فصل
فمن المحبة النافعة: محبة الزوجة وما ملكت يمين الرجل فإنها معينة على ما شرع الله سبحانه له من النكاح وملك اليمين من إعفاف الرجل نفسه وأهله فلا تطمح نفسه إلى سواها من الحرام ويعفها فلا تطمح نفسها إلى غيره وكلما كانت المحبة بين الزوجين أتم وأقوى كان هذا المقصود أتم وأكمل قال تعالى: هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها وقال: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة
وفي الصحيح عنه
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png أنه سئل من أحب الناس إليك فقال: عائشة ولهذا كان مسروق رحمه الله يقول إذا حدث عنها: حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png المبرأة من فوق سبع سموات
وصح عنه
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png أنه قال: حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة
فلا عيب على الرجل في محبته لأهله وعشقه لها إلا إذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له من محبة الله ورسوله وزاحم حبه وحب رسوله فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله بحيث تضعفها وتنقصها فهي مذمومة وإن أعانت على محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة ولذلك كان رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png يحب الشراب البارد الحلو ويحب الحلواء والعسل ويحب الخيل وكان أحب الثياب إليه القميص وكان يحب الدباء فهذه المحبة لا تزاحم محبة الله بل قد تجمع الهم والقلب على التفرغ لمحبة الله فهذه محبة طبيعية تتبع نية صاحبها وقصده بفعل ما يحبه
فإن نوى به القوة على أمر الله تعالى وطاعته كانت قربة وإن فعل ذلك بحكم الطبع والميل المجرد لم يثب ولم يعاقب وإن فاته درجة من فعله متقربا به إلى الله
فالمحبة النافعة ثلاثة أنواع: محبة الله ومحبة في الله ومحبة ما يعين على طاعة الله تعالى واجتناب معصيته
والمحبة الضارة ثلاثة أنواع: المحبة مع الله ومحبة ما يبغضه الله تعالى ومحبة ما تقطع محبته عن محبة الله تعالى أو تنقصها فهذه ستة أنواع عليها مدار محاب الخلق فمحبة الله تعالى أصل المحاب المحمودة وأصل الإيمان والتوحيد والنوعان الآخران تبع لها
والمحبة مع الله أصل الشرك والمحاب المذمومة والنوعان الآخران تبع لها
ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك وأبعد من الإخلاص كانت محبته بعشق الصور أشد وكلما كان أكثر إخلاصا وأشد توحيدا كان أبعد من عشق الصور ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق لشركها ونجا منه يوسف الصديق عليه السلام بإخلاصه قال تعالى: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين فالسوء: العشق والفحشاء: الزنا فالمخلص قد خلص حبه لله فخلصه الله من فتنة عشق الصور والمشرك قلبه متعلق بغير الله لم يخلص توحيده وحبه لله تعالى
فصل
ومن أبلغ كيد الشيطان وسخريته بالمفتونين بالصور: أنه يمني أحدهم أنه إنما يحب ذلك الأمرد أو تلك المرأة الأجنبية لله تعالى لا للفاحشة ويأمره بمواخاته
وهذا من جنس المخادنة بل هو مخادنة باطنة كذوات الأخدان اللاتي قال الله تعالى فيهن: محصنات غير مسافحات ولا متخذان أخدان. وقال في حق الرجال: محصنين غير مسافحين ولا متخذي آخران فيظهرون للناس أن محبتهم تلك الصورة لله تعالى ويبطنون اتخاذها خدنا يتلذذون بها فعلا أو تقبيلا أو تمتعا بمجرد النظر والمخادنة والمعاشرة واعتقادهم أن هذا لله وأنه قربة وطاعة: هو من أعظم الضلال والغي وتبديل الدين حيث جعلوا ما كرهه الله سبحانه محبوبا له وذلك من نوع الشرك والمحبوب المتخذ من دون الله طاغوت فإن اعتقاد كون التمتع بالمحبة والنظر والمخادنة وبعض المباشرة لله وأنه حبك فيه: كفر وشرك كاعتقاد محبي الأوثان في أوثانهم
وقد يبلغ الجهل بكثير من هؤلاء إلى أن يعتقد أن التعاون على الفاحشة تعاون على الخير والبر وأن الجالب محسن إلى العاشق جدير بالثواب وأنه ساع في دوائه وشفائه وتفريج كرب العشق عنه وأن من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدينا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة
