والمقصود: أن من سلم من فتنة الشبهات والشهوات جمع له بين الهدى والرحمة والهدى والفلاح
قال تعالى عن أوليائه: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب وقال تعالى: ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون وقال تعالى: هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يوقنون وقال تعالى: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شىء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون وقال تعالى: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين فقوله: هذا بصائر من ربكم عام مطلق وقوله: وهدى ورحمة لقوم يوقنون خاص بأهل اليقين
ونظير ذلك قوله يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين
ونظيره في الخصوص قوله تعالى: هدى للمتقين وقوله: يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام
ونظيره أيضا قوله: هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين
وقد أخبر أنه هدى عام لجميع المكلفين فقال إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى
فأخبر سبحانه أن القرآن بصائر لجميع الناس والبصائر جمع بصيرة وهي فعيلة بمعنى مفعلة أي مبصرة لمن تبصر ومنه قوله تعالى: وآتينا ثمود الناقة مبصرة أي مبينة موجبة للتبصر وفعل الإبصار يستعمل لازما ومتعديا يقال: أبصرته بمعنى أريته وأبصرته بمعنى رأيته فمبصرة في الآية: بمعنى مرئية لا بمعنى رائية والذين ظنوها بمعنى رائية غلطوا في الآية وتحيروا في معناها
فإنه يقال: بصر به وأبصره فيعدى بالباء تارة والهمزة تارة ثم يقال: أبصرته كذا أي أريته إياه كما يقال: بصرته به وبصر هو به
فههنا بصيرة وتبصرة ومبصرة فالبصيرة: المبينة التي تبصر والتبصرة مصدر مثل التذكرة وسمى بها ما يوجب التبصرة فيقال: هذه الآية تبصرة لكونها آلة التبصر وموجبه
فالقرآن بصيرة وتبصرة وهدى وشفاء ورحمة بمعنى عام وبمعنى خاص ولهذا يذكر الله سبحانه هذا وهذا فهو هدى للعالمين وموعظة للمتقين وهدى للمتقين وشفاء للعالمين وشفاء للمؤمنين وموعظة للعالمين وموعظة للمتقين فهو في نفسه هدى ورحمة وشفاء وموعظة
فمن اهتدى به واتعظ واشتفى كان بمنزلة من استعمل الدواء الذي يحصل به الشفاء فهو دواء له بالفعل وإن لم يستعمله فهو دواء له بالقوة وكذلك الهدى
فالقرآن هدى بالفعل لمن اهتدى به وبالقوة لمن لم يهتد به فإنما يهتدى به ويرحم ويتعظ المتقون الموقنون
والهدى في الأصل: مصدر هدى يهدي هدى
فمن لم يعمل بعلمه لم يكن مهتديا كما في الأثر من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله تعالى إلا بعدا ولكن يسمى هدى لأن من شأنه أن يهدي
وهذا أحسن من قول من قال: إنه هدى بمعنى هاد فهو مصدر بمعنى الفاعل كعدل بمعنى العادل وزور بمعنى الزائر ورجل صوم أي بمعنى صائم فإن الله سبحانه قد أخبر أنه يهدي به
فالله الهادي وكتابه الهدى الذي يهدي به على لسان رسوله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png فههنا ثلاثة أشياء: فاعل وقابل وآلة فالفاعل: هو الله تعالى والقابل: قلب العبد والآلة هو الذي يحصل به الهدى وهو الكتاب المنزل والله سبحانه يهدي خلقه هدى كما يقال: دلهم دلالة وأرشدهم إرشادا وبين لهم بيانا
والمقصود: أن المحل القابل هو قلب العبد المتقي المنيب إلى ربه الخائف منه الذي يبتغي رضاه ويهرب من سخطه فإذا هداه الله فكأنه وصل أثر فعله إلى محل قابل فيتأثر به فصار هدى له وشفاء ورحمة وموعظة بالوجود والفعل والقبول وإذا لم يكن المحل قابلا وصل إليه الهدى فلم يؤثر فيه كما يصل الغذاء إلى محل غير قابل للاغتذاء فإنه لا يؤثر فيه شيئا بل لا يزيده إلا ضعفا وفسادا إلى فساده كما قال تعالى في السورة التي نزلها: فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وقال: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا
فتخلف الاهتداء يكون لعدم قبول المحل تارة ولعدم آلة الهدى تارة ولعدم فعل الفاعل وهو الهادي تارة ولا يحصل الهدى على الحقيقة إلا عند اجتماع هذه الأمور الثلاثة
وقد قال سبحانه: ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فأخبر سبحانه أنه قطع عنهم مادة الاهتداء وهو إسماع قلوبهم وإفهامها ما ينفعها لعدم قبول المحل فإنه لا خير فيه فإن الرجل إنما ينقاد للحق بالخير الذي فيه والميل إليه والطلب له ومحبته والحرص عليه والفرح بالظفر به وهؤلاء ليس في قلوبهم شيء من ذلك فوصل الهدى إليها ووقع عليها كما يصل الغيث النازل من السماء ويقع على الأرض الغليظة العالية التي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فلا هي قابلة للماء ولا للنبات فالماء في نفسه رحمة وحياة ولكن ليس فيها قبول له ثم أكد الله هذا المعنى في حقهم بقوله: ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فأخبر أن فيهم مع عدم القبول والفهم آفة أخرى وهي الكبر والإعراض وفساد القصد فلو فهموا لم ينقادوا ولم يتبعوا الحق ولم يعملوا به فالهدى في حق هؤلاء هدى بيان وإقامة حجة لا هدى توفيق وإرشاد فلم يتصل الهدى في حقهم بالرحمة
وأما المؤمنون: فاتصل الهدى في حقهم بالرحمة فصار القرآن لهم هدى ولأولئك هدى بلا رحمة
والرحمة المقارنة للهدى في حق المؤمنين عاجلة وآجلة
فأما العاجلة فما يعطيهم الله تعالى في الدنيا من محبة الخير والبر وذوق طعم الإيمان ووجدان حلاوته والفرح والسرور بأن هداهم الله تعالى لما أضل عنه غيرهم ولما اختلف فيه من الحق بإذنه فهم يتقلبون في نور هداه ويمشون به في الناس ويرون غيرهم متحيرا في الظلمات فهم أشد الناس فرحا بما آتاهم ربهم من الهدى قال تعالى: قل بفضل الله وبرحمته فبذكلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون فأمر سبحانه عباده المؤمنين المهتدين أن يفرحوا بفضله ورحمته
وقد دارت عبارات السلف على أن الفضل والرحمة هو العلم والإيمان والقرآن وهما اتباع الرسول وهذا من أعظم الرحمة التي يرحم الله بها من يشاء من عباده فإن الأمن والعافية والسرور ولذة القلب ونعيمه وبهجته وطمأنينته: مع الإيمان والهدى إلى طريق الفلاح والسعادة والخوف والهم والغم والبلاء والألم والقلق: مع الضلال والحيرة
ومثل هذا بمسافرين أحدهما قد اهتدى لطريق مقصده فسار آمنا مطمئنا والآخر قد ضل الطريق فلم يدر أين يتوجه كما قال تعالى قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى
فالرحمة التي تحصل لمن حصل له الهدى هي بحسب هداه فكلما كان نصيبه من الهدى اتم كان حظه من الرحمة أوفر وهذه هي الرحمة الخاصة بعباده المؤمنين هي غير الرحمة العامة بالبر والفاجر
وقد جمع الله سبحانه لأهل هدايته بين الهدى والرحمة والصلاة عليهم فقال تعالى: أولكئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: نعم العدلان ونعمت العلاوة فبالهدى خلصوا من الضلال وبالرحمة نجوا من الشقاء والعذاب وبالصلاة عليهم نالوا منزلة القرب والكرامة والضالون حصل لهم ضد هذه الثلاثة: الضلال عن طريق السعادة والوقوع في ضد الرحمة من الألم والعذاب والذم واللعن الذي هو ضد الصلاة ولما كان نصيب كل عبد من الرحمة على قدر نصيبه من الهدى كان أكمل المؤمنين إيمانا أعظمهم رحمة كما قال تعالى في أصحاب رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم. وكان الصديق رضي الله عنه من أرحم الأمة وقد روى عن النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png أنه قال: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر رواه الترمذي وكان أعلم الصحابة باتفاق الصحابة كما قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: وكان أبو بكر رضي الله عنه أعلمنا به يعني النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png فجمع الله له بين سعة العلم والرحمة
