فصل
ومن أسباب عبادة الأصنام الغلو في المخلوق وإعطاؤه فوق منزلته حتى جعل فيه حظ من الإلهية وشبهوه بالله سبحانه وهذا هو التشبيه الواقع في الأمم الذي أبطله الله سبحانه وبعث رسله وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله
فهو سبحانه ينفي وينهي أن يجعل غيره مثلاله وندا له وشبها له لا أن يشبه هو بغيره إذ ليس في الأمم المعروفة أمه جعلته سبحانه مثلا لشيء من مخلوقاته فجعلت المخلوق أصلا وشبهت به الخالق فهذا لا يعرف في طائفة من طوائف بني آدم وإنما الأول هو المعروف في طوائف أهل الشرك غلوا فيمن يعظمونه ويحبونه حتى شبهوه بالخالق وأعطوه خصائص الإلهية بل صرحوا أنه إله وأنكروا جعل الآلهة إلها واحدا وقالوا 38: 6 اصبروا على آلهتكم وصرحوا بأنه إله معبود يرجى ويخاف ويعظم ويسجد له ويحلف باسمه وتقرب له القرابين إلى غير ذلك من خصائص العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى
فكل مشرك فهو مشبه لإلهه ومعبوده بالله سبحانه وإن لم يشبهه به من كل وجه حتى إن الذين كفروا وصفوه سبحانه بالنقائص والعيوب كقولهم 3: 181 إن الله فقير وإن 5: 64 يد الله مغلولة وإنه استراح لما فرغ من خلق العالم والذين جعلوا له ولدا وصاحبة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا لم يكن قصدهم أن يجعلوا المخلوق أصلا ثم يشبهون به الخالق بل وصفوه بهذه الأشياء استقلالا لا قصدا أن يكون غيره أصلا فيها وهو مشبه به
ولهذا كان وصفه سبحانه بهذه الأمور من أبطل الباطل لكونها في نفسها نقائص وعيوبا ليس جهة البطلان في اتصافه بها هو التشبيه والتمثيل فلا يتوقف في نفيها عنه على ثبوت انتفاء التشبيه كما يفعله بعض أهل الكلام الباطل حيث صرحوا بأنه لا يقوم دليل عقلي على انتفاء النقائص والعيوب عنه وإنما تنفي عنه لاستلزامها التشبيه والتمثيل
وهؤلاء إذا قال لهم الواصفون لله سبحانه بهذه الصفات نحن نثبتها له على وجه لا يماثل فيها خلقه بل نثبت له فقرا وصاحبة وإيلادا لا يماثل فيه خلقه كما تثبتون أنتم له علما وقدرة وحياة وسمعا وبصرا لا يماثل فيها خلقه فقولنا في هذا كقولكم فيما أثبتموه سواء لم يتمكنوا من إبطال قولهم ويصيرون أكفاء لهم في المناظرة فإنهم قد أعطوهم أنه لا يقوم دليل عقلي على انتفاء النقائص والعيوب وإنما ننفي ما نفى عنه لأجل التشبيه والتمثيل وقد أثبتوا له صفات على وجه لا يستلزم التشبيه فقال أولئك وهكذا نقول نحن
ولما عرف بعضهم أن هذا لازم له لا محالة استروح إلى دليل الإجماع وقال إنما نفينا النقائص والعيوب عنه بالإجماع وعندهم أن الإجماع أدلته ظنية لا تفيد اليقين فليس عند القوم يقين وقطع بأن الله سبحانه منزه عن النقائص والعيوب
وأهل السنة يقولون إن تنزيهه سبحانه عن العيوب والنقائص واجب لذاته كما أن إثبات صفات الكمال والحمد واجب لذاته وهو أظهر في العقول والفطر وجميع الكتب الإلهية وأقوال الرسل من كل شيء
ومن العجب أن هؤلاء جاءوا إلى ما علم بالإضطرار أن الرسل جاءوا به ووصفوا الله سبحانه به ودلت عليه العقول والفطر والبراهين فنفوه وقالوا إثباته يستلزم التجسيم والتشبيه فلم يثبت لهم قدم ألبتة فيما يثبتونه له سبحانه وينفونه عنه وجاءوا إلى ما علم بالإضطرار والفطر والعقول وجميع الكتب الإلهية من تنزيه الله سبحانه عن كل نقص وعيب فقالوا ليس في أدلة العقل ما ينفيه وإنما ننفيه بما ننفي به التشبيه
وليس في الخذلان فوق هذا بل إثبات هذه العيوب والنقائص يضاد كماله المقدس وهو سبحانه موصوف بما يضادها وينافيها من كل وجه ونفيها أظهر وأبين في العقول من نفي التشبيه فلا يجوز أن تثبت له على وجه لا يشابه فيه خلقه
والمقصود أنه لم يكن في الأمم من مثله بخلقه وجعل المخلوق أصلا ثم شبهه به وإنما كان التمثيل والتشبيه في الأمم حيث شبهوا أوثانهم ومعبوديهم به في الألهية وهذا التشبيه هو أصل عبادة الأصنام فأعرض عنه وعن بيان بطلانه أهل الكلام وصرفوا العناية إلى إنكار تشبيهه بالخلق الذي لم تعرف أمة من الأمم عليه وبالغوا فيه حتى نفوا به عنه صفات الكمال
