكرهت أن أضع نفسي دونها فتفسد عليّ طاعتهم. » فقال له إسحاق بن إبراهيم بن مصعب:
« كيف تحلف لنا بالله فنصدّقك ونصدّق يمينك ونجريك مجرى المسلمين وأنت تدّعى ما ادّعى فرعون؟ » فقال: « يا با الحسن هذه سورة قرأها عجيف على عليّ بن هشام وأنت تقرأها عليّ، فانظر غدا من يقرأها عليك؟ »
بين مازيار وأفشين
قال: ثم قدّم مازيار صاحب طبرستان. فقالوا للأفشين:
« تعرف هذا؟ »
قال: « لا. » قالوا: « هذا المازيار. » قال: « نعم قد عرفته الآن. » قالوا: « هل كاتبته؟ » قال: « لا. » قالوا لمازيار:
« هل كتب إليك؟ » قال: « نعم كتب أخوه خاش إلى أخي قوهيار أنه لم يكن ينصر هذا الدين الأبيض غيري وغير أخيك وأنه بحمقه قتيل نفسه، ولقد جهدت أن أصرف عنه الموت فأبى حمقه إلّا أن دلّاه فيما وقع فيه، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري ومعي من الفرسان وأهل النجدة والبأس، فإن وجّهت إليك لم يبق أحد يحاربنا إلّا ثلثة: العرب والمغاربة والأتراك. والعربي بمنزلة الكلب، اطرح له كسرة ثم اضرب رأسه بالدبّوس، وهؤلاء الذباب يعنى المغاربة إنّما هم أكلة رأس، وأولاد الشياطين - يعنى الأتراك - فإنما هي ساعة حتى تنفد سهامهم ثم تجول الخيل عليهم جولة فتأتى على آخرهم، ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيّام العجم. » فقال الأفشين:
« هذا يدّعى على أخي وأخيه ودعوى لا تجب عليّ، ولو كتبت هذا الكتاب لأستميله إليّ وليثق بناحيتى لكان غير مستنكر، لأنى إذا نصرت الخليفة بيدي لكنت بالجملة أحرى أن أنصره لآخذ قفاه وآتى به الخليفة فأحظى به عنده كما حظى عبد الله بن طاهر بمجيء المازيار. »
بين ابن أبي دؤاد والأفشين
ولمّا قال الأفشين لمازيار ما قال وقال لإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ما قال زجر ابن أبي دؤاد الأفشين. فقال له الأفشين:
« أنت يا با عبد الله لا ترفع طيلسانك بيدك ولا تضعه على عاتقك حتى تقتل به جماعة. » فقال له ابن أبي دؤاد:
« أمطهّر أنت؟ » قال: « لا. » قال: « فما منعك من ذلك، وبه تمام الإسلام والطهور من النجاسة؟ » قال: « أو ليس في دين الإسلام استعمال التقيّة؟ » قال: « بلى. » قال: « فإنى خفت أن أقطع ذلك العضو من جسدي فأموت. » قال: « أنت تطعن بالرمح وتضرب بالسيف فلا يمنعك ذلك من أن تكون في الحرب وتجزع من قطع غلفة. » قال: « تلك ضرورة أدفع إليها فأصبر عليها إذا وقعت، وهذا شيء أستجلبه فلم آمن معه خروج نفسي ولم أعلم أنّ في تركها خروجا من الإسلام. » فقال ابن أبي دؤاد:
« قد بان لكم. » ثم التفت إلى بغا الكبير وكان الأفشين تابعا له. فقال:
-
« يا با موسى عليك به. »
فضرب بيده إلى منطقته فجذبها. فقال:
« قد كنت أتوقّع هذا منكم قبل اليوم. » فقلب بغا القباء على رأسه، ثم أخذ بمجامع القباء عند عنقه وأخرجه إلى محبسه.
ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائتين
وفيها مات الأفشين.
ذكر الخبر عن موته
لمّا جاءت الفاكهة جمع المعتصم من الفواكه شيئا كثيرا في طبق وقال لابنه هارون الواثق:
« اذهب بهذه الفواكه إلى الأفشين. » فحملت مع هارون حتى صعد بها إليه في البناء الذي بنى له وحبس فيه، فنظر إليه الأفشين، ثم قال للواثق:
« لا إله إلّا الله، ما أحسنه لو لا أنى فقدت منه ما أشتهيه. » وكان فقد منه الشاهلوج. فقال الواثق:
« وما هو؟ » فقال: « الشاهلوج. » فقال: « هو ذي، أنصرف فأوجّه به إليك. » ولم يمسّ من الفاكهة شيئا. فلمّا أراد الواثق الانصراف قال له الأفشين:
« اقرأ على سيّدي السلام وقل له: أسألك أن توجّه إليّ ثقة من قبلك يؤدّى عني ما أقول. » فأمر المعتصم حمدون بن إسماعيل. وكان حمدون في أيّام المتوكّل في حبس سليمان بن وهب فحدّث بهذا الحديث.
بين هارون الواثق والأفشين
قال هارون: فبعث بي المعتصم إلى الأفشين وقال لي:
« إنه سيطوّل عليك فلا تحتبس. » قال: فدخلت عليه وطبق الفاكهة بين يديه ولم يمسّ واحدة فما فوقها.
فقال لي:
« اجلس. » فجلست فاستمالنى بالدهقنة. فقلت:
« لا تطوّل، فإنّ أمير المؤمنين قد تقدّم إليّ ألّا أحتبس عندك، فأوجز. » فقال لي:
« قل لأمير المؤمنين يا مولاي، أحسنت إليّ وشرّفتنى وأوطأت الرجال عقبى ثم قبلت فيّ كلاما لم يتحقّق عندك ولم تدبّره بعقلك، كيف يكون هذا وكيف يجوز لي أن أفعل هذا الذي بلغك عني؟ تخبر بأنّى دسست منكجور أن يخرج وتقبله، وتخبر أنّى قلت للقائد الذي وجّهته إلى منكجور: لا تحاربه واعذر به، وإن أحسست بأحد منّا فانهزم من بين يديه. أنت رجل قد عرفت الحرب وحاربت الرجال وسست العساكر، هذا يمكن، رأس عسكر يقول لأحد أن يفعله؟ ولو كان هذا يمكن ما كان ينبغي أن تقبله من عدوّ، وقد عرفت سببه. ولكن مثلي ومثلك يا أمير المؤمنين مثل رجل ربّى عجلا له حتى أسمنه وكبر وحسنت حاله وكان له أصحاب اشتهوا أن يأكلوا من لحمه، فعرّضوا له بذبح العجل فلم يجبهم إلى ذلك، فاتّفقوا جميعا على أن قالوا له ذات يوم:
« ويحك لم تربّى هذا الأسد هذا سبع وقد كبر والسبع إذا كبر يرجع إلى جنسه. » فقال لهم:
« ويحكم هذا عجل ما هو سبع. » فقالوا له:
« هذا سبع، سل من شئت عنه. » وقد كانوا تقدّموا إلى جميع من يعرفونه فقالوا لهم:
إن سألكم عن العجل فقولوا: هذا سبع.
فكلّما سأل الرجل إنسانا قال له:
« هذا سبع. » فأمر بالعجل فذبح. ولكن أنا ذلك العجل، كيف أقدر أن أكون أسدا؟ الله الله في أمري اصطنعتني وشرّفتني وأنت سيدي ومولاي أسأل الله أن يعطف بقلبك عليّ. » قال حمدون: فقمت وانصرفت وتركت الطبق على حاله لم يمسّ منه شيئا. ثم ما لبثنا إلّا قليلا حتى قيل: إنّه مات.
فقال المعتصم:
« أروه ابنه. » فأخرجوه فطرحوه بين يدي ابنه، فنتف لحيته وشعره، ثم حمل إلى منزل إيتاخ ثم صلب على باب العامة ليراه الناس ثم طرح مع خشبته وأحرق وحمل الرماد فطرح في دجلة.
ووجد في داره لمّا أحصى متاعه تمثال إنسان من خشب عليه حلية كثيرة وجوهر. فممّا أخرج من منزله أطواف الخشب التي أعدّها، وأصنام وكتب فيها ديانته.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين
خروج المبرقع اليماني بفلسطين
وفيها خرج المبرقع اليماني بفلسطين على السلطان.
ذكر السبب في ذلك
كان سبب خروجه أنّ بعض الجند أراد النزول في داره وهو غائب عنها وفيها إمّا زوجته وإمّا أخته، فمانعته ذلك، فضربها بسوط معه فاتّقته بذراعها فأثّر فيها. فلمّا رجع أبو حرب إلى منزله بكت وشكت إليه ما فعل بها وأرته الأثر الذي بذراعها من ضربه. فأخذ السيف ومشى إلى الجندي وهو غارّ فضربه فقتله ثم هرب وألبس وجهه برقعا كي لا يعرف، فصار إلى جبل من جبال الأردن وطلبه السلطان فلم يعرف له خبرا.
وكان يظهر متبرقعا على الخيل فيراه الرائي فيأتيه ويذكّره ويحرّضه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويذكر السلطان ويعيبه، فما زال حتى استجاب له قوم من الحرّاثين وأهل القرى، وكان يزعم أنّه أمويّ وقال الذين استجابوا له:
« هذا هو السفياني. » فلمّا كثرت غاشيته وتبّاعه من هذه الطبقة دعا أهل البيوتات، فاستجاب له جماعة من رؤساء اليمانية وقوم من أهل دمشق، واتصل الخبر بالمعتصم وهو عليل علّته التي مات فيها، فوجّه إليه رجاء بن أيّوب الحضارى في نحو ألف رجل من الجند، وكان أبو حرب في نحو مائة ألف، وكره رجاء مواقعته فعسكر بحذاءه وطاوله حتى إذا كان في وقت عمارة الأرضين تفرّق عنه أكثرهم وبقي أبو حرب في نحو ألفين فناجزه الحرب، وتأمّل رجاء عسكر المبرقع فلم يجد فيه من له فروسية غيره. فقال لأصحابه:
« لا تعجلوا عليه فانّه سيظهر لأصحابه بعض ما عنده. » فما لبث أن حمل فقال لأصحابه:
« أفرجوا عنه. » فأفرجوا، ثم حمل ثانية فقال رجاء:
« أفرجوا له فإذا أراد الرجوع فحولوا بينه وبين ذلك وخذوه. » ففعل ذلك وأحاطوا به فأنزلوه عن دابته وأسروه وحمله رجاء إلى المعتصم.
وفاة المعتصم
-
وفيها كانت وفاة المعتصم.
ولمّا حضرته الوفاة جعل يقول:
« ذهبت الحيل ليست حيلة. » حتى مات.
وذكر عنه أنّه قال:
« لو علمت أنّ عمرى قصير ما فعلت ما فعلت. » ودفن بسرّ من رأى. فكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر وهو ثامن الخلفاء والثامن من ولد العباس، وولد سنة ثمانين ومائة ومات عن ثمانية وأربعين سنة وله ثمانية بنين وبنات.
وكان أبيض أصهب اللحية طويلها مربوعا مشرب اللون حمرة حسن العينين. وبويع يوم توفى ابنه هارون الواثق بن محمد المعتصم وكان يكنّى أبا جعفر.
خلافة هارون الواثق
ودخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين
ولم يجر فيها على ما بلغنا شيء يثبت في مثل هذا الكتاب.
ودخلت سنة تسع وعشرين ومائتين
حبس الكتاب وإلزامهم أموالا
وفيها حبس الواثق الكتّاب وألزمهم أموالا، فأخذ من سليمان بن وهب وهو كاتب إيتاخ أربعمائة ألف دينار، ومن أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار بعد أن أمر بضربه كلّ يوم عشرة أسواط فضرب نحو ألف سوط، وأخذ من أحمد بن الخصيب وكتّابه ألف ألف دينار، ومن إبراهيم بن رباح وكتّابه مائة ألف دينار، ومن نجاح ستين ألف دينار ومن الحسن بن وهب وأبي الوزير مائتي ألف دينار، وذلك سوى ما أخذ من العمّال بسبب عمالاتهم، ونصب محمد بن عبد الملك لابن أبي دؤاد وسائر أصحاب المظالم فكشفوا وحبسوا وأقيموا للناس فلقوا كلّ جهد، وجلس إسحاق بن إبراهيم لهم ينظر في أمرهم ويطالبهم.
ذكر سبب ذلك
كان سبب ذلك أنّ الواثق جلس ليلة مع ندمائه فقال:
« إني لست أشتهى الليلة النبيذ، فهلمّوا نتحدّث. » فتحدّثوا عامة الليل فقال الواثق:
« من منكم يعلم السبب الذي وثب من أجله جدّى الرشيد على البرامكة حتى أزال نعمتهم؟ » فقال له بعضهم:
« أنا والله أحدّثك يا أمير المؤمنين. » وحدّثه حديث الجارية وما جرى في أمر ثمنها وإحضار البرامكة قيمة مائة ألف دينار دراهم ليستكثرها فلا يشتريها. فلمّا رآها ضمّها إلى بعض خدمه وبحث عن الأموال ليجمع بيت مال خاصة فوجد البرامكة قد أتلفوا كلّ ما في بيوت أمواله وقد ذكرنا نحن هذا الحديث مشروحا فيما مضى.
فما مرّ على ذلك أسبوع حتى أوقع بكتّابه واستخرج منهم ومن عمّاله أموالا عظيمة.
ودخلت سنة ثلاثين ومائتين
وفيها مات عبد الله بن طاهر وكان إليه يوم ذاك الحربة والشرطة والسواد وخراسان وأعمالها والريّ وطبرستان وما يتصل بها وكرمان، فولّى الواثق هذه الأعمال كلّها ابنه طاهر بن عبد الله بن طاهر.
ودخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين
تحرك قوم وأخذهم البيعة على أحمد بن نصر الخزاعي
وفيها تحرّك قوم في ربض عمرو بن عطاء وأخذوا البيعة على أحمد بن نصر الخزاعي.
ذكر السبب في ذلك
السبب في ذلك أنّ أحمد بن نصر بن مالك [ بن الهيثم ] الخزاعي - ومالك بن الهيثم أحد نقباء بنى العباس وقد تقدّم ذكره فيما مضى - يغشاه أصحاب الحديث. وكان أحمد بن نصر هذا يباين من قال بخلق القرآن وباينه مثل يحيى بن معين وابنا الدورقي وأبو خيثمة، وله مرتبة كبيرة في أصحاب الحديث، وبسط لسانه فيمن يقول بخلق القرآن، مع غلظة الواثق كانت على كلّ من يقول ذلك وامتحانه إيّاهم فيه وغلبة ابن أبي دؤاد عليه.
فجعل أحمد بن نصر لا يذكر الواثق إلّا بالخنزير فيقول:
« فعل هذا الخنزير... وصنع هذا الكافر. » وفشا ذلك حتى خوّف، وقيل له: قد اتصل أمرك به وحرّكه المطيفون به ممّن ينكر القول بخلق القرآن من أصحاب السلطان ومن عامّة بغداد، وحرّكوه لإنكار القول بخلق القرآن وقصده الناس لرتبته في أصحاب الحديث ولما كان لأبيه وجدّه في دولة بنى العباس من الأثر فكانت له أيضا رئاسة ببغداد في سنة إحدى ومائتين.
وبويع على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما كثر الدعّار وظهر الفساد والمأمون بخراسان ولم يزل على ذلك ثابتا إلى أن قدم المأمون بغداد في سنة أربع، فرجوا إذا تحرّك استجابة الناس له للأسباب التي ذكرت.
وكان فيمن بايعه قوم من أصحاب إسحاق بن إبراهيم بن مصعب صاحب الشرطة يرون رأيه ففرّقوا في قوم مالا وأعطوا كلّ رجل دينارا دينارا، وواعدهم أحمد بن نصر ليلة يضربون فيها بالطبل للاجتماع والوثوب بالسلطان، وكان قوم منهم بالجانب الشرقي وقوم بالجانب الغربي، فانتبذ بعض من أخذ الدينار واجتمع عدّة منهم على شربه. فلمّا ثملوا ضربوا بالطبل ليلة الأربعاء قبل الموعد بليلة وكان الموعد ليلة الخميس وهم يحسبونها ليلة الخميس التي اتّعدوا لها، فأكثروا ضرب الطبل فلم يجبهم أحد.
وكان إسحاق بن إبراهيم بن مصعب غائبا عن بغداد وخليفته بها أخوه محمد بن إبراهيم، فوجّه إليهم محمد بن إبراهيم صاحبه فأتاهم فسألهم عن قصّتهم فلم يظهر له أحد فدلّه الجيران على رجل حمّامى فأخذه وتهدّده بالضرب فأمر على أحمد بن نصر وجماعة سمّاهم، فتتبّع القوم من ليلتهم فأخذ بعضهم من الجانب الشرقي وبعضهم من الجانب الغربي وقيّد وجوههم وأصيب في منزل أحدهم علمان أخضران فيهما حمرة، ثم أخذ خصيّ لأحمد بن نصر، فتهدّد فأقرّ بما أقرّ به عيسى الحمّامى.
-
فأخذ أحمد بن نصر وحمل إلى محمد بن إبراهيم بن مصعب مع أولاده وجماعة من يغشاه، فحملهم إلى الواثق بسرّ من رأى على بغال بأكاف لا وطاء تحتهم وهم مقيّدون.
فجلس لهم الواثق مجلسا عامّا وأحضر أحمد بن أبي دؤاد ليمتحنوا مكشوفا. فأحضر القوم وحضر معهم أحمد بن نصر فلم يناظرهم الواثق في الشغب ولا فيما روى عليه من إرادته الخروج عليه ولكنه قال:
« يا أحمد ما تقول في القرآن؟ » قال: « كلام الله. » قال: « أفمخلوق هو؟ » قال: « [ هو ] كلام الله. » قال: « فما تقول في ربّك، أتراه يوم القيامة؟ » قال: « يا أمير المؤمنين جاءت الآثار عن رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png أنّه قال ترون ربّكم يوم القيامة لا تضامون في رؤيته. » وحدّثني سفيان بن عينيه بحديث يرفعه أن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الله. فقال له إسحاق بن إبراهيم:
« ويلك انظر ما تقول. » قال: « أنت أمرتنى بذلك. » فأشفق إسحاق من كلمته.
قال: « أنا أمرتك بذلك؟ » قال: « نعم أمرتنى أن أنصح لك ولأمير المؤمنين ومن نصيحتي له ألّا يخالف حديث رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png. » فقال الواثق لمن حوله:
« ما تقولون فيه؟ » فأكثروا. فقال عبد الرحمن بن إسحاق وكان قاضيا على الجانب الغربي وهو صديق لأحمد بن نصر:
« يا أمير المؤمنين هو حلال الدم. »
وقال آخر:
« اسقني دمه يا أمير المؤمنين. » فقال له الواثق:
« القتل يأتى على ما تريد. » وقال أحمد بن أبي دؤاد:
« كافر يستتاب، لعلّ به عاهة أو تغيّر عقل، كأنّه كره أن يقتل بسببه. » فقال الواثق:
« إذا رأيتمونى قد قمت إليه فلا يقومنّ معي أحد، فإني أحتسب خطإي إليه. » ودعا بالصمصامة سيف عمرو بن معديكرب وكان في الخزانة، فأتى به فمشى إليه في وسط الدار ودعا بنطع فصيّر في وسطه وحبل فشدّ به رأسه ومدّ الحبل فضربه الواثق فوقعت الضربة على حبل عاتقه، ثم ضربه أخرى على رأسه، ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه فضربه فأبان رأسه.
ويقال: إنّ بغا ضربه ضربة أخرى وطعنه الواثق بطرف الصمصامة في بطنه فحمل معترضا حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك، فصلب فيها وفي رجله قيود وحمل رأسه إلى بغداد فنصب في الجانب الشرقي أيّاما ثم حوّل إلى الغربي وحظر على الرأس حظيرة وأقيم عليه الحرس وكتب في أذنه رقعة:
« هذا رأس الكافر المشرك الضالّ أحمد بن نصر، قتله الله على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين، بعد أن أقام الحجّة عليه في خلق القرآن ونفى التشبيه، وعرض عليه التوبة فأبى إلّا المعاندة، فعجّل الله به إلى ناره وأليم عقابه. » وتتبع من عرف بصحبة أحمد بن نصر ومن بايعه فوضعوا في الحبوس ومنعوا من أخذ الصدقة التي يعطاها أهل السجون ومنعوا من الزوّار وثقّلوا بالحديد.
الفداء بين المسلمين وصاحب الروم
وفي هذه السنة تمّ الفداء بين المسلمين وصاحب الروم واجتمع المسلمون والروم على نهر يقال له اللامس على مسيرة يوم من طرسوس.
وأمر الواثق بامتحان أهل الثغور في القرآن، فقالوا جميعا بخلقه إلّا أربعة نفر فأمر الواثق بضرب أعناقهم. وأمر لأهل الثغور بجوائز على ما رآه خاقان، وكان خادم الرشيد نشأ بالثغر وكان ورد رسول ملك الروم في طلب المفاداة وكان جرى بينهم اختلاف في الفداء قالوا:
« لا نأخذ في الفداء عجوزا ولا شيخا ولا صبيّا. ثم رضوا عن كلّ نفس بنفس فوجّه الواثق في شراء من يباع ولم يتمّ العدّة فأخرج الواثق من قصره عجائز روميات وغيرهم حتى تمّت العدّة. » وأمر الواثق بامتحان الأسارى. فمن قال بخلق القرآن فودى به ومن أبي ترك في أيدى الروم.
وأمر أن يعطى جميع من فودى وقال بخلق القرآن دينارا فبلغ عدّة من فودى به أربعة آلاف وستمائة إنسان فيهم من أهل الذمة نحو أربعمائة.
ولمّا جمعوا الفداء وقف المسلمون من جانب النهر الشرقي والروم من الجانب الغربي وعقد جسر على النهر للمسلمين وجسر آخر للروم.
قال: فكنّا نرسل الرومي على جسرنا ويرسل الروم المسلم على جسرهم فيصير هذا إلينا وذاك إليهم.
وفي هذه السنة مات أبو عبد الله ابن الأعرابي الراوية وهو ابن ثمانين سنة.
ودخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين
وفيها كان مسير بغا الكبير إلى بنى نمير
ذكر السبب في ذلك
كان سبب ذلك أنّ عماره بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفى امتدح الواثق بقصيدة، فدخل عليه وأنشده إيّاها، فأمر له بثلاثين ألف درهم وبنزل.
فكلّم عمارة الواثق في بنى نمير وأخبره بعيثهم وفسادهم في الأرض وإغارتهم على اليمامة وما قرب منها، فكتب الواثق إلى بغا يأمره بحربهم، وكان بغا بالمدينة لأن بنى سليم كانوا عاثوا بالحجاز وأكثروا الغارات والقتل، فتوجّه صاحب المدينة وجمع لهم الخيل والسودان ومن استجاب لهم من قريش والأنصار، فواقعتهم بنو سليم فقتلوهم وقتلوا أمير المدينة وأكثر من كان خرج معه من قريش والأنصار. فأخرج الواثق بالله بغا الكبير إلى المدينة فأوقع ببني سليم وأسر منهم وقتل، فكان لذلك مقيما بعد بالمدينة.
فلمّا أراد بغا الشخوص إليهم من المدينة حمل معه دليلا ومضى نحو اليمامة فلقى منهم جماعة بموضع يقال له: الشريف، فحاربوه فقتل بغا منهم نحوا من ستين رجلا وأسر نحوا من أربعين. ثم سار وتابع إليهم الرسل فعرض عليهم الأمان ودعاهم إلى السمع والطاعة وهم في ذلك يمتنعون عليه ويشتمون رسله ويتفلّتون إلى حربه.
فسار بغا حتى ورد بطن نخل ثم دخل نخيلة، فاحتملت بنو ضبّة من بنى نمير فركبت جبالها، فأرسل إليهم فأبوا أن يأتوه، وأرسل إليهم سريّة وأتبعهم بجماعة من معه، فحشدوا لحربه وهم يومئذ نحو من ثلاثة آلاف رجل. فلقوهم ببطن السر فهزموا مقدّمته وكشفوا ميسرته وقتلوا من أصحابه مائة وثلاثين رجلا وعقروا من إبل عسكره سبعمائة ومائة دابّة، وانتهبوا الأثقال وبعض ما كان مع بغا من الأموال فهجم عليهم وعليه ليل.
فجعل بغا يناشدهم ويدعوهم إلى الرجوع إلى طاعة الواثق فشتموه وتوعّدوه. فلمّا دنا الصبح أشير على بغا بأن يوقع بهم قبل أن يضيء الصبح فيروا قلّة عدد من معه ويجترئوا عليه، فأبى بغا. فلمّا أضاء الصبح ونظروا إلى عدد من معه حملوا عليهم فهزموهم حتى بلغت هزيمتهم معسكرهم وأيقنوا بالهلكة.
ذكر اتفاق حسن
وبلغ بغا أنّ خيلا لهم بمكان من بلادهم، فوجّه من أصحابه نحوا من مائتي رجل إليها. فبينا هم فيما هم من الإشراف على العطب وقد انهزم بغا إذ خرجت تلك الجماعة منصرفة من تلك الخيل وأقبلت متفرقة في ظهور بنى نمير. فنفخوا في صفّارتهم فالتفتوا ورأوا الخيل وراءهم، فولّوا منهزمين وأسلم فرسانهم رجّالتهم وطاروا على ظهور الخيل.
وكان منهم جماعة تشاغلوا بالنهب، فثاب إلى بغا أصحابه فكرّ عليهم وقتل منهم منذ زوال الشمس وإلى آخر وقت العصر زهاء ألف وخمسمائة رجل. وأقام بغا حتى جمعت له رؤوس من قتل واستراح هو وأصحابه ببطن السرّ ثلاثة أيّام. ثم أرسل إليه من هرب من فرسان نمير من الوقعة يطلبون الأمان فأعطاهم الأمان فصاروا إليه فقيّدهم وأشخصهم معه، فشغبوا في الطريق وحاولوا كسر قيودهم والهرب. فأمر بإحضارهم واحدا بعد واحد فيضربه ما بين الأربعمائة إلى الخمسمائة، فلم ينطق منهم ناطق بتوجّع ولا تأوّه. ثم جمعهم مع من لحق به ممّن طلب الأمان وحملهم إلى البصرة.
موت الواثق
وفيها مات الواثق وكان موته بالاستسقاء فعولج بالإقعاد في تنّور مسخن فوجد لذلك راحة، فأمر من غد ذلك اليوم بأن يزاد في إسخان ذلك التنّور ففعل وقعد فيه أكثر من قعوده في اليوم الذي قبله فحمى عليه، فأخرج منه وصيّر في محفّة، وحضره جماعة من الهاشميين ثم حضر محمد بن عبد الملك الزيّات وأحمد بن أبي دؤاد. فلم يعلموا بموته حتى ضرب بوجهه المحفّة، [ فعلموا أنّه قد مات ] وكان أبيض مشربا حمرة جميلا ربعة حسن الجسم قائم العين اليسرى فيها نكتة بياض.
فكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وسنّه ست وثلاثون سنة.
-
خلافة جعفر المتوكل
وفي هذه السنة بويع لجعفر المتوكّل بالخلافة وهو جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب.
