فصل
ومن تلاعبه وكيده تلاعبه بالثنوية وهم طائفة قالوا الصانع اثنان ففاعل الخير نور وفاعل الشر ظلمة وهما قديمان لم يزالا ولن يزالا قويين حساسين مدركين سميعين بصيرين وهما مختلفان في النفس والصورة متضادان في الفعل والتدبير فالنور فاضل حسن نقي طيب الريح حسن المنظر ونفسه خيرة كريمة حكيمة نفاعة منها الخيرات والمسرات والصلاح وليس فيها شيء من الضرر ولا من الشر
والظلمة على ضد ذلك من الكدر والنقص ونتن الريح وقبح المنظر ونفسها نفس شريرة بخيلة سفيهة منتنة مضرة منها الشر والفساد
ثم اختلفوا فقالت فرقة منهم إن النور لم يزل فوق الظلمة
وقالت فرقة بل كل واحد منهما إلى جانب الآخر
وقالت فرقة النور لم يزل مرتفعا في ناحية الشمال والظلمة منحطة في الجنوب ولم يزل كل واحد منهما مباينا لصاحبه
وزعموا أن لكل واحد منهما أربعة أبدان وخامس هو الروح فأبدان النور الأربعة النار والنور والريح والماء وروحه النسيم ولم يزل يتحرك في هذه الأبدان
وأبدان الظلمة الأربعة الحريق والظلمة والسموم والضباب وروحها الدخان وسموا أبدان النور ملائكة وسموا أبدان الظلمة شياطين وعفاريت
وبعضهم يقول الظلمة تتولد شياطين والنور يتولد ملائكة والنور لا يقدر على الشر ولا يجيء منه والظلمة لا تقدر على الخير ولا يجي منها
ولهم مذاهب سخيفة جدا
وفرض عليهم صوم سبع العمر وأن لا يؤذي أحدهم ذا روح ألبتة
ومن شريعتهم أن لا يدخروا إلا قوت يوم وتجنب الكذب والبخل والسحر وعبادة الأوثان والزنا والسرقة
واختلفوا هل الظلمة قديمة أو حادثة
فقالت فرقة منهم هي قديمة لم تزل مع النور
وقالت فرقة بل النور هو القديم ولكنه فكر فكرة رديئة حدثت منها الظلمة
فدار مذهبهم على أصلين من أبطل الباطل:
أحدهما أن شر الموجودات وأخبثها وأردأها كفؤ لخير الموجودات وضد له ومناوء له يعارضه ويضاده ويناقضه دائما ولا يستطيع دفعه
وهذا أعظم من شرك عباد الأصنام الذين عبدوها لتقربهم إلى الله تعالى فإنهم جعلوها مملوكة له مربوبة مخلوقة كما كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه ومالك
والأصل الثاني أنهم نزهو النور أن يصدره منه شر ثم جعلوه منبع الشر كله وأصله ومولده وأثبتوا إلهين وربين وخالقين فجمعوا بين الكفر بالله تعالى وأسمائه وصفاته ورسله وأنبيائه وملائكته وشرائعه وأشركوا به أعظم الشرك
وحكى أرباب المقالات عنهم أن قوما منهم يقال لهم الديصانية زعموا أن طينة العالم كانت طينة خشنة وكانت تحاكي جسم النور الذي هو الباري عندهم زمانا فتأذى بها فلما طال ذلك عليه قصد تنحيتها عنه فتوحل فيها واختلط بها فتركب من بينهما هذا العالم المشتمل على النور والظلمة فما كان من جهة الصلاح فمن النور وما كان من جهة الفساد فمن الظلمة قال: وهؤلاء يغتالون الناس ويخنقونهم ويزعمون أنهم يحسنون إليهم بذلك وأنهم يخلصون الروح النورانية من الجسد المظلم
وقال بعضهم: إن الباري سبحانه لما طالت وحدته استوحش ففكر فكرة سوء فتجسمت فكرته فاستحالت ظلمة فحدث منها إبليس فرام الباري إبعاده عن نفسه فلم يستطع فتحرز منه بخلق الجنود والخيرات فشرع إبليس في خلق الشر وأصل عقد مذهبهم الذي عليه خواصهم: إثبات القدماء الخمسة: الباري والزمان والخلاء والهيولي وإبليس فالباري خالق الخيرات وإبليس خالق الشرور وكان محمد بن زكريا الرازى على هذا المذهب لكنه لم يثبت إبليس فجعل مكانه النفس وقال: بقدم الخمسة مع ما رشحه به من مذاهب الصابئة والدهرية والفلاسفة والبراهمة فكان قد أخذ من كل دين شر ما فيه وصنف كتابا في إبطال النبوات ورسالة في إبطال المعاد فركب مذهبا مجموعا من زنادقة العالم
وقال: أنا أقول: إن الباري والنفس والهيولي والمكان والزمان: قدماء وأن العالم محدث
فقيل له: فما العلة في إحداثه
فقال: إن النفس اشتهت أن تحبل في هذا العالم وحركتها الشهوة لذلك ولم تعلم ما يلحقها من الوبال إذا حبلت فيه فاضطربت وحركت الهيولي حركات مشوشة مضطربة على غير نظام وعجزت عما أرادت فأعانها الباري على إحداث هذا العالم وحملها على النظام والاعتدال وعلم أنها إذا ذاقت وبال ما اكتسبته عادت إلى عالمها وسكن اضطرابها وزالت شهواتها واستراحت فأحدثت هذا العالم بمعاونة الباري لها قال: ولولا ذلك لما قدرت على إحداث هذا العالم ولولا هذه العلة لما حدث هذا العالم
