ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث؛ فما أطلق عقاله إلا وهو قائم؛ ولولا عهد رسول الله
ص إلى ألا أحدث شيئًا حتى آتيه، ثم شئت لقتلته بسهم. قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله
ص، وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مرحلٍ؛ فلما رآني أدخلني بين رجليه وطرح على طرف المرط ثم ركع وسجد؛ فأذلقته. فلما سلم أخبرته الخبر، وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق قال: فلما أصبح نبي الله
ص انصرف عن الخندق راجعًا إلى المدينة والمسلمون ووضعوا السلاح.
غزوة بني قريظة
فلما كانت الظهر، أتى جبريل رسول الله
ص - كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري - معتجرًا بعمامة من إستبرق، على بغلةٍ عليها رحالة، عليها قطيفة من ديباج، فقال: أقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال نعم، قال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح وما رجعت الآن إلا من طلب القوم؛ إن الله يأمرك يا محمد بالسير إلى بني قريظة، وأنا عامد إلى بني قريظة.
فأمر رسول الله
ص مناديًا، فأذن في الناس: إن من كان سامعًا مطيعًا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة.
وقدم رسول الله
ص علي بن أبي طالب برايته إلى بني قريظة، وابتدرها الناس، فسار علي بن أبي طالب عليه السلام؛ حتى إذا دنا من الحصون، سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله
ص منهم؛ فرجع حتى لقى رسول الله
ص بالطريق، فقال: يا رسول الله، لا عليك ألا تدنو من هؤلاء الأخابث! قال: لم؟ أظنك سمعت لي منهم أذى! قال: نعم يا رسول الله. لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئًا. فلما دنا رسول الله
ص من حصونهم، قال: يا إخوان القردة، هل أخزاكم الله، وأنزل بكم نقمته! قالوا: يا أبا القاسم، ما كنت جهولًا. ومر رسول الله
ص على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة، فقال: هل مر بكم أحد؟ فقالوا: نعم يا رسول الله، قد مر بنا دحية بن خليفة الكلبي، على بغلة بيضاء، عليها رحالة عليها قطيفة ديباج، فقال رسول الله
ص: ذلك جبريل، بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم، ويقذف الرعب في قلوبهم. فلما أتى رسول الله
ص بني قريظة، نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم، يقال لها بئر أنا؛ فلاحق به الناس، فأتاه رجالٌ من بعد العشاء الآخرة، ولم يصلوا العصر، لقول رسول الله
ص: لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة، لشيء لم يكن لهم منه بد من حربهم؛ وأبوا أن يصلوا، لقول النبي
ص: حتى تأتوا بني قريظة، فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة. فما عابهم الله بذلك في كتابه؛ ولا عنفهم به رسول الله
ص. والحديث عن محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا محمد ابن عمرو، قال: حدثني أبي، عن علقمة، عن عائشة، قالت: ضرب رسول الله
ص على سعد قبة في المسجد، ووضع السلاح - يعني عند منصرف رسول الله
ص من الخندق - ووضع المسلمون السلاح، فجاءه جبريل عليه السلام، فقال: أوضعتم السلاح! فوالله ما وضعت الملائكة بعد السلاح، اخرج إليهم فقاتلهم، فدعا رسول الله
ص بلأمته فلبسها، ثم خرج وخرج المسلمون؛ فمر ببني غنم، فقال: من مر بكم؟ قالوا: علينا دحية الكلبي - وكان يشبه سنته ولحيته ووجهه بجبريل عليه السلام - حتى نزل عليهم، وسعدٌ في قبته التي ضرب عليه رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png في المسجد؛ فحاصرهم شهرًا - أو خمسًا وعشرين ليلة - فلما اشتد عليهم الحصار قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله، فأشار أبو لبابة بن عبد المنذر إنه الذبح، فقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ، فقال رسول الله
ص: انزلوا على حكمه، فنزلوا، فبعث إليه رسول الله
ص بحمار بإكاف من ليف، فحمل عليه. قالت عائشة: لقد كان برأ كلمه حتى ما يرى منه إلا مثل الخرص.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق، قال: وحاصرهم رسول الله
ص خمسًا وعشرين ليلة؛ حتى جهدهم الحصار؛ وقذف الله في قلوبهم الرعب - وقد كان حيى بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاءً لكعب بن اسد بما كان عاهده عليه - فلما ايقنوا أن رسول الله
ص غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد لهم: يا معشر يهود، إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم! قالوا: وما هن؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه؛ فوالله لقد كان تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه للذي كنتم تجدونه في كتابكم، فتأمنوا على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدًا، ولا نستبدل به غيره. قال: فإذا أبيتم هذه علي فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجلا مصلتين السيوف؛ ولم نترك وراءنا ثقلًا يهمنا؛ حتى يحكم الله بيننا وبين محمد؛ فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئًا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنجدن النساء ولأبناء.