لمّا توفّى الواثق حضر الدار أحمد بن أبي دؤاد وإيتاخ ووصيف ومحمد بن عبد الملك وأحمد بن خالد أبو الوزير. فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق فأحضروه وهو غلام أمرد قصير. فألبسوه درّاعة سوداء وقلنسوة رصافيّة فإذا هو قصير. فقال لهم وصيف:
« أما تتّقون الله تولّون مثل هذا الخلافة وهو لا تجوز معه الصلاة. » فتناظروا في من يولّونها، فذكر أحمد بن أبي دؤاد جعفرا أخا الواثق فأحضره وألبسه الطويلة وعمّمه وقبّل بين عينيه وقال:
« السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. » تم غسل الواثق وصلّى عليه ودفن ولقّنه أحمد بن أبي دؤاد: المتوكّل على الله، وأمر محمد بن عبد الملك بالكتاب به إلى الناس فوقّع بهذا:
« بسم الله الرحمن الرحيم - أمر أبقاك الله - أمير المؤمنين أعزّه الله، أن يكون الرسم الذي يجرى به ذكره على أعواد منبره وكتبه إلى قضاته وكتّابه وعمّاله وأصحاب دواوينه وسائر من تجرى المكاتبة بينه وبينه: من عبد الله جعفر الإمام المتوكّل على الله أمير المؤمنين. فرأيك في العمل بذلك وإعلامى وصول كتابي إليك موفّقا إن شاء الله. » وأمر للأتراك برزق أربعة أشهر وأمر بأن يوضع العطاء للجند لثمانية أشهر وأخذت البيعة عليهم وبويع له وله ستّ وعشرون سنة.
ودخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين
وفيها غضب المتوكّل على محمد بن عبد الملك الزيّات وحبسه.
ذكر سوء نظر محمد بن عبد الملك في العاقبة وتجهمه للمتوكل حتى أهلكه
كان السبب في غضبه عليه أنّ الواثق لمّا استوزر محمد بن عبد الملك فوّض إليه الأمور وكان الواثق قد غضب على أخيه جعفر لبعض الأمور، فوكّل به عمر بن فرج الرخّجى ومحمد بن العلاء، فكانا يحفظانه ويكتبان بأخباره. فصار جعفر إلى محمد بن عبد الملك يسأله أن يكلّم أخاه الواثق ليرضى عنه. فلمّا دخل عليه مكث واقفا بين يديه لا يكلّمه، ثم أشار إليه أن يقعد فلمّا فرغ من نظره في الكتب التفت إليه كالمتهدّد له فقال له:
« ما جاء بك؟ » قال: « جئت لتسأل أمير المؤمنين الرضا عنى. » فقال لمن حوله:
« انظروا إلى هذا يغضب أخاه ويسألنى أن أسترضيه له اذهب، فانّك إذا صلحت رضى عنك. » فقام جعفر كئيبا حزينا لما لقيه به من قبح اللقاء والتقصير به، فخرج من عنده وأتى عمر بن فرج يسأله أن يختم له صكّه لبعض أرزاقه، فلقيه عمر بن فرج بالتجهّم وأخذ الصك ورمى به، فصار جعفر حين خرج من عند عمر إلى أحمد بن أبي دؤاد، فدخل عليه فقام له أحمد بن أبي دواد واستقبله وقبّله والتزمه وقال له:
« ما جاء بك جعلني الله فداءك؟ » قال: « جئت لتسترضى أمير المؤمنين. » قال: « أفعل ونعمة عين. » فكلّم أحمد بن أبي دؤاد الواثق بالله فيه، فوعده ولم يرض عنه.
فأعاد أحمد الكلام بعد ذلك وسأله بحق المعتصم إلّا رضى عنه، فرضي عنه من ساعته وكساه واعتقد جعفر لأحمد بن أبي دؤاد بذلك يدا ميثاقا فأحظاه عنده لمّا ملك.
وإنّ محمد بن عبد الملك حين خرج جعفر من عنده كتب إلى الواثق يذكر: أنّ جعفرا أتانى فسألنى أن أسأل أمير المؤمنين الرضا عنه في زيّ المخنّثين، له شعر قفا. فكتب إليه الواثق:
« ابعث إليه فأحضره ومر من يجزّ شعر قفاه، ثم مر من يأخذ شعره ويضرب به وجهه، واصرفه إلى منزله. » فحكى عن المتوكّل أنّه قال: لمّا أتانى رسوله لبست سوادا جديدا وأتيته رجاء أن يكون قد أتاه الرضى، فلمّا حصلت بين يديه قال:
« يا غلام ادع لي حجّاما. » فدعى به. فقال:
« خذ من شعره فاجمعه. » فأخذه على السواد الجديد ولم يأته بمنديل، فأخذ شعره وضرب وجهه به.
فقال المتوكّل:
ما دخلني من الجزع على شيء مثل ما دخلني حيث أخذ شعري على السواد الجديد وقد جئته فيه طامعا في الرضا عنى فأخذ شعري عليه.
فلمّا بويع جعفر أمهل وهو يفكّر في مكروه يناله به. ثم أمر إيتاخ بأن يأخذه ويعذّبه فيبعث إليه إيتاخ فظنّ أنّه يدعى للخليفة، فركب مبادرا. فلمّا حاذى منزل إيتاخ، قيل له:
« اعدل إلى ها هنا. » فعدل وأوجس في نفسه خيفة. فلمّا جاء إلى الموضع الذي كان نزل فيه إيتاخ عدل به عنه فأيقن بالشرّ ثم أدخل حجرة وأخذ سيفه ودرّاعته وقلنسوته فدفع إلى غلمانه، وقيل لهم:
« انصرفوا. » فانصرفوا وهم لا يشكّون أنّه مقيم عند إيتاخ ليشرب.
ووجّه المتوكّل إلى أصحابه ودوره، فقبض عليهم فأخرج جميع ما كان في منزله من متاع وجوار وغلمان ودوابّ، فصار ذلك كلّه في الهارونيّ، وأمر أبا الوزير بقبض ضياعه وضياع أهل بيته حيث كانت. فأمّا ما كان بسرّ من رأى فحمل إلى خزائنه واشترى للخليفة جميعه وقيل لمحمد بن عبد الملك:
« وكّل ببيع متاعك. » وأتوه بمن وكّله بالبيع عليه ثم قيّد، وامتنع من الطعام فلا يذوق شيئا.
وكان شديد الجزع في حبسه كثير البكاء قليل الكلام كثير التفكير. فمكث أيّاما ثم سوهر ومنع من النوم وينخس بمسلّة، ثم ترك يوما وليلة فنام وانتبه فاشتهى فاكهة وعنبا فأتى به فأكل، ثم أعيد الى المساهرة.
وكان محمد قاسى القلب يزعم أنّ الرحمة خور في الطبيعة وكان قد اتّخذ تنّورا من خشب فيه مسامير حديد قيام يعذّب فيه من يطالبه. فكان هو أوّل من عمل ذلك، وعذّب فيه ابن سنباط المصري حتى استخرج منه جميع ما كان عنده ثم ابتلى به فعذّب فيه حتى مات.
ودخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين
-
هروب محمد بن البعيث
وفيها هرب محمد بن البعيث بن حليس، وكان جيء به أسيرا من أذربيجان وحبس، وكانت له قلعتان تدعى أحداهما شاها والأخرى يكدر.
فأمّا شاها فهي وسط البحيرة وأمّا يكدر فهي خارج البحيرة وهذه البحيرة قدر عشرين فرسخا من حدّ أرمينية إلى بلاد محمد بن الروّاد، وشاها قلعة حصينة تحيط بها البحيرة ويركب فيها الناس من أطراف المراغة إلى أرمينية وغيرها. وكانت مدينة محمد بن البعيث مرند فهرب إلى مدينته فجمع بها الطعام وفيها عيون ماء فرمّ ما كان وهي من سورها، وأتاه من أراد الفتنة من كلّ ناحية من ربيعة وغيرها فصار في نحو ألفى رجل.
وكان الوالي بأذربيجان محمد بن حاتم بن هرثمة فقصّر في طلبه. فولّى المتوكّل حمدويه بن عليّ أذربيجان ووجّهه من سرّ من رأى على البريد.
فلمّا صار إليها جمع الجند والشاكرية ومن استجاب له فصار في عشرة آلاف. فزحف إلى ابن البعيث فألجأه إلى مدينة مرند وهي مدينة استدارتها فرسخان في داخلها بساتين كثيرة ومن خارجها كما تدور شجر إلّا في مواضع أبوابها. وقد جمع فيها ابن البعيث آلة الحصار، وفيها عيون ماء.
فلمّا طالت مدّته وجّه إليه المتوكّل زيرك التركي في مائتي فارس من الأتراك فلم يصنع شيئا فوجّه المتوكّل عمر بن سليل بن كال في جماعة من الشاكرية فلم يغن شيئا.
فوجّه إليه بغا الشرابي في أربعة آلاف ما بين تركيّ وشاكريّ ومغربيّ، وقد كان الجند قد زحفوا إلى مدينة مرند وقطعوا ما حولها من الشجر فقطعوا نحوا من مائة ألف شجرة من شجر الغياض وغيره ونصبوا عليها عشرين منجنيقا وبنوا بحذاء المدينة ما يستكنّون فيه ونصب عليهم محمد بن البعيث من المجانيق مثل ذلك. وكان من معه من علوج رساتيقه يرمون بالمقاليع، فكان الرجل لا يقدر على الدنوّ من السور فكانوا يغادونه القتال ويراوحونه، وكانت الجماعة من أصحاب ابن البعيث يتدلّون بالجبال معهم الرماح فيقاتلون، فإذا حمل عليهم أصحاب السلطان لجأوا إلى الحائط بالمقاليع وكانوا ربّما فتحوا بابا يقال له باب الماء فيخرج منه عدّة يقاتلون ثم يرجعون.
فلمّا قرب بغا الشرابي من مرند بعث عيسى بن الشيخ بن السليل الشيبانى ومعه أمانات لوجوه أصحاب ابن البعيث ولابن البعيث على أن ينزلوا وينزل على حكم المتوكّل، وإلّا قاتلهم فإن ظفر بهم لم يستبق منهم أحدا، ومن نزل فله الأمان.
وكان عامّة من مع ابن البعيث من ربيعة من قوم عيسى بن الشيخ، فنزل منهم قوم كثير بالجبال ونزل ختن ابن البعيث، ثم فتحوا باب المدينة فدخل أصحاب حمدويه وزيرك وخرج ابن البعيث من منزله هاربا يريد أن يخرج من وجه آخر فلحقه قوم من الجند فأخذوه أسيرا وانتهبوا منزله ومنازل أصحابه وأخذ له أختان وثلاث بنات وخالته والبواقي سراريّ ونحو مائتي رجل وهرب الباقون ووافاهم بغا فمنع من النهب وكتب بغا بالفتح لنفسه. ثم قدم بغا بابن البعيث وأصحابه وهم نحو مائتي رجل. فلمّا قربوا من سرّ من رأى حملوا على الجمال ليستشرفهم الناس. فأتى المتوكّل محمد بن البعيث فأمر بضرب عنقه فطرح على نطع، وجاء السيّافون فلوّحوا فقال المتوكّل:
« ما دعاك يا محمد إلى ما صنعت؟ » قال: « الشقوة وأنت الحبل الممدود بين الله وخلقه وإنّ لي فيك لظنّين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك وهو العفو. » ثم اندفع بلا فصل:
أبي الناس إلّا أنّك اليوم قاتلي ** إمام الهدى والعفو في الله أجمل
وهل أنا إلّا جبلة من خطيئة ** وعفوك من نور النّبوّة يجبل
فإنّك خير السابقين إلى العلى ** ولا شكّ أن خير الفعالين تفعل
فالتفت المتوكّل فقال لمن عنده:
« إنّ معه لأدبا. » فقال بعضهم وبادر:
« بل يفعل أمير المؤمنين خيرهما ويمنّ عليك. »
فقال المتوكّل:
« ارجع إلى منزلك. » ويقال إنّ ابن البعيث لمّا تكلّم بما تكلّم به شفع فيه المعتزّ واستوهبه فوهبه له.
وكان محمد بن البعيث أحد شجعان أذربيجان وله شعر كثير جيّد بالعربية والفارسية. وحجّ في هذه السنة إيتاخ وكان والى مكّة والمدينة والموسم، ودعى له على المنابر.
ذكر سبب ذلك
كان إيتاخ غلاما طبّاخا خزريّا لسلام الأبرش، فاشتراه منه المعتصم، وكان لإيتاخ بأس ورجلة، فرفعه المعتصم ومن بعده الواثق وولّى الأعمال الكبار، وكان من أراد المعتصم أو الواثق قتله حبس عند إيتاخ.
فلمّا ولى المتوكّل كان إلى إيتاخ الحبس والمغاربة والأتراك والبريد والحجابة ودار الخلافة. فخرج المتوكّل بعد الخلافة متنزّها إلى ناحية القاطول فشرب ليلة فعربد على إيتاخ، فهمّ إيتاخ بقتله. فلمّا أصبح المتوكّل قيل له، فاعتذر إلى إيتاخ والتزمه وقال:
« أنت أبي وأنت ربّيتنى. » فلمّا صار المتوكّل إلى سرّ من رأى دسّ إليه من يشير عليه بالاستئذان للحجّ ففعل وأذن له وصيّره أمير كلّ بلدة يدخلها وخلع عليه وركب القوّاد معه، فحين خرج صيّرت الحجابة إلى وصيف.
ودخلت سنة خمس وثلاثين ومائتين
وفيها كان مقتل إيتاخ
ذكر سبب مقتله
لمّا انصرف إيتاخ من مكّة راجعا إلى العراق وجّه المتوكّل إليه سعيد بن صالح الحاجب مع كسوة وألطاف، وأمره أن يلقاه بالكوفة وقد تقدّم المتوكل إلى عامله على الشرطة ببغداد بأمره فيه.
فذكر إبراهيم بن المدبّر أنّه خرج مع إسحاق بن إبراهيم في تلقّى إيتاخ وكان أراد أن يأخذ طريق الفرات إلى الأنبار ثم يخرج إلى سرّ من رأى.
فكتب إليه إسحاق:
« إنّ أمير المؤمنين قد أمر أن يدخل بغداد وأن يلقاك بنو هاشم ووجوه الناس وأن تقعد لهم في دار خزيمة بن خازم فتأمر لهم بجوائز. » قال: فخرجنا حتى إذا كنّا بالياسريّة وقد شحن إسحاق بن إبراهيم الجسرين بالجند والشاكرية، وخرج في خاصّته وطرح له بالياسرية صفّة فجلس عليها وأقبل قوم قد رتّبهم في الطريق. كلّما صاروا إلى موضع أعلموه، حتى قالوا:
-
« قد قرب منك. » فركب فاستقبله. فلمّا نظر إليه أهوى إسحاق لينزل. فحلف عليه إيتاخ أن لا يفعل. وكان إيتاخ في نحو ثلاثمائة من أصحابه وعليه قباء أبيض متقلّدا سيفا بحمائل، فسارا جميعا حتى إذا صار عند الجسر تقدّمه إسحاق عند الجسر وعبر حتى وقف على باب خزيمة بن خازم. فقال لإيتاخ:
« تدخل أعزّ الله الأمير. » وكان الموكّلون بالجسر كلّما مرّ بهم غلام من غلمانه قدّموه حتى بقي في خاصّة غلمانه، فدخل بين يديه قوم وقد فرشت له دار خزيمة بن خازم، وتأخّر إسحاق وأمر ألّا يدخل الدار من غلمانه إلّا ثلاثة أو أربعة وأخذت عليه الأبواب وأمر بحراسته من ناحية الشطّ وكسرت كلّ درجة في قصر خزيمة، فحين دخل أغلق الباب، خلفه فنظر فإذا ليس فيه إلّا ثلاثة غلمان.
فقال:
« قد فعلوها. » ولو لم يؤخذ ببغداد ما قدروا على أخذه، ولو صار إلى سرّ من رأى فأراد بأصحابه قتل جميع من خالفه أمكنه ذلك.
ثم ركب إسحاق حرّاقة وأعدّ لإيتاخ أخرى. ثم أرسل إليه أن يصير إلى الأخرى وأمر بأخذ سيفه، فحدّروه إلى الحرّاقة وصيّر قوم معه بالسلاح، وصاعد إسحاق إلى منزله، وأخرج إيتاخ حين بلغ دار إسحاق فأدخل ناحية منها، ثم قيّد وثقّل بالحديد في عنقه ورجليه، ثم قدم بابنيه:
منصور والمظفّر وبكاتبيه: سليمان بن وهب وقدامة بن زياد النصراني بغداد وكان سليمان على أعمال السلطان وقدامة على ضياع إيتاخ خاصّة فحبسوا ببغداد.
وذكر ترك مولى إسحاق قال: وقفت على باب البيت الذي فيه إيتاخ محبوس فقال:
« يا ترك ».
قلت:
« ما تريد؟ » قال: « أقرأ على الأمير السلام وقل له قد علمت ما كان يأمرنى به المعتصم والواثق في أمرك فكنت أدفع عنك ما أمكننى فلينفعنى ذلك عندك، أمّا أنا فقد مرّ بي شدّة ورخاء فما أبالى ما أكلت وما شربت، وأمّا هذان الغلامان فإنّهما عاشا في نعمة ولم يعرفا البؤس فصيّر لهما لحما ومرقة وشيئا يأكلان منه. » قال ترك: فذهبت إلى مجلس إسحاق فوقفت، فقال لي:
« ما تريد؟ فأرى في وجهك كلاما. » قلت: « نعم. » قال لي:
« إيتاخ كذا وكذا. » وكانت وظيفة إيتاخ في كلّ يوم رغيفا وكوزا من ماء، ويؤمر لابنيه بخوان عليه سبعة أرغفة وخمسة ألوان فلم يزل ذلك قائما حياة إسحاق.
ثم هلك إيتاخ بالعطش فإنّه أطعم ومنع الماء حتى مات وأحضر إسحاق القضاة والفقهاء وعرضه عليهم لا ضرب به ولا أثر.
وأمّا ابناه فبقيا في الحبس حياة المتوكّل. فلمّا أفضى الأمر إلى المنتصر أخرجهما.
ما عامل به المتوكل أهل الذمة في ملابسهم ومنازلهم
وفي هذه السنة أمر المتوكّل بأخذ النصارى وأهل الذمّة بلبس العسليّ والزنانير وركوب السروج بركب الخشب وبتصيير كرتين على مؤخر السرج، وبتغيير القلانس لمن لبس قلنسوة، وبتغيير زيّ النساء في أزرهن العسلية ليعرفن، وكذلك مماليكهم، ومنعهم لبس المناطق، وإن دخلوا الحمام كان معهم جلاجل ليعرفوا، وأمر بهدم بيعهم المستحدثة وبأخذ العشر من منازلهم. فإن كان الموضع واسعا صيّر مسجدا وإن لم يصلح أن يكون مسجدا صيّر فضاء. وأمر أن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة تفريقا بين منازلهم ومنازل المسلمين، ونهى أن يستعان بهم في الدواوين وأعمال السلطان التي تجرى فيها أحكامهم على المسلمين، ونهى أن يتعلّم أولادهم في كتاتيب المسلمين وألّا يعلّمهم مسلم، ونهى أن يظهروا في أعيادهم صليبا وأن يشمعوا في الطريق، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض لئلّا يشبه قبورهم قبور المسلمين، وكتب إلى العمّال في الآفاق بذلك.
عقد المتوكل البيعة لبنيه الثلاثة
وفي هذه السنة عقد المتوكّل البيعة لبنيه الثلاثة: لمحمد وسمّاه المنتصر، ولأبي عبد الله واسمه الزبير وسمّاه المعتزّ، ولإبراهيم وسمّاه المؤيد، بولاية العهد. وذكر ذلك للشعراء وكتبت بينهم كتب وفرّقت في الأمصار.
ودخلت سنة ستّ وثلاثين ومائتين
ومن حوادثها هدم قبر الحسين http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png
وفيها توجّه الفتح بن خاقان عند المتوكّل وولّى أعمالا منها أخبار الخاصّة والعامّة بسرّ من رأى وما يليها.
وفيها أمر المتوكّل بهدم قبر الحسين http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png وما حوله من المنازل والدور وأن يبذر ويمنع الناس من إتيانه. وفيها هلك أبو سعيد محمد بن يوسف فجأة، وكان قد ولّى أذربيجان فعسكر بكرخ فيروز، وأراد الركوب فلبس أحد خفّيه ومدّ الآخر ليلبسه فسقط ميّتا، فولّى المتوكّل ابنه يوسف ما كان يتولّاه أبوه من الحرب وولّاه مع ذلك خراج الناحية وضياعها، فشخص إلى الناحية فضبطها.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين
وفيها وثب أهل ارمينية بيوسف بن محمد بن يوسف فيها
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّه لمّا صار إلى عمله من أرمينية خرج رجل من البطارقة يقال له بقراط بن أشوط وكان يقال له: بطريق البطارقة. فطلب الأمان فأخذه يوسف بن محمد وقيّده وبعث به إلى باب السلطان. فأسلم بقراط وابنه واجتمع على يوسف ابن أخي بقراط بن أشوط وجماعة من بطارقة أرمينية فتحالفوا ونذروا دمه لمّا حمل بقراط فنهى أصحاب يوسف يوسف عن المقام وعرّفوه اجتماع القوم فلم يقبل، وأقام فحاصروه من كلّ وجه.
وسقطت الثلوج فخرج يوسف إلى ظاهر المدينة وكان أصحابه متفرّقين في الأعمال، فقاتلهم فقتلوه وقتلوا من معه. فأمّا من لم يقاتل فإنّه قالوا لهم:
-
« ضع ثيابك وانج عريانا. »
فطرحوا ثيابهم ونجوا عراة حفاة فمات أكثرهم من البرد وسقطت أصابع قوم منهم ونجوا.
فوجّه المتوكّل بغا الكبير إلى أرمينية طالبا بدم يوسف. فشخص إليها فبدأ بأرزن. وكان موسى بن زرارة قد واطأ قتلة يوسف فقبض بغا على موسى واخوته وحملهم إلى السلطان ثم سار فأناخ على الخويثيّة وهم جمّة أهل أرمينية، وقتلة يوسف بن محمد. فحاربهم فظفر بهم وقتل منهم زهاء ثلاثين ألفا وسبى خلقا فباعهم. ثم سار إلى بلاد الباق فأسر أشوط بن حمزة أبا العباس، ثم سار إلى ديبل ثم إلى تفليس.
غضب المتوكل على أبي دؤاد
وفيها غضب المتوكّل على أحمد بن أبي دؤاد وأمر بالتوكيل بضياعه وحبسه وأولاده واخوته، فحمل أبو الوليد مائة ألف وعشرين ألف دينار وجوهرا كثيرا، وصولح بعد على ستّة عشر ألف ألف درهم وأشهد عليهم جميعا ببيع كلّ ضيعة لهم وكان أحمد بن أبي دؤاد قد فلج فقال أبو العتاهية:
لو كنت في الرّأى منسوبا إلى رشد ** وكان عزمك عزما فيه توفيق
لكان في الفقه شغل لو قنعت به ** عن أن تقول: كتاب الله مخلوق
ما ذا عليك وأصل الدين يجمعهم ** ما كان في الفرع لو لا الجهل والموق
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين
وفيها ظفر بغا الكبير بإسحاق بن إسماعيل مولى بني أمية بتفليس فأحرق مدينة تفليس. وكان إسحاق بن إسماعيل - ويكنى أبا العباس - قد تحصّن بتفليس وهي مدينة أكثر بنائها خشب الصنوبر. فلمّا قصدها بغا أمر النفاطين فضربوها بالنار وهاجت الريح وأحاطت النار به بقصر إسحاق وجواريه.
ثم أتاه الأتراك والمغاربة فأخذوه أسيرا مع ابنه وأتوا به بغا، فأمر بضرب عنقه صبرا، وصلب جثّته واحترق في المدينة نحو خمسين ألف إنسان.
ثم نهض بغا إلى عيسى بن يوسف ابن أخت اصطفانوس فحاربه في كورة السلطان ثم تحصّن في قلعة كتيش، ففتحها وأخذه وحمله وحمل ابنه وسنباط بن أشوط بطريق أرّان، وحمل معه آذرنرسى بن إسحاق.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين
ولم يجر فيها ما يكتب.
ودخلت سنة أربعين ومائتين
وتلك سبيلها.
ودخلت سنة إحدى وأربعين ومائتين
إغارة البجة وحرب المتوكل إياهم
وفيها أغارت البجّة على حرش من أرض مصر، فوجّه المتوكّل لحربهم محمد بن عبد الله القمي.
ذكر ما آلت إليه أمورهم
كانت البجّة لا تغزو المسلمين ولا يغزوهم المسلمون لهدنة بينهم قديمة وهم جنس من أجناس الحبشة وفي بلادهم معادن ذهب. فهم يقاسمون من يعمل فيها ويؤدّون إلى عمّال مصر في كلّ سنة شيئا معلوما.
فلمّا كان في أيّام المتوكّل امتنعت البجّة عن أداء ذلك الخراج سنين متوالية وهذه المعادن منها ما هو على التخوم فيما بين أرض مصر وبلاد بجّة. فقتلوا عدّة من المسلمين ممّن كان يعمل في المعادن ويستخرج الذهب، وسبوا عدّة من ذراريهم ونسائهم. وذكروا أنّ المعادن لهم في بلادهم وأنهم لا يأذنون للمسلمين في دخولها، وانّ ذلك أوحش المسلمين الذين كانوا يعملون هناك حتى انصرفوا عنه، فانقطع ما كان يؤخذ للسلطان بحقّ الخمس الذي كان يستخرج من المعادن.
فلمّا بلغ ذلك المتوكّل أحفظه، وشاور في أمر البجّة فأنهى إليه أنّهم قوم أهل بدو وأصحاب إبل وماشية، وأنّ الوصول إلى بلادهم صعب لا يمكن أن تسلك إليهم الجيوش لأنّها مفاوز وصحار، وبين أرض الإسلام وبينها مسيرة شهر في أرض قفر وجبال وعرة لا ماء فيها ولا زرع ولا معقل ولا حصن، وأنّ من يدخلها من أولياء السلطان يحتاج أن يتزوّد لجميع من معه المدّة التي يتوهّم أنّه يقيمها في بلادهم حتى يخرج إلى أرض الإسلام. فإن تجاوز تلك المدّة هلك وجمع من معه وأخذتهم البجّة بالأيدى دون المحاربة، وأنّ أرضهم لا تردّ على السلطان شيئا من خراج ولا غيره.
فأمسك المتوكّل عن التوجيه إليهم وجعل أمرهم يتزيّد وحربهم يكثر حتى خاف أهل الصعيد من أرض مصر على أنفسهم وذراريّهم. فولّى المتوكّل محمد بن عبد الله القمي محاربتهم وولّاه معادن تلك الكور، وتقدّم إليه في محاربة البجّة وكتب إلى عنبسة بن إسحاق الضبي العامل على حرب مصر بإعطائه جميع ما يحتاج إليه من الجند والشاكريّة بمصر. فأزاح عنبسة علّته في ذلك، وخرج إليه من جميع ما اقترحه عليه، وانضمّ إليه جميع من كان يعمل في المعادن وقوم كثير من المطوّعة، وكانت عدّة من معه نحوا من عشرين ألف إنسان بين فارس وراجل، ووجّه إلى القلزم فحمل في البحر سبعة مراكب موقّرة بالدقيق والزيت والتمر والسويق والشعير، وأمر قوما من سبعة مراكب موقّرة بالدقيق والزيت والتمر والسويق والشعير، وأمر قوما من أصحابه أن يلجّجوا بها في البحر حتى يوافوه في سواحل البحر من أرض البجّة.