ولولا أن الله سبحانه يحكي عن المشركين والكفار أقوالا أسخف من هذا وأبطل لاستحيى العاقل من حكاية مثل هذا ولكن الله سبحانه سن لنا حكاية أقوال أعدائه
وفي ذلك من قوة الإيمان وظهور جلالته ومعرفة قدره وتمام نعمة الله تعالى على أهله به ومعرفة قدر خذلانه للعبد وإلى أي شيء يصيره الخذلان حتى يصير ضحكة لكل عاقل فأي ضلال وأي خذلان أعجب ممن أن يفني عمره في النظر والبحث وهذا غاية علمه بالله تعالى وبالمبدأ والمعاد
فصل
والمجوس تعظم الأنوار والنيران والماء والأرض ويقرون بنبوة زرادشت ولهم شرائع يصيرون إليها وهم فرق شتى منهم: المزدكية أصحاب مزدك الموبذ والموبذ عندهم: العالم القدوة وهؤلاء يرون الاشتراك في النساء والمكاسب كما يشترك في الهواء والطرق وغيرها ومنهم الخرمية: أصحاب بابك الخرمي وهم شر طوائفهم لا يقرون بصانع ولا معاد ولا نبوة ولا حلال ولا حرام وعلى مذهبهم: طوائف القرامطة والإسماعلية والنصيرية والبشكية والدرزية والحاكمية وسائر العبيدية الذين يسمون أنفسهم الفاطمية وهم من أكفر الكفار كما ستأتي ترجمتهم فكل هؤلاء يجمعهم هذا المذهب ويتفاوتون في التفصيل
فالمجوس شيوخ هؤلاء كلهم وأئمتهم وق***هم وإن كان المجوس قد يتقيدون بأصل دينهم وشرائعهم وهؤلاء لا يتقيدون بدين من ديانات العالم ولا بشريعة من الشرائع
ذكر تلاعبه بالصابئة
هذه أمة كبيرة من الأمم الكبار وقد اختلف الناس فيهم اختلافا كثيرا بحسب ما وصل إليهم من معرفة دينهم وهم منقسمون إلى مؤمن وكافر قال الله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
فذكرهم في الأمم الأربعة الذين تنقسم كل أمة منهم إلى ناج وهالك
وذكرهم أيضا في الأمم الستة الذين انقسمت جملتهم إلى ناج وهالك كما في قوله: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة
فذكر الأمتين اللتين لا كتاب لهم ولا ينقسمون إلى شقي وسعيد وهما: المجوس والمشركون في آية الفصل ولم يذكرهما في آية الوعد بالجنة وذكر الصابئين فيهما فعلم أن فيهم الشقي والسعيد
وهؤلاء كانوا قوم إبراهيم الخليل وهم أهل دعوته وكانوا بحران فهي دار الصابئة وكانوا قسمين صائبة حنفاء وصابئة مشركين والمشركون منهم يعظمون الكواكب السبعة والبروج الاثني عشر ويصورونها في هياكلهم
ولتلك الكواكب عندهم هياكل مخصوصة وهي المتعبدات الكبار كالكنائس للنصارى والبيع لليهود فلهم هيكل كبير للشمس وهيكل للقمر وهيكل للزهرة وهيكل للمشتري وهيكل للمريخ وهيكل لعطارد وهيكل لزحل وهيكل للعلة الأولى
ولهذه الكواكب عندهم عبادات ودعوات مخصوصة ويصورونها في تلك الهياكل ويتخذون لها أصناما تخصها ويقربون لها القرابين ولها صلوات خمس في اليوم والليلة نحو صلوات المسلمين
وطوائف منهم يصومون شهر رمضان ويستقبلون في صلواتهم الكعبة ويعظمون مكة ويرون الحج إليها ويحرمون الميتة والدم ولحم الخنزير ويحرمون من القرابات في النكاح ما يحرمه المسلمون
وعلى هذا المذهب كان جماعة من أعيان الدولة ببغداد منهم هلال بن المحسن الصابىء صاحب الديوان الإنشائي وصاحب الرسائل المشهورة وكان يصوم مع المسلمين ويعيد معهم ويزكي ويحرم المحرمات وكان الناس يعجبون من موافقته للمسلمين وليس على دينهم وأصل دين هؤلاء فيما زعموا أنهم يأخذون بمحاسن ديانات العالم ومذاهبهم ويخرجون من قبيح ما هم عليه قولا وعملا ولهذا سموا صابئة أي خارجين فقد خرجوا عن تقيدهم بجملة كل دين وتفصيله إلا ما رأوه فيه من الحق وكانت قريش تسمي النبي
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png الصابىء وأصحابه الصبأة يقال: صبأ الرجل بالهمز إذا خرج من شيء إلى شيء وصبا يصبو إذا مال ومنه قوله: وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن أي أمل والمهموز والمعتل يشتركان فالمهموز: ميل عن الشيء والمعتل: ميل إليه واسم الفاعل من المهموز: صابىء بوزن قارىء ومن المعتل: صاب بوزن قاض وجمع الأول: صابئون كقارئون وجمع الثاني: صابون كقاضون وقد قرىء بهما
والمقصود: أن هذه الأمة قد شاركت جميع الأمم وفارقتهم فالحنفاء منهم شاركوا أهل الاسلام في الحنيفية والمشركون منهم شاركوا عباد الأصنام ورأوا أنهم على صواب وأكثر هذه الأمة فلاسفة والفلاسفة يأخذون من كل دين بزعمهم محاسن ما دلت عليه العقول وعقلاؤهم يوجبون اتباع الأنبياء وشرائعهم وبعضهم لا يوجب ذلك ولا يحرمه وسفهاؤهم وسفلتهم يمنعون ذلك كما سيأتي ذكر تلاعب الشيطان بهم بعد هذا