وهكذا الرجل كلما اتسع علمه اتسعت رحمته وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلما فوسعت رحمته كل شىء وأحاط بكل شىء علما فهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها بل هو أرحم بالعبد من نفسه كما هو أعلم بمصلحة العبد من نفسه والعبد لجهله بمصالح نفسه وظلمه لها يسعى فيما يضرها ويؤلمها وينقص حظها من كرامته وثوابه ويبعدها من قربه وهو يظن أنه ينفعها ويكرمها وهذا غاية الجهل والظلم والإنسان ظلوم جهول فكم من مكرم لنفسه بزعمه وهو لها مهين ومرفه لها وهو لها متعب ومعطيها بعض غرضها ولذتها وقد حال بينها وبين جميع لذاتها فلا علم له بمصالحها التي هي مصالحها ولا رحمة عنده لها فما يبلغ عدوه منه ما يبلغ هو من نفسه فقد بخسها حظها وأضاع حقها وعطل مصالحها وباع نعيمها الباقي ولذتها الدائمة الكاملة بلذة فانية مشوبة بالتنغيص إنما هي كأضغاث أحلام أو كطيف زار في المنام وليس هذا بعجيب من شأنه وقد فقد نصيبه من الهدى والرحمة فلو هدي ورحم لكان شأنه غير هذا الشأن ولكن الرب تعالى أعلم بالمحل الذي يصلح للهدى والرحمة فهو الذي يؤتيها العبد كما قال عن عبده الخضر: فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا
فصل
ومما ينبغي أن يعلم: أن الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد وإن كرهتها نفسه وشقت عليها فهذه هي الرحمة الحقيقية فأرحم الناس بك من شق عليك في إيصال مصالحك ودفع المضار عنك
فمن رحمة الأب بولده: أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره ويمنعه شهواته التي تعود بضرره ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلة رحمته به وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه ويريحه فهذه رحمة مقرونة بجهل كرحمة الأم
ولهذا كان من تمام رحمة أرحم الراحمين: تسليط أنواع البلاء على العبد فإنه أعلم بمصلحته فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته: من رحمته به ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه
وقد جاء في الأثر: إن المبتلى إذا دعي له: اللهم ارحمه يقول الله سبحانه: كيف أرحمه من شيء به أرحمه وفي أثر آخر: إن الله إذا أحب عبده حماه الدنيا وطيباتها وشهواتها كما يحمي أحدكم مريضه
فهذا من تمام رحمته به لا من بخله عليه
كيف وهو الجواد الماجد الذي له الجود كله وجود جميع الخلائق في جنب جوده أقل من ذرة في جبال الدنيا ورمالها
فمن رحمته سبحانه بعباده: ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمة وحمية لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به فهو الغني الحميد ولا بخلا منه عليهم بما نهاهم عنه فهو الجواد الكريم
ومن رحمته: أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا في النعيم المقيم في داره وجواره فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان فمنعهم ليعطيهم وابتلاهم ليعافيهم وأماتهم ليحييهم ومن رحمته بهم: أن حذرهم نفسه لئلا يغتروا به فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به كما قال تعالى: ويحذركم الله نفسه والله رؤزف بالعباد
قال غير واحد من السلف: من رأفته بالعباد: حذرهم من نفسه لئلا يغتروا به
فصل
ولما كان تمام النعمة على العبد إنما هو بالهدى والرحمة كان لهما ضدان: الضلال والغضب
فأمرنا الله سبحانه أن نسأله كل يوم وليلة مرات عديدة أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم وهم أولو الهدى والرحمة ويجنبنا طريق المغضوب عليهم وهم ضد المرحومين وطريق الضالين وهم ضد المهتدين ولهذا كان هذا الدعاء من أجمع الدعاء وأفضله وأوجبه وبالله التوفيق
فصل