ولم يزل محمد بن عبد الله القمّى يسير في أرض البجّة حتى جاوز المعادن التي يعمل فيها وصار إلى حصونهم وقلاعهم، وخرج إليه ملكهم واسمه: على بابا، وله ابن يسمّى بغسى في جيش كثير وعدد أضعاف من كان مع القمّى وكانت البجّة على إبلهم ومعهم الحراب وإبلهم فرّه تشبه المهارى في النجابة. فجعلوا يلتقون أيّاما متوالية فيتناوشون ولا يصحّحون القتال.
وجعل ملك البجّة يتطارد للقمّى ويطوّل الأيّام طمعا في نفاد الأزواد والعلوفة التي معهم فلا يكون لهم قوّة، فتأخذهم البجّة بالأيدى. فلمّا توهّم عظيم البجّة أنّ الأزواد قد نفدت أقبلت المراكب السبعة التي حملها القمّى حتى خرجت إلى ساحل من سواحل البحر في موضع يعرف بصنجة فوجّه القمّى إلى ما هناك من أصحابه يحمون المراكب من البجّة وفرّق ما كان فيها على أصحابه فاتّسعوا في الزاد والعلوفة.
فلمّا رأى ذلك على بابا رئيس البجّة قصد لمحاربتهم وجمع لهم. فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا وكانت إبلهم زعرة تكثر الفزع من كلّ شيء. فلمّا رأى ذلك محمّد بن عبد الله القمّى جمع أجراس الإبل والخيل، التي في معسكره كلّها فجعلها في أعناق الخيل ثم حمل على البجّة فنفرت إبلهم واشتدّ رعبهم فحملتهم على الجبال والأودية فمزّقتهم كلّ ممزّق، واتبعهم القمّى بأصحابه قتلا وأسرا حتى غشاهم الليل ولم يقدر على إحصاء القتلى لكثرتهم. فلمّا أصبح القمّى وجدهم قد جمعوا جمعا من الرجّالة ثم صاروا إلى موضع أمنوا فيه طلب القمّى.
فوافاهم القمّى في الليل في خيله فهرب ملكهم وأخذ تاجه ومتاعه ثم طلب الأمان على أن يردّ إلى بلاده ويؤدّى الخراج للسنين التي عليه. فأعطاه القمّى ذلك وأدّى ما عليه واستخلف على مملكته ابنه بغسى.
وانصرف القمّى بعلى بابا إلى المتوكّل فوصل إليه في آخر سنة إحدى وأربعين فكانت غيبته دون سنة.
وكسا القمّى على بابا درّاعة ديباج وعمّامة سوداء وكسا جمله رحلا مدبّجا وجلال ديباج ليتميّز عن أصحابه، ووقف بباب العامّة مع قوم من البجّة على الإبل بالحراب وفي رؤوس حرابهم رؤوس القوم الذين قتلهم القمّى. فأمر المتوكّل أن يقبضوا من القمّى.
ثم ولّى المتوكّل البجّة وطريق ما بين مصر ومكّة سعدا الخادم الإيتاخى. فولّى سعد محمد بن عبد الله القمّى، فخرج القمّى بعلى بابا وهو مقيم على دينه.
ودخلت سنة اثنتين وأربعين وثلاثة وأربعين [ ومائتين ]
ولم يجر فيهما ما يكتب.
ودخلت سنة أربع وأربعين ومائتين
وفيها دخل المتوكّل دمشق وكان عزم على المقام بها، ووصف له من فضائلها وطيبها ما شوّقه إليها. فأمر بالبناء فيها ونقل دواوين الملك إليها ثم استوبأ البلد وذلك أنّ الهواء بها بارد نديّ، والماء ثقيل والريح تهبّ مع العصر، فلا تزال تشتدّ حتى تمضى عامّة الليل، وهي كثيرة البراغيث، وغلت الأسعار وحال الثلج بين السابلة والميرة وتحرّكت الأتراك يطلبون أرزاقهم وأرزاق عيالاتهم.
فرجع المتوكّل إلى سرّ من رأى وكان مقامه بدمشق شهرين وأيّاما.
-
ودخلت سنة خمس وأربعين ومائتين
وفيها أمر المتوكّل ببناء الجعفري وأقطع قوّاده وأصحابه فيها وجدّ في بنائها وأنفق عليها ألفى دينار، وكان يسمّيها هو وأصحابه المتوكّلية.
وفيها كان هلاك نجاح بن سلمة الكاتب.
ذكر سبب هلاكه
كان نجاح إليه ديوان التوقيع والتتبّع على العمّال فكان العمّال. يتّقونه ويقضون حوائجه ولا يمنعونه من شيء يريده. وكان المتوكّل ربّما نادمه وكان عبيد الله بن خاقان وزير المتوكّل والأمور مفوّضة إليه، وكان الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك منقطعين إلى الوزير، وكان الحسن بن مخلد على ديوان الضياع وموسى على ديوان الخراج.
وكتب نجاح بن سلمة رقعة إلى المتوكّل يذكر له، أنّه يعرف وجه أربعين ألف ألف درهم يستخرجها من وجوهها من خيانات قوم، فيتّسع بها أمير المؤمنين في نفقة البناء. فأدناه المتوكّل وشاربه تلك العشيّة وقال:
« سمّ لي من تستخرج منه الأموال. » فسمّى الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك وقال:
« يصحّ من جهة هذين أربعون ألف ألف درهم. » ثم سمّى قوما آخرين من الكتّاب وضمن مالا عظيما يصحّ بعد ذلك منهم. فوقع ذلك من المتوكّل موقعا عظيما وأعجبه وقال له:
« أغد عليّ. » فلمّا أصبح لم يشكّ في أمره.
وناظر المتوكّل عبيد الله بن يحيى وزيره في ذلك فقال:
« يا أمير المؤمنين هؤلاء أعيان المملكة وكتّابك وعمّالك. فإن أوقعت بهم فمن يقوم بأعمالك وأنا أدبّر ذلك. » فلمّا غدا نجاح إلى المتوكّل وقد رتّب أصحابه وقال: « يا فلان خذ أنت الحسن وأصحابه ويا فلان خذ أنت موسى وأصحابه، » حجبه عبيد الله وتقدّم في ذلك فلقى، نجاح عبيد الله فقال له:
« انصرف يا أبا الفضل حتى ننظر وأنا أشير عليك بأمر لك فيه صلاح. » فقال: « ما هو؟ » قال: « أصلح بينك وبينهما وتكتب رقعة إلى أمير المؤمنين تذكر فيها أنّك كنت شاربا وأنّك تكلّمت بما يحتاج إلى معاودة النظر فيها، وأنا أصلح أمرك عند المتوكّل. »
فلم يزل يخدعه حتى كتب ما قال. ثم دعا عبيد الله الحسن بن المخلد وموسى بن عبد الملك وقال لهما:
« ابذلا خطّا في نجاح وأصحابه بألفي ألف دينار، وإلّا فإنّه سيسلمكما إليه ويهلككما. » فكتبا له ذلك ودخل عبيد الله على المتوكّل وقال:
« يا أمير المؤمنين قد رجع نجاح عمّا قاله البارحة وهذا خطّه وهذه رقعة موسى بن الحسن يتقبّلان به ممّا بذلا به خطوطهما فتأخذ ما ضمنا عنه ثم تعطف عليهما فتأخذ قريبا ممّا ضمن لك عنهما. » فسرّ المتوكّل وطمع فيما قال عبيد الله وقال:
« ادفعه إليهما. » فأمرا بأن تؤخذ قلنسوته، وقبضا على كتّابه فاستخرجا من يومهما ذلك مائة وأربعين ألف دينار اعترف بها ابنه، وذلك سوى قيمة ضياعه وقصوره وفرشه ومستغلاته وآلاته. فقبض جميع ذلك وضرب مرارا بالمقارع وعذّب ثم خنق أو عصرت خصاه فأصبح ميّتا. وطولب أولاده ووكلاؤه، وأخذ بسببه قوم ببغداد وبسرّ من رأى وبمكّة وبناحية السواد فحبسوا وصودروا.
ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائتين
ولم يجر فيها شيء يكتب.
ودخلت سنة سبع وأربعين ومائتين
وفيها كان مقتل المتوكّل على الله
ذكر السبب في قتله
كان سبب ذلك أنّ المتوكّل أمر بقبض ضياع وصيف بإصبهان والجبل وأقطعها الفتح بن خاقان، فكتب الكتب بذلك وبلغ ذلك وصيفا.
وكان المتوكّل واقف الفتح بن خاقان على أن يفتك بابنه المنتصر لأشياء كانت تبلغه عنه ويفتك أيضا بوصيف وبغا وغيرهما من قوّاد الأتراك ممّن كان يتّهم فكثر عتب المتوكّل قبل الموعد على ابنه المنتصر. كان يقول له:
« سمّيتك: المنتصر، فسمّاك الناس لحمقك: المنتظر. » فمرّة كان يشتمه ومرّة يسقيه فوق طاقته ومرّة يصفعه.
فتحدّث بعض من كان في ستارة المتوكّل قالت: التفت المتوكّل إلى الفتح وهو ثمل فقال:
« برئت من الله ومن قرابتي من رسول الله إن لم تلطمه. » - يعنى المنتصر.
فقام الفتح فلطمه. ثم قال:
« اصفعه. » فأمرّ يده على قفاه.
ثم قال المتوكّل لندمائه:
« اشهدوا جميعا أنّى قد خلعت المستعجل» - يعنى المنتصر.
فقال المنتصر:
« يا أمير المؤمنين لو أمرت بضرب عنقي كان أسهل عليّ ممّا تفعله بي. » فقال: « اسقوه. » وأمر بالعشاء فأحضر وذلك في جوف الليل فجعل يأكل هو والفتح وهو سكران يلقم ويسقى المنتصر وهو يشتمه.
ثم خرج المنتصر وأخذ بيد زرافة الحاجب وقال:
« امض معي. » قال: « يا سيّدي، إنّ أمير المؤمنين لم يقم بعد. » فقال: « إنّ أمير المؤمنين قد أخذ منه الشراب، والساعة يخرج بغا والندماء، وقد أحببت أن تجعل أمر ولدك إليّ فإنّ أوتامش سألنى أن أزوّج ابنه من ابنتك وابنك من ابنته. » قال له زرافة:
« نحن عبيدك يا سيّدي فمر بأمرك. » وأخذ المنتصر بيده وانصرف به معه فقال بنان المغنّى:
فما بعد المنتصر حتى سمعنا الضجّة والصراخ وكنت مع المنتصر قد قمت لأشهد الأملاك والنثار.
فلمّا سمع المنتصر الصراخ خرج فاستقبله بغا فقال له المنتصر:
« ما هذه الضجّة. » قال: « خير يا أمير المؤمنين. » قال: « ما تقول ويلك؟ »
-
قال: « أعظم الله أجرك في سيّدنا أمير المؤمنين. كان عبد الله دعاه فأجابه. » فجلس المنتصر وأمر بباب البيت الذي قتل فيه المتوكّل والمجلس فأغلق وغلّقت الأبواب كلّها وبعث إلى وصيف يأمره بإحضار المعتزّ والمؤيد عن رسالة المتوكّل.
فذكر عثعث أنّ المتوكّل بعد قيام المنتصر استدعى رطلا وكان بغا الصغير المعروف بالشرابى قائما عند الستر وبغا الكبير يومئذ بسميساط وخليفته موسى ابنه فدخل بغا الصغير وأمر الندماء بالانصراف إلى حجرهم. فقال له الفتح:
« ليس هذا وقت انصرافه. » فقال بغا:
« إنّ أمير المؤمنين أمرنى إذا جاوز السبعة أرطال ألّا أترك أحدا في المجلس، وقد جاوز العشرة. » فكره الفتح قيامهم. فقال له بغا:
« إنّ حرم أمير المؤمنين خلف الستارة وقد سكر، فقوموا فاخرجوا. » فقاموا ولم يبق إلّا عثعث والفتح وأربعة من خدم الخاصّة وغلق بغا الصغير الأبواب كلّها إلّا باب الشطّ ومنه دخل القوم الذين وقفوا على قتله فلمّا دخل القوم وسلّوا سيوفهم نظر إليهم عثعث فقال المتوكّل:
« قد فرغنا من الحيّات والعقارب والأسد وصرنا إلى السيوف. » وذلك أنّ المتوكّل كان ربّما أرسل هذه الأشياء على ندمائه ليفزّعهم ويضحك هو، فلمّا ذكر عثعث السيوف قال:
« ويلك ما تقول أيّ سيوف؟ » فما استتمّ كلامه حتى دخلوا عليه، فابتدره بغلون فضربه ضربة على كتفيه وأذنه فقدّه، فقام الفتح في وجهه ووجوه القوم وقال:
« وراءكم يا كلاب. » فقال له بغا:
« لا تسكت يا جلفى. » فرمى الفتح بنفسه على المتوكّل، فاعتوره القوم بسيوفهم فقتلوهما معا وقطّعوهما حتى اختلطت لحومهما. وهرب عثعث بعد ما أصابته ضربة ونجا الخدم وراء الستارة وتطايروا وكان عبيد الله بن يحيى في حجرته لا يعلم بشيء من أمر القوم وهو ينفّذ الأمور بالشموع.
وذكر أنّ بعض نساء الأتراك ألقت رقعة بما عزم عليه القوم فوصلت إلى عبيد الله بن يحيى وشاور الفتح فيها وعرف الخبر أيضا أبو نوح كاتب الفتح واتفق رأيهم على كتمان المتوكّل يومهم ذلك لما كانوا رأوا من سروره فكرهوا أن ينغّصوا يومه، وهان عليهم أمر القوم، وكانوا وثقوا بأنّ ذلك لا يجسر عليه ولا يتمّ. فبينا عبيد الله ينفّذ الأمور إذ طلع عليه بعض الخدم فقال:
« يا سيّدي أنت ما جلوسك؟ » قال: « وما ذاك؟ » قال: « الدار سيف واحد. » فأمر بعض خدمه بالخروج. فخرج ونظر، ثم عاد فأخبره أنّ المتوكّل والفتح قد قتلا. فخرج في من معه من خدمه وخاصّته. فأخبر أنّ الأبواب مغلّقة، فأخذ نحو الشطّ فإذا أبوابه أيضا مغلقة، فأمر بكسر ما كان يلي الشطّ فكسرت ثلاثة أبواب حتى خرج إلى الشطّ ووجد زورقا، فقعد فيه ومعه جعفر بن حامد وغلام له. فصار إلى منزل المعتزّ فسأل عنه فلم يصادفه فقال:
« إنّا لله وإنا إليه راجعون قتلني وقتل نفسه. » وتلهّف عليه.
واجتمع إلى عبيد الله أصحابه غداة غد من الأبناء والعجم والأرمن والزواقيل من الأعراب وغيرهم وقد اختلف في عدّتهم. فقال بعضهم كانوا عشرة آلاف، وزاد بعضهم ونقص بعض. فقالوا:
« إنّما كنت تصطنعنا لهذا اليوم فأمر بأمرك وأذن لنا نمل على القوم ميلة فنقتل المنتصر ومن معه من الأتراك وغيرهم. » فأبى وقال:
« ليس في هذا حيلة، والرجل في أيديهم ». - يعنى المعتزّ.
وكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر، وكان أسمر نحيفا حسن العينين خفيف العارضين.
خلافة محمد بن جعفر المنتصر
وبويع للمنتصر يوم الأربعاء لأربع خلون من شوّال وهو ابن خمس وعشرين سنة. واستوزر أحمد بن الخصيب وهو الذي قرأ على الناس كتابا، فخبّر عن أمير المؤمنين المنتصر أنّ الفتح بن خاقان قتل أباه جعفر المتوكّل فقتله به وحضر عبيد الله بن الفتح بن خاقان فبايع وانصرف.
ودخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين
وفيها أغزى المنتصر وصيفا التركي صائفة أرض الروم
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّه كان بين أحمد بن الخصيب وبين وصيف شحناء وتباغض، فأشار على المنتصر بإخراجه غازيا. فقال المنتصر:
« ائذن لمن حضر الدار؟ »
فأذن لهم، وفيهم وصيف. فأقبل عليه وقال:
« يا وصيف أتانا عن طاغية الروم أنّه أقبل يريد الثغور، وهذا أمر لا يمكن أن يمسك عنه، فإمّا شخصت وإمّا شخصت. » فقال وصيف:
« بل أشخص يا أمير المؤمنين. » فقال لأحمد بن الخصيب:
« انظر ما تحتاج إليه على أبلغ ما يكون فأقمه له. » قال: « نعم يا أمير المؤمنين. » قال: « ما معنى نعم، قم الساعة يا وصيف ومر كاتبك أن يواقفه على جميع ما يحتاج إليه حتى تزيح علّته. » فقام أحمد ووصيف حتى خرج فما أفلح.
وكتب المنتصر كتابا إلى محمد بن عبيد الله بن طاهر وكان ببغداد منصرفا من الحجّ يعرّفه فيه إغزاءه وصيفا ويعلمه أنّه خارج إلى ثغر ملطية للنصف من حزيران ويأمره أن يكاتب عمّاله في نواحي عمله، ليقرأ كتاب أمير المؤمنين على من قبلهم ويحثّهم على الجهاد ويستفزهم ويلحقهم به في الوقت المحدود.
ثم كتب عن المنتصر كتاب إلى وصيف يأمره بالمقام ببلد الثغر أربع سنين يغزو في أوقات إلى أن يأتيه رأى أمير المؤمنين.
خلع المعتز والمؤيد أنفسهما
وفي هذه السنة خلع المعتزّ والمؤيّد أنفسهما وأظهرا ذلك.
ذكر سبب خلعهما
لمّا استقامت الأمور للمنتصر بالله قال أحمد بن الخصيب لبغا:
« إنّا لا نأمن الحدثان، وأن يموت أمير المؤمنين، فيلي الأمر المعتزّ فلا يبقى منّا باقية. والرأي أن نعمل في خلع هذين الغلامين قبل أن يظفرا بنا. » فجدّ الأتراك في ذلك وألحّوا على المنتصر بالله وقالوا:
« نخلع هذين ونبايع لابنك عبد الوهاب. » وكان مكرما للمؤيّد والمعتزّ. فلم يزالوا به حتى أحضرهما الدار، وذلك بعد أربعين يوما من ولايته. فلمّا حصلا في دار واحدة من الدار قال المعتزّ للمؤيّد:
« يا أخي لم أحضرنا؟ » قال: « يا شقيّ للخلع. » فقال: « لا أظنّه يفعل بنا ذلك. » فبينا هم في ذلك إذ جاءتهم الرسل بالخلع.
-
فقال المؤيّد:
« السمع والطاعة. » وقال المعتزّ:
« ما كنت لأفعل. فإن أردتم قتلى فشأنكم. » فرجعوا إليه فأخبروه. ثم عادوا بغلظة شديدة وأخذوا المعتزّ بعنف وأدخلوه إلى بيت فأغلقوا عليه. فقال لهم المؤيّد بجرأة واستطالة:
« ما هذا يا كلاب قد ضريتم على دمائنا، تثبون على مواليكم هذا الوثوب، اغربوا قبّحكم الله، دعوني حتى أكلّمه. » فكاعوا عن جوابه، ثم قالوا:
« القه إن أحببت. » - فيظنّ أنّهم استأمروه لأنهم أقاموا ساعة ثم أذنوا له.
فقام إليه.
قال المؤيّد: فوجدته يبكى فقلت:
« يا جاهل، تراهم قد نالوا من أبيك ما نالوا ثم تمتنع اخلع ويلك. » فقال: « سبحان الله أمر قد طار في الآفاق ووثق منه. أخلعه؟ » قلت: « هذا قد قتل أباك وسيقتلك، فاخلعه وعش. فو الله لئن كان في سابق علم الله أن تلى لتلينّ. » قال: « أفعل. » فخرجت وقلت:
« قد أجاب. » فمضوا وعادوا فجزّونى خيرا. ودخل معهم كاتب ومعه دواة وقرطاس.
فجلس ثم أقبل على أبي عبد الله المعتزّ، فقال:
« اكتب بخطّك. » فتلكّأ، فقال المؤيّد للكاتب:
« هات قرطاسك، أملل ما شئت. » فأمّل عليه كتابا للمنتصر يعلمه فيه ضعفه عن هذا الأمر، وأنّه قد علم أنّه لا يحلّ له تقلّده، ويكره أن يأثم المتوكّل بسببه، إذ لم يكن موضعا له ويقول: « إني قد خلعت نفسي وأحللت الناس من بيعتي. » ثم قال المؤيّد:
« اكتب يا أبا عبد الله. » فكتب وخرج الكاتب.
قال المؤيّد: ثم دعا بنا، فدخلنا عليه وهو في مجلسه والناس على مراتبهم، فسلّمنا فردّ علينا وأمر بالجلوس ثم قال:
« هذا كتابكما. » فبدرت وقلت:
« نعم يا أمير المؤمنين هذا كتابي بمسألتى ورغبتي. » وقلت للمعتزّ:
« تكلّم. » فقال مثل ذلك. فأقبل علينا والأتراك وقوف، فقال:
« أتريانى خلعتكما طمعا في أن أعيش ويكبر ولدي وأصيّر الخلافة إليه؟ والله ما طمعت في ذلك قطّ وإذا لم يكن لي في ذلك طمع فو الله لأن يلي بنو أبي أحبّ إليّ من أن يليها بنو عمّى ولكنّ هؤلاء - وأومأ إلى سائر الموالي ممّن هو قائم وقاعد - ألحّوا عليّ في خلعكما فخفت إن لم أفعل أن يعترضكما بعضهم بحديدة. فما ترياني صانعا؟ أقتله فو الله ما تفي دماؤهم كلّهم بدم بعضكم فإنّ إجابتهم إلى ما سألوا أسهل عليّ. » فأكبّا على يده فقبّلاها وضمهما إليه، ثم انصرفا.
وكتب بنسخة خلعهما وبما أنشئ عن المنتصر بالله في ذلك كتب إلى العمّال في الآفاق.
وفي هذه السنة توفّى المنتصر بالله.
ذكر وفاة المنتصر وسرعة الإدالة منه
قد اختلف الناس في وفاته. فقال قوم أصابته الذبحة. وقال آخرون أصابه ورم في معدته وقال آخرون فصد بمبضع مسموم وأنّ طبيبه لمّا فصده دهش فلم يميّز مبضعه المسموم. ثم اعتلّ هو ففصده تلميذه به فمات. وقيل وجد علّة في رأسه فقطّر طبيبه ابن طيفور في أذنه دهنا، فورم رأسه فعولج فمات.
ولم يزل الناس منذ ولى الخلافة وإلى أن مات يقولون:
إنّما مدّة حياته ستة أشهر مدّة شيرويه بن كسرى قاتل أبيه. » مستفيضا ذلك على السن العامّة والخاصّة.
وكان المنتصر استفتى في قتل أبيه الفقهاء من غير أن يسمّيه، وحكى أمورا قبيحة لا تكتب في كتاب، فأفتوا بقتله.
فلمّا قتله رآه في النوم وكأنّه يقول:
« ويلك يا محمد، قتلتني وظلمتني، والله لا تمتّعت بالخلافة إلّا أيّاما يسيرة، ثم مصيرك إلى النار. » فانتبه وهو لا يملك عينه ولا جزعه، فكان يسلّى ويقال له:
« هذا استشعار وهو حديث النفس. » فلا يسلو، وما زال منكسرا إلى أن توفّى.
ولمّا اشتدّت علّته خرجت العامّة فسألته عن حاله، فقال:
« ذهبت والله منى الدنيا والآخرة. » وتوفّى وهو ابن خمس وعشرين سنة وستّة أشهر. فكانت خلافته ستّة أشهر.
وكان أعين قصيرا جيّد البضعة، وكان مهيبا. وطلبت أمّه أن يظهر قبره.
فهو أوّل خليفة من بنى العباس عرف قبره، وكنيته أبو جعفر.
ومن طريف ما اتفق عليه أنّ محمد بن هارون كاتب محمد بن علي برد الخبّاز، وخليفته على ديوان ضياع إبراهيم المؤيّد أصيب مقتولا على فراشه، به عدّة ضربات بالسيف. أحضر ولده خادما أسود كان له، ووصيفا.
فأقرّ الوصيف على الأسود فأدخل إلى المنتصر وأحضر قاضى القضاة وهو يومئذ جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، فسئل الأسود عن قتله فأقرّ ووصف فعله به وسبب قتله إيّاه. فقال له المنتصر:
« ويلك لم قتلته؟ » فقال له الأسود:
« كما قتلت أنت أباك المتوكّل. » فتقدّم بضرب عنقه عند خشبة بابك.
وفي هذه السنة تحرّك يعقوب الصفّار من سجستان فصار إلى هراة.
خلافة أبي العباس المستعين
وفيها بويع أحمد بن محمد بن المعتصم.
ذكر السبب في بيعة المستعين والعدول عن ولد المتوكّل
لمّا توفّى المنتصر اجتمع الموالي وفيهم بغا الكبير وبغا الصغير وأوتامش ومن معهم. فاستحلفوا جميع القوّاد على أن يرضوا بمن رضى به بغا الكبير وبغا الصغير وأوتامش، وذلك بتدبير أحمد بن الخصيب. فحلفوا كلّهم وتشاوروا بينهم وكرهوا أن يتولّى الخلافة أحد من ولد المتوكّل، لقتلهم المتوكّل وخوفهم أن يغتالهم من يتولّى الخلافة منهم.
فأجمع أحمد بن الخصيب ومن حضر من الموالي على أحمد بن محمد بن المعتصم وقالوا:
-
« لا نخرج الخلافة من ولد مولانا المعتصم. » فبايعوه وله ثمان عشرة سنة، ويكنى أبا العباس، ولقّب: المستعين بالله.
فاستكتب أحمد بن الخصيب واستوزر أوتامش.
فلمّا صار إلى دار العامّة في زيّ الخلافة وقد صفّ أصحابه صفّين وقام منهم مع وجوه أصحابه وحصر الدار ولد المتوكّل والعبّاسيون والطالبيون وأصحاب المراتب، إذا صيحة من ناحية الشارع وجماعة من الفرسان، ذكر أنّهم من أصحاب أبي العبّاس محمد بن عبد الله بن طاهر، وفيهم فرسان من الطبرية وأخلاط من الناس والغوغاء والسوقة، قد شهروا السلاح وصاحوا:
« معتزّ يا منصور. » وشدّوا فتضعضعوا وانضمّ بعضهم إلى بعض. ثم حملوا عليهم ونشبت الحرب بينهم، وأقبلت المعتزّية والغوغاء يكثرون، فوقع بينهم قتلى، ثم تحاجزوا.
وخرج المستعين - وقد بايعه من حضر الدار من أصحاب المراتب - إلى الهاروني ودخل الغوغاء والمنتهبة دار العامّة، فانتهبوا الخزانة التي فيها السلاح والدروع والسيوف الثغرية والتراس الخيزران، ثم جاءهم جماعة من الأتراك فيهم بغا الصغير فأجلوهم من الخزانة وقتلوا منهم عدّة وخرج العامّة والغوغاء وكان لا يمرّ بهم أحد من الأتراك يريد باب العامّة إلّا انتهبوا سلاحه وقتلوا جماعة منهم.