فصل
ثم هم بعد هذا الضلال والغي أربعة أقسام قوم يعتقدون أن هذا لله وهذا كثير في طوائف العامة والمنتسبين إلى الفقر والتصوف وكثير من الأتراك وقوم يعلمون في الباطن أن هذا ليس لله وإنما يظهرون أنه لله خداعا ومكرا وتسترا
وهؤلاء من وجه أقرب إلى المغفرة من أولئك لما يرجى لهم من التوبة ومن وجه أخبث لأنهم يعلمون التحريم ويأتون المحرم وأولئك قد يشتبه الأمر على بعضهم كما اشتبه على كثير من الناس أن استماع أصوات الملاهي قربة وطاعة ووقع في ذلك من شاء الله من الزهاد والعباد فكذلك اشتبه على من هو أضعف علما وإيمانا أن التمتع بعشق الصور ومشاهدتها ومعاشرتها عبادة وقربة
القسم الثالث: مقصودهم الفاحشة الكبرى فتارة يكونون من أولئك الضالين الذين يعتقدون أن هذه المحبة التي لا وطء فيها لله تعالى وأن الفاحشة معصية فيقولون: نفعل شيئا لله تعالى ونفعل أمرا لغير الله تعالى وتارة يكونون من أهل القسم الثاني الذين يظهرون أن هذه المحبة لله وهم يعلمون أن الأمر بخلاف ذلك فيجمعون بين الكذب والفاحشة وهم في هذه المخادنة والمواخاة مضاهئون للنكاح فإنه يحصل بين هذين من الاقتران والازدواج والمخالطة نظير ما يحصل بين الزوجين وقد يزيد عليه تارة في الكم والكيف وقد ينقص عنه وقد يحصل بينهما من الاقتران ما يشبه اقتران المتواخيين المتحابين في الله لكن الذين آمنوا أشد حبا لله فإن المتحابين في الله يعظم تحابهما ويقوى ويثبت بخلاف هذه المواخاة والمحبة الشيطانية ثم قد يشتد بينهما الإتصال حتى يسمونها زواجا ويقولون: تزوج فلان بفلان كما يفعله المستهزئون بآيات الله تعالى ودينه من مجان الفسقة ويقرهم الحاضرون على ذلك ويضحكون منه ويعجبهم مثل ذلك المزاح والنكاح وربما يقول بعض زنادقة هؤلاء: الأمرد حبيب الله والملتحي عدو الله وربما اعتقد كثير من المردان أن هذا صحيح وأنه المراد بقوله إذا أحب الله العبد نادى يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه الحديث وأنه توضع له المحبة في الأرض فيعجبه أن يحب ويفتخر بذلك بين الناس ويعجبه أن يقال: هو معشوق أو حظوة البلد وأن الناس يتغايرون على محبته ونحو ذلك وقد آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى ترجيح وطء المردان على نكاح النسوان وقالوا: هو أسلم من الحبل والولادة ومؤنة النكاح والشكوى إلى القاضي وفرض النفقة والحبس على الحقوق
وربما قال بعضهم: إن جماع النساء يأخذ من القوة أكثر مما يأخذ جماع الصبيان لأن الفرج يجذب من القوة والماء أكثر مما يجذب المحل الآخر بحكم الطبيعة
وقسمت هذه الطائفة المفعول به إلى ثلاثة أقسام: مؤاجر ومملوك ومعشوق خاص فالأول: بإزاء البغايا المؤجرات أنفسهن والثاني: بإزاء الأمة والسرية والثالث: بإزاء الزوجة أو الأجنبية المعشوقة
وتعوض كل منهم بقسم عن نظيره من الإناث وربما فضل بعضهم اتخاذ المردان واستفراشهم على النساء من وجوه وهذا مضادة ومحادة لله ودينه وكتبه ورسله وصنف بعضهم كتابا في هذا الباب وقال في أثنائه: باب في المذهب المالكي وذكر فيه الجماع في الدبر من الذكور والإناث
وقد علم أن مالكا رحمه الله تعالى من أشد الناس وأسدهم مذهبا في هذا الباب حتى إنه يوجب قتل اللوطي حدا بكرا كان أو ثيبا وقوله في ذلك هو أصح المذاهب كما دلت عليه النصوص واتفق عليه أصحاب رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png وإن اختلفت أقوالهم في كيفية قتله كما سنذكره إن شاء الله تعالى
وسبب غلط هذا وأمثاله: أنه قد نسب إلى مالك رحمه الله تعالى القول بجواز وطء الرجل امرأته في دبرها وهو كذب على مالك وعلى أصحابه فكتبهم كلها مصرحة بتحريمه ثم لما استقر عند هؤلاء أن مالكا يبيح ذلك نقلوا الإباحة من الإناث إلى الذكور وجعلوا البابين بابا واحدا وهذا كفر وزندقة من قائله بإجماع الأمة
ونظير هذا: ما يتوهمه كثير من الفسقة وجهال الترك وغيرهم أن مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن هذا ليس من الكبائر وغايته أن يكون صغيرة من الصغائر وهذا من أعظم الكذب والبهت على الأئمة فقد أعاذ الله أبا حنيفة وأصحابه من ذلك