إذا كان كل عمل فأصله المحبة والإرادة والمقصود به التنعم بالمراد المحبوب فكل حي إنما يعمل لما فيه تنعمه ولذته فالتنعم هو المقصود الأول من كل قصد وكل حركة كما أن العذاب والتألم هو المكروه المقصود أولا بكل بغض وكل امتناع وكف ولكن وقع الجهل والظلم من بني آدم بمعنيين: بالدعين الفاسد والدنيا الفاجرة طلبوا بهما النعيم وفي الحقيقة فإنما فيهما ضده ففاتهم النعيم من حيث طلبوه وآثروه ووقعوا في الألم والعذاب من حيث هربوا منه وبيان ذلك: أن الأعمال التي يعملها جميع بني آدم إما أن يتخذوها دينا أولا يتخذوها دينا
والذين يتخذونها دينا إما أن يكون الدين بها دين حقا وإما أن يكون دينا باطلا فنقول: النعيم التام هو في الدين الحق علما وعملا فأهله هم أصحاب النعيم الكامل كما أخبر الله تعالى بذلك في كتابه في غير موضع كقوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين وقوله عن المتقين المهتدين بالكتاب أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون وقوله فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى وفي الآية الأخرى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقوله إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم والقرآن مملوء من هذا
فوعد أهل الهدى والعمل الصالح بالنعيم التام في الدار الآخرة ووعيد أهل الضلال والفجور بالشقاء في الدار الآخرة مما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم وتضمنته الكتب ولكن نذكر ههنا نكتة نافعة
وهي أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيرا من أهل الإيمان في الدنيا من المصائب وما ينال كثيرا من الكفار والفجار والظلمة في الدنيا من الرياسة والمال وغير ذلك فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا للكفار والفجار وأن المؤمنين حظهم من النعيم في الدنيا قليل وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة في الدنيا تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين فإذا سمع في القرآن قوله تعالى: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. وقوله:
وإن جندنا لهم الغالبون وقوله: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي وقوله: والعاقبة للمتقين ونحو هذه الآيات وهو ممن يصدق بالقرآن حمل ذلك على أن حصوله في الدار الآخرة فقط وقال: أما الدنيا فإنا نرى الكفار والمنافقين يغلبون فيها ويظهرون ويكون لهم النصر والظفر والقرآن لا يرد بخلاف الحس ويعتمد على هذا الظن إذا أديل عليه عدو من جنس الكفار والمنافقين أو الفجرة الظالمين: وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق فيقول: أنا على الحق وأنا مغلوب فصاحب الحق في هذه الدنيا مغلوب مقهور والدولة فيها للباطل
فإذا ذكر بما وعده الله تعالى من حسن العاقبة للمتقين والمؤمنين قال: هذا في الآخرة فقط
وإذا قيل له: كيف يفعل الله تعالى هذا بأوليائه وأحبائه وأهل الحق
فإن كان ممن لا يعلل أفعال الله تعالى بالحكم والمصالح قال: يفعل الله في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون
وإن كان ممن يعلل الأفعال قال: فعل بهم هذا ليعرضهم بالصبر عليه لثواب الآخرة وعلو الدرجات وتوفية الأجر بغير حساب
ولكل أحد مع نفسه في هذا المقام مباحثات وإيرادات وإشكالات وأجوبة بحسب حاصله وبضاعته من المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته وحكمته والجهل بذلك فالقلوب تغلي بما فيها كالقدر إذا استجمعت غليانا
فلقد بلغنا وشاهدنا من كثير من هؤلاء من التظلم للرب تعالى واتهامه ما لا يصدر إلا من عدو فكان الجهم يخرج بأصحابه فيقفهم على الجذمى وأهل البلاء ويقول: انظروا أرحم الراحمين يفعل مثل هذا إنكارا لرحمته كما أنكر حكمته
فليس الله عند جهم وأتباعه حكيما ولا رحيما
وقال آخر من كبار القوم: ما على الخلق أضر من الخالق