وكان عامّة من انتهب أصحاب الناطف والفقّاع وأصحاب الحمّامات وغوغاء الأسواق.
ثم وضع العطاء في ذلك اليوم الذي بويع فيه وبعث بكتاب البيعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، فبعث إلى الهاشميّين والقوّاد والجند ووضع الأرزاق.
وورد في هذه السنة نعى طاهر بن عبد الله بخراسان في رجب، فعقد المستعين لابنه أبي عبد الله محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر على خراسان، وعقد لمحمد بن عبد الله بن طاهر عمّه على العراق وجعل إليه الحرس والشرطة ومعاون السواد برأسه وأفرده به.
وفيها مات بغا الكبير فعقد المستعين لابنه على أعمال أبيه كلّها واسمه موسى.
وفيها ابتاع المستعين من المعتزّ والمؤيّد جميع مالهما من الدور والمنازل والقصور والفرش والآلة وغير ذلك من الضياع والعقار وأشهد عليهما القضاة والعدول ووجوه الهاشميّين، وترك لأبي عبد الله المعتزّ قيمة عشرين ألف دينار، ولإبراهيم المؤيّد ما قيمته خمسة آلاف دينار وذلك في السنة الواحدة. فكان ما ابتيع من أبي عبد الله بعشرة آلاف ألف دينار وعشر حبّات لؤلؤ، ومن إبراهيم بثلاثة آلاف ألف دينار وثلاث حبّات لؤلؤ. وكان الشراء باسم الحسن بن مخلد للمستعين. ووكّل بهما وجعل أمرهما إلى بغا الصغير، وكان الأتراك قد أرادوا حين شغب الشاكرية والغوغاء قتلهما، فمنعهم أحمد بن الخصيب وقال: ليس لهما ذنب.
وفيها غضب الموالي على أحمد بن الخصيب فاستصفى ماله ومال ولده ونفى إلى اقريطش، وصيّر المستعين شاهك الخادم على داره وكراعه وحرمه وخزائنه وخاصّ أموره، وقدّمه أوتامش على جميع الناس.
ودخلت سنة تسع وأربعين ومائتين
وفيها شغب الجند والشاكرية
ذكر السبب في شغبهم
كان السبب في ذلك أنّ جعفر بن دينار كان غزا الصائفة، فاستأذنه عمر بن عبيد الله الأقطع في المصير إلى ناحية من الروم ومعه خلق كثير من الروم نحو مائة ألف. فقتل عمر ومن معه من المسلمين وبلغ خبر مقتله عليّ بن يحيى الأرمني وسمع بما جرى على حرم المسلمين من الروم واستكلابهم على الثغور الخزرية بعد عمر فنفر إليهم مع جماعة من أهل ميّافارقين، فقتل أيضا في جماعة من المسلمين.
فلمّا اتصل خبرهما بأهل مدينة السلام وسرّ من رأى وسائر مدن الإسلام، فعظم عليهم مقتل هذين وهما نابان من أنياب المسلمين، شديد بأسهما عظيم نكايتهما وغناؤهما في الثغور. فشقّ على الناس ذلك وعظم في الصدور وانضاف إلى ذلك ما لحقهم من الأتراك وفي قتلهم المتوكّل واستيلائهم على أمور المسلمين وقتلهم من أرادوا قتله من الخلفاء واستخلافهم من أحبّوا استخلافه من غير رجوع منهم إلى ديانة ولا نظر للمسلمين.
فأجمعت العامّة ببغداد بالصراخ والنداء بالنفير، وانضمّت إليها الأبناء والشاكريّة. تظهر أنّها تطلب الأرزاق. ففتحوا السجون وأخرجوا رفوغ خراسان والصعاليك من أهل الجبال والمحمّرة وغيرهم، وقطعوا أحد الجسرين وضربوا الآخر بالنار، وانتهبت الدواوين وقطعت الدفاتر وألقيت في الماء وانتهب عدّة دور. ثم أخرج أهل اليسار من أهل بغداد وسرّ من رأى أموالا كثيرة من أموالهم. فقوّوا من خفّ للنهوض إلى الثغور لحرب الروم، وأقبل الناس من كلّ ناحية من نواحي الجبل وفارس والأهواز وغيرها ولم يكن من السلطان فيه معونة ولا نكير على الروم.
ووثب العامّة بسرّ من رأى على أصحاب السجون فأخرجوا من فيها فأركب زرافة ووصيف وأوتامش فوثبت العامّة بهم فهزمتهم وألقى على وصيف قدر مطبوخة فأمر وصيف النفّاطين فرموا ما قرب من ذلك الموضع من حوانيت التجّار ومنازل الناس بالنار فاحترق ذلك كلّه وقتل من العامّة خلق وانتهبت دور جماعة منهم.
وفي هذه السنة قتل أوتامش وكاتبه شجاع
ذكر السبب في قتلهما
لمّا أفضت الخلافة إلى المستعين أطلق يد أوتامش وشاهك الخادم في بيوت الأموال وأباحهما إيّاها. وفعل ذلك أيضا بأمّ نفسه، فكانت الأموال التي ترد على السلطان من الآفاق إنّما تصير إلى هؤلاء.
فأمّا أوتامش فأنه عمد إلى ما في بيوت الأموال فاكتسحه. وكان المستعين جعل ابنه العبّاس في حجر أوتامش وكان وصيف وبغا من ذلك بمعزل. فأغريا الموالي به ولم يزالا يدبّران الأمر عليه حتى أحكما التدبير.
فتذمّرت الأتراك والفراغنة على أوتامش وخرج إليه أهل الدور والكرخ إلى المعسكر، ثم زحفوا إليه وهو في الجوسق مع المستعين، فأراد الهرب فلم يمكنه واستجار بالمستعين فلم يجره. فأقاموا على ذلك يومي الخميس والجمعة.
-
فلمّا كان يوم السبت دخلوا الجوسق فاستخرجوا أوتامش من الموضع الذي توارى فيه فقتل وقتل كاتبه شجاع بن القاسم وانتهبت دورهم فأخذ منها أموال جليلة ومتاع وفرش وآنية.
فلمّا قتل أوتامش استوزر المستعين أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وعزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج ووليه عيسى بن فرّخانشاه ثم غضب بغا الصغير على أبي صالح ابن يزداد فهرب أبو صالح إلى بغداد، وصيّر المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجرائي.
ودخلت سنة خمسين ومائتين
ظهور يحيى بن عمر في الكوفة وقتله فيها
وفيها ظهر يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام المكنّى بأبي الحسين بالكوفة وقتل فيها.
ذكر السبب في خروجه
كان السبب في ذلك أنّ أبا الحسين يحيى بن عمر نالته ضيقة شديدة، ولزمه دين ضاق به ذرعا. فلقى عمر بن فرج وهو يتولّى أمر الطالبيّين عند مقدمه من خراسان وكلّمه في صلة. فأغلظ له عمر في القول. فقذفه يحيى في مجلسه فحبس فلم يزل محبوسا إلى أن كفل به أهله فأطلق. ثم صار إلى سرّ من رأى فلقى وصيفا في رزق يجرى له. فأغلظ له وصيف في الردّ، وقال: « لأيّ شيء يجرى على مثلك. » فانصرف عنه.
فذكر الصوفيّ الطالبيّ أنّه أتاه في الليلة التي خرج في صبيحتها، فبات عنده ولم يعلمه بشيء ممّا عزم عليه، وأنّه عرض عليه الطعام وتبيّن فيه أنّه جائع، فأبى أن يأكل، وقال:
« إن عشنا أكلنا. » قال: فتبيّنت أنّه قد عزم على فتكة. وخرج من عندي فجعل وجهه إلى الكوفة، وجمع جمعا كثيرا من الأعراب وأهل الكوفة وأتى الفلّوجة فصار إلى قرية تعرف بالعمد. فكتب صاحب الخبر يخبره، فكتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى عامله على معاون السواد وهو عبد الله بن محمود السرخسي وإلى عامل الكوفة وهو أيّوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان، فأمرهما بالاجتماع على محاربته.
فمضى يحيى بن عمر في تسعة نفر من الفرسان إلى الكوفة فدخلها وصار إلى بيت مالها، فأخذ ما فيه وبه سبعون ألفا وألفا دينار، وأظهر أمره بالكوفة وفتح السجون وأخرج عمّال السلطان عنها. فلقيه عبد الله بن محمود [ وكان ] في عداد من الشاكرية، فضربه يحيى على وجهه ضربة أثخنه.
فانهزم ابن محمود مع أصحابه وحوى يحيى ما كان مع ابن محمود من الدوابّ والمال.
ثم خرج يحيى من الكوفة إلى سوادها ولم يقم بالكوفة ولحقه جماعة من الزيديّة وأعراب أهل الطفوف والسيب إلى ظهر واسط، وكثر جمعه. ووجّه محمد بن عبد الله بن طاهر الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب وضمّ إليه من ذوي البأس والنجدة من قوّاده جماعة، وشخص الحسين بن إسماعيل فنزل بإزاء يحيى بن عمر لا يقدم عليه.
فمضى يحيى بن عمر في شرقيّ السيب والحسين في غربيّه حتى عبر إلى ناحية سورا، وسار حتى قرب من جسر الكوفة، فلقيه عبد الرحيم بن الخطّاب وجه الفلس، فقاتله قتالا شديدا وانهزم وجه الفلس، فصار إلى ناحية شاهي ووافاه الحسين بن إسماعيل فعسكر بها.
ودخل يحيى بن عمر الكوفة واجتمعت إليه الزيدية وكثف أمره واجتمعت إليه جماعة من الناس وأحبّوه وتولّاه العامّة من أهل بغداد خاصّة، ولا نعلم أنهم تولّوا من أهل بيته غيره، وتديّن الناس في تشيّعهم. وأقام الحسين بن إسماعيل بشاهى واستراح وأراح أصحابه دوابّهم واتصلت بهم الميرة والأمداد والأموال.
وأقام يحيى بالكوفة يعدّ العدد ويطبع السيوف ويجمع السلاح. فاجتمع عامّة من الزيدية ممّن لا علم لهم بالحرب وأشاروا على يحيى بن عمر بمعاجلة الحسين وألحّت عليه عوامّ أصحابه بمثل ذلك، فزحف إليه من ظهر الكوفة من وراء الخندق ومعه الهيضم العجلى في فرسان بنى عجل وأناس من بنى أسد ورجّالة من أهل الكوفة ليسوا بذوي علم ولا شجاعة ولا تدبير.
فصبّحوا الحسين وأصحابه وأصحاب الحسين مستريحون مستعدّون.
فثاروا إليهم وذلك في الغلس، فرموا ساعة ثم حمل عليهم فرسان الحسين، فانهزموا، ووضع فيهم السيف. فكان أوّل أسير الهيضم بن العلاء بن جمهور العجلى، وانهزم رجّالة أهل الكوفة وأكثرهم عراة بغير سلاح ضعفاء القوى خلقان الثياب فداستهم الخيل وانكشف العسكر عن يحيى بن عمر وقد تقطّر به البرذون الذي أخذه من عبد الله بن محمود وعليه جوشن تبّتيّ.
فوقف عليه ابنان لخالد بن عمران ولم يعرفه أحدهما وظنّ أنّه خراسانى لأجل الجوشن فقال له الآخر:
« يا أخي هذا والله أبو الحسين قد انفرج قلبه وهو نازل ما يعرف القصّة لانفراج قلبه. » فأمرا رجلا من أصحابهما فنزل إليه وأخذ رأسه وادّعى قتله جماعة، وحمل رأسه إلى دار محمد بن عبد الله وقد تغيّر. فطلبوا من يقور رأسه ويخرج الحدقة والغلصمة. فلم يقدروا عليه، وهرب الجزّارون وطلب ممّن في السجن من الخرّمية الذبّاحين من يفعل ذلك، فلم يقدم عليه أحد إلّا رجل من عمّال السجن الجديد فإنّه جاء فتولّى إخراج دماغه وعينيه وقوّره وحشى بالصبر والكافور.
ثم أمر بحمل الرأس إلى المستعين وكتب إليه بيده بالفتح ونصب رأسه بباب العامّة بسرّ من رأى. فاجتمع الناس وتذمّروا فحطّ وردّ إلى بغداد لينصب هناك، فلم يتهيّأ ذلك. وذكر لمحمد أنّ الناس قد كثروا واجتمعوا على أخذه فلم ينصبه.
فحكى بعض الطاهريين أنّه حضر مجلس محمد بن عبد الله بن طاهر وهو يهنّئ بقتل يحيى وبالفتح وعنده جماعة الهاشميّين من العبّاسيّين والطالبيّين وغيرهم من الوجوه. فدخل عليه أبو هاشم داود بن الهيثم الجعفري فسمعهم يهنّئونه، فقال:
« أيّها الأمير، إنّك لتهنّأ بقتل رجل لو كان رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png حيّا لعزّى به. »
فما ردّ عليه محمد شيئا فحلم عنه. فخرج وهو يقول:
يا بنى طاهر كلوه وبيّا ** إنّ لحم النّبيّ غير مريّ
وكان المستعين قد وجّه كلباتكين التركيّ مددا للحسين ومستظهرا به، فلحق حسينا بعد أن انهزم القوم وقتل يحيى بن عمر ولحق في طريقه قوما معهم الأسوقة والأطعمة يريدون عسكر يحيى. فوضع فيهم السيف فقتلهم ودخل الكوفة وأراد أن ينهبها ويضع السيف في أهلها، فمنعه من ذلك الحسين وآمن الأسود والأبيض بها وأقام أيّاما حتى أمن الناس ثم انصرف عنها.
-
خروج الحسن بن زيد
وفي هذه السنة كان خروج الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام.
ذكر السبب في خروجه
كان سبب ذلك أنّ محمد بن طاهر لمّا جرى على يده ما جرى من قتل يحيى بن عمر ودخول أصحابه الكوفة، أقطعه المستعين من صوافي السلطان بطبرستان قطائع، وكان فيها قطيعة تقرب من ثغرى طبرستان ما يلي الديلم وهما كلار وشالوس وكان بحذائها أرض لأهل تلك الناحية فيها مرافق محتطبهم ومراعى مواشيهم ومسرح سارحتهم ليس لأحد عليها ملك وإنّما هي صحراء من موتان الأرض، غير أنّها غياض وأشجار وكلأ. وكان وجّه محمد بن عبد الله بن طاهر أخا لكاتبه بشر بن هارون النصراني يقال له:
جابر، لحيازة ما أقطع هناك، وعامل طبرستان سليمان بن عبد الله خليفة محمد بن طاهر بن عبد الله ابن أخي محمد بن عبد الله بن طاهر والمستولى على سليمان بن عبد الله والغالب على أمره محمد بن أوس البلخي، وقد فرّق محمد بن أوس ولده في مدن طبرستان وجعلهم ولاتها وهم أحداث سفهاء.
فتأذّى بهم الرعيّة وأنكروا منهم ومن والدهم ومن سليمان بن عبد الله سيرهم وسوء أثرهم فيهم، ووتر مع ذلك محمد بن أوس الديلم بدخوله إليهم من حدود طبرستان وهم أهل سلم وموادعة على اغترار من الديلم، فأغار عليهم وسبى منهم وقتل فكان ذلك ممّا زاد أهل طبرستان عليه حنقا وغيظا.
فلمّا صار النصراني إلى طبرستان لحيازة ما أقطع صاحبه محمد حاز أيضا ما اتصل به من موات الأرض الذي يرتفق به أهل تلك الناحية، وكان بقرب ثغرين كما ذكرت، وكان بتلك الناحية يومئذ رجلان معروفان بالشجاعة والرأي مذكوران قديما بضبط تلك الناحية ممّن رامها من الديلم، وبإطعام الناس والإحسان إلى من ضوى إليهما يقال له: محمد وجعفر ابنا رستم، فأنكرا ما فعل جابر من حيازة الموات الذي ذكرت وقطع مرافق الناس منه.
وكان ابنا رستم مطاعين، فاستنهضا من أطاعهما وقصدا جابرا ليمنعاه، فهرب جابر ولحق بسليمان بن عبد الله بن طاهر وأيقن محمد وجعفر ابنا رستم في منعهما جابرا ممّا حاوله بالشر وذلك أنّ عامل طبرستان كلّها سليمان بن عبد الله بن طاهر وهو أخو محمد بن عبد الله وعمّ محمد بن طاهر بن عبد الله وإلى خراسان والريّ والمشرق. فلمّا أيقنا بالشرّ راسلا الديلم وذكّراهم وفاءهما لهم بالعهد الذي بينهم وما ركبهم به محمد بن أوس من الغدر والقتل والسبي وأنّهم لا يأمنون عودته ويسألانهم مظاهرتهما عليه وعلى من معه.
فأعلمهم الديلم أنّ ما يلي أرضهم من جميع نواحيها من الأرضين هم عمّال آل طاهر والسلطان الأعظم وأنّ ما سألوا من معاونتهم لا سبيل إليه إلّا بزوال الخوف عنهم من أن يؤتوا من قبل ظهورهم إذا هم اشتغلوا بحرب من بين أيديهم من عمّال سليمان بن عبد الله، فأعلماهم أنّهما لا يغفلان عن كفايتهم ذلك حتى يأمنوا ما خافوه. فأجابهم الديلم إلى ما سألوه وتعاقدوا وأهل كلار وشالوس على حرب من قصدهم. ثم أرسل ابنا رستم إلى رجل من الطالبيّين المقيمين يومئذ بطبرستان يقال له: محمد بن إبراهيم، يدعونه إلى البيعة له، فأبى وقال لهم:
« أنا لا أجيب إلى ما سألتم، ولكني أدلّكم على رجل منّا هو أقوم بما دعوتموني إليه. » فقالوا: « من هو؟ » فأخبرهم أنّه الحسن بن زيد، ودلّهم على منزله بالريّ. فوجّه القوم إلى الريّ برسالتهم ورسالة العلويّ محمد بن إبراهيم، يدعونه إلى الشخوص إلى طبرستان فشخص إليهم الحسن بن زيد وقد صارت كلمة الديلم وأهل كلار وشالوس والرويان على بيعة واحدة فلمّا وافاهم بايعه ابنا رستم وجماعة أهل الثغرين ورؤساء الديلم كجايا والاشلام ووهسوذان بن جستان.
ثم ناهضوا من في تلك النواحي من عمّال ابن أوس فطردوهم عنها فلحقوا بابن أوس وسليمان بن عبد الله وهما بمدينة ساريه، وانضوى إلى الحسن بن زيد مع من بايعه لمّا بلغهم ظهوره كلّ من بجبال طبرستان، كلّها إلّا سكّان جبل فريم، فإنّ ملكهم قارن بن شهريار كان ممتنعا بجبله وأصحابه، فلم ينقد للحسن بن زيد وقوّاده نحو مدينة آمل وهي أوّل مدينة طبرستان ممّا يلي كلار وسالوس من السفح.
وأقبل ابن أوس من سارية إليها يريد دفعه عنها فالتقى جيشاهما في بعض نواحي مدينة آمل ونشبت الحرب بينهم وخالف الحسن بن زيد وجماعة معه موضع المعركة إلى ناحية أخرى، فدخلوها واتصل خبرهم بابن أوس وهو مشغول بحرب من هو في وجهه من رجال الحسن بن زيد. فلم يكن له همّ إلّا النجاء بنفسه واللحاق بسليمان وسارية.
فلمّا دخل الحسن بن زيد آمل كثف جيشه وغلظ أمره وانقضّ إليه كلّ طالب نهب من الصعاليك والحوزيّة وغيرهم. فأقام الحسن بن زيد بآمل أيّاما حتى جبى الخراج واستعدّ.
ثم نهض بمن معه نحو سارية مريدا سارية ومن بها من سليمان وابن أوس، فخرجوا بمن معهم والتقى القوم خارج مدينة سارية ونشبت الحرب بينهم، فخالف الوجه الذي التقى فيه الجيشان بعض قوّاد الحسن بن زيد إلى وجه آخر من وجوه سارية فدخلها برجاله، وانتهى الخبر إلى سليمان ومن معه فطاروا على وجوههم ونجوا بأنفسهم وترك سليمان أهله وعياله وثقله وكلّ ما كان له بسارية من مال وأثاث، فلم تكن له عرجة دون جرجان، وغلب جند الحسن بن زيد على ما كان له ولغيره.
فأمّا عيال سليمان وأهله وآباؤه فإنّ الحسن أمر لهم بمركب حملهم فيه حتى ألحقهم بسليمان وهو بجرجان واجتمع للحسن أمره بطبرستان كلّها.
ثم وجّه الحسن خيلا مع رجل من أهل بيته يقال له: الحسن بن زيد، إلى الريّ فصار إليها وطرد عنها عاملها من قبل الطاهرية واستخلف بها بعض الطالبيّين وانصرف عنها فاجتمعت للحسن بن زيد مع طبرستان الريّ إلى حدّ همذان.
فورد الخبر بذلك على المستعين ومدبّر أمره وصيف التركيّ وكتابه أحمد بن صالح بن شيرزاد. فوجّه إسماعيل بن فراشة في جمع كثير إلى همذان وأمره بالمقام بها وضبطها وذلك أنّ ما وراء عمل همذان كان إلى محمد بن طاهر، بن عبد الله بن طاهر وبه عمّاله وإليه إصلاحه.
فلمّا استقرّ بخليفة الحسن بن زيد القرار بالريّ واسمه محمد بن جعفر، ظهرت منه أمور كرهها أهل الريّ. فوجّه محمد بن طاهر قائدا من خراسان يقال له: محمد بن ميكال وهو أخو الشاه بن ميكال، في جمع عظيم من الخيل والرجّالة إلى الريّ فالتقى هو ومحمد بن جعفر العلوي. فأسر محمد بن ميكال محمد بن جعفر وفضّ جمعه ودخل الريّ.
فوجّه إليه الحسن بن زيد خيلا عليها ويجن قائد من قوّاد أهل الأرز فخرج إليه محمد بن ميكال فهزمه ويجن والتجأ محمد بن ميكال إلى الريّ معتصما، بها فاتبعه ويجن قبل أن يشخص حتى قتله وعادت الريّ إلى أصحاب الحسن بن زيد.
ودخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين
وفيها قتل وصيف وبغا الصغير باغر التركيّ واضطرب الموالي
ذكر السبب في قتله
كان سبب ذلك أنّ باغر كان أحد قتلة المتوكّل فزيد في أرزاقه وأقطع قطائع. فكان ممّا أقطع ضياع بسواد الكوفة، فتضمن تلك الضياع رجل من دهاقين باروسما ونهر الملك بألفي دينار. فوقع بين هذا الدهقان وبين رجل بتلك الناحية يقال له ابن مارمّة شرّ فتناوله ابن مارمّه بمكروه. فحبس ابن مارمّه وقيّد فعمل حتى تخلّص من الحبس وصار إلى سرّ من رأى، فلقى دليل بن يعقوب النصراني وهو يومئذ كاتب بغا الشرابي وصاحب أمره وإليه العسكر يركب إليه القوّاد والعمّال، وكان ابن مارمّه صديقا لدليل وكان باغر أحد قوّاد بغا فمنع دليل باغر من ظلم أحمد بن مارمّه وانتصف له منه فأوغر ذلك بصدر باغر وباين كلّ واحد من دليل وباغر صاحبه بذلك السبب.
وكان باغر شجاعا بطلا عظيم القدر في الأتراك يتوقّاه بغا وغيره ويخافون شرّه، فجاء باغر يوم الثلاثاء لأربع بقين من ذي الحجّة سنة خمسين ومائتين إلى بغا وهو في الحمّام وباغر سكران فانتظره حتى خرج من الحمّام، ثم دخل إليه فقال له:
-
« والله ما لي من قتل دليل من بدّ. » ثم شتمه. فقال له بغا:
« لو أردت قتل ابني فارس ما منعتك منه، فكيف دليل النصرانيّ، ولكن أمر الخليفة وأمري في يده فتصبر حتى أصيّر مكانه إنسانا ثم شأنك به. » ثم وجّه بغا إلى دليل يأمره ألّا يركب فاستخفى، وبعث بغا إلى محمد بن يحيى بن فيروز، وكان ابن فيروز يكتب له قديما، فجعله مكان دليل يوهم باغر أنّه قد عزل دليلا فسكن باغر. ثم أصلح بغا بين باغر ودليل، وباغر يتهدّد دليلا إذا خلا بأصحابه، ثم تلطّف باغر للمستعين ولزم الخدمة في الدار وكره المستعين مكانه لجرأته وقتله المتوكّل. فلمّا كان نوبة بغا في منزله قال المستعين:
« أيّ شيء كان إلى إيتاخ من الأعمال؟ »
فأخبره وصيف فقال:
« ينبغي أن تصيّر هذه الأعمال إلى أبي محمد باغر. » فقال وصيف:
« نعم. » وبلغت القصّة دليلا فركب إلى بغا وقال له:
« أنت في بيتك وهم في تدبير عزلك عن جميع أعمالك، وإذا عزلت فما بقاؤك إلّا أن يقتلوك. » فركب بغا إلى دار الخليفة في اليوم الذي نوبته في منزله بالعشي فقال لوصيف:
« أردت أن تحطّنى عن مرتبتي فتجيء بباغر وتصيّره مكاني، وإنّما باغر عبد من عبيدي. » فقال وصيف:
« ما أردت ذلك ولا علمت ما أراد الخليفة من ذلك. » ثم تعاقد وصيف وبغا على تنحية باغر من الدار وأرجفوا أنّه يؤمّر ويضمّ إليه جيش سوى جيشه ويخلع عليه ويجلس مجلس بغا ووصيف وهما يسمّيان الأميرين، وكان قصد المستعين التقرّب إليه ليأمن ناحيته فأحسّ هو ومن في جنبته بالشرّ فجمع إليه الذين كانوا بايعوه على قتل المتوكّل مع غيرهم. ثم ناظرهم ووكّد البيعة عليهم كما كان وكّدها في قتل المتوكّل. ثم قال:
« الزموا الدار حتى نقتل المستعين وبغا ووصيفا ونجيء بمن نقعده خليفة ليكون الأمر لنا كما هو لهذين اللذين قد استوليا على الدنيا وبقينا نحن في غير شيء. » فبعث إلى المستعين ووصيف فقال لهما:
« إني ما طلبت إليكما أن تجعلانى خليفة وإنّما فعلتما أنتما ذلك وأصحابكما ثم تريدون أن تقتلوني؟ » فحلفا أنّهما ما علما بذلك.
فيقال: إنّ امرأة مطلّقة لباغر بعثت إلى المستعين وبغا بما عزم عليه باغر وبكّر دليل إلى بغا، ووصيف حاضر منزل بغا مع كاتبه، فاتّفق رأيهم على أخذ باغر ونفسين من الأتراك معه وحبسهم حتى يروا رأيهم. فأحضر باغر فأقبل في عدّة.
فلمّا دخل دار بغا منع من الوصول إلى وصيف وبغا وعدل به إلى حمّام فحبس فيه ودعى له بقيد فامتنع عليهم. وبلغ ذلك الأتراك ووثبوا على إصطبل السلطان فأخذوا ما فيه من الدوابّ وانتهبوها وركبوا وحضروا الجوسق بالسلاح. فلمّا أمسوا بعث بغا ووصيف إلى باغر بجماعة وشدخوه بالطبرزينات حتى برد وعملوا على أن يرموا برأسه إليهم إن أقاموا على الشغب.