وهذا موضع مهم نافع جدا به يعرف الفرق بين ما نزه الرب سبحانه نفسه عنه وذم به المشركين المشبهين العادلين به خلقه وبين ما ينفيه الجهمية المعطلة من صفات كماله ويزعمون أن القرآن دل عليه وأريد به نفيه
والقرآن مملوء من إبطال أن يكون في المخلوقات ما يشبه الرب تعالى أو يماثله فهذا هو الذي قصد بالقرآن إبطالا لما عليه المشركون والمشبهون العادلون بالله تعالى غيره
قال تعالى 2: 22 فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون وقال 2: 165
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله فهؤلاء جعلوا المخلوق مثلا للخالق فالند الشبه يقال فلان ند فلان ونديده أي مثله وشبهه ومنه قول حسان بن ثابت
أتهجوه ولست له بند... فشركما لخيركما الفداء
ومنه قول النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png لمن قال له ما شاء الله وشئت أجعلتني لله ندا وقال جرير:
أتيما تجعلون إلي ندا... وما تيم لذي حسب نديد
قال ابن مسعود وابن عباس لا تجعلوا لله أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله
وقال ابن زيد الأنداد الآلهة التي جعلوها معه
وقال الزجاج أي لا تجعلوا لله أمثالا
فالذي أنكره الله سبحانه عليهم هو تشبيه المخلوق به حتى جعلوه ندا لله تعالى يعبدونه كما يعبدون الله وكذلك قوله في الآية الأخرى 2: 165 ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله فأنكر هذا التشبيه عليهم وهو أصل عبادة الأصنام
ونظير هذا قوله سبحانه 6: 1 الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون أي يعدلون به غيره فيجعلون له من خلقه عدلا وشبها
قال ابن عباس يريد عدلوا بي من خلقي الحجارة والأصنام بعد أن أقروا بنعمتي وربوبيتي
وقال الزجاج أعلم الله سبحانه أنه خالق ما ذكر في هذه الآية وأن خالقها لا شيء مثله مثله وأعلم أن الكفار يجعلون له عديلا والعدل التسوية يقال عدل الشيء بالشيء إذا سواه به ومعنى يعدلون به يشركون به غيره
قال مجاهد قال الأحمر يقال عدل الكافر بربه عدلا وعدولا إذا سوى به غيره فعبده
وقال الكسائي عدلت الشيء بالشيء أعدله عدولا إذا ساويته به
ومثله قوله تعالى عن هؤلاء المشبهين إنهم يقولون في النار لآلهتهم 26: 97 تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين فاعترفوا أنهم كانوا في أعظم الضلال وأبينه إذ جعلوا لله شبها وعدلا من خلقه سووهم به في العبادة والتعظيم
وقال تعالى 19: 65 رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا قال ابن عباس شبها ومثلا وهو من يساميه
وذلك نفي عن المخلوق أن يكون مشابها للخالق ومماثلا له بحيث يستحق العبادة التعظيم ولم يقل سبحانه هل تعلمه سميا أو مشبها لغيره فإن هذا لم يقله أحد بل المشركون المشبهون جعلوا بعض المخلوقات مشابها له مساميا وندا وعدلا فأنكر عليهم هذا التشبيه والتمثيل
وكذلك قوله 16: 73 ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال فنهاهم أن يضربوا له مثلا من خلقه ولم ينههم أن يضربوه هو مثلا لخلقه فإن هذا لم يقله أحد ولم يكونوا يفعلونه فإن الله سبحانه أجل وأعظم وأكبر من كل شيء في فطر الناس كلهم ولكن المشبهون المشركون يغلون فيمن يعظمونه فيشبهونهم بالخالق والله تعالى أجل في صدور جميع الخلق من أن يجعلوا غيره أصلا ثم يشبهونه سبحانه بغيره
فالذي يشبهه بغيره إن قصد تعظيمه لم يكن في هذا تعظيم لأنه مثل أعظم العظماء بما هو دونه بل بما ليس بينه وبينه نسبة وشبه في العظمة والجلالة وعاقل لا يفعل هذا
وإن قصد التنقيص شبهه بالناقصين المذمومين لا بالكاملين الممدوحين
ومن هنا يعلم أن إثبات صفات الكمال له لا يتضمن التشبيه والتمثيل لا بالكاملين ولا بالناقصين وأن نفي تلك الصفات يستلزم تشبيهه بأنقص الناقصين
فانظر إلى الجهمية وأتباعهم جاءوا إلى التشبيه المذموم فأعرضوا عنه صفحا وجاءوا إلى الكمال والمدح فجعلوه تشبيها وتمثيلا عكس ما يثبته القرآن وجاء به من كل وجه