قالوا: نقتل هؤلاء المساكين؛ فما خير العيش بعدهم! قال: فإذا أبيتم هذه على فإن الليلة ليلة السبت؛ وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها؛ فانزلوا لعلنا نصيب محمد وأصحابه غرةً.
قالوا: نفسد سبتنا، ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا، إلا من قد علمت. فأصابه من المسخ ما لم يخفف عليك. قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازمًا.
قال: ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله
ص: أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر؛ أخا بني عمرو بن عوف - وكانوا حلفاء الأوس - نستشيره في أمرنا، فأرسله رسول الله
ص إليهم فلما رأوه قام إليه الرجال، وبهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد! قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه: إنه الذبح؛ قال: قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني خنت الله ورسوله.
ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله
ص حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت؛ وعاهد الله ألا يطأ بني قريظة أبدًا.
وقال: لا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدًا. فلما بلغ رسول الله
ص خبره، وأبطأ عليه - وكان قد استبطأه - قال: أما لو جاءني لا ستغفرت له؛ فأما إذ فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن فضل، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، أن توبة أبي لبابة أنزلت على رسول الله
ص: وهو في بيت أم سلمة.
قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله
ص من السحر يضحك فقلت: مم تضحك يا رسول الله، أضحك الله سنك! قال: تيب على أبي لبابة، فقلت: ألا أبشره بذلك يا رسول الله! قال: بلى إن شئت؛ قال: فقامت على باب حجرتها - وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب - فقالت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك. قال: فثار الناس إليه ليطلقوه؛ فقال: لا والله حتى يكون رسول الله
ص هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه خارجًا إلى الصبح أطلقه.
قال ابن إسحاق: ثم إن ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية، وأسد ابن عبيد - وهم نفر من بني هدل؛ ليسوا من بني قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك - هم بنو عم القوم أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله
ص - وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدي القرظي، فمر بحرس رسول الله
ص؛ وعليه محمد بن مسلمة الأنصاري تلك الليلة؛ فلما رآه قال: من هذا؟ قال: عمرو بن سعدي - وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله
ص، وقال: لا أغدر بمحمد أبدًا - فقال محمد بن مسلمة حين عرفه: اللهم لا تحرمني عثرات الكرام. ثم خلى سبيله؛ فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله
ص بالمدينة تلك الليلة. ثم ذهب فلا يدري أين ذهب من أرض الله إلى يومه هذا! فذكر لرسول اله
ص شأنه، فقال: ذاك الرجل نجاه الله بوفائه.
قال ابن إسحاق: وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله
ص، فأصبحت رمته ملقاةً لا يدري أين يذهب، فقال رسول الله
ص في تلك المقالة. والله أعلم.
قال ابن إسحاق. فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله
ص، فتواثبت الأوس. فقالوا: يا رسول الله، إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت - وقد كان رسول الله
ص قبل بني قريظة حاصر بني قنينقاع، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه؛ فسأله إياهم عبد الله بن أبي سلول، فوهبهم له.