فلمّا انتهى قتله إلى الأتراك أقاموا على ما هم عليه وأبوا أن ينصرفوا واجتمع رأى المستعين ووصيف وبغا وشاهك على أن ينحدروا إلى بغداد ففعلوا ذلك وانكسر الأتراك لذلك وأظهروا الندم.
ثم صاروا إلى دار دليل بن يعقوب ودور أهل بيته وانتهبوها ونقضوها ثم منعوا من الانحدار إلى بغداد من همّ بذلك، وأخذوا ملّاحا قد أكرى سفينته فصلبوه على دقل سفينته، فامتنع الملّاحون من الانحدار بعده.
واجتمع من كان من الجند والأتراك بسرّ من رأى على المعتزّ فبايعوه، وأقام من كان ببغداد على الوفاء للمستعين.
ذكر الفتنة التي وقعت بين الأتراك وأهل بغداد وما انتهى إليه
لمّا انحدر المستعين وبغا ووصيف وشاهك وأحمد بن صالح بن شيرزاد إلى بغداد نزل المستعين على محمد بن عبد الله بن طاهر في داره. ثم وافى بغداد القوّاد سوى جعفر بن دينار وسليمان بن يحيى بن معاذ مع جلّة الكتّاب والعمّال وبنى هاشم. ووافى أيضا قوّاد الأتراك الذين في ناحية وصيف وبغا.
وكانت رسل وصيف وبغا تتردد إلى سرّ من رأى باستدعاء من بها وإصلاح نيّاتهم وكان كلّ من يرد بغداد يؤمر أن ينزل الجزيرة التي حيال دار محمد بن عبد الله بن طاهر وألّا يصيروا إلى الجسر فيرعبوا العامّة، فإذا اجتمعوا وجّه إليهم زواريق حتى يعبروا فيها.
فلمّا دخل الأتراك الواردون من سرّ من رأى إلى المستعين رموا بأنفسهم بين يديه وخلعوا مناطقهم من أوساطهم تذلّلا وخضوعا وكلّموا المستعين وسألوه الصفح عنهم فقال لهم:
« أنتم أهل بغى وبطر واستقلال للنعم. ألم ترفعوا إليّ في أولادكم فألحقتهم بكم، وهم نحو من ألفى غلام، وفي بناتكم فأمرت باجرائهن مجرى المتزوّجات وهنّ نحو من أربعة آلاف صبيّة، سوى المدركين، وأدررت عليكم الأرزاق حتى سبكت لكم آنية الذهب والفضّة، ومنعت نفسي شهواتها ولذّاتها، كلّ ذلك طلبا لرضاكم وصلاحكم وأنتم تزدادون بغيا وفسادا وتهديدا وإبعادا. » فتضرّعوا وقالوا:
« أمير المؤمنين صادق وقد أخطأنا ونحن الآن نسأله العفو. » فقال المستعين:
« قد عفوت عنكم. » فقال له بايكباك:
« فإن كنت رضيت عنّا وصفحت، فقم معنا إلى سرّ من رأى، فإنّ الأتراك ينتظرونك. » فأومأ محمد بن عبد الله إلى محمد بن أبي عون، فلكز في حلق بايكباك وقال له:
« هكذا يقال لأمير المؤمنين: قم معنا فاركب؟ » فضحك المستعين وقال:
« هؤلاء قوم عجم، لا يؤخذون بمعرفة حدود الكلام وأدائه. » ثم قال لهم المستعين:
« يصير من بسرّ من رأى فأرزاقهم دارّة عليهم، وأنظر أنا في أمري هاهنا. » فانصرفوا وقد أغضبهم ما كان من محمد بن عبد الله ومضوا إلى سرّ من رأى وحرّضوا الأتراك على مخالفته، واجتمع رأيهم على إتمام البيعة لأبي عبد الله المعتزّ فأخرجوه والمؤيّد من الحبس فأخذوا من شعرهما، وكان قد طال، وبايعوه وأمر لهم بمال البيعة وكان المستعين خلّف بسرّ من رأى ما كان حمل من الموصل ومن الشام وهو خمسمائة ألف دينار وفي بيت مال أمّ المستعين قيمة ألفي ألف دينار وفي بيت مال ابن المستعين قيمة ستمائة ألف دينار وكتب نسخة البيعة التي أخذت للمعتزّ بسرّ من رأى على النسخة المعروفة.
وأحضر أبو أحمد بن الرشيد محمولا في محفّة وأمر بالبيعة فامتنع، وقال للمعتزّ:
« بل كنت مكرها وخفت السيف. » فقال أبو أحمد:
« ما علمت أنّك أكرهت وقد بايعنا هذا الرجل. أفتريد أن نطلّق نسائنا وتخرجنا عن أموالنا ولا ندري ما يكون أن تركتني على أمري حتى يجتمع الناس وإلّا فهذا السيف. » فقال المعتزّ:
« اتركوه. » فردّ إلى منزله من غير بيعة.
-
لمّا بايع المعتزّ الأتراك ولّى عمّاله وأصحاب دواوينه، واتصل محمد بن عبد الله خبر البيعة للمعتزّ وتوجيهه العمّال. فأمر بقطع الميرة عن أهل سرّ من رأى وكتب إلى مالك بن طوق بالمصير إلى بغداد هو ومن معه من أهل بيته وجنده والى نجوبة بن قيس وهو على الأنبار بالجمع والاحتشاد وإلى سليمان بن عمران الموصلي في جمع السفن ومنع الميرة أن تنحدر إلى سرّ من رأى ومنع أن يصعد شيء من الميرة من بغداد، وأخذت سفينة فيها أرز وسقط فهرب الملّاح وبقيت حتى غرقت. وأمر المستعين محمد بن عبد الله بأن تحصّن بغداد فتقدّم في ذلك فأدير عليها السور من دجلة من باب الشمّاسية إلى سوق الثلاثاء حتى أورده دجلة، ومن باب قطيعة أمّ جعفر حتى أورده قصر حميد. ورتّب على كلّ باب قائدا وجماعة من أصحابه وغير أصحابه، وأمر بحفر الخنادق حول السورين كما يدوران في الجانبين جميعا ومظلّات يأوى إليها الفرسان في الحرّ والمطر. فبلغت النفقة على السورين والخنادق والمظلّات ثلاثمائة ألف دينار وثلاثين ألف دينار، وجعل على باب الشماسية خمس شدّاخات بعرض الطريق فيها العوارض والألواح والمسامير الطوال الظاهرة، وجعل من خارج الباب الثاني بابا معلّقا بقدر الباب ثخينا وقد ألبس صفائح الحديد وشدّ بالحبال كي إن وافى أحد من ذلك الباب أرسل عليه الباب المعلّق فقتل من تحته وجعل على الباب الآخر عرّادة، وعلى الباب الآخر خمسة مجانيق كبارا وفيها واحد كبير سمّوه: الغضبان، وستّ عرّادات يرمى بها إلى ناحية رقّة الشمّاسية وصيّر على باب البردان ثماني عرّادات في كلّ ناحية أربع، وأربع شدّاخات، وكذلك كلّ باب من أبواب بغداد في الجانب الشرقيّ والغربيّ، ووكّل بكل باب قوّاد برجالهم وجعل لكلّ باب من أبوابها دهليزا عليه السقائف يسع مائة فارس ومائة راجل، ولكلّ منجنيق وعرّادة رجالا مرتبين يمدّون حباله، وراميا يرمى إذا كان قتال، وفرض فروضا من قوم من أهل خراسان قدموا حجّاجا فسئلوا المعونة على قتال الأتراك فأعانوا.
وأمر محمد بن عبد الله أن تفرض من العيارين فروض وأن يجعل عليهم عريف ويعمل لهم تراس من البواري المقيّرة وأن تعمل لهم مخال تملأ حجارة. ففعل ذلك وكان الرجل منهم يقوم خلف البارية فلا يرى منها عملت نسائجات أنفق عليها زيادة على مائة دينار، وكان العريف على أصحاب المقيّرة من العيّارين رجلا يقال له: ينتويه.
خليفتان في زمن واحد
وكتب المستعين إلى عمّال الخراج بكلّ بلدة وبكلّ موضع أن يكون حملهم ما يحملون من الأموال إلى السلطان ببغداد دون غيرها، وكتب إلى الأتراك والجند الذين بسرّ من رأى يأمرهم بنقض بيعة المعتزّ ومراجعة الوفاء ببيعتهم، ويذكّرهم أياديه عندهم وينهاهم عن معصيته ونكث بيعته.
وكتب المعتزّ إلى محمد بن عبد الله يدعوه إلى خلع المستعين ويذكره بما أخذه أبوه المتوكّل عليه بعد أخيه المنتصر من العهد وعقد الخلافة.
وأجابه محمد يدعوه إلى الرجوع إلى طاعة المستعين. واحتجّ كلّ واحد منهما باحتجاجات يطول شرحها وبثق محمد بن عبد الله المياه بطسّوح الأنبار وبادوريّا ليقطع طريق الأتراك حين تخوّف ورودهم الأنبار.
وكتب كلّ واحد من المعتزّ والمستعين إلى موسى بن بغا وهو مقيم بأطراف الشام لأنّه كان أخرج إلى حمص لقتال أهلها حين قتلوا عاملهم وعصوا وامتنعوا على السلطان.
وبعث كلّ واحد منهما بعدّة ألوية يعقدها لمن أحبّ. فانصرف إلى المعتزّ وصار معه ولم يزل الأتراك الكبار يصيرون مرّة من حزب المستعين ومرّة من حزب المعتزّ.
وعقد المعتزّ لأخيه أبي أحمد ابن المتوكّل على حرب المستعين وابن طاهر وضمّ إليه الجيش وجعل إليه الأمر والنهى وتدبير الحرب إلى كلباتكين فعسكر بالقاطول في خمسة آلاف من الأتراك والفراغنة وألفين من المغاربة فوافوا عكبرى فصلّى أبو أحمد ودعا للمعتزّ وكتب بذلك فتحا إلى المعتزّ وجعل الأتراك ينتهبون القرى ما بين عكبرى وبغداد وأوانا وهرب الناس منهم وجلّوا عن الغلّات والضياع فخربت وهدمت المنازل وسلب الناس وجرى في ذلك أمر فظيع قبيح.
ولمّا وافى الحسن بن الأفشين مدينة السلام وكّل بباب الشماسية. ثم وافى أبو أحمد في عسكر الشماسية ووافت طلائع الأتراك إلى قريب من باب الشماسية فوجّه محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال فيمن معهما.
فلمّا عاين الأتراك الأعلام والرايات قد أقبلت نحوهم انصرفوا إلى معسكرهم وانصرف الحسين والشاه. ثم وافى باب الشماسية اثنا عشر فارسا من الأتراك فشتموا من هناك ورموهم بسهامهم، وكان محمد تقدم ألّا يبدأهم بقتال، فلمّا فعلوا ذلك وأكثروا من الشتم والرمى أمر علّك صاحب المنجنيق. فرموا بحجر أصاب فقتل واحد منهم فنزل أصحابه فحملوه وانصرفوا إلى معسكرهم. ثم وافى الأتراك باب الشماسية فرموا بالسهام وبحجارة المنجنيق والعرّادات وكان بينهم قتلى وجرحى.
وحمل محمد بن عبد الله الصلات لمن أبلى في الحرب، وأطوقة وأسورة من ذهب، وكان الجرحى في الفريقين متقاربين في العدد، وانهزم عامة أهل بغداد وثبت أصحاب البواري وأحضرت الأتراك منجنيقا فغلبهم عليه الغوغاء وكسروا قائمة من قوائمه وأمر بحمل الآجرّ من قصر الطين وتلك الناحية إلى باب الشماسية، وفتح باب الشماسية وأخرج إلى الآجر من لقطه وردّوه إلى هذا الجانب من السور.
ثم وجّه محمد بن عبد الله الشاه بن ميكال من باب القطيعة وبندارا وخالدا وأمددا بالمبيّضة من أهل بغداد، فحمل الشاه والمبيّضة حملة أزالوا بها الأتراك والمغاربة ومن معهم عن موضعهم وحملت عليهم المبيّضة، فأصحروا بهم. وحمل عليهم الطبرية فخالطوهم وخرج عليهم المبيّضة، فأصحروا بهم. وحمل عليهم الطبرية فخالطوهم وخرج عليه بندار وخالد بن عمران من الكمين وكانوا كمناء من ناحية باب قطربل. فوضعوا في أصحاب أبي أحمد السيف فقتل الأتراك وغيرهم فقتلوهم أبرح قتل ولم يفلت منهم إلّا القليل.
وانتهب المبيّضة عسكرهم وما كان فيه من المتاع والأنفال والمضارب والخرثيّ. فكان من أفلت منهم من السيف ورمى بنفسه في دجلة ليعبر إلى عسكر أبي أحمد أخذه أصحاب السميريات وكانت السميريات قد شحنت بالمقاتلة فقتلوا وأسروا وجعلت القتلى والرؤوس من الأتراك والمغاربة وغيرهم في الزواريق، فنصبت بعضها في الجسر وبعضها على باب محمد بن عبد الله.
وأمر محمد لمن أبلى في هذا اليوم بالأسورة. فسوّر قوم كثير من الجند وغيرهم وطلبت المنهزمة فبلغ بعضهم أوانا وبعضهم إلى عسكر أبي أحمد، وبعضهم نفذ إلى سرّ من رأى. وخلع محمد على قوّاده على كلّ واحد أربع خلع وخرج المبيّضة والعيّارون في طلب ما خلّفه المنهزمة.
فوجّه محمد في آخر هذا اليوم أخاه عبيد الله بن عبد الله في إثرهم حياطة لأهل بغداد لأنّه لم يأمن رجعتهم عليهم وأشير على محمد بن عبد الله أن يتبعهم بعسكر في اليوم الثاني وفي تلك الليلة ليوغل في آثارهم، فأبى ولم يتبع مولّيا ولم يأمر أن يجهز على جريح، وقبل أمان من استأمن وأمر سعيد بن حميد فكتب كتابا يذكر هذه الوقعة، فقرئ على أهل بغداد في مساجد جوامعها.
-
وقدم محمد بن خالد بن يزيد بلد ينتظر من يصير إليه وكان بالجزيرة.
فلمّا كان اضطراب الأتراك ودخول المستعين بغداد لم يمكنه المصير إلى بغداد إلّا من طريق الرقّة، فصار إليها بمن معه من خاصّته. ثم انحدر منها إلى بغداد، فصار إلى محمد بن عبد الله فخلع عليه خمس خلع: ديبقي وملحم وخزّ ووشى وسواد، ثم وجّه به في جيش كثيف لمحاربة أيّوب بن أحمد، فأخذ على طريق الفرات فحاربه أيّوب في نفر يسير فهزمه. فلمّا انتهى خبر هزيمته إلى محمد بن عبد الله قال:
« ليس يفلح أحد من العرب إلّا أن يكون معه نبي ينصره الله به. » وكان للأتراك وقعات بباب الشمّاسية كثيرة يكون مرّة لهم ومرّة عليهم.
وإنّما تركنا ذكرها لأنّها لم تجر بحيلة ولا مكيدة ولا تدبير صائب، وإنّما كانت كالفتن التي تجرى على ما يتفق. وكان الغوغاء اجتمعوا بسرّ من رأى بعد هزيمة الأتراك الأولى لما رأوا ضعف المعتزّ، فانتهبوا سوق أصحاب الحلي والصيارف، فأخذوا جميع ما وجدوا فيها. فاجتمع التجّار إلى إبراهيم المؤيّد أخي المعتزّ فشكوا ذلك وأعلموه أنّهم قد كانوا ضمنوا لهم أموالهم وحفظها عليهم. فقال لهم المؤيّد:
« كان ينبغي لكم أن تحوّلوا متاعكم إلى منازلكم ولم تكن عنده لذلك نكيرة. »
وورد من البصرة سفن بحريّة تسمّى البوارج وهي عشرة، فيها نفّاطون وفي كلّ واحدة نجّار وخبّاز ومقاتلة. فكانوا يرمون الأتراك وعساكرهم بالنيران فانتقلوا من معسكرهم.
ظفر سليمان بعسكر الحسن بن زيد
وفي هذه السنة ظفر سليمان بن عبد الله بعسكر الحسن بن زيد فتنحّى الحسن عن طبرستان ولحق بالديلم. ووردت الكتب على السلطان بالفتح، وكتب نسخة كتاب الفتح على يد محمد بن طاهر. وكان سبب ذلك أنّ أهل آمل لقوا من عسكر الحسن بن زيد عبئا فأتوا سليمان بن عبد الله مظهرين توبة وإنابة، وتاب إليهم خلق كثير من جيشه فنهض إلى الحسن بن زيد بتعبئة وعدّة فهزمه واستولى على بلاد طبرستان وانقطعت أسباب الفتنة عنه.
وظفر محمد بن طاهر أيضا بالطالبيّ الذي كان بالري وأخذه أسيرا وكتب بالفتح.
وفرّق محمد بن عبد الله في الكافر كوبات واستعمل منها شاكرا فرّقه فيهم.
فأثّروا في الأتراك أثرا كبيرا وأحضر ينتويه رئيس العيّارين وسوّر ووصل بخمسمائة درهم وقدم من ناحية الرقّة مزاحم بن خاقان فتلقاه بنو هاشم وكان قدم معه من الخراسانية والأتراك والمغاربة ألف رجل معهم عتاد الحرب من كل صنف. فدخل بغداد ووصيف عن يمينه وبغا عن شماله ولمّا وصل خلع عليه سبع خلع وقلّد سيفا وخلع على كلّ واحد من ابنيه خمس خلع.
ثم كثرت الوقعات أيضا من أصحاب محمد بن عبد الله وأصحاب أبي أحمد وضرى العيّارون وأصحاب السواري عليهم، فكانوا ينتصفون منهم فرئي غلام لم يبلغ الحلم معه مخلاة فيها حجارة ومقلاع يرمى عنه فلا يخطئ وجوه الأتراك ووجوه دوابّهم واجتمع عليه أربعة من الفرسان الناشبة جعلوا يرمونه فيخطئونه وجعل يرميهم فلا يخطئ وتتقطّر بهم دوابّهم من رميه. فمضوا وحملوا معهم أربعة من رجّالة المغاربة بالرماح، فداخله اثنان منهم فرمى بنفسه في الماء ودخلا خلفه فلم يلحقاه وعبر إلى الجانب الشرقي وصيّح بهما وكبّر الناس فرجع جميعهم ولم يصلوا إليه.
قدوم أبي الساج
وفي هذه السنة قدم أبو الساج من طريق مكة في نحو من سبعمائة فارس ومعه ثمانية عشر محملا فيها ستة وثلاثون أسيرا من أسارى الأعراب في الأغلال فدخل هو وأصحابه بغداد في زي حسن وسلاح ظاهر فخلع عليه خمس خلع وانصرف إلى منزله.
وقدم أيضا بغداد حبشون ومعه يوسف بن يعقوب قوصرّة مولى الهادي فيمن كان مع موسى بن بغا من الشاكرية وانضمّ إليه عامّة الشاكرية المقيمون بالرقّة وهم ألف وثلاثمائة، فخلع عليه خمس خلع وعلى جماعة من الوجوه وانصرفوا إلى منازلهم.
وخلع على أبي الساج ديوداذ وعلى ابن فراشه، وعسكر أبو الساج في سوق الثلاثاء وأعطى بغالا من بغال السلطان حمل عليها الرجّالة وأمر بالخروج إلى المدائن لضبطها. فحكى أنّ أبا الساج لمّا أمره محمد بن عبد الله بالشخوص إلى المدائن قال له:
« أيّها الأمير عندي مشورة أشير بها. » قال: « قل يا أبا جعفر فإنك غير متّهم. » قال: « إن كنت تريد أن تجادّ هؤلاء القوم فالرأي لك ألّا تفارق قوّاده ولا تفرقهم، واجمعهم حتى تفضّ هذا العسكر الذي بازائك، فإنك إذا فرغت من هؤلاء فما أقدرك على من وراءك. » فقال: « لي تدبير والله الكافي. » فقال له أبو الساج:
« السمع والطاعة. » ومضى لما أمره به.
فلمّا صار إلى المدائن ثم إلى الصيّادة ابتدأ في حفر خندق كسرى وكتب يستمدّ فوجّه إليه خمسمائة رجل. وكان شخوصه في ثلاثة آلاف فارس وراجل ثم استمدّ حتى حصل في عسكره ثلاثة آلاف فارس وألفا راجل.
ووجّه محمد بن عبد الله إلى الأنبار نجوبة بن قيس في الأعراب وأمره بالمقام بها والفرض لأعراب الناحية، فأثبت نحوا من ألفى رجل وأقام بالأنبار وضبطها فبلغه أنّ قوما من الأتراك قصدوه فبثق الماء من الفرات إلى خندق الأنبار وفاض من الصحارى إلى ناحية السيلحين. فصار ما يلي الأنبار بطيحة، وقطع القناطر وكتب يستمدّ فندب للخروج إليه رشيد بن كاوس أخو الأفشين في ألف رجل وأمدّه ابن طاهر بثلاثمائة رجل انتخبهم من القادمين من الثغور. فرحل، وأخرج المعتزّ أبا نصر بن بغا من سرّ من رأى على طريق الإسحاقى فسار يومه وليلته، وصبّح الأنبار ساعة وصل رشيد فنزل رشيد خارج المدينة وكان نجوبة نازلا المدينة.
فلمّا وافى أبو نصر عاجل رشيدا وهم غارّون على غير تعبئة فوضع فيهم السيف وثار أصحاب رشيد إلى سلاحهم فقاتلوا الأتراك والمغاربة أشدّ قتال وقتلوا منهم جماعة، ثم انهزم الشاكرية ورشيد على الطريق الذي جاءوا منه وبلغ نجوبة ما لقي رشيد وأصحابه، فعبر إلى الجانب الغربي وقطع جسر الأنبار وصار رشيد إلى المحوّل وسار نجوبة في الجانب الغربي حتى وافى بغداد ودخل رشيد في هذه العشية إلى دار ابن طاهر وأعلم نجوبة محمد بن عبد الله أنّه عند مصير الأتراك إلى الأنبار وجّه إلى رشيد يسأله أن يوجّه إليه مائة رجل من الناشبة ليرتّبهم قدّام أصحابه فأبى ذلك، ثم سأل أن يضمّ إليه ناشبة ليصير إلى بنى عمّه فإنّهم مقيمون على الطاعة في الجانب الغربي وضمن أن يتلافى ما كان منه، فضمّ إليه ثلاثمائة رجل من الناشبة والفرسان مع رجّالة منهم.
-
فمضى إلى قصر أبي هبيرة يستعدّ هناك واختار محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل للأنبار ووجّه معه محمد بن رجاء الحصارى وعبد الله بن نصر بن حمزة ورشيد بن كاوس وجماعة من أهل النجدة وأمر للناس برزق أربعة أشهر ممّن يخرج مع الحسين. فامتنع من قدم من الثغور من قبض رزق أربعة أشهر لأنّ أكثرهم كانوا بغير دوابّ وقالوا نحتاج أن نقوّى في أنفسنا ونشتري دوابّ، فوعدهم. ثم أرضوا برزق أربعة أشهر كما بدءوهم.
ثم أحضر الحسين مع قوّاده الكبار وهم نحو من عشرين قائدا فخلع عليه وقدّمت مرتبته إلى الفوج الثاني وكان في الفوج الرابع وصيّر رشيد على المقدّمة ومحمد بن رجاء على الساقة وخرج الحسين إلى معسكره وأمر وصيف وبغا بتشييعه وأخرج لأهل العسكر من المال ستّة وثلاثون ألف دينار وسار الحسين وكان أهل الأنبار حين تنحّى نجوبة ورشيد وصار الأتراك والمغاربة إلى الأنبار ونادوا:
« الأمان. » وأمروا بفتح حوانيتهم والتسوّق فيها، اطمأنّوا إلى ذلك منهم وسكنوا وطمعوا في أن يفوا لهم، فأقاموا بذلك يومهم وليلتهم حتى أصبحوا ووافت الأنبار سفن من الرقّة فيها دقيق وأطواف فيها زيت، فأخذوا جميعه وانتهبوا ما وجدوا وأخذوا الإبل والبغال والحمير ووجّهوا بذلك مع من يؤدّيه إلى منازلهم بسرّ من رأى مع رؤوس من قتل من أصحاب رشيد ومن أسروا، وكان الأسارى مائة وعشرين رجلا والرؤوس سبعين رأسا، وسار الحسين وانضمّ إليه نجوبة وكان بقصر ابن هبيرة وسأل لأصحابه مالا، فحمل إلى عسكر الحسين ثلاثة آلاف دينار لأصحاب بجونه وحمل إلى الحسين مال وأطواق وأسورة لمن أبلى وأمدّ بالرجال فجاءه أبو السنا محمد بن عبدوس والجحّاف بن سوادة في ألف فارس وراجل وجند انتخبوا من قيادات شتّى ونزل الحسين بعسكره إلى قريب من دممّا.
ذكر رأي أشير به عليه صواب
فأشار عليه رشيد والقوّاد أن ينزل عسكره بذلك الموضع لسعته وحصانته وأن يسير في قوّاده في خيل جريدة. فإن كان الأمر له كان قادرا أن ينقل عسكره، وإن كان عليه انحاز إلى عسكره ثم راجع عدوّه.
فلم يقبل الرأي وحملهم على المسير من موضعهم ومن الموضعين فرسخان. فلمّا بلغوا الموضع الذي أراد الحسين النزول فيه أمر الناس بالنزول وكانت جواسيس الأتراك في عسكر الحسين فصاروا إليهم فأعلموهم رحيل الحسين، وضيق معسكره الذي نزل به، فوافوهم والناس يحطّون أثقالهم.
فثار أهل العسكر فكانت بينهم قتلى، ثم حمل أصحاب الحسين عليهم فكشفوهم كشفا قبيحا وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وغرق منهم خلق. وكان الأتراك قد كمنوا قوما فخرج الكمين على بقية العسكر فلم تكن لهم همّة إلّا الهرب ولا ملجأ إلّا الفرات. فغرق خلق وقتل جماعة. فأمّا الفرسان فضربوا دوابّهم لا يلوون على شيء والقوّاد ينادونهم يسألونهم الرجعة فلم يرجع أحد. وأبلى محمد بن رجاء ورشيد ونجوبة بلاء حسنا ولم يكن لمن انهزم معقل دون الياسرية على باب بغداد فلم يملك القوّاد أمور أصحابهم فأشفقوا حينئذ على أنفسهم فانثنوا راجعين وراءهم يحمونهم من أدبارهم أن يتبعوا وحوى الأتراك عسكر الحسين. ولقي رجل من التجّار في جماعة ممّن ذهبت أموالهم في عسكر الحسين.
فقال له:
« الحمد لله الذي بيّض وجهك أصعدت في اثنى عشر يوما ورجعت في يوم واحد. » فتغافل عنه.
وأمر ابن طاهر الشاه بن ميكال في صبيحة الليلة التي وافى فيها الحسين أن يتلقاه ويمنعه من دخول بغداد، فلقيه في الطريق فردّه إلى بستان الحروى فأقام يومه. فلمّا كان الليل صار إلى دار ابن طاهر فوبّخه ابن طاهر وأمره بالرجوع إلى الياسرية، ثم أمر بإخراج مال لإعطاء شهر واحد لأهل هذا العسكر، فحملت تسعة آلاف دينار وصار كتاب ديوان العطاء وديوان العرض إلى الياسريّة لعرض الجند وإعطاءهم.