وشبهة هؤلاء الفسقة الجهلة: أنهم لما رأوا أبا حنيفة رحمه الله تعالى لم يوجب فيه الحد ركبوا على ذلك أنه ليس من كبائر الذنوب بل من صغائرها وهذا ظن كاذب فإن أبا حنيفة لم يسقط فيه الحد لخفة أمره فان جرمه عنده وعند جميع أهل الإسلام أعظم من جرم الزنا ولهذا عاقب الله سبحانه أهله بما لم يعاقب به أمة من الأمم وجمع عليهم من أنواع العذاب ما لم يجمعه على غيرهم
وشبهة من أسقط فيه الحد: أن فحش هذا مركوز في طباع الأمم فاكتفي فيه بالوازع الطبعي كما اكتفي بذلك في أكل الرجيع وشرب البول والدم ورتب الحد على شرب الخمر لكونه مما تدعو إليه النفوس والجمهور يجيبون عن هذا بأن في النفوس الخبيثة المتعدية حدود الله أقوى الداعي لذلك فالحد فيه أولى من الحد في الزنا ولذلك وجب الحد على من وطىء أمه وابنته وخالته وجدته وإن كان في النفوس وازع وزاجر طبعي عن ذلك بل حد هذا القتل بكل حال بكرا كان أو محصنا في أصح الأقوال وهو مذهب أحمد وغيره هذا ونفرة النفوس عن ذلك أعظم بكثير من نفرتها عن المردان ونظير هذا الظن الكاذب والغلط الفاحش: ظن كثير من الجهال أن الفاحشة بالمملوك كالمباحة أو مباحة أو أنها أيسر من ارتكابها من الحرع وتأولت هذه الفرقة القرآن على ذلك وأدخلت المملوك في قوله: إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين حتى إن بعض النساء لتمكن عبدها من نفسها وتتأول القرآن على ذلك كما رفع إلى عمر بن الخطاب امرأة تزوجت عبدها وتأولت هذه الآية ففرق عمر رضي الله عنه بينهما وأدبها وقال: ويحك إنما هذا للرجال لا للنساء ومن تأول هذه الآية على وطء الذكران من المماليك فهو كافر باتفاق الأمة قال شيخنا: ومن هؤلاء من يتأول قوله تعالى: ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم على ذلك قال: وقد سألني بعض الناس عن هذه الآية وكان ممن يقرأ القرآن فظن أن معناها في إباحة ذكران العبيد المؤمنين قال: ومنهم من يجعل ذلك مسألة نزاع يبيحه بعض العلماء ويحرمه بعضهم ويقول: اختلافهم شبهة وهذا كذب وجهل فإنه ليس في فرق الأمة من يبيح ذلك بل ولا في دين من أديان الرسل وإنما يبيحه زنادقة العالم الذين لا يؤمنون بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر
قال: ومنهم من يقول: هو مباح للضرورة مثل أن يبقى الرجل أربعين يوما لا يجامع إلى أمثال هذه الأمور التي خاطبني فيها وسألني عنها طوائف من الجند والعامة والفقراء قال: ومنهم من قد بلغه خلاف بعض العلماء في وجوب الحدع فيه فظن أن ذلك خلاف في التحريم ولم يعلم أن الشيء قد يكون من أعظم المحرمات كالميتة والدم ولحم الخنزير وليس فيه حد مقدر
ثم ذلك الخلاف قد يكون قولا ضعيفا فيتولد من ذلك القول الضعيف الذي هو من خطأ بعض المجتهدين وهذا الظن الفاسد الذي هو خطأ بعض الجاهلين: تبديل الدين وطاعة الشيطان ومعصية رب العالمين فإذا انضافت الأقوال الباطلة إلى الظنون الكاذبة وأعانتها الأهواء الغالبة فلا تسأل عن تبديل الدين بعد ذلك والخروج عن جملة الشرائع بالكلية
ولما سهل هذا الأمر في نفوس كثير من الناس صار كثير من المماليك يتمدح بأنه لا يعرف غير سيده وأنه لم يطأه سواه كما تتمدح الأمة والمرأة بأنها لا تعرف غير سيدها وزوجها وكذلك كثير من المردان يتمدح بأنه لا يعرف غير خدينه وصديقه أو مؤاخيه أو معلمه وكذلك كثير من الفاعلين يتمدح بأنه عفيف عما سوى خدنه الذي هو قرينه وعشيره كالزوجة أو عما سوى مملوكه الذي هو كسريته ومنهم من يرى أن التحريم إنما هو إكراه الصبي على فعل الفاحشة فإذا كان مختارا راضيا لم يكن بذلك بأس فكأن المحرم عنده من ذلك إنما هو الظلم والعدوان بإكراه المفعول به
قال شيخنا: وحكى لي من أثق به: أن بعض هؤلاء أخذ على هذه الفاحشة فحكم عليه بالحد فقال: والله هو ارتضى بذلك وما أكرهته ولا غصبته فكيف أعاقب فقال نصير المشركين وكان حاضرا هذا حكم محمد بن عبد الله وليس لهؤلاء ذنب
ومن هؤلاء من يعتقد أن العشق إذا بلغ بالعاشق إلى حد يخاف معه التلف أبيح له وطء معشوقه للضرورة وحفظ النفس كما يباح له الدم والميتة ولحم الخنزير في المخمصة
وقد يبيح هؤلاء شرب الخمر على وجه التداوي وحفظ الصحة إذا سلم من معرة السكر