ومن هذا قوله تعالى ولم يكن له كفوا أحد هو سلب عن المخلوق مكافأته ومماثلته للخالق سبحانه ولم يقل ولم يكن هو كفوا لأحد فينفي عن نفسه مشابهته للمخلوق ومكافأته له إذ كان ذلك أبين وأظهر من أن يحتاج إلى نفيه
وسر ذلك أن المقصود أن المخلوق لا يماثله سبحانه في شيء من صفاته وخصائصه وأما كونه سبحانه هو لا يماثل المخلوق ولا يشابهه ولا هو ند له ولا كفؤ فليس فيه مدح له
فإنه لو مدح بعض الملوك أو غيرهم بأنه لا يشبه الحيوانات ولا الحجارة ولا الخشب ونحو ذلك لم يعد هذا مدحا ولا ثناء عليه ولا كمالا له بخلاف ما إذا قيل لا تجعل للملك ندا ولا كفؤا ولا شبيها من رعيته تعظمه كتعظيمه وتطيعه كطاعته فإنه ليس في رعيته من يساميه ولا يماثله ولا يكافئه كان هذا غاية المدح
وكذلك قوله سبحانه 42: 11 ليس كمثله شيء وهو السميع البصير إنما قصد به نفي أن يكون معه شريك أو معبود يستحق العبادة والتعظيم كما يفعله المشبهون والمشركون ولم يقصد به نفي صفات كماله وعلوه على خلقه وتكلمه بكتبه وتكليمه لرسله
ورؤية المؤمنين له جهرة بأبصارهم كما ترى الشمس والقمر في الصحو فإنه سبحانه إنما ذكر هذا في سياق رده على المشركين الذين اتخذوا من دونه أولياء يوالونهم من دونه فقال تعالى 42: 6 والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
فتأمل كيف ذكر هذا النفي تقريرا للتوحيد وإبطالا لما عليه أهل الشرك من تشبيه آلهتهم وأوليائهم به حتى عبدوهم معه فحرفها المحرفون وجعلوها ترسا لهم في نفي صفات كماله وحقائق أسمائه وأفعاله
وهذا التشبيه الذي أبطله الله سبحانه نفيا ونهيا هو أصل شرك العالم وعبادة الأصنام ولهذا نهى النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png أن يسجد أحد لمخلوق مثله أو يحلف بمخلوق مثله أو يصلي إلى قبر أو يتخذ عليه مسجدا أو يعلق عليه قنديلا أو يقول القائل ما شاء الله وشاء فلان ونحو ذلك حذرا من هذا التشبيه الذي هو أصل الشرط
وأما إثبات صفات الكمال فهو أصل التوحيد
فتبين أن المشبهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق في العبادة والتعظيم والخضوع والحلف به والنذر له والسجود له والعكوف عند بيته وحلق الرأس له والإستغاثة به والتشريك بينه وبين الله في قولهم ليس لي إلا الله وأنت وأنا متكل على الله وعليك وهذا من الله ومنك وأنا في حسب الله وحسبك وما شاء الله وشئت وهذا لله ولك وأمثال ذلك
فهؤلاء هم المشبهه حقا لا أهل التوحيد المثبتون لله ما أثبته لنفسه والنافون عنه ما نفاه عن نفسه الذين لا يجعلون له ندا من خلقه ولا عدلا ولا كفؤا ولا سميا وليس لهم من دونه ولي ولا شفيع
فمن تدبر هذا الفصل حق التدبر تبين له كيف وقعت الفتنة في الأرض بعبادة الأصنام وتبين له سر القرآن في الإنكار على هؤلاء المشبهة الممثلة ولا سيما إذا جمعوا إلى هذا التشبيه تعطيل الصفات والأفعال كما هو الغالب عليهم فيجمعون بين تعطيل الرب سبحانه عن صفات كماله وبين تشبيه خلقه به
فصل
ومن كيده وتلاعبه ما تلاعب بعباد النار حتى اتخذوها إلها معبودة، وقد قيل إن هذا كان من عهد قابيل كما ذكر أبو جعفر محمد بن جرير أنه لما قتل قابيل هابيل وهرب من أبيه آدم عليه السلام أتاه إبليس فقال له إن هابيل إنما قبل قربانه وأكلته النار لأنه كان يخدمها ويعبدها فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك فبنى بيت نار فهو أول من نصب النار وعبدها
وسرى هذا المذهب في المجوس فبنوا لها بيوتا كثيرة واتخذوا لها الوقوف والسدنة والحجاب فلا يدعوها تخمد لحظة واحدة فاتخذ لها إفريدون بيتا بطوس وآخر ببخارى واتخذ لها بهمن بيتا بسجستان واتخذ لها أبو قباذ بيتا بناحية بخارى واتخذت لها بيوت كثيرة وعباد النار يفضلونها على التراب ويعظمونها ويصوبون رأي إبليس وقد رمي بشار بن برد بهذا المذهب لقوله في قصيدته:
الأرض سافلة سوداء مظلمة... والنار معبودة مذ كانت النار
ويقولون: إنها أوسع العناصر خيرا وأعظمها جرما وأوسعها مكانا وأشرفها جوهرا وألطفها جرما ولا كون في العالم إلا بها ولا نمو ولا انعقاد إلا بممازجتها
ومن عبادتهم لها: أن يحفروا لها أخدودا مربعا في الأرض ويطوفون به