ونودى ببغداد فيمن يدخلها من الجند الذين في عسكر الحسين أن يلحقوا بالحسين في عسكره وأجّلوا ثلاثة أيّام فمن وجد منهم ببغداد بعد ثالثة ضرب ثلاثمائة سوط وقرض اسمه من الديوان فخرج الناس.
وأمر خالد بن عمران في الليلة التي قدم فيها الحسين أن يعسكر بأصحابه بالمحوّل ورحل الحسين وكتب إلى خالد بن عمران أن يرحل متقدّما أمامه فامتنع خالد من ذلك وذكر أنّه لا يبرح حتى يأتيه قائد في جند كثيف فيقيم مكانه لأنّه يتخوّف أن يأتيه الأتراك من خلفه من عسكرهم. وصار إلى الحسين رجل فأخبره أنّ الأتراك قد دلّوا على عدّة مواضع من الفرات تخاض إلى عسكره. فأمر بضرب الرجل مائتي سوط ووكّل بمواضع المخاوض رجلا من قوّاده يقال له الحسن بن عليّ بن يحيى الأرمني في مائة فارس ومائة راجل، فطلع أوّل القوم فخرج إليهم وقد أتاه منهم أربعة عشر علما، فقاتل أصحابه ساعة ووكّل بالقنطرة أبا السنا وأمر أن يمنع من انهزم من العبور فأبى الأتراك المخاضة فرأوا الموكّل بها فتركوه واقفا وصاروا إلى مخاضة أخرى من خلف المتوكّل فصبر الحسين بن علي وقاتل وقيل للحسين بن إسماعيل، فقصد نحوه فلم يصل إليه حتى انهزم وانهزم خالد بن عمران ومنعهم أبو السنا من العبور على القنطرة، فرجع الرجّالة والخراسانية فرموا بأنفسهم في الفرات فغرق من لم يكن يحسن السباحة وعبر من كان يحسنها فنجا عريان، وخرج إلى جزيرة لا يصل منها إلى الشاطئ لما عليه من الأتراك.
-
فذكر عن بعض جند الحسين أنّه قال: بعث الحسين بن عليّ الأرمني إلى الحسين بن إسماعيل:
« إنّ الأتراك قد وافوا المخاضة. » فأتاه الرسول فقال الحاجب:
« الأمير نائم. » فرجع الرسول فأعلمه فردّ رسولا ثانيا. فقال له الحاجب:
« الأمير في المخرج. » فرجع فأخبره فردّ رسولا ثالثا فقال:
« قد خرج من المخرج ونام. »
وجاءت الصبيحة وعبر الأتراك فقعد الحسين في زورق وانحدر واستأمن قوم من الخراسانية رموا ثيابهم وسلاحهم وقعدوا على الشاطئ عراة وشدّ أصحاب أعلام الأتراك حتى ضربوا أعلامهم على مضرب الحسين واقتطعوا السوق ولحق الأتراك أصحاب الحسين فوضعوا فيهم السيف فقتلوا وأسروا نحوا من مائتين وغرق خلق كثير ووافى الحسين والمنهزمة نصف الليل ووافى فلّهم وبقيّتهم بالنهار وفيهم جرحى كثير وفقد جماعة من القوّاد.
وورد كتاب أبي الساج بوقعة كانت له مع الأتراك ورئيسهم بايكباك فهزم الأتراك وقتل بايكباك وغرق منهم خلق كثير فحمل إليه محمد بن عبد الله بن طاهر عشرة آلاف دينار صلة ومعونة وخمسة أبواب خلعية وسيف.
وفي هذه السنة نقبت الأتراك السور الذي عليه أصحاب ابن طاهر من ناحية بغواريا في موضعين ودخلوهما وقاتلهم أصحاب ابن طاهر فهزموهم حتى وافوا باب الأنبار وعليه إبراهيم بن محمد بن مصعب وابن أبي خالد وغيره وهم لا يعلمون بما وراءهم ويقاتلون من بين أيديهم قتالا شديدا. ثم إنّهم علموا بهم فانهزموا لا يلوون على شيء فضرب الأتراك باب الأنبار بالنار فاحترق وأحرقوا ما كان هناك من المجانيق والعرّادات ودخلوا بغداد حتى صاروا إلى باب الحديد من الشارع إلى موضع الدواليب فأحرقوا كلّ شيء قرب من ذلك الموضع من أمامهم ووراءهم ونصبوا أعلامهم وانهزم الناس.
فركب محمد بن طاهر في السلاح ووافاه القوّاد فوجههم إلى باب الأنبار وباب بغواريا وجميع الأبواب التي في الجانب الغربي وشحنها بالرجال، وركب بغا ووصيف والشاه بن ميكال وتوجّهوا إلى هذه الأبواب. فقتل من الأتراك خلق كثير ووجّه برؤوسهم إلى ابن طاهر وكاثرهم الناس حتى أخرجوهم من بغداد بعد أن قتل منهم خلق كثير. فلمّا انصرفوا وكّل بغا بالباب من يحفظه ووجّه في حمل الآجر والجصّ وأمر بسده.
وفيها وافى بغداد بالفردك بن ابرنكجيل الأسروشنى فأمر له محمد بن عبد الله بفرض وضمّ إليه رجالا من الشاكرية وأمر أن يعسكر بالكناسة ويجمع مع المظفر بن سيسل بالياسرية في ضبط تلك الناحية ويكون أمرهما واحدا فاختلفا وكتب كلّ واحد منهما يشكو الآخر ويستعفى من المقام بالكناسة فأفرد بالموضع بالفردك وأعفى المظفّر.
مقتل بالفردك
وفي آخر ليلة بقيت من شهر رمضان من هذه السنة قتل بالفردك.
ذكر السبب في ذلك
كان سبب قتله أنّ أبا نصر ابن بغا لمّا غلب على الأنبار وهزم جيوش ابن طاهر من تلك الناحية فأجلاهم [ عنها ] بثّ خيله ورجاله في أطراف بغداد وصار إلى قصر ابن هبيرة وبها نجوبه بن قيس من قبل ابن طاهر، فهرب منه من غير قتال. ثم صار أبو نصر إلى نهر صرصر واتصل بابن طاهر خبره وخبر وقعة كانت بين أبي الساج والأتراك بجرجرايا وخذلان من معه إيّاه ندب بالفردك إلى اللحاق بأبي الساج والمصير إليه بمن معه، فسار في أصحابه لليلتين بقيتا من شهر رمضان فسار يومه وصبّح المدائن فوافاها مع موافاة الأتراك وبالمدائن أصحاب ابن طاهر، فقاتلهم الأتراك فانهزموا ولحق من فيها من القوّاد بأبي الساج وقاتل قتالا شديدا. فلمّا رأى انهزام من هناك مضى متوجّها نحو أبي الساج فأدرك فقتل وقيل إنّه غرق.
انهزام الترك في وقعة بغداد
وفي هذه السنة كانت وقعة عظيمة لأهل بغداد هزموا فيها الأتراك وانتهبوا فيها عسكرهم.
وكان سبب ذلك أنّ أبواب بغداد كلّها فتحت من الجانبين ونصبت المجانيق والعرّادات في الأبواب كلّها والسيارات في دجلة وخرج منها الجند كلهم وخرج ابن طاهر وبغا ووصيف وتزاحف الفريقان واشتدّت الحرب إلى باب القطيعة، ثم عبروا إلى باب الشمّاسية وقعد ابن طاهر في قبّة ضربت عليه وأقبلت الرماة من بغداد بالناوكية في الزواريق، فربّما انتظم السهم الواحد عدّة منهم فقتلهم فهزم الأتراك وتبعهم أهل بغداد حتى صاروا إلى عسكرهم، فانتهبوا سوقهم وهرب الأتراك على وجوههم لا يلوون على شيء وحملت الرؤوس حتى كثرت. فجعل وصيف وبغا يقولان:
« كلّما جيء برأس ذهب والله الموالي واتّبعهم أهل بغداد إلى الروذبار. » ووقف أبو أحمد ابن المتوكّل يردّ الموالي ويخبرهم أنّهم إن لم يكرّوا لم يبق لهم بقيّة وأنّ القوم يتبعونهم إلى سرّ من رأى. فتراجعوا وثاب بعضهم وأقبلت العامّة تحزّ رؤوس من قتل وجعل محمد بن عبد الله يطوّق كلّ من جاء برأس ويصله حتى كثر ذلك وبدت الكراهة في وجوه من كان مع بغا ووصيف من الأتراك والموالي للأتراك يقدمها علم أحمر.
وأقبلت أعلام للحسن بن الأفشين مع الأعلام التي قد استلبه غلام لشاهك فنسي أن ينكسه، فلمّا رأى الناس العلم الأحمر ومن خلفه توهّموا أنّ الأتراك قد رجعوا عليهم فانهزموا وأراد بعض من وقف أن يقتل غلام شاهك، ففهمه ونكس العلم والناس قد ازدحموا منهزمين وتراجع الأتراك إلى معسكرهم ولم يعلموا بهزيمة أهل بغداد، فحملوا عليهم ووضعت الحرب أوزارها فلم تكن بعد ذلك وقعة.
-
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ ابن طاهر كان يكاتب المعتزّ في الصلح. فلمّا كانت هذه الوقعة أنكرت فكتب أنّه لا يعود بعدها.
ثم أغلقت أبواب بغداد فاشتدّ عليهم الحصار فصاحوا على أبواب ابن طاهر:
« الجوع، الجوع. » وكان الناس يجتمعون في الجزيرة التي تلقاء دار ابن طاهر ويشتمونه.
فراسل ابن طاهر المعتزّ في الصلح واضطرب أمر أهل بغداد فوافى من سرّ من رأى حمّاد بن إسحاق بن حمّاد ووجّه مكانه رهينة عنه أبو سعيد الأنصاري، فلقى حمّاد ومحمد بن طاهر فخلا به ولم يذكر ما جرى بينهما.
ثم انصرف حمّاد إلى عسكر أبي أحمد ورجع أبو سعيد إلى بغداد وأمر ابن طاهر بإطلاق جميع من في الحبوس ممّن كان حبس بسبب ما كان بينه وبين أبي أحمد من الحروب ومعاونته إيّاه فأطلقوا.
وفي غد هذا اليوم اجتمع قوم من رجّالة الجند وكثير من العامّة. أمّا الجند فطلبوا أرزاقهم وأمّا العامّة فشكت سوء الحال التي هم بها من الضيق وغلاء السعر وشدّة الحصار وقالوا:
« إمّا خرجت فقاتلت وإمّا تركتنا نمضي في البلاد. » فوعدهم الخروج أو فتح الباب للصلح ورفق بهم ومنّاهم، ثم اجتمع الجند والناس من العوامّ مرّة أخرى، وكان ابن طاهر قد شحن الجزيرة بالخيل وكذلك باب داره والجسر، فحصر الجزيرة بشر كثير فطردوا من كان ابن طاهر رتّبهم فيها.
ثم صاروا إلى الجسر فطردوا من كان هناك من أصحاب ابن طاهر وصاروا إلى الحبس فمانعهم أبو مالك الموكّل بالمحبس الشرقي فشجّوه وجرجوا دابّتين لأصحابه فدخل داره وخلّاهم فانتهبوا ما في مجلسه. ثم عبر إليهم محمد بن أبي عون فضمن للجند رزق أربعة أشهر فانصرفوا.
ووجّه أبو أحمد خمس سفائن من دقيق وحنطة وشعير وقتّ إلى ابن طاهر فوصلت إليه، ثم علم الناس بما عليه ابن طاهر من خلعه المستعين وبيعته للمعتزّ ووجّه ابن طاهر قوّاده إلى أبي أحمد حتى بايعوه للمعتزّ فخلع على كلّ واحد منهم أربع خلع، وظنّت العامّة أن الصلح جرى بأنّ الخليفة المستعين وانّ المعتزّ ولى عهده بعده.
فلمّا كان بعد ذلك خرج رشيد بن كاوس مع قائدين آخرين ووجّهوا إلى الأتراك بأنّه على المصير إليهم ليكون معهم فوافاه من الأتراك زهاء ألف فارس فخرج إليهم على أنّ الصلح قد وقع فسلّم عليهم وعانق من عرف منهم وأخذوا بلجام دابّته ومضوا به وبابنه في إثره. فلمّا كان من الغد صار رشيد إلى باب الشمّاسية وقال حين كلّم الناس:
« إنّ أمير المؤمنين وأبا أحمد يقرءان عليكم السلام ويقولان لكم: من دخل في طاعتنا قرّبناه ووصلناه ومن أبي ذلك فهو أعلم. » فشتمه العامّة ثم طاف على جميع الأبواب الشرقية بمثل ذلك وهو يشتم في كلّ باب [ ويشتم ] المعتزّ. فلمّا فعل رشيد ذلك علمت العامّة ما عليه ابن طاهر، فمضت إلى الجزيرة التي بحيال دار ابن طاهر فصاحوا به وشتموه أقبح شتم، ثم صاروا إلى بابه ففعلوا مثل ذلك. فخرج إليهم راغب الخادم فحضّهم على ما فعلوا بالمستعين ثم مضى إلى الحظيرة التي فيها الجيش فحضّهم، فصاروا إلى باب ابن طاهر فكشفوا من عليه وردّوهم فلم يبرحوا وقاتلوهم حتى صاروا إلى دهليزه وأرادوا حرق الباب الداخل فلم يجدوا نارا وقد كانوا بالجزيرة الليل كلّه يشتمونه ويتناولونه بالقبيح.
فذكر عن ابن شجاع البلخي قال: كنت عند الأمير ويحدّثني ويسمع ما يقذف به من كلّ إنسان حتى ذكروا اسم أمّه. فضحك ثم قال:
« يا با عبد الله والله ما أدري كيف عرفوا اسم أمي. ولقد كان كثير من جواري أبي العباس عبد الله بن طاهر لا يعرفون اسمها » فقلت له:
« أيّها الأمير ما رأيت أوسع من حلمك. » فقال لي:
« ما رأيت أوفق من الصبر عليهم، ولا بدّ من ذلك. » فلمّا أصبحوا وافوا الباب وصاحوا وصار ابن طاهر إلى المستعين يسأله أن يطّلع عليهم ويسكنهم ويعلمهم ما هو عليه.
« فأشرف عليهم من أعلى الباب وعليه البردة والطويلة وابن طاهر إلى جانبه. فحلف لهم بالله: ما أتّهمه وإني لفى عافية، ما عليّ منه باس وأنّه لم يخلع. » ووعدهم أن يخرج في غد وهو يوم الجمعة فيصلّى بهم ويظهر لهم.
فانصرف عامّتهم بعد قتلى وقعت.
فلمّا كان يوم الجمعة بكّر الناس بالصياح يطلبون المستعين وانتهبوا دوابّ عليّ بن جهشيار وجميع ما كان في منزله وهرب ولم يزل الناس وقوفا إلى أن ارتفع النهار، فوافى وصيف وبغا وأولادهما وقوّادهما ومواليهما وأخوال المستعين، فصاروا مع الناس جميعا إلى الباب فدخل وصيف وبغا في خاصّتهما ودخل أخوال المستعين معهم إلى الدهليز فوقفوا على دوابّهم وأعلم ابن طاهر بمكان الأخوال فأذن لهم فأبوا وقالوا:
« ليس هذا يوم نزول عن ظهور دوابّنا إلّا بعد أن نعرف نحن والعامّة حقيقة أمرنا. » فلم تزل الرسل تختلف إليهم وهم يأبون. فخرج إليهم محمد بن عبد الله بنفسه وسألهم النزول والدخول إلى المستعين فأعلموه أنّ العامّة قد ضجّت ممّا يبلغها وصحّ عندها ما أنت عليه من خلع المستعين والبيعة للمعتزّ وإرادتك التهويل ليصير الأمر إليه وإدخال الأتراك والمغاربة بغداد فيحكموا فيهم بحكمه واستراب بك أهل بغداد واتّهموك على خليفتهم وأموالهم وأولادهم وأنفسهم وسألوا إخراج الخليفة إليهم ليروه ويكذّبوا ما بلغهم فيه. فلمّا تبيّن محمد بن عبد الله ذلك الأمر ونظر إلى كثرة اجتماع الناس وضجّتهم سأل المستعين الخروج إليهم فخرج إلى دار العامّة التي كان يدخلها جميع الناس فنصب له فيها كرسيّ وأدخل إليه جماعة من الناس فنظروا إليه.
ثم خرجوا إلى من وراءهم فأعلموهم صحّته فلم يقنعوا بذلك وعرف ابن طاهر كثرة الناس وأنّهم لا يسكنون فأمر بإغلاق باب الحديد الخارج فأغلق وصار هو وأخواله ومحمد بن موسى المنجّم وغيرهم إلى الدرجة التي تفضى إلى سطوح دار العامّة وخزائن السلاح. ثم نصبت لهم سلاليم على سطوح المسجد الذي يجلس فيه محمد بن عبد الله فأشرف المستعين على الناس وعليه سواد وفوق السواد بردة النّبى http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png ومعه القضيب وتكلّم الناس وكلّمهم وناشدهم وسألهم بحقّ صاحب هذه البردة إلّا انصرفوا، فإنّه في أمن وسلامة ولا بأس عليه من محمد بن عبد الله.
فسألوه الركوب معهم والخروج من دار محمد بن عبد الله، فإنّهم لا يأمنونه عليه. فأعلمهم أنّه على النقلة منها إلى دار عمّته أمّ حبيب بنت الرشيد بعد أن يصلح له ما ينبغي، وبعد أن تحوّل أمواله وخزائنه وسلاحه وفرشه وجميع ما له في دار محمد. فانصرف الناس وسكن أهل بغداد.
ولمّا فعل أهل بغداد ما فعلوا من اجتماعهم على ابن طاهر مرّة بعد مرّة وإسماعهم إيّاه المكروه وتقدّم إلى أصحاب المعاون ببغداد بتسخير ما قدروا عليه من الإبل والبغال والحمير لينتقل عنهم وأشيع أنّه يقصد المدائن، فاجتمع إلى بابه مشايخ الحربية والأرباض يعتذرون إليه ويسألونه الصفح ويذكرون أنّ ذلك كان من فعل الغوغاء والسفهاء لسوء الحال التي كانوا عليها من الضرّ. فردّ عليهم ردّا جميلا وأثنى عليهم وصفح عمّا كان منهم وتقدّم إليهم بالتقدّم إلى شبابهم وسفهاءهم والأخذ على أيديهم، وأجابهم إلى ترك النقلة وكتب إلى أصحاب المعاون بترك التسخير.
وانتقل المستعين من دار محمد بن عبد الله وصار إلى دار رزق الخادم في الرصافة فوصل إليها مساء فأمر للفرسان من الجند حين صار إليها بعشرة دنانير لكلّ فارس وللراجل بخمسة دنانير لكلّ واحد، وركب بركوب المستعين ابن طاهر وبيده الحربة يسير بها بين يديه والقواد خلفه، وأقام مع المستعين ليلة ثم انصرف، ولمّا انتقل المستعين اجتمع الناس والقوّاد وبنو هاشم للمصير إلى ابن طاهر والتسليم عليه وأن يسيروا معه إذا ركب إلى الرصافة. فصاروا إليه وحضر الضحى الأكبر من ذلك اليوم، فركب ابن طاهر وجميع قوّاده في تعبئة وحوله ناشبة رجّالة. فلمّا خرج من داره وقف الناس فعاتبهم ثم حلف لهم أنّه ما أضمر لأمير المؤمنين أعزّه الله ولا لولد له ولا لأحد من الناس سوءا وأنّه ما يريد إلّا إصلاح أحوالهم وما تدوم به النعمة عليهم وأنّهم قد توهّموا عليه ما لم يعرفه حتى أبكى عيون الناس فدعوا له.
ثم ركب وعبر الجسر فصار إلى المستعين.
-
وذكر أنّ المستعين كان كارها للنقلة عن دار محمد بن عبد الله ولكنّه انتقل من أجل أنّ الناس ركبوا الزواريق بالنفّاطين ليضربوا روشن ابن طاهر بالنار لما صعب عليه فتح الباب وكان يسمع دائما شتم الناس له وتناولهم عرضه بالقبيح. ثم إنّ قوما وقفوا بباب الشمّاسية من قبل أبي أحمد فطلبوا ابن طاهر ليكلّموه. فكتب صالح إلى وصيف يعلمه خبر القوم ويسأله أن يعلم المستعين ذلك ليأمر فيه بما يرى، فردّ المستعين الأمر فيه إليه وقال:
« إنّ التدبير في جميع أموره مردود إليه. » فتقدّم فيه محمد بما رأى.
ولم يزل بعد ذلك أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد وعبد الله بن يحيى يفتلون في الذروة والغارب ويشيرون على محمد بالصلح. فذكر قوم أنّهم سألوا سعيد بن حميد بعد ذلك بدهر وقالوا:
« ما ينبغي أن يكون محمد إلّا مداهنا وأنّه كان انطوى على غلّ في أوّل أمره. » فقال: « وددت أنّه كان كذلك، لا والله ما هو إلّا أن هزم أصحابه من المدائن والأنبار حتى توالت الهزائم عليه. » فأجاب القوم بعد أن كان قد جادّهم.
وحكى أحمد بن يحيى النحوي وكان يؤدّب ولد ابن طاهر: أنّ محمد بن عبد الله لم يزل جادّا في نصرة المستعين حتى أحفظه عبد الله بن يحيى بن خاقان، فقال له:
« أطال الله بقاءك، إنّ هذا الذي تنصره بجدك وجهدك من أشدّ الناس نفاقا وأخبثهم دينا. والله لقد أمر وصيفا وبغا بقتلك فاستعظما ذلك ولم يفعلاه فإن شككت في ذلك فسل تخبر، ومن ظاهر نفاقه أنّه كان بسرّ من رأي لا يجهر في صلاته ب: بسم الله الرحمن الرحيم، فلمّا صار إليك جهر بها مراءاة لك، ويترك نصرة وليّك وتربيتك وصهرك. » ونحو ذلك من الكلام.
فقال محمد بن عبد الله:
« هذا ما يصلح لدين ولا لدنيا. » فكان أوّل ما صدّ محمدا عن الجدّ في أمر المستعين. ثم ظاهر عبد الله بن يحيى على ذلك أحمد بن إسرائيل والحسن بن مخلد حتى صرفوه عن رأيه في نصرة المستعين.
وركب محمد بن عبد الله يوما إلى المستعين وحضر عدّة من الفقهاء والقضاة. فقال للمستعين:
« قد كنت فارقتني على أن تنفذ أمري في كلّ ما أعزم عليه، ولك عندي بخطّك رقعة بذلك. » فقال المستعين:
« أحضر الرقعة. » فأحضرها فإذا فيها ذكر الصلح وليس فيها ذكر الخلع. فقال:
« نعم أنفذ الصلح. » فقام ابن الجبلي فقال:
« يا أمير المؤمنين إنّه يسألك أن تخلع قميصا قمّصكه والله عز وجل. » وتكلّم قوم وتكلّم عليّ بن يحيى المنجّم فأغلظ لمحمد بن عبد الله فاحتمله ثم ضرب لمحمد بن عبد الله بباب الشمّاسية مضرب كبير أحمر وخرج مع مائتي فارس ومائتي راجل إلى المضرب، وجاءه أبو أحمد فخرج إليه ودخل معه المضرب ووقف الجند الذين مع كلّ واحد منهما ناحية. فتناظر ابن طاهر وأبوه أحمد طويلا ثم خرجا من المضرب وانصرف ابن طاهر إلى داره في زلال. ثم ركب من داره ومضى إلى المستعين يخبره بما دار بينه وبين أبي أحمد، فأقام عنده إلى العصر ثم انصرف.
فحكى أنّه فارقه على أن يعطى خمسين ألف دينار ويقطع غلّة ثلاثين ألف دينار في السنة على أن يكون مقامه ببغداد حتى يحمل له مال يعطى الجند وعلى أن يولى بغا مكّة والمدينة والحجاز ووصيف الجبل، ويكون ثلث ما يجيء من المال لمحمد بن عبد الله وجند بغداد والثلثان للموالي والأتراك.
ثم ركب ابن طاهر في ذي الحجّة من هذه السنة ليناظره في الخلع، فناظره فامتنع عليه، وظنّ المستعين أنّ بغا ووصيفا معه فكاشفاه. فقال المستعين:
« هذه عنقي والسيف [ والنطع ]. » فلمّا رأى امتناعه انصرف عنه.
وبعث المستعين إلى ابن طاهر بعليّ بن يحيى وقوم من ثقاته وقال لهم:
« قولوا: اتّق الله إنّما جئتك لتدفع عني فإن لم تدفع عني فكفّ عني. » فردّ عليه:
« أمّا أنا فأقعد في بيتي ولكن لا بدّ لك من خلعها طائعا أو مكرها. » وذكر عن عليّ بن يحيى أنّه قال:
« قل له إن خلعتها فلا بأس عليها فو الله لقد تمزّقت تمزّقا لا ترقع أبدا وما تركت فيها فضلا. »
إجابة المستعين إلى الخلع
فلمّا رأى المستعين ضعف أمره ولم يجد ناصرا أجاب إلى الخلع على شريطة أشياء سألها. ولم يقنع المستعين إلّا بخروج ابن كردية إلى المعتزّ وهو من ولد المنصور وجماعة معه من ثقاته، وكان في شروطه أن ينزل مدينة الرسول http://upload.wikimedia.org/wikipedi...8%A7%D9%85.png وأن يكون مضطربه من مكّة إلى المدينة ومن مدينة إلى مكّة. فأجابه إلى ذلك. وكان سبب استجابة المستعين إلى الخلع أنّ وصيفا وبغا وابن طاهر أشاروا عليه بذلك فأغلظ لهم، فقال له وصيف:
« أنت أمرتنا بقتل باغر فصرنا إلى ما نحن فيه وأنت عرّضتنا لقتل أوتامش وقلت إنّ محمدا ليس بناصح فاقتلوه. » فقال محمد:
-
« وقد قلت إنّ الأمر لا يصلح إلّا بالاستراحة من هذين. » فلمّا اجتمعت كلمتهم أذعن بالخلع.
ولمّا كان يوم السبت لعشر بقين من ذي الحجّة، ركب محمد بن عبد الله إلى الرصافة وجميع القضاة والفقهاء، فأدخلهم إلى المستعين فوجا فوجا وأشهدهم عليه أنّه قد صيّر أمره إلى محمد بن عبد الله، ثم أدخل البوّابين والخدم وأخذ منه جوهر الخلافة وأقام عنده حتى مضى هوّى من الليل وأرجف الناس ضروب الأراجيف. ثم بعث ابن طاهر إلى قوّاده فجاء كلّ قائد ومعه عشرة من وجوه أصحابه فأدخلهم إليه ومنّاهم وقال:
« إنّما فعلت ما فعلت طلب صلاحكم وسلامتكم وحقن الدماء. » ثم أخرج قوما ثقات إلى المعتزّ، فمضوا إليه بالكتاب الذي فيه شروط المستعين ومحمد، فوقّع فيه المعتزّ بخطّه وأمضى كلّ ما سألاه وشهدوا عليه بإقراره لهما بذلك كلّه، وخلع المعتزّ على الرسل ولم ينظر لهم في حاجة ولا أطلق لهم جائزة ولم يأمر للجند بشيء.
وحمل إلى المستعين أمّه وابناه وعياله، بعد ما فتّش عياله، فأخذ منهم ما كان معهم.
خلافة المعتز
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائتين
وفيها خلع المستعين أحمد بن محمد بن المعتصم نفسه من الخلافة وبايع المعتزّ محمد بن جعفر المتوكّل بن محمد المعتصم فدعى للمعتزّ على منبري بغداد ومسجدى جانبيها الشرقي والغربي، وأخذت البيعة على من كان بها من الجند.
فذكر أنّ ابن طاهر دخل على المستعين، ومعه سعيد بن حميد، حين كتب شروط الأمان فقال له:
« يا أمير المؤمنين قد كتب سعيد بن حميد كتاب الشرط ووكّده غاية التوكيد فيقرأه عليك وتسمعه. » فقال له المستعين:
« لا عليك إلّا توكّده يا با العباس، فما القوم بأعلم بالله منك، وقد وكّدت على نفسك قبلهم، فكان ما قد علمت. » فما ردّ عليه محمد شيئا.
ولمّا بايع المستعين المعتزّ نقل من الرّصافة إلى قصر الحسن ووكّل به وأخذ منه البردة والخاتم والقضيب ووجّه بها مع عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، وكتب معه كتابا من محمد، نسخته:
« بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله متمّم النعم والهادي إلى شكره وصلّى الله على محمد عبده ورسوله الذي جمع له من الفضل ما فرّقه في الرسل قبله، وجعل تراثه راجعا إلى من خصّه بخلافته وسلّم تسليما. كتابي إلى أمير المؤمنين، وقد تمّم الله له أمره وتسلّمت تراث رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png ممّن كان عنده وأنفذته إلى أمير المؤمنين مع عبيد الله بن عبد الله مولى أمير المؤمنين وعبده. » ومنع المستعين الخروج إلى مكّة فاختار البصرة فنزلها.
واستوزر المعتزّ أحمد بن إسرائيل وخلع عليه ووضع على رأسه تاجا، وشخص أبو أحمد إلى سرّ من رأى من معسكره وشيّعه محمد بن عبد الله، وخلع على محمد بن عبد الله خمس خلع وسيفا ورجع من الروذبار.
ولمّا وصل أبو أحمد إلى سرّ من رأى خلع عليه ستّ خلع وسيف وتوّج بتاج وقلنسوة مجوهرة ووشّح بوشاحى ذهب مجوهر وقلّد سيفا آخر مرصّعا بالجوهر وأجلس على كرسيّ وخلع على القوّاد الذين كانوا معه.
وكتب المعتزّ إلى محمد بن عبد الله أن يسقط وصيف وبغا ومن برسمهما من الدواوين. وتكلّم أبو أحمد بن المتوكّل في قتلهما وخاطب محمد بن أبي عون في ذلك فوعده بقتلهما، فكوتب وصيف وبغا بالخبر فركبا إلى ابن طاهر وقالا:
« قد بلغنا أيّها الأمير ما ضمنه ابن أبي عون من قتلنا والقوم قد غدروا، وو الله لو أرادوا قتلنا ما قدروا عليه. »
فحلف محمد لهما أنّه ما علم بشيء من ذلك. وتكلّم بغا بكلام شديد ووصيف يكفّه. ثم نهضا وأخذا في الاستعداد وشرى السلاح وتفرقة الأموال.
وكان وصيف وجّه أخته فأخرجت من قصر أخيها وصيف ألف ألف دينار كانت مدفونة فيه. فدفعتها إلى المؤيّد فكلّم المؤيّد المعتزّ في الرضا عن وصيف، فكتب بالرضا عنه.
وتكلّم أبو أحمد في الرضا عن بغا. ثم اجتمع الأتراك على المعتزّ فسألوه الأمر بإحضارهما، وقالوا:
« هما كبيرانا ورئيسانا. » فكتب إليهما بذلك، فلمّا صار إلى سرّ من رأى اجتمع الموالي، وسألوا ردّهما إلى مراتبهما، فأجيبوا الى ذلك وبعث إليهما فخلع عليهما خلع المرتبة ورتّبا في مرتبتهما التي كانت قبل مصيرهما إلى بغداد وأمر بردّ ضياعهما.
وفي هذه السنة شغب الجند على محمد بن عبد الله بن طاهر، وطالبوا بأرزاقهم وعظم الخطب في ذلك حتى خرجوا إلى باب حرب وباب الشمّاسية ومعهم الأعلام والطبول وضربوا المضارب والخيم، وبنوا بيوتا من بواريّ وقصب، وجمع ابن طاهر أصحابه فبيّتهم في داره.
فلمّا كان يوم الجمعة اجتمعوا وعزموا على المصير إلى المدينة ليمضوا إلى المسجد الجامع فيمنعوه من الدعاء للمعتزّ. فأعلمهم جعفر أنّه لا يقدر على الخروج إلى الصلاة، فانصرفوا عنه وصاروا إلى الشارع النافذ إلى دار الرقيق ثم قصدوا الجسر.
فوجّه إليهم محمد بن عبد الله بن طاهر جماعة من القوّاد والجند ليناظروهم ويدفعوهم دفعا رفيقا. فحملوا عليهم وجرحوا منهم جماعة وجرحوا أبا السنا وكبّروا وصاروا إلى دار ابن طاهر فقوتلوا، وقتل من الفريقين جماعة.
وصار جماعة من الغوغاء إلى مجلس الشرطة، فكسروا بيت الرفوع وانتهبوا ما فيه، وكان هناك أصناف من المتاع، كبير جليل، وأحرق محمد بن طاهر الجسرين لمّا رأى الجند يعبرون وقد ظهروا على أصحابه وضرب عدّة من الحوانيت بالنار للتجّار فيها متاع كثير لهم، فحالت النار بين الفريقين، وانصرف القوم إلى مضاربهم بباب حرب والشمّاسية. وانضمّ إلى ابن طاهر جماعة وعاد إليه قوم من المشغّبة وعبّأهم تعبئة الحروب خوفا من كثرة الجند، فلم تكن لهم عودة، وتلطّف القوّاد في التضريب بينهم، حتى تفرّقوا وصاروا إلى منازلهم.
خلع المعتز أخاه المؤيد من ولاية العهد
وفي رجب من هذه السنة خلع المعتزّ أخاه المؤيّد من ولاية العهد بعده.
-
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ عامل أرمينية وأذربيجان، وهو العلاء بن أحمد، بعث إلى إبراهيم بن المتوكّل المؤيّد بخمسة آلاف دينار ليصلح بها أمره.
فبعث ابن فرّخان شاه إليها فأخذها. فأغرى المؤيّد الأتراك بعيسى بن فرّخانشاه، فشكا ذلك إلى المعتزّ وعرّفه الحال.
فبعث المعتزّ إلى أخويه المؤيّد وأبي أحمد فحبسهما في الجوسق، وقيّد المؤيّد وصيّره في حجرة ضيّقة وأدرّ العطاء للأتراك والمغاربة وحبس كنجور صاحب المؤيّد، وتوفّى إبراهيم المؤيّد.
ذكر سبب وفاة المؤيد
ذكر أنّ امرأة من نساء الأتراك جاءت إلى محمد بن راشد المغربيّ، فأخبرته أنّ الأتراك يريدون إخراج المؤيّد من الحبس فركب محمد بن راشد إلى المعتزّ، فأعلمه ذلك، فدعا بموسى بن بغا وسأله فأنكر وقال:
« يا أمير المؤمنين إنّما أرادوا أن يخرجوا أبا أحمد بن المتوكّل لأنسهم كان به في الحرب التي كانت، فأمّا المؤيّد فلا. » فلمّا كان يوم الخميس لثمان بقين من رجب، دعا بالقضاة والفقهاء والوجوه فأخرج إليهم إبراهيم المؤيّد ميتا لا أثر به ولا جرح. فذكر أنّه أدرج في لحاف سمّور، ثم أمسك طرفاه حتى مات. وقيل: إنّه أجلس على الثلج ونضّدت حجارة الثلج عليه، فجمد بردا.
وفي شوال منها قتل المستعين
ذكر السبب في قتله
اختلف في قتله. فقال قوم: كوتب محمد بن عبد الله بتسليم المستعين إلى منصور بن حمزة وهو على واسط، ثم وجّه أحمد بن طولون التركيّ في جيش فوافى به القاطول. وقيل بل كان أحمد بن طولون موكّلا بالمستعين، فوجّه سعيد بن صالح في حمله فصار إليه سعيد فحمله. فيقال: إنّه قتله سعيد بالقاطول. ويقال: بل حمله سعيد إلى منزله بسرّ من رأى فعذّبه حتى مات. ويقال: بل غرّقه، ويقال: بل قتله. وأتى المعتزّ برأسه وهو يلعب بالشطرنج فقيل:
« هذا رأس المخلوع. » فقال: « ضعوه هناك. » ثم فرغ من لعبه فدعا به فنظر إليه ثم أمر بدفنه وأمر لسعيد بخمسة آلاف درهم وولّاه معونة البصرة.
وفي هذه السنة كانت بين المغاربة والأتراك ملحمة
ذكر السبب في ذلك
كانت الأتراك وثبت على عيسى بن فرّخانشاه فتناولوه بالضرب وأخذوا دوابّه. فاجتمعت المغاربة وتكلّمت ورئيسهم محمد بن راشد ونصر بن سعيد.
فقالوا:
« في كلّ يوم تقتلون خليفة وتخلعون خليفة وتقتلون وزيرا وتثبون بآخر. » فغلبوا الأتراك على الجوسق وأخرجوهم منه. ثم وثبوا على بيت المال، وأخذوا دوابّ للأتراك وأرسلوا إلى من بالكرخ والدور منهم. فالتقوا مع المغاربة وتقاتلوا، فقتل من المغاربة رجل واحد وأخذت المغاربة قاتله وأعانت العامّة المغاربة. فأصلح جعفر بن عبد الواحد بين الفريقين فاصطلحوا على أن يكون في كلّ موضع يكون فيه واحد من قبل أحد الفريقين يكون معه آخر من الفريق الآخر. فمكثوا على ذلك مدة مديدة ثم اجتمع الأتراك إلى بايكباك فقالوا:
« نطلب هذين الرأسين، فإن ظفرنا بهما فليس ينطق أحد. » يعنون محمد بن راشد ونصر بن سعيد. فبلغ أمر الأتراك هذين، فصارا إلى محمد بن عزّون فغمز بهما إلى بايكباك رجل، وقيل: بل كان ابن عزّون هو الذي دسّ إلى الأتراك من دلّهم عليها فقتلوهما. وبلغ ذلك المعتزّ من فعل ابن عزّون، فهمّ بقتله. ثم كلّم فيه فنفاه إلى بغداد ثم خاف فخرج إلى ضيعة له بالكوفة لها حصن. فوافاه فيها الأعراب فقتلوه.
وذكر أنّ أرزاق الأتراك والمغاربة والشاكرية قدّرت في هذه السنة، فكان مبلغ ما يحتاجون إليه في السنة مائتي ألف ألف دينار وذلك خراج المملكة لسنتين.
ودخلت سنة ثلاث وخمسين ومائتين
وفيها عقد المعتزّ في اليوم الرابع من رجب لموسى بن بغا الكبير على الجبل لحرب عبد العزيز بن أبي دلف، ومع موسى يومئذ من الأتراك ومن يجرى مجراهم ألفان وأربعمائة وثلاثة وثلاثون رجلا، منهم مع مفلح ألف ومائة وثلاثون رجلا. فأوقع مفلح - وهو على مقدّمة موسى بن بغا - بعبد العزيز بن أبي دلف لثمان بقين من رجب من هذه السنة، وعبد العزيز في زهاء عشرين ألفا. وكانت الوقعة بينهما خارج همذان، فهزمه مفلح ثلاث فراسخ يقتلون ويأسرون. ثم رجع مفلح موفورا بمن معه وكتب بالفتح.
فلمّا كان في شهر رمضان عبّأ مفلح خيله وتوجّه نحو الكرج، ووجّه عبد العزيز عسكرا في أربعة آلاف. وكمن مفلح كمينين، فقاتلهم مفلح وخرج الكمينان فانهزم أصحاب عبد العزيز ووضع فيهم السيف. وأقبل عبد العزيز في جيش ليعين أصحابه، فانهزم بانهزامهم وترك الكرج ومضى إلى قلعة له في جبل الكرج يقال لها: الزر، ونزل مفلح الكرج وأخذ جماعة من آل أبي دلف ونساء من نساءهم. فذكر أنّه وجّه سبعين حملا من الرؤوس إلى سرّ من رأى، وأعلاما كثيرة.
وفي هذه السنة قتل وصيف التركيّ
ذكر الخبر عن ذلك
كان الأتراك والفراغنة شغّبوا. وطلبوا أرزاقهم لأربعة أشهر. فخرج إليهم بغا ووصيف وسيما الشاربى في نحو مائة إنسان، فكلّمهم وصيف وقال:
« ما تريدون. » قالوا: « أرزاقنا. » فقال: « خذوا ترابا، وهل عندنا مال؟ » فقال لهم بغا:
« نعم نسأل أمير المؤمنين ذلك، ثم ينصرف عنكم من ليس منكم، ونتناظر في دار أشناس. » فدخلوا إلى أشناس، ومضى سيما منصرفا إلى سرّ من رأى وتبعه بغا لاستئمار الخليفة في إعطاءهم، وصار وصيف في أيديهم. فضرب ضربتين بالسيف واحتمله نوشرى وهو أحد قوّاده إلى منزله، ثم أبطأ عليهم. فظنّوا أنّه في التعبئة عليهم وقصدهم. فاستخرجوه من منزل نوشرى وضربوه بالطبرزينات حتى كسروا عضديه. ثم ضربوا عنقه ونصبوا رأسه على محراك تنّور، وقصدت العامّة بسرّ من رأي لانتهاب منازل وصيف وولده، فرجع بنو وصيف فمنعوا منازلهم.
وجعل المعتزّ ما كان إليه، إلى بغا الشرابي.
وفي هذه السنة مات محمد بن عبد الله بن طاهر، ليلة كسوف القمر، وذلك لثلاث عشرة خلت من ذي القعدة، غرق القمر كلّه، ومات محمد مع انتهاء غرقه. وكانت علّته من قروح ذبحته في حلقه.
-
انهزام الكوكبي
وفيها لقي موسى بن بغا بقزوين الكوكبيّ الطالبيّ على فرسخ من قزوين، فهزمه، ولحق الكوكبي بالديلم.
ذكر الخبر عن ذلك
كان أصحاب الكوكبي من الديلم أقاموا تراسهم في وجوههم. فلمّا نظر موسى ورأى سهام أصحابه لا تصل إليها أمر بما معه من النفط، فصبّ في الأرض على حشيش كان هناك. ثم أمر أصحابه بالاستطراد لهم. فلمّا فعلوا ذلك ظنّ الكوكبي وأصحابه أنّهم قد انهزموا فتبعوهم، فلمّا علم موسى أنّهم قد توسّطوا النفط أمر بالنار فأشعلت فأحدقت النار فيه، وخرجت من تحت أقدامهم، فجعلت تحرقهم وهرب الباقون، فصارت هزيمة، ودخل موسى قزوين.
ودخلت سنة أربع وخمسين ومائتين
وفيها كان مقتل بغا الشرابيّ.
ذكر مقتل بغا الشرابي
كان بغا يحضّ المعتزّ على المصير إلى بغداد والمعتزّ يأبى ذلك. ثم انّ بغا اشتغل مع صالح بن وصيف في خاصّته لعرس جمعة بنت بغا وكان صالح بن وصيف تزوّجها. فركب المعتزّ ليلا ومعه أحمد بن إسرائيل إلى كرخ سرّ من رأى يريد بايكباك ومن كان على رأيه في الانحراف عن بغا مستخفيا منه.
فلمّا وافى المعتزّ بمن معه الكرخ اجتمع مع بايكباك أهل الكرخ والدور، ثم أقبلوا مع المعتزّ إلى الجوسق بسرّ من رأى، وبلغ ذلك بغا فخرج في غلمانه وهم زهاء خمسمائة ومثلهم من ولده وأصحابه وقوّاده. فصار إلى نهر نيزك ثم تنقّل إلى مواضع، ثم صار إلى السنّ ومعه من العين تسع عشرة بدرة ومائة بدرة دراهم أخذها من بيت ماله وبيوت أموال السلطان، فأنفق منها يسيرا إلى أن قتل.
ولمّا بلغه أنّ المعتزّ قد صار إلى الكرخ مع أحمد بن إسرائيل، خرج في خاصّته إلى تلّ عكبر، ثم مضى إلى السنّ فشكا أصحابه بعضهم إلى بعض ما هم فيه من العسف، وأنّهم لم يخرجوا معهم مضارب ولا ما يتدثّرون به من البرد وإنّهم في شتاء. وكان بغا في مضرب له صغير على دجلة فكان يكون فيه، فأتاه أساتكين فقال:
« أصلح الله الأمير، قد تكلّم أهل العسكر وخاضوا في كذا وأنا رسولهم إليك. » فقال: « كلّهم يقولون مثل قولك؟ » قال: « نعم وإن شئت فابعث إليهم حتى يقولوا مثل قولي. »
قال: « دعني حتى أنظر ويخرج إليكم أمري بالغداة. » فلمّا جنّه الليل دعا بزورق فركبه مع خادمين معه وحمل معه شيئا من المال ولم يحمل معه سلاحا ولا سكّينا ولا عمودا، ولا يعلم أهل عسكره بذلك من أمره، والمعتزّ في غيبة بغا لا ينام إلّا في ثيابه وعليه السلاح ولا يشرب نبيذا وجميع جواريه على رجل. فصار بغا إلى الجسر في الثلث الأوّل. فلمّا قرب الزورق من الجسر بعث الموكلون به من ينظر من في الزورق. ثم صاحوا بالغلام فرجع إليهم وخرج بغا في البستان الخاقاني، فلحقه عدّة منهم، فوقف لهم وقال:
« أنا بغا. » ولحقه وليد المغربيّ فقال له:
« ما لك جعلت فداك؟ » قال: « إمّا أن تذهب بي إلى منزل صالح بن وصيف وإمّا أن تصيروا معي حتى أحسن إليكم. » فوكّل به وليد المغربي، ثم مرّ يركض إلى الجوسق فاستأذن على المعتزّ، فأذن له فقال:
« يا سيدي هذا بغا قد أخذته وقد وكّلت به. » قال: « ويلك جئني برأسه. » فرجع الوليد إليه فقال للموكّلين:
« تنحّوا عني حتى أبلغه الرسالة. » وضربه ضربة على جبهته ثم على يده فقطعها. ثم ضربه حتى صرعه وذبحه وحمل رأسه في بركة قبائه، وأتى به المعتزّ، فوهب له عشرة آلاف دينار، وخلع عليه.
ونصب رأس بغا بسرّ من رأى ثم ببغداد، ووثبت العامّة على جسده فأحرقوه بالنار.
وكان عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قد جعل مكان محمد بن عبد الله بن طاهر بوصيّته، فتتبع بنيه وكانوا صاروا إليها هرّابا مع قوم يثقون بهم.
فأثارهم وحبس قوما في المطبق وقوما في قصر الذهب، وكان سبب انحدار بغا إلى سرّ من رأى مستترا أنّه أشير عليه أن يصير إلى دار صالح بن وصيف، فإذا قرب العيد دخل أهل العسكر وخرج هو وأصحابه فوثبوا بالمعتزّ.
وفي هذه السنة وافى الأهواز دلف بن عبد العزيز بن أبي دلف العجلى بتوجيه والده عبد العزيز إيّاه، فجبى منها ومن جنديسابور وتستر مائتي ألف دينار وانصرف.
ودخلت سنة خمس وخمسين ومائتين
وفيها دخل مفلح طبرستان وواقع الحسن بن زيد الطالبيّ، فهزم مفلح الحسن فلحق بالديلم في طلب الحسن بن زيد.
وقعة بين يعقوب بن الليث وطوق بن المغلس
وفيها كانت بين يعقوب بن الليث وطوق بن المغلّس وقعة خارج كرمان أسر فيها يعقوب طوقا.
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ عليّ بن الحسين بن قريش بن شبل كتب إلى السلطان يخطب كرمان، وكان قبل من عمّال آل طاهر، ثم كتب إلى السلطان يذكر ضعف آل طاهر وقلّة ضبطهم ما إليهم من البلاد، وأنّ يعقوب بن الليث قد غلبهم على سجستان، وتباطأ على السلطان بتوجيه خراج فارس.
فكتب السلطان إليه بولايته كرمان وكتب أيضا إلى يعقوب بولايتها يلتمس بذلك إغراء كلّ واحد منهما بصاحبه لتسقط مؤونة الهالك منهما عنه ويتفرّد بمؤونة الآخر، إذ كان كلّ واحد منهما عنده حربا له وفي غير طاعته. فلمّا فعل ذلك بهما زحف يعقوب من سجستان يريد كرمان ووجّه عليّ بن الحسين طوق بن المغلّس وقد بلغه خبر يعقوب وفصوله من سجستان.
فصار من كرمان على مرحلة وبقي في معسكره ذلك شهرا أو أكثر يتجسّس أخبار طوق ويسأل عن أمره كلّ من مرّ به خارجا من كرمان إلى ناحيته، ولا يدع أحدا يجوز بعسكره من ناحيته إلى كرمان. فلا يزحف طوق إليه ولا هو إلى طوق.
ثم أظهر يعقوب الارتحال عن عسكره إلى ناحية سجستان فارتحل عنه مرحلة وبلغ طوقا ارتحاله. فظنّ أنّه قد بدا له في حربه وترك عليه كرمان وعلى عليّ بن الحسين، فوضع آلة الحرب وقصّر وقعد للشرب ودعا بالملاهي ويعقوب في كلّ ذلك لا يغفل عن البحث عن أخباره. فاتّصل به وضع طوق آلة الحرب وإقباله على الشرب واللهو لارتحاله، فكرّ راجعا وطوى المرحلتين إليه في يوم واحد فلم يشعر طوق وهو في لهوه وشربه في آخر يومه إلّا بغبرة قد ارتفعت من خارج المدينة التي هو فيها من كرمان.
فقال لأهل القرية:
« ما هذه الغبرة. » فقيل: « هذه غبرة مواشى أهل القرية منصرفة إلى أهلها. » ثم لم يكن إلّا كلّا ولا حتى وافاه يعقوب في أصحابه فأحاط به وبأصحابه. فذهب أصحاب طوق لمّا أحيط بهم يريدون المدافعة عن أنفسهم.
فقال يعقوب لأصحابه:
« أفرجوا عن القوم. » فأفرجوا لهم فمرّوا هاربين على وجوههم وخلّوا كلّ شيء لهم، وأسر يعقوب طوقا. وكان عليّ بن الحسين وجّه طوقا وحمّله صناديق في بعضها أطوقة وأسورة وفي بعضها أموال وفي بعضها قيود وأغلال ليطوّق ويجوّز ويسوّر من أبلى وأحسن وليقيّد من أسر وأخذ من أصحاب يعقوب.
فلمّا أسر يعقوب طوقا ورؤساء جيشه أمر بحيازة كلّ من كان مع طوق وأصحابه من المال والأثاث والكراع والسلاح، فحيز ذلك كلّه وجمع إليه.
فلمّا أتى بالصناديق أمر بفتح بعضها فإذا فيه قيود وأغلال فقال لطوق:
« يا طوق ما هذه القيود والأغلال؟ » قال: « حمّلنيها عليّ بن الحسين على رسم العساكر لأقيّد بها الأسرى وأغلّهم. » فقال يعقوب: « يا فلان اجعل أكبرها وأثقلها في رجل طوق وعنقه، والباقية في أرجل أصحابه وأعناقهم. » ولم يزل يفتح الباقية من الصناديق حتى فتحت صناديق الأطواق والأسورة فقال: « يا طوق ما هذه؟ »
قال: « حمّلنيها عليّ لأطوّق وأسوّر أهل البلاء والإحسان. » فقال: « يا فلان خذ هذه الأطواق والأسورة فطوّق فلانا وسوّره، وفلانا وفلانا. » حتى فرّق تلك الأطواق كلّها ثم نظر إلى ذراع طوق وعليها عصابة فقال:
« يا طوق ما هذا؟ » قال: « أصلح الله الأمير، كنت وجدت حرارة ففصدت. » فدعا يعقوب بعض من معه فأمر بمدّ خفّه، فتناثر من خفّه كسر خبز يابسة فقال:
« يا طوق هذا خفّى لم أنزعه من رجلي منذ شهر وكسر خبزى في خفّى، ما وطأت فراشي ولا تودعت وأنت جالس في الشرب والملاهي.
-
ذكر سبب خلعه
لمّا جرى في أمر الكتاب وأمر الأتراك ما جرى، لم يرتفع من حصّتهم ما ظنّه الأتراك وتقاعد بهم الكتاب فصاروا إلى المعتزّ يطلبون أرزاقهم. وقال الأتراك:
« وفّنا أرزاقنا حتى نقتل لك صالح بن وصيف وينتظم أمرك. » فأرسل المعتزّ إلى أمّه يطلب منها مالا يرضى به الأتراك فقالت:
« ما عندي مال. » فلمّا نظر الأتراك إلى امتناع الكتّاب من أن يعطوهم شيئا ولم يجدوا في بيوت المال شيئا والمعتزّ وأمّه قد امتنعا من أن يسمحا لهم بشيء، صارت كلمتهم واحدة وكلمة الفراغنة والمغاربة معهم، فاجتمعوا على خلع المعتزّ.
فصاروا إليه، فلم يرعه إلّا صياح القوم، وإذا صالح بن وصيف وبايكباك ومحمد بن بغا أبو نصر قد دخلوا في السلاح، فجلسوا على باب المنزل الذي ينزله المعتزّ. ثم بعثوا إليه:
« اخرج إلينا. » فبعث إليهم:
« إني أخذت أمس دواء وقد أخلفنى اثنى عشر مجلسا، وما أقدر على الكلام من الضعف، فإن كان لا بدّ منه، فليدخل إليّ بعضكم وليعلمني. » وهو يرى أنّ أمره واقف على حاله.
فدخل إليه جماعة من أهل الكرخ والدور من خلفاء القوّاد، فجرّوا برجله إلى باب الحجرة. قال: وأحسب أنّهم تناولوه بالضرب. فإنّه خرج وقميصه مخرّق في مواضع وآثار الدم على منكبه. فأقاموه في الشمس في الدار في وقت شدّة الحرّ. فجعل يرفع قدمه ساعة بعد ساعة من حرارة الموضع الذي قد أقيم فيه. ثم قام بعضهم إليه وجعل يلطمه وهو يتّقى بيده.
وقالوا له:
« اخلعها. » وكان الأتراك قبل مكاشفته التمسوا منه خمسين ألف دينار ليقتلوا صالح بن وصيف ويستقيم أمره. فطلب من أمّه قبيحة هذا المقدار، فتنحّت عليه به ومنعته وقالت:
« ليس عندي مال. » ثم وجد لها من المال الصامت من العين والجوهر ثلاثة آلاف دينار سوى الآلات وسنذكر بعض ذلك في المستأنف.
وكانت قبيحة حظيّه المتوكّل، وسمّيت قبيحة لحسنها على طريق الضدّ.
ويقال: أنّه لم ير مثلها حسنا.
ثم إنّ الأتراك أحضروا ابن أبي الشوارب مع جماعة من أصحابه. فقال له صالح:
« اكتب عليه كتاب الخلع. » - يعنى المعتزّ.
فقال: « لا أحسنه. » وكان معه رجل إصبهاني فقال:
« أنا أكتب ويتخلّص الرجل. » فكتب وشهدوا عليه.
فقال ابن أبي الشوارب:
« إنّهم شهدوا على أنّ له ولأخيه ولابنه وأمّه الأمان. »
فقال صالح بكفّه:
« أى نعم. » ووكّلوا به وبأمّه نساء، وكانت أمّه قد اتخذت في الدار سربا تنفذ إلى حيث تأمن وتخرج منه، فدخلت السرب وفرّت هي وأخت المعتزّ.
ثم عذّب المعتزّ بعد الخلع، فلم يوجد له شيء. فمنعه المعذّب الطعام والشراب ثلاثة أيّام فطلب حسوة من ماء البئر فمنعوه. ثم جصّصوا له سردابا بالجصّ الثخين وأدخلوه فيه وأطبقوا عليه بابه، فأصبح ميّتا.
فكانت خلافته أربع سنين وستّة أشهر وأربعة عشر يوما وكان عمره كلّه أربعا وعشرين سنة. وكان أبيض، أسود الشعر كثيفه، حسن الوجه والعينين، ضيّق الجبين، أحمر الوجنتين، حسن الجسم طويلا.
خلافة المهتدي بالله ابن الواثق
وفي يوم الأربعاء لليلة بقيت من رجب بويع محمد بن الواثق وسمّى المهتدي بالله، وكنيته أبو عبد الله. ولم يقبل بيعة أحد حتى أتى بالمعتزّ فخلع نفسه وبايع محمد بن الواثق. وكانت نسخة الرقعة بخلع المعتزّ نفسه:
« بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما شهد عليه الشهود المسمّون في هذا الكتاب، شهدوا جميعا: أنّ أبا عبد الله بن أمير المؤمنين المتوكّل على الله أقرّ عندهم وأشهدهم على نفسه في صحّة من عقله وبدنه وجواز من أمره طائعا غير مكره، وأنّه نظر فيما كان تقلّده من الخلافة والقيام بأمور المسلمين، فرأى أنّه لا يصلح لذلك ولا يكمل له، وأنّه عاجز عن القيام بما يجب عليه فيها، ضعيف عنه. فأخرج نفسه من الخلافة وبرّأ منها وخلع نفسه وبرّأ كلّ من كانت له في عنقه بيعة من جميع أوليائه وسائر الناس ممّا كان له في رقابهم من البيعة والعقود والمواثيق والأيمان بالطلاق والعتاق والصدقة وسائر الأيمان، وحلّلهم من جميع ذلك، وجعلهم في سعة منه في الدنيا والآخرة بعد أن تبيّن له أنّ الصلاح له وللمسلمين في خروجه عن الخلافة والتبرّؤ منها. وأشهد على نفسه بجميع ما في هذا الكتاب جميع الشهود من حضر بعد أن قرأ عليه حرفا حرفا، فأقرّ بفهمه ومعرفة ما فيه طائعا غير مكره. وذلك يوم الاثنين لثلاث بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين. » فوقّع المعتزّ في ذلك. أقرّ أبو عبد الله بجميع ما في هذا الكتاب وكتب بخطّه.
وكتب محمد بن الواثق المهتدي بالله إلى سليمان بن عبد الله بن طاهر بمدينة السلام، أنّ الناس قد بايعوه. وكان هناك أبو أحمد بن المتوكّل، فبعث سليمان إليه فأحضره داره، وسمع من ببغداد من الجند والغوغاء بالخبر، فاجتمعوا إلى باب سليمان وضجّوا فخوطبوا أنّه لم يرد علينا خبر نثق به. فانصرفوا إلى يوم الجمعة وخطبوا للمعتزّ. فلمّا كان يوم السبت اجتمعوا وهجموا على دار سليمان في داره وسألوه أن يريهم أبا أحمد بن المتوكّل فأظهره لهم. ثم وعدهم أن يصير إلى محبّتهم إن تأخّر عنهم ما يحبّونه فأكّدوا عليه في حفظه وانصرفوا عنه.
ثم قدم بارجوخ ومعه ثلاثون ألف دينار لإعطاء الجند. فضجّ الناس ورجع بارجوخ ووقعت الفتنة والعصبية ببغداد، وقصد دار سليمان وكان قد شحنها بمن يحفظها. فحاربهم أهل بغداد في شارع دجلة وعلى الجسر، فقتل خلق وغرق خلق. ثم وجّه إلى بغداد مال رضوا به، وبايع الناس واستقامت الأمور وسكنت الفتنة.
وفي شهر رمضان من هذه السنة ظهرت قبيحة ودلّت على الأموال التي لها والذخائر والجواهر.
-
ذكر سبب ظهور قبيحة
كانت قبيحة قدّرت الفتك بصالح بن وصيف وواطأت على ذلك النفر من الكبار الذين أوقع بهم صالح. فلمّا حصلوا في يد صالح وعذّبوا، علمت أنهم لا يطوون عن صالح شيئا من الخبر بسبب ما نالهم به من العذاب. فأيقنت بالهلاك وكانت قد أطلعت الكتّاب على ما تبذله في قتل أولئك الأتراك فعملت في التخلّص.
فبادرت إلى صالح بن وصيف ووسّطت بينها وبينه العطّارة وكانت تثق بها وكان لها مال ببغداد. فكتبت في حمله فاستخرج وحمل قدر خمسمائة ألف وخمسين ألف دينار ووقعوا على خزائن لها ببغداد، فحمل إلى السلطان منها متاع عظيم. ولم تزل خزائنها وأموالها متصلة والبيع منها دائما وحوالة الجند عليها ببغداد وسرّ من رأى عدّة شهور. ثم وقف صالح على خزانة قبيحة فأرسل إلى رجل جوهرى قال الرجل: فدخلت إليه فقال:
« إنّ لقبيحة خزانة في موضع يرشدك إليها هذا. فامض ومعك أحمد بن خاقان وصر إليّ معه. » قال: فمضينا إلى الصفوف بحضرة المسجد الجامع وجاء بنا ذلك الرجل إلى دار صغيرة معمورة نظيفة فدخلناها وفتّشنا كل موضع فيها فلم نجد شيئا. وجعل ذلك يغلظ على أحمد بن خاقان ويتهدّد الرجل ويتوعّده ويشتمه. فأخذ الرجل فأسا وجعل ينقر به الحيطان يطلب موضعا قد صيّر فيه المال. فلم يزل كذلك حتى وقع الفأس على موضع من الحائط استدلّ بصوته على أنّ فيه شيئا. فهدمه وإذا من ورائه باب ففتحناه ودخلنا فأدّانا إلى سرب، وصرنا إلى دار تحت الدار التي دخلناها على بنائها وقسمتها.
فوجدنا من المال على رفوف في أسفاط ألف ألف دينار. فأخذ أحمد ومن كان معه قدر ثلاثمائة ألف دينار.
ووجدنا ثلاثة أسفاط: سفطا فيه مقدار مكّوك زمرّدا لم أر للمتوكّل ولا لغيره مثله، وسفطا دونه فيه نصف ملوك حبّا كبارا ما ظننت والله أنّ مثله يكون، وسفطا دونه فيه مقدار كيلجة ياقوتا أحمر لم أر مثله ولا ظننت أنّ مثله يوجد في الدنيا. فقوّمت الجميع على البيع ألفي ألف دينار، فحملناه كلّه إلى صالح. فلمّا رآه جعل لا يصدّق ولا يوقن حتى أحصى بحضرته ووقف عليه. فقال عند ذلك:
« فعل الله بها وصنع، عرّضت ابنها للقتل في خمسين ألف دينار وعندها مثل هذا في خزانة واحدة من خزائنها ». ولم تزل قبيحة مقيمة إلى أن حضر وقت الحجّ، فسيّرت إلى مكّة مع أصحاب المهتدي بالله. فحكى من سمعها في طريقها وهي تقول أتدعو الله على صالح بن وصيف بصوت:
« اللهم أخز صالح بن وصيف كما هتك سترى وقتل ولدي وبدّد شملي وأخذ مالي وغرّبنى عن بلدي وركب الفاحشة منى. » ولمّا انصرف الناس عن الموسم احتبست بمكّة.
وفي هذه السنة قتل أحمد بن إسرائيل وأبو نوح.
ذكر السبب في قتلهما
إنّ صالح بن وصيف لمّا استصفى أموالهما وأموال الحسن بن مخلد عذّبهم وقرّب كوانين الفحم المشعلة منهم في شدّة الحرّ ومنعهم كلّ راحة، ولم يعارضه المهتدي، وكان عبد الله بن محمد بن يزداذ يقول لصالح:
« اقتلهم فإنّهم إن أفلتوا لم تؤمن بوائقهم في الأعقاب فضلا عمّا وترهم. » فحكى الحسن بن مخلد قال: كان داود بن أبي العبّاس الطوسي يحضرنا عند صالح بجميل فيقول:
« وما هؤلاء - أعزّك الله - حتى يبلغ منك الغضب بسببهم هذا المبلغ، فنظنّه يرفقه علينا حتى يقول، على أنّى والله أعلم أنّهم إن تخلّصوا انتشر منهم شرّ كثير وفساد في الإسلام عظيم، فينصرف والله وقد أفتى بقتلنا وأشار عليه بإهلاكنا فيزداد علينا برأيه وكلامه غيظا. » ثم وكّل بأحمد بن إسرائيل وأبي نوح، عيسى أحمد بن محمد بن حمّاد دنقش فأسرف في تعذيبهما ثم أقام أحمد بن إسرائيل يضرب وابن دنقش يقول:
« أوجع. » فكان كلّ جلّاد يضربه سوطين يتنحّى، حتى وفّوه خمسمائة سوط. ثم أقاموا أبا نوح فضربوه كذلك أيضا ضرب التلف. ثم حملا على بغلين من بغال السّقائين على بطونهما منكّسة رؤوسهما ظاهرة ظهورهما للناس، فتلفا في الطريق.
وأمّا الحسن بن مخلد فتخلّص بخصلتين إحداهما أنّه صدقه عن جميع ما سأله عنه والآخر أنّ المهتدي كلّمه فيه وقال:
« لأهله حرمة وأنا أحبّ صلاح شأنه. » فنجا من بينهم.
انصراف مفلح من طبرستان
وفيها انصرف مفلح من طبرستان بعد أن كان دخلها، وأخرج الحسن بن زيد.
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ قبيحة كتبت إلى موسى بن بغا - لمّا رأت من الأتراك اضطرابا وأنكرت أمرهم - تسأله القدوم إلى ما قبلها وأمّلت بوروده فرجا لها ولابنها. فعزم موسى على الانصراف إليها وكتب إلى مفلح وهو بطبرستان يأمره بالانصراف إليه وهو بالريّ. فورد عليه كتاب موسى وقد توجّه نحو أرض الديلم في طلب الحسن بن زيد.
فلمّا ورد عليه الكتاب انصرف راجعا. فعظم ذلك على رؤساء طبرستان ومن كان هاربا قبل قدوم مفلح، وكانوا قد رجوا بقدومه الرجوع إلى منازلهم وأموالهم. وذلك أنّ مفلحا كان يعدهم اتّباع الحسن بن زيد حتى يظفر به أو يخترم دونه، فلمّا رأى الناس انصرافه من غير عسكر للحسن بن زيد ولا أحد من الديلم، سألوه عن السبب الذي صرفه وجعلوا يكلّمونه وهو كالمسبوت لا يجيبهم فلمّا أكثروا عليه قال لهم:
« ورد عليّ كتاب موسى بعزيمة منه أن لا أضع كتابه من يدي حتى أقبل إليه، وأنا مغموم بأمركم، ولكن لا سبيل إلى مخالفة الأمير. » ولم يتهيّأ لموسى الشخوص من الريّ إلى سرّ من رأى حتى وافاه الكتاب بهلاك المعتزّ وقيام المهتدي بعده بالأمر. ففثاه ذلك عمّا عزم عليه من الشخوص، لفوت ما كان قدّر إدراكه من أمر المعتزّ. ثم إنّ الموالي الذين في عسكر موسى بلغهم ما استخرج صالح بن وصيف من أموال الكتّاب وأسباب المعتزّ والمتوكّل، فحسدوا المقيمين بسرّ من رأى.
فدعوا موسى إلى الانصراف بهم إلى سرّ من رأى. فأمر موسى أن يستخرج من أهل الري خراج سنة ستّ وخمسين ومائتين. فأصبح الخراج في شهر رمضان فجبى في يوم واحد خمسمائة ألف درهم فاجتمع أهل الريّ وقالوا:
« أصلح الله الأمير ما سبب انصرافك عن هذا الثغر؟ » فقال: « إنّ الجند والموالي أبوا أن يقيموا، وإذا انصرفوا فما أقلّ غنائى عنكم. » فقالوا: « أصلح الله الأمير. إنّ الموالي يرجعون لما يقدّرون هناك من كثرة العطاء وأنت وأصحابك ها هنا في أكثر وأوسع ممّا فيه أولئك هناك. فإن رأيت أن تقيم وتسدّ هذا الثغر وتحتسب في أهله الأجر والثواب وتلزمنا من خراجنا في خاصّ أموالنا لمن معك ما ترى أنّنا نحتمله فعلت. » فلم يجبهم إلى ما سألوا.
فقالوا: « أصلح الله الأمير فإذا كان الأمير على تركنا والانصراف عنّا، فما معنى أخذنا بالخراج لسنة لم نبدأ بعمارتها بعد، وأكثر غلّة سنة خمس وخمسين التي قد استوفى الأمير خراجها منا في الصحراء لا يمكننا الوصول إليها، إن خرج الأمير عنّا. » فلم يلتفت إلى كلامهم وخرج.
واتصل خبر انصرافه بالمهتدي، فكتب إليه في ذلك كتبا كثيرة فلم يؤثّر شيئا. فلمّا نظر المهتدي أنّ موسى يسير ويخلّ بموضعه وأنّ كتبه إليه لا تعنى شيئا، وجّه إليه رسولين من بنى هاشم وحمّلهما رسائل إلى موسى ووجوه قوّاده وإلى سائر عسكره يصدّهم فيها عن الحركة ويصدّقهم عن الحال بالحضرة وعن ضيق الأموال بها وما يحاذر من ذهاب ما يخلّفونه وراءهم وغلبة الطالبيّ وأتباعه من الديلم عليه. فشخص الهاشميّان مع جماعة من الوجوه والموالي وأقبل موسى يسير وصالح بن وصيف يعظّم ذلك على المهتدي وينسبه إلى العصيان والخلاف.
وكان المهتدي قد هجر الشرب وكسر آلات الشراب، وكان ينسك ويجلس على اللبود ويجلس للمظالم ويشتغل بالصوم والصلاة ودرس القرآن. فذكر أنّ كتاب صاحب البريد بهمذان ورد عليه بفصول موسى عنها. فرفع المهتدي يده إلى السماء وقال بعد حمد الله والثناء عليه:
« اللهم إني أبرأ إليك من فعل موسى بن بغا وإخلاله بالثغر وإباحته العدوّ وقد أعذرت إليه فيما بيني وبينه اللهم تولّ من كاد المسلمين.
وانصر جيوش المسلمين حيث كانوا. اللهم إني شاخص نفسي إلى حيث نكب فيه المسلمون ناصرا لهم ودافعا عنهم، فاجزني اللهم بنيّتى إذ فقدت صالح الأعوان وعدمت الناصرين. » ثم تحدّرت دموعه يبكى.
فذكر عمّن حضر مجلس المهتدي، أنّه رأى سليمان بن وهب في ذلك اليوم يقول:
« يا أمير المؤمنين، أتأذن لي أن أكتب إلى موسى بما أسمع منك؟ » فقال: « نعم أكتب بما تسمع مني وإن أمكنك أن تنقشه في الصخر فافعل. » ولمّا تلقّاه الهاشميّان والرسل لم يغنيا، وضجّ الموالي وكادوا يثبون بالرسل وردّ موسى في جواب الرسالة يعتذر بما عاين الرسل الموجّهون إليه، وأنّه ليس يرضى القوم إلّا بورود باب أمير المؤمنين، وإن رام التخلّف عنهم لم يأمنهم على نفسه.
وأوفد موسى مع الرسل وفدا من عسكره.
وكان كنجور نفى أيّام المعتزّ إلى فارس ثم لحق بأبي دلف وأثّر بالأهواز آثارا قبيحة. فلمّا أقبل موسى انضمّ إليه فبلغ ذلك صالحا فكتب عن المهتدي في حمل كنجور مقيّدا، فأبى ذلك الموالي. ووجّه المهتدي أخاه إبراهيم لامه في كنجور يعلمه أنّ الموالي لا يقارّون كنجور ويأمره بتقييده وحمله إلى بغداد. فكان جوابهم أن قالوا:
« إذا دخلنا سرّ من رأى امتثلنا رأى أمير المؤمنين في كنجور وغيره. » وفي شوّال من هذه السنة ظهر في فرات البصرة رجل علويّ فجمع زنج البصرة الذين [ كانوا ] يكسحون السّباخ ثم عبر إلى دجلة.
ذكر خبر العلوي صاحب الزنج ومبدأ أمره وسبب خروجه
هذا الرجل مولده قرية من قرى الريّ يقال لها ورزنين وقد شكّ قوم في نسبه وسمعت من لا أرتاب بخبره أنه صحيح النسب. وهو عليّ بن محمد بن أحمد بن عليّ بن عيسى بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام.
-
واتصل بقوم من حاشية المنتصر وغيرهم من كتّاب السلطان فكان يمدحهم ويستميحهم بشعره. ثم شخص إلى البحرين ودعا قوما إلى طاعته، فاتبعه جماعة من أهلها ووقعت بسببه عصبيّة قتل فيها جماعة. فانتقل إلى الأحساء. فحدث مثل ذلك بها فانتقل إلى البادية وادّعى النبوّة ومعجزات ذكرها عن نفسه. أحدها أنّه زعم أن سحابة أظلّته بالبادية، فبرقت ورعدت، فاتصل صوت الرعد بسمعه قال: فخوطبت فقيل: « اقصد البصرة. » فقلت لأصحابي وهم مطيفون بي: « أمرت بكذا. وكان سبب خروجي إلى البصرة. » فتبعه قوم بالبصرة منهم عليّ بن أبان المهلّبي وأخوه محمد بن الخليل وغيرهم وعامل البصرة يومئذ محمد بن رجاء الحضارى من قبل السلطان ووافق [ ذلك ] فتنة البلاليّة والسعديّة. فطمع في أحد الفريقين ووافى برنجل قصرا فعرف بقصر القرشيّ. وأظهر أنّه وكيل لولد الواثق في بيع السباخ، وأقام أيّاما.
فذكر عن ريحان وهو أحد غلمان الشورجيّين وهو أوّل من صحبه أنّه قال: كنت موكّلا بغلمان مولاي، أنقل الدقيق إليهم من البصرة وأفرّقه فيهم.
فحملت إليهم يوما الرسم فمررت به وهو مقيم ببرنجل في قصر القرشيّ.
فأخذنى أصحابه فصاروا بي إليه، وأمرونى بالتسليم عليه بالإمرة. ففعلت فسألنى عن الموضع الذي جئت منه، فقلت:
« من البصرة. » قال: « هل سمعت لنا بالبصرة خبرا؟ » فقلت: « لا. » قال: « فما خبر البلاليّة والسعديّة؟ » قلت: « لا أعرف خبرهم. »
فسألنى عن أخبار الشورجيّين وما يجرى لكلّ غلام منهم من الدقيق والتمر، وعمّن يعمل في الشورج من الأحرار والعبيد، فأعلمته ذلك.
فدعاني إلى ما هو عليه فأجبته. فقال لي:
« احتل فيمن قدرت عليه من الغلمان فأقبل بهم إليّ. » ووعدني أن يقوّدنى على من آتيه به منهم وأن يحسن إليّ، واستحلفني ألّا أعلم أحدا بموضعه وأن أرجع إليه، فخلّى سبيلي فأتيت بالدقيق الذي معي إلى الموضع الذي كنت قصدته، وأقمت فيه يومي، ثم رجعت إليه من غد فوافيته وقد قدم عليه غلمان كان وجّههم إلى البصرة في حوائج له وفيما حمل له حريرة يتّخذها لواء فأمر أن يكتب عليها بحمرة وخضرة: « إِنَّ الله اشْتَرى من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ. » إلى آخر الآية. وكتب اسمه واسم أبيه وعلّقها في رأس مرديّ وخرج في السحر من ليلة السبت لليلتين بقيتا من شهر رمضان.
فلمّا صار في مؤخّر القصر الذي كان فيه لقيه غلمان رجل من الشورجيّين متوجّهين إلى أعمالهم. فأمر بأخذهم فأخذوا وكتف وكيلهم وأخذه معهم، وكانوا خمسين غلاما، وكان أهل البصرة في ذلك الزمان يشترون الزنوج ويخرجونهم إلى السباخ فيكسحونها حتى يصلوا إلى التربة الطيّبة فيعمرونها، وكسوح الزنج بالبصرة معروفة تشاهد فيها تلال كالجبال وكان في أنهار البصرة منهم عشرات ألوف يعذّبون بهذه الخدمة، وتجرى عليهم أقواتهم من الدقيق والتمر.
ثم إنّ هذا الرجل العلويّ سار من موضعه الذي ذكرنا، فصار إلى الموضع الذي يعمل فيه البستاني، فأخذ منه خمسمائة غلام وأخذ وكيلهم فكتفه، ثم إلى موضع السيرافيّ فأخذ منه خمسمائة غلام، ولم يزل يومه يفعل ذلك حتى اجتمع له خلق من غلمان الشورجيّين، ثم جمعهم وقام فيهم خطيبا.
فمنّاهم ووعدهم أن يقوّدهم ويملّكهم الأموال. وحلف لهم بالأيمان الغلاظ ألّا يغدر بهم ولا يخذلهم ولا يدع ممكنا من الإحسان إلّا أتى إليهم.
ثم دعا مواليهم فقال:
« أردت أن أضرب أعناقكم لإساءتكم إلى هؤلاء الغلمان الذين استضعفتموهم وفعلتم بهم ما حرّم الله عليكم وحمّلتموهم ما لا يطيقون فكلّمنى أصحابي فيكم فرأيت إطلاقكم. » فقالوا: « إنّ هؤلاء الغلمان أبّاق وهم يهربون منك، فلا يبقون عليك ولا علينا. فخذ منّا مالا وأطلقهم لنا. » فأمر غلمانه فأحضروا شطبا، ثم بطح كلّ قوم مولاهم، فضرب كلّ رجل خمسمائة شطب، وأحلفهم بطلاق نسائهم ألّا يعلموا أحدا بموضعه ولا بعدد أصحابه. فأطلقهم.
ثم سار حتى عبر دجيلا وصار إلى نهر ميمون في سفن سماد وجدها، وأقام بجمع السودان إلى يوم الفطر. فلمّا أصبح نادى في أصحابه بالاجتماع لصلاة الفطر فاجتمعوا وركّز المرديّ الذي عليه لواءه وصلّى وخطب خطبة ذكر فيها ما كانوا عليه من سوء الحال، وأنّ الله قد استنقذهم من ذلك وأنّه يريد أن يرفع أقدارهم ويملّكهم العبيد والأموال والمنازل ويبلغ بهم أعلى الأمور، ثم حلف لهم على ذلك.
فلمّا فرغ من صلاته وخطبته أمر الذين فهموا عنه قوله أن يفهّموه من لم يفهم من عجمهم لتطيب بذلك أنفسهم ففعلوا ذلك ودخل القصر.
ثم إنّ الحميري قصد جماعة من أصحابه فأخرجوهم إلى الصحراء.
فلحقهم صاحب الزنج فيمن معه فأوقع بالحميرى وأصحابه فانهزموا، واستأمن إليه رجل من رؤساء الزنج يكنّى بأبي صالح في ثلاثمائة من الزنج، فمنّاهم ووعدهم خيرا.
وكان ابن أبي عون قد قلّد الأبلّة وكور دجلة، وانتهى إليه أنّ عقيلا والحميري مع خليفة ابن أبي عون قد أقبلوا نحوه ونزلوا نهر طين، فأمر أصحابه بالمصير إلى الزريقية فوصلوا إليها مع صلاة الظهر فصلّوا بها ثم استعدّوا للقتال وليس في عسكره يومئذ إلّا ثلاثة أسياف ونهض راجعا نحو المحمدية فوافاها، وتلاحق إليه أصحابه وكان جعل عليّ بن أبان في آخر أصحابه وأمره أن يتعرّف خبر من يأتيه من ورائه. فأتاه وقال له:
« كنّا نرى من ورائنا بارقة ونسمع حسّا لقوم يتبعوننا فلسنا ندري أرجعوا عنّا أم هم قاصدون إلينا. » فلم يستتمّ كلامه حتى لحق القوم وتنادى الزنج:
« السلاح. » فيبدر مفرّج النوبى وريحان وفتح الحجّام - وكان فتح يأكل - فلمّا نهض تناول طبقا كان بين يديه، وتقدّم أصحابه فلقيه رجل فحمل عليه وحذفه بالطبق الذي كان في يده، وذهب ليكبّ عليه فرمى الرجل بسلاحه وولّى وانهزم أصحابه، وكانوا أربعة آلاف، رجل فذهبوا على وجوههم وقتل من قتل منهم ومات بعضهم عطشا وأتى منهم بأسرى فأمر بضرب أعناقهم وحملت الرؤوس على بغال كان أخذها من الشورجيّين كانت تنقل الشورج، ومضى حتى وافى القادسيّة وقت المغرب. فخرج رجل من موالي الهاشميّين فقتل رجلا من السودان وأتاه الخبر فقال له أصحابه:
« ايذن لنا في انتهاب القرية وطلب قاتل صاحبنا. » فقال: « لا سبيل إلى ذلك دون أن نعرف ما عند القوم، وهل كان ذلك عن رأيهم، ونسألهم أن يدفعوه إلينا، فإن فعلوا وإلّا ساغ لنا قتالهم. » وأعجلهم المسير حتى مضى إلى نهر ميمون إلى المسجد الذي كان فيه، في بدأته، وأمر بالرؤوس التي حملت معه فنصبت، وأمر بالأذان أبا صالح النوبى، فأذّن وسلّم عليه بالإمرة فقام وصلّى بأصحابه العشاء الآخرة وبات بها.
ثم مضى إلى الكرخ فطواها. ثم عبر دجيلا بجبّى في مخاضة دلّ عليها ولم يدخل القرية وأقام خارجا منها وأرسل إلى من فيها فأتاه رؤساؤهم ورؤساء الكرخ فأمرهم بإقامة الأتراك له ولأصحابه فأقيم لهم ما أراد وبات ليلته.
فلمّا أصبح أهدى له رجل من أهل جبّى فرسا كميتا فلم يجد له سرجا ولا لجاما. فركبه بحبل وشنقه بليف وسار حتى انتهى إلى العباس فأخذ منه دليلا إلى السيب وهرب أهل القرية فدخلها ونزل دار جعفر بن سليمان وهي في السوق وتفرّق أصحابه في القرية، فأتوه برجل فسأله عن وكلاء الهاشميّين فأخبره أنّهم في الأجمة فوجّه وأحضر رئيسهم فسألهم وإيّاه عن المال فقال: