-
« لا مال عندي. » فأمر بضرب عنقه. فلمّا خاف القتل أقرّ بمال دفنه. فوجّه معه قوما، فأتاه بمائتي وخمسين دينارا وبألف درهم. فهذا أوّل مال صار إليه. ثم سأله عن دوابّ وكلاء الهاشميّين فدلّه على ثلاثة براذين فدفعها إلى رؤساء أصحابه. ووجدوا دارا لبعض بنى هاشم فيها سلاح فانتهبوه وصار في أيدى الزنج سيوف وآلات وزقايات وتراس وبات ليلته.
فلمّا أصبح أتاه الخبر أنّ رميسا والحميري وعقيلا قد وافوا السيّب فوجّه يحيى بن محمد في خمسمائة رجل فيهم سليمان وريحان وصالح النوبيّ الصغير فلقوا القوم فهزموهم وأخذوا سميريّة وسلاحا وهرب من كان هناك ورجع يحيى بن محمد فأخبره الخبر فأقام يومه ثم سار يزيد المذار. فلمّا صار ببامداد وهو نهر جاوزه حتى أصحر فرأى بستانا وتلّا فقصد التلّ فقعد عليه وانبثّ أصحابه في الصحراء وجعل لنفسه طليعة فأتاه الطليعة أو أرسل إليه يخبره أنّ رميسا بشاطئ دجلة يطلب رجلا يؤدّى عنه رسالة.
فوجّه إليه عليّ بن أبان ومحمد بن سلم وسليمان بن جامع، فلمّا أتوه قال:
« اقرأوا على صاحبكم السلام وقولوا له: أنت آمن على نفسك حيث سلكت من الأرض. أردد هؤلاء العبيد على مواليهم وآخذ لك عن كلّ رأس خمسة دنانير. » فأتوه فأعلموه ما قال لهم رميس فغضب وآلى ليرجعنّ فليبقرنّ بطن امرأة رميس وليحرقنّ داره وليخوضنّ الدماء هناك. فذهبوا إليه فأجابوه فانصرف عنه.
ثم تعرّض له رميس والحميري وصاحب ابن أبي عون مرارا في كلّ ذلك يهزمهم ويقتل أصحابهم ويأسر منهم ويغنم وكان يجمع الرؤوس ويأمر بالاحتفاظ بها، حتى إذا رجع إلى موضعه من نهر ميمون نصبها هنالك.
ثم إنّه صار إلى القرية التي قتل فيها رجل من أصحابه فأمر من يصير إليها فيسأل أهلها أن يسلّموا إليه القاتل في ممرّه كان بهم. فرجع إليه فأخبره أنّهم زعموا أنّه لا طاقة لهم بذلك الرجل لولائه من الهاشميّين ومنعهم له، فصاح بالغلمان وأمرهم بانتهاب القرية فانتهب منها مالا عظيما عينا وورقا وجوهرا وحليّا وأوانى ذهبا وفضّة وسبى يومئذ غلمانا ونسوة، وذلك أوّل شيء سبى.
وأتى بمولى الهاشميّين القاتل فضرب عنقه وأخذ أصحابه شرابا وجدوه وبلغه ذلك فحرّم النبيذ عليهم وقال لهم:
« أنتم تلاقون الجيوش فدعوا شرب النبيذ. » فأجابوه إلى ذلك.
وواقع من غد هذا اليوم أصحاب رميس وأصحاب عقيل على الشطّ والدنبلا في السفن يرمون بالنشّاب فحمل عليهم الزنج فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وهبّت ريح من غربيّ دجيل فحملت السفن إلى الشطّ فوثب إليها السودان فقتلوا من فيها وهرب رميس فنزل سفينة فأنهبها أصحابه وأحرقها.
وقعته مع بعض الأتراك
وكثر بعد ذلك عيثه وعظمت شوكته وسبى وأفسد وعظمت نكايته.
فمن عظيم ما كان له من الوقائع مع السلطان وقعة كانت مع بعض الأتراك يكنّى أبا هلال في سوق الريّان أو ذلك أنّ هذا التركيّ وافاهم في هذه السوق ومعه أربعة آلاف رجل أو يزيدون وفي مقدّمته قوم عليهم ثياب مشهرة وأعلام وطبول. فحمل عليهم السودان حملة صادقة وانتهى بعض السودان إلى صاحب علم القوم فضربه بخشبتين كانتا في يده فصرعه وانهزم القوم وتلاحق السودان فقتلوا من أصحاب ابن هلال ألف وخمسمائة ونجا أبو هلال على دابّة عربيّ وحالت ظلمة الليل بينهم. فلمّا أصبح أمر بتتبّعهم ففعلوا وجاءوا بأسرى ورؤوس، فقتل الأسرى كلّهم.
وكانت له وقعة أخرى بعد هذه الوقعة شبيهة بهذه ظفر فيها بأصحاب السلطان وكانت له وقعات عظام تركنا ذكرها لأنّنا لم نجد فيها غير إقدام الزنج بجهلهم وطمعهم وسوء ثبات الجند لهم وأنّهم تهيّبوهم فكانوا كالجزّارين يقعون في الغنم فيقتلون كيف شاءوا ومثل هذه الحروب لا يستفاد منها تجربة، فلذلك أعرضت عن ذكرها إلى أن أضعف أهل البصرة فلم يبق فيهم من يخرج إليه وقتل أصحاب السلطان فتهيّبه الناس.
أشد يوم لقيه صاحب الزنج
فحكى صاحب الزنج أنّه لم يلق يوما أشدّ من يوم الشذاة وهو يوم استشدّ له أهل البصرة فلم يبق فيها سعديّ ولا بلاليّ ولا أحد من أصحاب السلطان ولا غيرهم إلّا جمعوا له. وكان هناك رجل يعرف بحمّاد الساجيّ وكان من غزاة البحر في الشذوات وله علم بالحروب فيها، فجمع في شذاءاته المطوّعة ورماة الأهداف ولم يبق بالبصرة من يحمل السلاح إلّا خرج. إمّا في الشذاءات وإمّا على الظهر، وانضمّ إليه النظّارة ومن لا سلاح معه ولم يشكّوا في اصطلام صاحب الزنج وأصحابه، فدخلت الشذاءات والسفن التي معها النهر المعروف بأمّ حبيب، ومرّت الرجّالة والنظّارة على شاطئ النهر وقد سدّوا ما ينفذ فيه البصر تكاثفا وكثرة. فقال بعد ذلك صاحب الزنج:
« إني لمّا رأيت ذلك الجمع عانيت أمرا هائلا وراعني ذلك وملأ صدري رهبة وجزعا وفزعت إلى الدعاء وليس منّا أحد إلّا وقد خيّل إليه مصرعه فجعل مصلح يعجبني من كثرة الجمع وأنا أومئ إليه بالسكوت وعيّنت أصحابي وجعلت لهم كمينين وقلت لمن لقي القوم:
« اجثوا لهم واستتروا بتراسكم ولا يثورنّ أحد منكم حتى يوافيكم القوم ويومئوا إليكم بأسيافهم فحينئذ ثوروا. » وأمرت نساء الزنج بجمع الآجر وإمداد الرجال به. ففعلوا ذلك. فلمّا رأوا أصحابي وخرج الكمينان من جنبتي النهر ومن وراء السفن فصاحوا بهم.
رأيت سميريّة قد انقلبت. وتبعها آخر. وانهزم من كان على الشطّ.
فقتلت طائفة وهربت طائفة وغرقت طائفة ومن هرب طمعا في النجاة أدركه السيف والغرق فأبير ذلك الجمع ولم ينج منهم إلّا الشريد وكثر المفقودون من البصرة وهذا يوم الشذا الذي عظّمته الناس وذكروا كثرة من قتل فيه. فكان فيهم من ولد جعفر بن سليمان عدّة في خلق لا يحصى عددهم. وأمر الخبيث بجمع الرؤوس وذهب إليه أولياؤه فعرضها عليهم فأخذوا ما عرفوا منها وعبّأ ما بقي عنده في سفينة وأخرجها من النهر وأطلقها مع الماء فوافت البصرة فوقفت في مشرعة تعرف بمشرعة القيّار.
فجعل الناس يأخذون ما عرفوا.
وقوى الخبيث بعد هذا اليوم وضعف طالبوه بل لم يبق له طالب. فقال له أصحابه:
« إنّا قتلنا مقاتلة البصرة ولم يبق فيها إلّا من لا حراك به فأذن لنا في تقحّمها. » فزبرهم وهجّن آراءهم وقال:
« بل ابعدوا عنهم فقد أرعبناهم وأحفظناهم، والرأي أن تدعوا حربهم حتى يكونوا هم الذين يطلبونكم. » ثم انصرف بأصحابه إلى سبخة أى قرّة، وهي بين نهرين وأمر أصحابه باتّخاذ الأكواخ وهذه السبخة بين النخل والقرى والعمارات فكان أصحابه يغيرون يمينا وشمالا ويسوقون مواشى الأكرة وينتهبون أموالهم.
ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائتين
-
موافاة موسى بن بغا سر من رأى
وفيها وافى موسى بن بغا سرّ من رأى واستخفى صالح بن وصيف لمقدمه وعبّأ موسى أصحابه ميمنة وميسرة وقلبا في السلاح حتى صار إلى باب الجسر ممّا يلي الجوسق. وكان المهدي ذلك اليوم جالسا للمظالم فأعلم بمكانه فأمسك عن الإذن لهم ساعة ثم أذن لهم. فدخلوا فجرى كلام نحو ما جرى يوم قدم الوفد. فلمّا طال الكلام تراطن الترك فيما بينهم وقالوا بالتركيّة:
« هذه المطاولة إنّما هي حيلة حتى يكبسنا صالح. » فخافوا ذلك فأقاموه من مجلسه وحملوه على دابّة من دوابّ الشاكرية وانتهبوا ما كان في الجوسق من دوابّ الخاصة ومضوا به إلى دار ياجور. ثم أخذوا هناك عليه العهود والمواثيق ألّا يمايل صلحا عليه ولا يضمر لهم إلّا مثل ما يظهره، وجدّدوا البيعة ووجّهوا إلى صالح أن يحضرهم للمناظرة فوعدهم أن يصير إليهم وقال لهم بعض رؤساء الفراغنة:
« ما الذي تطلبون من صالح بن وصيف؟ » فقال موسى:
« دماء الكتّاب وأموالهم ودم المعتزّ وأمواله. »
فاستتر صالح بن وصيف فمضى ياجور فأتى بالحسن بن مخلد من الموضع الذي كان فيه محبوسا من دار صالح بن وصيف، وردّ المهتدي إلى الجوسق ودفع عبد الله بن محمد بن يزداذ إلى الحسن بن مخلد وولّى سليمان بن عبد الله بن طاهر بغداد وأظهر النداء على صالح.
وفي هذه السنة لثمان بقين من صفر قتل صالح بن وصيف.
ذكر السبب في ظهور صالح وقتل الموالي وموسى إياه
كان سبب ذلك أنّ امرأة جاءت بكتاب فدفعته إلى كافور الخادم الموكّل بالحرم وقالت:
« فيه نصيحة ومنزلي في موضع كذا من مكان كذا، فإن أردتمونى فاطلبونى هناك. » فأوصل الكتاب إلى المهتدي وأمر بطلب المرأة في الموضع الذي وصفت فلم يعرف لها خبر ولم يوقف لها على أثر. فدعا المهتدي بسليمان بن وهب بحضرة جماعة فيهم موسى بن بغا ومفلح وياجور وبايكباك وغيرهم وقال له:
« تعرف هذا الخطّ؟ » قال: « نعم هذا خطّ صالح يذكر فيه أنّه مستخف بسرّ من رأى وأنّه إنّما استتر طلبا للسلامة وإبقاء على الموالي وخوفا من اتصال الفتن لحرب إن حدثت بينهم. » ثم ذكر ما صار إليه من الأموال للكتّاب وغيرهم وقال:
« إنّ علم ذلك عند الحسن بن مخلد وهو أحدهم. » ثم ذكر ما وصل إليه وتولّى تفريقه، وذكر ما صار إليه من أموال قبيحة وأنّ علم ذلك عند أبي صالح بن يزداذ. ثم ذكر أشياء في هذا المعنى بعضها اعتذاراته وبعضها احتجاجاته.
فلمّا فرغ سليمان من قراءة الكتاب وصله المهتدي بقول يحثّ فيه على الألفة والصلح ويكرّه إليهم الفرقة والتفانى والتباغض. فدعاهم هذا الكلام منه إلى تهمته وأنّه يعلم بمكان صالح. فكان بينهم في هذا كلام كثير ومناظرات طويلة.
ثم أصبحوا من الغد كلّهم في دار موسى في داخل الجوسق يتراطنون بالتركية فسمع بعضهم يقول:
« أجمع القوم على خلع المهتدي. »
كلام المهتدي للمجمعين على خلعه
واتصل الخبر بالمهتدي فخرج إلى مجلسه متقلّدا سيفا وقد لبس ثيابا نظافا وتطيّب ثم أمر بإدخالهم إليه فأبوا ذلك مليّا ثم دخلوا عليه فقال لهم:
« إنّه قد بلغني ما أنتم عليه ولست كمن تقدّمنى مثل أحمد بن محمد المستعين ولا مثل ابن قبيحة والله ما خرجت إليكم إلّا وأنا متحنّط وقد وصّيت وهذا سيفي فو الله لأضربنّ به ما أستمسك قائمه في يدي. ويحكم إمّا دين إمّا حياء كم يكون الخلاف على الخلفاء والإقدام والجرأة على الله سواء عندكم من أبقى عليكم وأراد صلاحكم ومن إذا بلغه مثل هذا عنكم دعا بأرطال الشراب فشربها سرورا بمكروهكم وحبّا لبواركم. خبّروني عنكم، هل تعلمون أنّه وصل إليّ من دنياكم شيء أمّا إنّك لتعلم يا بايكباك أنّ بعض المتصلين بك أيسر من جماعة إخوتى وولدي. وانظروا هل ترون في منزل أحد منهم فرشا أو وصائف أو خدما أو جواري أو لهم ضياع أو مستغلات؟ سوءة لكم، ثم تقولون أنّى أعلم علم صالح، وهل صالح إلّا رجل من الموالي كواحد منكم، فكيف أكون معه إذا ساء رأيكم فيه؟ إن آثرتم الصلح كان ذلك ما أهوى لجميعكم وإن أبيتم إلّا ما أنتم عليه فشأنكم. اطلبوا صالحا وابلغوا شفاء أنفسكم منه فأمّا أنا فما أعلم علمه. » قالوا: « فاحلف لنا على ذلك. » قال: « أنا أبذل لكم يميني ولكن أؤخّرها حتى تكون بحضرة الهاشميين والقضاة والعدول وأصحاب المراتب في غد إذا صلّيت الجمعة. » فكأنّهم لانوا قليلا ووجّه في إحضار الهاشميين فحضروا في عشيّته فلم يذكر لهم شيئا وأمروا بالمصير إلى الدار لصلاة الجمعة فانصرفوا وغدا الناس فلم يحدثوا شيئا وصلّى المهتدي وسكن الناس وانصرفوا هادئين.
وحكى بعضهم ممّن سمع كلام المهتدي مع موسى والجماعة أنّ المهتدي قال: « إن كان صالح قد أخذ من مال قبيحة والكتّاب شيئا فقد أخذ مثل ذلك بايكباك ومحمد بن بغا، فقد كانا حاضرين وهم شركاء في جميع ما جرى. » فأحفظ ذلك أبا نصر محمد بن بغا وبايكباك وقد كان القوم من لدن قدم موسى بن بغا مضمرين هذا المعنى من الغلّ وإنّما منعهم من المطالبة قلّة الأموال وخوف الاضطراب. فلمّا ورد عليهم مال فارس ومال الأهواز تحرّكوا وكان ورود ذلك لثلاث بقين من المحرّم ومبلغه سبعة عشر ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم. وانتشر الخبر في العامّة أنّهم على خلع المهتدي والفتك به وأنّهم أرادوه على ذلك وأرهفوه. فكتبت رقاع وألقيت في المسجد الجامع والطرقات فذكر بعض من قرأ رقعة منها أنّه كان فيها:
« بسم الله الرحمن الرحيم، يا معشر المسلمين، ادعوا الله لخليفتكم العدل الرضا المضاهي لعمر بن الخطّاب أن ينصره على أعدائه ويكفيه مؤونة ظالمه ويتمّ النعمة عليه وعلى هذه الأمّة ببقائه، فإن الموالي قد أخذوه بأن يخلع وهو يعذّب والمدبّر لذلك أحمد بن محمد بن ثوابة والحسن بن مخلد. رحم الله من أخلص إليه ودعا. » ثم تحرّك الموالي ووجّهوا إلى المهتدي:
« إنّا نحتاج أن نلقى إلى أمير المؤمنين شيئا. » وسألوا أمير المؤمنين أن يوجّه إليهم أحد إخوته فوجّه إليهم أخاه عبد الله أبا القاسم ومحمد بن ياس المعروف بالكرخيّ فمضيا إليهم فسألاهم عن شأنهم فذكروا أنهم سامعون مطيعون لأمير المؤمنين، وأنّه بلغهم أنّ موسى بن بغا وبايكباك وجماعة من قوّادهم يريدونه على الخلع وأنّهم يبذلون دماءهم دون ذلك، وأنّهم قرأوا رقاعا في المساجد بذلك وشكوا مع ذلك سوء حالهم وتأخّر أرزاقهم وما صار من الإقطاعات إلى قوّادهم التي قد أجحفت بالخراج وغيره وما صار لكبرائهم من المعاون والزيادات على الرسوم القديمة مع الدخلاء فيهم الذين استغرقوا أكثر أموال الخراج وكثر كلامهم. فقال أبو القاسم:
« اكتبوا بذلك كتابا إلى أمير المؤمنين أتولّى إيصاله لكم. » فكتبوه فأوصله إلى المهتدي وكتب جوابه بخطّه وختمه بخاتمه وغدا به أبو القاسم وقد اجتمعوا فقال:
« يقول لكم أمير المؤمنين: هذا كتابي إليكم بخطّى وخاتمي فاسمعوه وتدبّروه. » فقرءوه وإذا فيه:
-
« بسم الله الرحمن الرحيم، أرشدنا الله وإيّاكم وكان لنا ولكم وليّا وحافظا. فهمت كتابكم وسرّنى ما ذكرتم من طاعتكم وما أنتم عليه، فأحسن الله جزاءكم وتولّى حياطتكم. فأمّا ما ذكرتم من خلّتكم وحاجتكم فعزيز عليّ ذلك فيكم، ووددت لو أنّ صلاحكم قد تهيّأ بألّا أطعم ولا أطعم ولدي وأهلى إلّا القوت الذي لا شبع دونه ولا ألبس أحدا من ولدي إلّا ما ستر العورة ولا والله حاطكم الله، ما صار إليّ منذ تقلّدت أمركم، لنفسي وأهلى وولدي ومتقدّمى غلماني وحشمى إلّا خمسة عشر ألف دينار، وأنتم تقفون على ما ورد ويرد وكلّ ذلك مصروف إليكم غير مذخور عنكم.
« وأمّا ما ذكرتم ممّا بلغكم وقرأتم به الرقاع التي ألقيت في المساجد والطرق وما بذلتم من أنفسكم فأنتم أهل ذلك، وأين تبعدون ممّا ذكرتم، وإنّما نحن نفس واحدة فجزاكم الله عن أنفسكم وعهودكم وأماناتكم خيرا، وليس الأمر كما بلغكم فعلى هذا فليكن عملكم.
« وأمّا ما ذكرتم من الإقطاعات والمعاون وغيرها، فأنا أنظر في ذلك وأصير منه إلى محبّتكم إن شاء الله، والسلام عليكم. » فلمّا قرأوا الكتاب كثر الكلام وقالوا أشياء. فقال لهم أبو القاسم:
« اكتبوا بذلك كتابا ثانيا. » فكتبوا وقالوا:
« إنّ الذي تسألون أن تردّ الأمور إلى أمير المؤمنين، وألّا يعترض عليه معترض وأن تردّ رسومهم إلى ما كانت عليه وهو أن يكون على كلّ سبعة منهم عريف وعلى كلّ خمسين خليفة وعلى كلّ مائة قائدا وأن تسقط النساء والزيادات والمعاون وألّا يدخل مولى في قبالة ولا غيرها وأن يوضع لهم العطاء في كلّ شهرين على ما لم يزل وأن تبطل الإقطاعات وأن يكون أمير المؤمنين يزيد من يشاء ويرفع من يشاء. » وذكروا أنّهم صائرون إلى باب أمير المؤمنين، فمن خالف أمير المؤمنين في شيء أخذوا رأسه وإن سقط من رأس أمير المؤمنين شعرة قتلوا موسى بن بغا وياجور وغيرهما، ودعوا الله لأمير المؤمنين.
ودفعوا الكتاب إلى أبي القاسم فأوصله وتحرّك الموالي واضطرب القوّاد جدّا وقعد المهتدي للمظالم فسبق أبو القاسم فقرأ المهتدي الكتاب قراءة ظاهرة وخلا بموسى ثم وقّع في كلّ باب بما أحبّوا. فقال أبو القاسم لموسى ومحمد ابني بغا وبايكباك: « وجّهوا معي إليهم رسولا تعتذرون إليهم ممّا بلغهم عنكم. » فوجّه كلّ واحد منهم رجلا وصار أبو القاسم [ إليهم ] وهم في زهاء أربعة آلاف رجل وثلاثة آلاف راجل فأقرأهم من أمير المؤمنين السلام ودفع إليهم الكتاب فقرءوه وكتبوا كتابا آخر يلتمسون أن ينفذ إليهم خمس توقيعات:
توقيع بحطّ الزيادات وتوقيع بردّ الإقطاعات وتوقيع بإخراج الموالي البرّانيين من الخاصّة وتوقيع بردّ الرسوم إلى ما كانت عليه وتوقيع بردّ التلاجيّ ثم يصيّر أمير المؤمنين الجيش إلى أحد أخوته أو غيرهم ممّن يرى ليسفر بينه وبينهم ولا يكون رجلا من الموالي وأن يؤمر أن يحاسب صالح بن وصيف وموسى بن بغا على ما عندهما من الأموال ويعجّل لهم عطاء شهرين ويدرّ ذلك عليهم في كلّ شهر.
وكتبوا كتابا آخر إلى موسى بن بغا ومحمد بن بغا وبايكباك ومفلح وياجور وغيرهم من القوّاد يقولون إنّهم قد كتبوا بما كتبوا وإنّ أمير المؤمنين لا يمنعهم ما سألوا إن لم يعترضوا عليه وإنّهم إن فعلوا ذلك وخالفوه لم يصبروا عليهم وإنّ أمير المؤمنين إن شاكته شوكة وأخذ من رأسه شعرة أخذوا رؤوسهم جميعا وإنّه ليس يقنعهم إلّا أن يظهر صالح بن وصيف حتى يجمع بينه وبين موسى فينظر أين مواضع الأموال، فإنّ صالحا وعدهم أن يعطيهم رزق ستّة أشهر.
ثم دفعوا الكتاب إلى رسول موسى ووجّهوا مع أبي القاسم عدّة منهم ليوصل كتاب أمير المؤمنين وليسمعوا كلامه. فانصرفوا إلى المهتدي فأمر بإنشاء التوقيعات الخمس وأنفذها في درج كتاب بخطّه إليهم.
وكتب القوّاد أيضا جواب كتابهم وأنفذوه إليهم بإجابتهم إلى ما سألوه.
وكتب أمان لصالح بن وصيف فيه: إنّ موسى وبايكباك سألا أمير المؤمنين ذلك وأكدّ ذلك غاية التأكيد وحمل إليهم.
وقال لهم أبو القاسم:
« علام اجتماعكم وقد أجبتم إلى كلّ ما سألتم؟ » فانصرف القوم وتفرّق القوّاد.
فلمّا كان يوم السبت ركب ولد وصيف وأصحابهم وتنادى الناس:
السلاح، واجتمعوا وعسكروا وركب أبو القاسم يريد دار المهتدي فمرّ بهم فتعلّقوا به وقالوا:
« قل لأمير المؤمنين إنّا نريد صالحا. » فمضى فأدّى ذلك فقال موسى:
« أراهم يطلبون صالحا مني كأنّى أخفيته أو هو عندي إن كان عندهم له خبر فينبغي أن يظهروه. » وصحّ عندهم أنّ القوم قد تواطئوا وأنّ الناس يتحلّبون إليهم، فتهايجوا من دار أمير المؤمنين فركبوا في السلاح واتصل [ الخبر ] بالأتراك فانصرفوا ركضا وعدوا لا يلوى فارس على راجل ولا كبير على صغير حتى لحقوا بمنازلهم وزحف [ موسى وأصحابه جميعا ] فلم يبق بسرّ من رأى قائد يركب إلى دار أمير المؤمنين إلّا ركب معه وكان تقدير الجيش الذين ركبوا مع موسى في هذا اليوم أربعة آلاف فارس في السلاح والقسيّ الموتّرة والدروع والجواشن والرماح والطبرزينات يريدون محاربة من يريد صالحا وكان أكثرهم هواة مع صالح. فمضوا إلى الجوسق ونادوا بأنّ من لم يظهر من قوّاد صالح وأهله وأصحابه ويحضر دار أمير المؤمنين أسقط اسمه وخرّب منزله وفعل به وصنع.
ثم جدّ هؤلاء في طلب صالح فهجم بسببه على جماعة ممّن كان متصلا به قبل ذلك، إلى أن عثر به غلام من موالي وصيف. فحكى الغلام قال:
دخلت دارا في زقاق أطلب ماء لأشربه، فسمعت قائلا يقول بالفارسية:
« أيّها الأمير تنحّ فقد جاء غلام يطلب ماء. » فلمّا سمعت ذلك جمعت ثلاثة أنفس وهجمت عليه فإذا صالح بيده مرآة ومشط وهو يسرّح لحيته. فلمّا رآني بادر فدخل بيتا فخفت أن يكون قصد لأخذ سيف أو سلاح فتلوّمت ثم نظرت إلى البيت فإذا هو قد لجأ إلى زاوية فدخلت إليه فاستخرجته فلم يزدني على التضرع شيئا، فقلت له:
« ليس إلى تركك سبيل ولكني أمّرتك على أبواب إخوتك وقوّادك وصنائعك فإن اعترض عليّ منهم اثنان أطلقتك في أيديهم. » قال: فأخرجته فما لقيت أحدا إلّا من أعان على مكروهه. وحمل إلى دار موسى فأتاه القوّاد ليذهبوا به إلى الجوسق وهو على بغل باكاف. فلمّا صاروا به إلى حدّ المنارة ضربه رجل من أصحاب مفلح ضربة من ورائه على عاتقه كاد يقذّه ثم احتزّوا رأسه فوافوا به المهتدي وهو في بركة قباء رجل من غلمان مفلح يقطر دما وقد قام لصلاة المغرب فلم يره فلمّا قضى صلاته وجاءوه برأسه لم يزدهم على أن قال:
« واروه. » وأخذ في تسبيحه.
فلمّا كان من الغد طيف به على قناة ونودى عليه:
-
« هذا جزاء من قتل مولاه وأمر بقتل مولاه. » ونصب بباب العامّة، فعل ذلك به ثلاثة أيّام.
وفي رجب من هذه السنة خلع المهتدي وقتل
ذكر سبب خلعه وقتاله الأتراك وظفرهم به وقتلهم إيّاه
كان ظهر مساور الشاري بناحية الموصل فكثر اتباعه وعيثه وهزم عدّة جيوش للسلطان. فندب له موسى بن بغا فوضع موسى العطاء لأصحابه وكان على مناجزة الشاري وقصده طريق خراسان.
فقال بعضهم:
سبب ذلك أنّ المهتدي استمال بايكباك وهو مقيم مع موسى في وجه مساور الشاري وكتب إليه أن يضمّ العسكر الذي مع موسى إلى نفسه وأن يكون هو الأمير، وأراد منه أن يفتك بموسى ومفلح ويقيّدهما ويحملهما إليه.
فمضى بايكباك بالكتاب إلى موسى وقال:
« إني لست أفرح بهذا وإنّما هذا تدبير علينا جميعا وإذا فعل بك شيء اليوم فعل بي غدا مثله. » فاجتمعوا على خلعه والفتك به. فتوجّه موسى نحو طريق خراسان وقال له بايكباك:
« اذهب إليه وأظهر له الطاعة. » ودبّرا في ذلك تدبيرا بلغ المهتدي، وظنّ أنّ بايكباك أتاه في الفتك به.
فلمّا دخل إليه أمر بحبسه وأخذ سلاحه. وقال بعضهم:
كان السبب في ذلك إنّ المهتدي تكلّم في موسى ومحمد ابني بغا وقال للموالي:
« قد احتجبنا الأموال. » فتخوّفه أبو نصر وهرب. ثم كتب إليه المهتدي وآمنه فرجع وظهر وقعد له المهتدي فوصل إليه هو ومن جاء معه. فسلّم فقال له المهتدي:
« ما تقول فيما يقول الموالي؟ » قال: « وما يقولون؟ » قال: « إنّهم يقولون إنّكم احتجزتم الأموال واستبددتم بالأعمال فما تنظرون في شيء من مصالحهم. » قال: « يا أمير المؤمنين وما أنا والأموال ولست كاتب ديوان ولا جرى على يدي عمل. » فقال: « وأين الأموال هل هي إلّا عندك وعند أخيك وكتّابكم. » ودنا الموالي وأخذوا بيد محمد وقالوا:
« هذا عدوّ أمير المؤمنين. لا ينبغي أن تقوم بين يديه بسيف. »
فأخذوا سيفه. فوثب غلام لأبي نصر كان حاضرا يقال له: تيتك، فسلّ سيفه وخطا ليمنعهم من أبي نصر، فكانت خطوته تلى الخليفة فسبقه عبد الله بن تكين فضرب رأسه بالسيف فما بقي أحد إلّا سلّ سيفه. وقام المهتدي فدخل بيتا كان يقربه.
وأخذ محمد بن بغا فأدخل حجرة وحبس أصحابه وأجمعوا على أن يكتبوا إلى موسى بن بغا بالانصراف وتسليم العسكر إلى من فيه من القوّاد وأن يكتبوا إلى القوّاد بتسليم العسكر إليهما ويكتبوا إلى الصغار بمثل ما سأل أصحابهم بسرّ من رأى وما أجيبوا إليه، وأن ينظروا فإن سارع موسى ومفلح إلى ما أمروا به من الإقبال إلى الباب في غلمانهم وتسليم العسكر إلى من أمر بتسليمه إليه وإلّا شدّوهما وثاقا وحملوهما إلى الباب في غلمانهم، ووجهوا بهذه الكتب واجتمع في الدار منهم قوم فأجرى على كلّ واحد منهم درهمان وأخذت عليه بيعة جديدة بالنصرة والثبات.
وأصبح الموالي يلتمسون أن يعزل عنهم أمراؤهم وأن يلي عليهم بعض أخوة أمير المؤمنين وأن تؤخذ أمراؤهم وكتّابهم بالخروج ممّا اختانوه من مال السلطان، وذكروا أنّ مبلغه خمسون ألف ألف درهم. فأجابهم إلى ذلك ومضى يومهم على هذا.
ثم أصبحوا يطالبون بما وعدوا به فقيل لهم: إنّ هذا الذي تريدونه أمر صعب وإخراج الأمر عن أيدى هؤلاء ليس بسهل فكيف إذا جمع إلى ذلك أخذ أموالهم فانظروا في أموركم فإن كنتم تظنّون أنّكم تصبرون على هذا الأمر حتى بلغ منه غايته أجابكم أمير المؤمنين وإن تكن الأخرى فإنّ أمير المؤمنين يحسن لكم النظر. »
فأبوا إلّا ما سألوا أوّلا. فأخذت عليهم البيعة وأقبلت الرسل تختلف بين العسكرين والذي يريد موسى بن بغا أن يولّى ناحية ينصرف إليها والذي يريد القوم من موسى أن يقبل في غلمانه ليناظرهم. فلمّا كان من الغد أخذ موسى ومفلح طريق خراسان ومضى بايكباك - في هذه الرواية - ومن معه من القوّاد حتى دخلوا الدار، فأخذت سيوفهم ومناطقهم، وأقبل المهتدي على بايكباك يعدّد ذنوبه من الإسلام وأبطأ خبره على أصحابه فقال لهم حاجبه أحمد بن خاقان:
« اطلبوا صاحبكم قبل أن يحدث به حدث. » فجاشت الترك وأحاطوا بالدار، فاستشار المهتدي صالح بن عليّ بن يعقوب بن أبي جعفر المنصور فقال:
« يا أمير المؤمنين، هو حديث أبي مسلم مع المنصور، فلو فعلت ما فعل لسكتوا. » فأمر المهتدي بضرب عنقه ورمى برأسه إليهم. ففعل ذلك فتناجزوا وجاشوا وشدّ واحد منهم على من رمى بالرأس إليهم فقتله.
ووجّه المهتدي إلى الأسروشنية والمغاربة والفراغنة والأتراك الذين بايعوه على الدرهمين فجاءوه وكثر القتلى فيقال: إنّه قتل من الأتراك نحو من أربعة آلاف.
ثم اجتمع الأتراك كلّهم وصار أمرهم واحدا فكانوا نحو عشرة آلاف وكان مع ما اجتمع من الأتراك إلى المهتدي نحو خمسة عشر ألفا.
فخرج المهتدي والمصحف في عنقه، وعبّأ الناس وقاتل ودعا الناس إلى أن ينصروا خليفتهم. فلمّا التحم الشرّ مال الأتراك الذين مع المهتدي إلى أصحابهم الذين مع أخي بايكباك وبقي المهتدي في أصحابه لا أتراك معه.
فحمل طغبا أخو بايكباك حملة ثائر موتور فنقض جمعهم وهزمهم وأكثر فيهم القتل وولّوا منهزمين. ومضى المهتدي يركض منهزما في الأسواق والسيف في يده مشهور وهو ينادى:
« يا معشر الناس انصروا خليفتكم. » حتى صار إلى دار أبي صالح محمد بن يزداذ وفيها أحمد بن جميل صاحب المعونة فدخلها ووضع سلاحه ولبس البياض ليعلو الدار وينزل إلى أخرى ويهرب.
وجاء أحمد بن خاقان في ثلاثين فارسا يسأل عنه حتى وقف على خبره في دار ابن جميل فبادرهم ليصعد فرمى بسهم وبعج، ولم يجد المهتدي لنفسه حيلة فاستسلم فأخذه أحمد بن خاقان على دابّة وأردف خلفه سائسا حتى صار به إلى داره.
وانتهب الجوسق فلم يبق فيه شيء. وأخرجوا أحمد بن المتوكّل المعروف بابن فتيان وكان محبوسا في الجوسق وكتبوا إلى موسى بن بغا وسألوه الانصراف إليهم وجمعوا الهاشميين والخاصّة حتى بايعوا أحمد بن المتوكّل ابن فتيان وسمّوه: المعتمد على الله.
وأرادوا المهتدي على الخلع قبل ذلك فأبى ولم يجبهم فخلعوا أصابع يديه ورجليه ثم أمروا من وطى على خصيته حتى قتله ولمّا أيقن المهتدي بالقتل قال:
أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ** وقد حيل بين العير والنّزوان وكانت خلافته كلّها أحد عشر شهرا وخمسة عشر يوما، وعمره ثمان وثلاثين سنة، وكان رحب الجبهة أجلح، جهم الوجه، أشهل العينين عظيم البطن عريض المنكبين طويل اللحية قصيرا.
خلافة المعتمد على الله
موافاة جعلان البصرة لحرب صاحب الزنج
وفي هذه السنة وافى جعلان البصرة لحرب صاحب الزنج. فزحف بعسكره حتى صار بينه وبين صاحب الزنج فرسخ، فخندق على نفسه وأصحابه ووجّه إلى الزينبي وبنى هاشم وكان يواعدهم للقائه فإذا التقوا لم يكن بينهم إلّا الرمى بالنشاب والحجارة لضيق الموضع بما فيه من النخل والدغل، ولم يكن للخيل مجال. فبقوا كذلك ستّة أشهر.
فلمّا رأى صاحب الزنج ذلك هيّأ من أصحابه جماعة يأخذون على جعلان مسالك الخندق وبيّته في خندقه فقتل جماعة من رجاله وريع الباقون روعا شديدا فترك جعلان عسكره وانصرف إلى البصرة وظهر عجز السلطان.
وازداد أمر صاحب الزنج عظم شأن، فأخذ أربعة وعشرين مركبا بحريّة كانت اجتمعت تريد البصرة. وكانت هذه المراكب تنتظر أن ينفصل أمر السلطان مع صاحب الزنج. فلمّا انهزم السلطان رأوا أن تشدّ المراكب بعضها إلى بعض حتى تصير كالجزيرة ويتّصل أوّلها بآخرها ثم يسيروا بها في دجلة. فندب صاحب الزنج أصحابه وحرّضهم عليها وقال:
« هذه غنيمة لم تروا مثلها. » فانتدب لها الزنج فلم يلبث أن جرّوها وقتلوا مقاتلتها وسبوا ما فيها من الرقيق وغنموا منها أموالا عظاما لا تحصى ولا يعرف قدرها. فأنهب ذلك أصحابه ثلاثة أيّام ثم أمر بما بقي فحيز له.
ثم دخل صاحب الزنج الأبلّة بعد حرب قتل فيها خلقا وأغرقها وكانت مبنيّة بناء متكاثفا بالساج فأسرعت فيه النار ونشأت ريح عاصف فأطارت الشرر إلى شاطئ عثمان واحترق وقتل خلق كثير بالأبلّة وغرق خلق وكان ما احترق من الأمتعة أكثر ممّا انتهب. ولمّا جرى ذلك على الأبلّة جزع أهل عبّادان فاستسلموا لصاحب الزنج وسلّموا إليه بلدهم وحصنهم.
وفيها ملك أصحابه الأهواز.
ذكر دخول الزنج الأهواز
لمّا فتح الأبلّة وعبّادان وأخذ مماليكهم وفرّق فيهم السلاح طمع في الأهواز. فاستنهض أصحابه نحو جبّى فلم يثبت له أهلها فدخلها وانتهب وقتل ووافى الأهواز وبها سعيد بن تكسين وإليه حربها وإبراهيم بن المدبّر وإليه الخراج والضياع فانحاز سعيد بن تكسين في من معه من الجند وثبت إبراهيم فيمن معه من غلمانه فدخل الزنج المدينة وأسروا إبراهيم بن المدبّر بعد أن ضرب ضربة على وجهه وحووا كلّ ما ملك.
فلمّا ملك الأهواز رعب أهل البصرة رعبا شديدا، فانتقل كثير من أهلها [ عنها ] وكثرت الأراجيف من عوامّها.
وفي رجب من هذه السنة وافى البصرة سعيد بن صالح الحاجب من قبل السلطان لحرب صاحب الزنج.
-
وفيها ظهر بالكوفة عليّ بن زيد الطالبي فوجّه إليه الشاه بن ميكال في عسكر كثيف فهزمه أصحابه ونجا الشاه.
وفيها وثب محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي وهو من أهل فارس ورجل من أكرادها يقال له: أحمد بن الليث، بعامل فارس وهو الحارث بن سيما الشاربانى فحارباه وقتلاه وغلب محمد بن واصل على فارس.
وفيها غلب الحسن بن زيد على الريّ وشخص موسى بن بغا إلى الري لحربه وشيّعه المعتمد.
وفيها كانت بين باجور وابن لعيسى بن شيخ وقعة على باب دمشق. وكان خرج باجور مرتادا لنفسه معسكرا وابن عيسى بن شيخ وقائد لعيسى في عسكر لهما بالقرب من دمشق. فاتصل بهما خبر باجور وأنّه في عدد يسير، فزحفا إليه ولا يعلم باجور بهما حتى لقياه فقتل القائد الذي مع ابن عيسى وهزم وقتل خلق من أصحابه وكان في عشرين ألفا باجور في نحو من مائتين إلى ثلاثمائة.
ودخلت سنة سبع وخمسين ومائتين
وفيها صار يعقوب بن الليث إلى فارس
فبعث إليه المعتمد طغّبا وإسماعيل بن إسحاق وأبا سعيد الأنصاري. وكتب إليه أبو أحمد بن المتوكّل بولاية بلخ وطخارستان إلى ما يلي ذلك من كرمان وسجستان والسند وجعل له مال في كلّ سنة من هذه الأعمال فقبل ذلك وانصرف.
وعقد المعتمد لأخيه أبي أحمد على الكوفة وطريق مكّة ثم، عقد له على بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز وفارس فولّى خلفاءه وأمر أن يعقد ليارجوخ على البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين فولّى منصور بن جعفر بن دينار البصرة وكور دجلة.
واستحثّ سعيد الحاجب في المصير إلى دجلة والإناخة على صاحب الزنج ففعل ذلك ومضى إلى نهر معقل وكان هناك جيش لصاحب الزنج بالنهر المعروف بالمرغاب وهو معترض في نهر معقل فأوقع بهم وهزمهم واستنقذ ما في أيديهم من النساء وأصاب سعيدا جراحات منها جراحة في فيه. ثم سار سعيد إلى الموضع المعروف بعسكر أبي جعفر واستعدّ للقاء صاحب الزنج بالفرات فقصدهم وهزمهم واستأمن إليه عمران وهو زوج جدّة ابن صاحب الزنج وتفرّق ذلك الجمع.
فحكى من حضر ذلك الموضع قال: لقد لقيت المرأة من سكّان الفرات تجد الزنجيّ مستترا بتلك الأدغال فتخرجه وتحمله إلى عسكر سعيد ما به عنها امتناع.
ثم أوقع الخبيث وقعات متوالية. ثم إنّ الخبيث وجّه إلى يحيى بن محمد البحراني صاحبه وهو مقيم بنهر معقل جيشا وأمره بتوجيه سليمان بن جامع وابن الليث الإصبهاني ليلا مع عسكر قويّ حتى يوقعا بسعيد وقت طلوع الفجر، ففعل ذلك فصادفا منهم غرّة وغفلة فأوقعا بهم وقتلا منهم مقتلة عظيمة. وأحرق الزنج عسكر سعيد فضعف سعيد ومن معه ودخل أمرهم خلل لهذا البيات وقد كانت أرزاقهم احتبست عنهم من جهة منصور بن جعفر بن الخيّاط وهو يومئذ بالأهواز، إليه حربها وله يد في الخراج.
فلمّا اضطرب أمر سعيد وضعف أمر بالانصراف إلى باب السلطان وتسليم الجيش إلى منصور بن جعفر. وذلك انّ سعيدا ترك بعد ما اتّفق عليه من البيات حرب صاحب الزنج وكان بغرا يحمى البصرة ومنصور يجمع السفن التي تحمل المير، ثم يبذرقها إلى البصرة فضاق بالزنج الميرة.
ثم عبّأ منصور أصحابه وقصد صاحب الزنج في عسكره وصعد قصرا على دجلة فأحرقه وما حوله ودخل عسكر الخبيث من ذلك الوجه ووافاه الزنج وكمّنوا له كمينا فهزموه وقتلوا من أصحابه مقتلة عظيمة وألجئ الباقون إلى الماء فغرقوا وحملت الرؤوس إلى يحيى بن محمد البحراني بنهر معقل فأمر بنصبها هناك.
ثم أوقع الخبيث شاهين وإبراهيم بن سيما بالأهواز فقتل شاهين وهزم إبراهيم.
وكاتب عليّ بن أبان بالمصير إلى البصرة لحرب أهلها.
ذكر الخبر عن دخول الزنج البصرة
لمّا ضعف منصور لم يعد لقتال الزنج واقتصر على بذرقة السفن لوصول المير إلى البصرة، فامتنع أهل البصرة. فوجّه الخبيث عليّ بن أبان فشغل منصورا عن بذرقة السفن وعاد أهل البصرة إلى الضيق، وألحّ أصحاب الخبيث عليها بالحرب وأحسّ الخبيث بضعف القوم وإضرار الحصار بهم وتخريبه ما حولها من القرى.
وكان نظر في النجوم ولا يفارقه الأصطرلاب وكتب النجوم، فوقف على كسوف القمر فقال لأصحابه:
ادعاء له
« إني قد ابتهلت إلى الله في الدعاء على أهل البصرة وتعجيل خرابها فخوطبت وقيل لي: إنّما البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها، فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة. فأوّلت انكسار الرغيف انكساف القمر في نصفه. » فكان هذا حديث عسكره كلّ يوم. فكثر على الأسماع.
وندب قوما للخروج إلى الأعراب، ففرضوا قوما بينهم. وأتاه خلق عظيم فوجّههم الخبيث إلى ناحية منها وأمرهم بتطرّق البصرة والإيقاع بهم من تلك الجهة. فلمّا ابتدأ القمر بالكسوف انهض عليّ بن ابان في عسكر ضخم وطائفة من العرب إلى البصرة ممّا يلي بنى سعد وكتب إلى محمد بن يحيى البحراني في إتيانها ممّا يلي نهر عديّ وضمّ إليه سائر العرب فواقع بغرا عليّ بن أبان يومين ومال الناس نحوه فدخل عليّ بن أبان من ناحيته ودخل يحيى من ناحيته وتفرّق الجند وانحاز بغرا بمن معه، فلم يكن في وجهه أحد. ولقيه إبراهيم بن يحيى المهلّبي فاستأمنه لأهل البصرة فآمنهم ونادى منادى إبراهيم بن يحيى:
« من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم. » فحضر أهل البصرة حتى ملؤوا الرحاب. فلمّا رأى اجتماعهم أمر بأخذ أفواه السكك والطرق لئلّا يتفرّقوا، ثم غدر بهم ووضع فيهم السيوف فقتلوا بأجمعهم ولم يفلت إلّا الشاذّ. فيقال إنّ أصوات الناس الذين قتلوا ارتفعت بالتشهّد لما أخذهم السيف فسمعهم من بالطّفاوة. فلمّا فرغ من قتلهم أتى عليّ بن أبان المسجد الجامع فأحرقه وراح إلى الكلّاء فأحرقه من الحبل إلى الجسر وأخذت النار في كلّ شيء مرّت به من إنسان وبهيمة ومتاع وآلة. ثم ألّحوا على من وجدوا بعد ذلك غدوّا وعشيّا ليسوقونهم إلى يحيى بن محمد البحرانيّ وهو يومئذ بسيحان. فمن كان ذا مال قرّره حتى يستخرج ماله ثم يقتله ومن كان فقيرا عاجله بالقتل.
ثم نادى محمد بن يحيى بالأمان فلم يظهر له أحد.
فكتب الخبيث إلى محمد، أن: « استخلف على البصرة شبلا فإنّهم يسكنون إليه ليظهر الناس، فإذا آمنوا وظهروا أخذوا بالدلالة على ما دفنوا وأخفوا من أموالهم. » ففعل ذلك حتى استنظف أهل البصرة وقتلهم وهرب الباقون على وجوههم فصرف الخبيث جيشه حينئذ عن البصرة.
-
ادعاء آخر له
فحكى قوم عن الخبيث أنّه، لمّا انتهى إليه عظيم ما فعل أصحابه بالبصرة وكثرة ما سفك من الدماء وخرّب وأفسد هاله ذلك - وكان أمرا فظيعا هائلا - ادّعى أنّه دعا عليهم فرأى خيلا بين السماء والأرض وقد خفضوا أيديهم اليسرى ورفعوا أيديهم اليمنى. قال: فعلمت انّ الملائكة تتولّى إخرابها دون أصحابي، ولو كان أصحابي يتولون ذلك لما بلغوا هذا الأمر العظيم المفرط.
وعقد المعتمد لأخيه أبي أحمد على ديار مضر وقنّسرين والعواصم وخلع عليه وعلى مفلح وشخصا إلى البصرة لقتال الخبيث.
وظفر الخبيث بمنصور بن جعفر بعد قتال عظيم وبعد ما جاهد منصور جهادا شديدا فقتله وعامّة من معه.
ذكر مقتل مفلح
ولمّا شخص أبو أحمد ومفلح لحرب الخبيث تجهّز الجيش وعدّة لم ير مثله وحكى المشايخ من أهل بغداد الذين شاهدوا الجيوش أنّه ما رأوا ولا سمعوا بمثل ذلك الجيش كثرة وقوّة وآلة وسلاحا. وتبعهم خلق عظيم من متسوّقة بغداد وكان أصحاب الخبيث متفرّقين في النواحي قد استأكلوها.
فليس مع الخبيث يومئذ إلّا القليل من أصحابه فهو على ذلك حتى وافاه أبو أحمد في جيشه، وهرب من كان من أصحابه بنهر معقل فلحقوا به مرعوبين، فدعا الخبيث رئيسين من رؤساء عسكره ممّن هرب من نهر معقل، فقال لهما:
« ما الذي دعا كما إلى الإخلال بموضعكما؟ » فقالا:
« رأينا شيئا لم نر مثله. » ووصفا عظم ذلك الجيش وعدّتهم وكثرتهم. فوجّه الخبيث من يأتيه بخبر الجيش وخبر من يقوده. فرجعت رسله بتعظيم الأمر وتفخيمه ولم يقدروا أن يقفوا على خبر من يقوده. فزاد ذلك في جزعه وبادر بالرسل إلى عليّ بن أبان يستدعيه ومن معه من الجيش وورد العسكر مع أبي أحمد فأناخ بإزائه واستدعى الخبيث دواة وقرطاسا ليكاتب عليّ بن أبان ويستعجله.
فإنّه في ذلك إذ أتاه المكتنى بأبي دلف وهو من قوّاد السودان يخبره أن القوم قد صعدوا وانهزم عنهم الزنج فليس في وجوههم من يردّهم فصاح به وانتهره وقال:
« اغرب عني، فقد دخلك الجزع وانخلع قلبك فلست تدرى ما تقول. » وقد كان أمر جعفرا السجّان بالنداء في الزنج وتحريكهم للخروج إلى موضع الحرب، فأتاه السجّان فأخبره أنّه ندب الزنج فخرجوا وظفروا بسميريّتين. فأمره بالرجوع لتحريك الرجّالة. فرجع ولم يلبث إلّا يسيرا حتى أصيب مفلح بسهم غرب لا يعرف الرامي، ووقعت الهزيمة وكرّ الزنج وقووا على محاربتهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة ووافى الخبيث زنجه بالرؤوس قابضين عليها بأسنانهم حتى ألقوها بين يديه. فكثرت الرؤوس يومئذ حتى ملأت كلّ شيء. وأتى الخبيث بأسير من أبناء الفراغنة، فسأله عن الجيش فأعلمه بمكان أبي أحمد الموفّق، ومفلح فارتاع لذكر الموفّق وكان إذا راعه أمر كذّب به، فقال:
« كذبت، ليس غير مفلح ولو كان في الجيش من ذكر هذا الأسير لكان صوته أبعد ولما كان مفلح إلّا تابعا له، وأنا لست أسمع إلّا باسم مفلح. » ولم يلبث مفلح أن مات.
ووافى عليّ بن أبان في أصحابه وقد استغنى عنه.
وهرب أبو أحمد الموفّق إلى الأبلّة، فأخذ يجمع من فرّقت الهزيمة ويجدّد الاستعداد. ثم مضى إلى نهر أبي الأسد وكان الخبيث لا يدرى كيف قتل مفلح. فلمّا بلغه أنّه أصيب بسهم ولم ير أحدا ينتحله ادّعى أنّه هو كان الرامي له فسمعه. من يقول:
« سقط بين يدي سهم فأمرت خادمي راحا أن يرفعه إليّ، فرميت به فأصبت مفلحا وكانت الهزيمة. » قال محمد بن الحسن:
« وكذب، فإني كنت حاضرا وما زال عن فرسه حتى أتاه خبر الهزيمة وأتى بالرؤوس. »
أسر يحيى بن محمد وقتله وادعاء صاحب الزنج في نبوته
وفيها أسر يحيى بن محمد البحرانيّ قائد الزنج. وذلك أنّه وافى نهر العباس فلقيه بفوهة النهر ثلاثمائة وسبعون فارسا من أصحاب العامل بالأهواز فاستقلّهم وكان هو في جمع عظيم فترك الاستعداد لهم، فرشقوهم حتى أكثروا فيهم الجراح.
وكان بلغ أبا أحمد خبره فأنفذ طاشتمر التركيّ في جيش، فلمّا أشرفوا عليهم ألقى الزنج نفوسهم في الماء وبقي يحيى في بضعة عشر رجلا، فنهض يحيى عند ذلك فأخذ درقته وسيفه واحتزم بمنديل وتلقّى القوم بمن معه، فرشقهم أصحاب طاشتمر بالسهام فجرح البحراني بثلاثة أسهم.
ولمّا رآه أصحابه جريحا تفرّقوا عنه ولم يعرف. فرجع حتى دخل سفينة وعبر به إلى ناحية أصحابه. فلمّا راه الزنج مثقلا بالجراحات ضعفت قلوبهم فتركوا القتال وهربوا وقتل منهم خلق كثير وحاز أصحاب السلطان الغنائم التي كانت في السفن.
ومشى يحيى البحرانيّ وهو مثخن حتى ألقى نفسه في موضع وبات ليلته ومعه عبّاد المتطبّب، فنهض عبّاد لمّا أصبح وجعل يمشى متشوّفا لأن يرى إنسانا، فرأى بعض أصحاب السلطان فأشار فأخبرهم بمكان يحيى وأتاه بهم حتى سلّمه إليهم.
وانتهى خبره إلى صاحب الزنج فاشتدّ جزعه عليه وعظم عليه توجّعه.
ثم حمل يحيى البحرانيّ إلى أبي أحمد الموفّق فحمله إلى سرّ من رأى إلى المعتمد. فأمر المعتمد ببناء دكّة بالحير في مجرى الحلبة، ثم رفع للناس حتى أبصروه، ثم ضرب مائتي سوط بثمارها، ثم قطعت يداه ورجلاه، ثم خبط بالسيوف، ثم ذبح وأحرق. ولمّا بلغ خبره صاحب الزنج قال:
« كان عظم عليّ ما أصابه واشتدّ اهتمامي به، فخوطبت وقيل لي: قتله خير لك، إنّه كان شرها. » ثم حكى عنه حكايات في غنائم خان فيها فاطّلع عليها، فوهبها له.
وكان أصحابه يحكون عنه أنّه كان يقول:
« عرضت عليّ النبوّة فأبيتها. » فقيل له:
« ولم؟ » قال: « لأنّ لها عبئا خفت ألّا أطيقها. »
-
وفي هذه السنة انحاز أبو أحمد الموفّق من قرب الزنج إلى واسط
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك انّ الموفّق لمّا صار إلى نهر أبي الأسد كثرت العلل في أصحابه وفشا فيهم الموت. فلم يزل مقيما حتى أبلّ من نجا من الموت.
ثم انصرف إلى باذآورد فعسكر به وأمر بتجديد الآلات وإعطاء من معه الأرزاق، وأصلح الشذاءات والمعابر وشحّنها بالقوّاد، ونهض يريد عسكر الخبيث وأنفذ قوما إلى نهر أبي الخصيب، فمال أكثر الناس حين وقعت الحرب إلى نهر أبي الخصيب. وتأمّل الزنج قلّة مع من هو في جانب أبي أحمد الموفّق، فأكبّوا عليه وكثر القتل في الجانبين.
ثم صار أبو أحمد الموفّق إلى شذاءة وتوسّط الحرب وحرّض أصحابه فكثر عليه الزنج وعلم أنّه لا طاقة له بهم، وانقطع عنه جماعة حجز الزنج بينه وبينهم واقتطعوهم عنه. فقاتلوا قتالا شديدا، ثم قتلهم الزنج بأسرهم وانصرف القوم إلى باذاورد وحملت الرؤوس إلى صاحب الزنج فوقعت نار في طرف من أطراف عسكره وذلك في عصوف الرياح، فاحترق العسكر، ورحل أبو أحمد الموفّق إلى واسط. فلمّا صاروا إلى واسط تفرّق عنه من بقي معه وتشتّت ذلك الجمع العظيم.
ودخلت سنة تسع وخمسين ومائتين
انصراف أبي أحمد واستخلاف أحمد المولد لحرب صاحب الزنج
وفيها انصرف أبو أحمد بن المتوكّل من واسط إلى سرّ من رأى واستخلف على حرب الخبيث أحمد المولّد.
وكان خفى على صاحب الزنج أمر الحريق الذي كان في أصحاب أبي أحمد فلم يعرف خبره إلّا بعد ثلاثة أيّام فوجّه علي بن أبان وضمّ إليه أكثر الجيش الذي كان مع يحيى بن محمد إلى الأهواز وبها رجل يعرف باصغجور يتولّى حربها ومعه نيزك في جماعة من القوّاد.
فلمّا التقى العسكران لم يثبت القوم للزنج، إنّما استشعروه من الرعب فانهزم اصغجور وقتل نيزك وأسر خلق من القوّاد فيهم الحسن بن هرثمة، وقتل من الجند عدد كثير وحملت الرؤوس إلى صاحب الزنج.
وكتب عليّ بن أبان بالفتح وحمل أعلاما كثيرة وأسرى ودخل عليّ بن أبان الأهواز وأقام فيها يعيث ويجيء إلى أن ندب السلطان موسى بن بغا لحرب الخبيث. فلمّا شخص موسى شيّعه المعتمد وأخرج عبد الرحمن بن صالح إلى الأهواز وأشخص إسحاق بن كنداجيق إلى البصرة وإبراهيم بن سيما إلى باذاورد، كلّهم من قبل موسى لحرب صاحب الزنج.
فأمّا عبد الرحمن بن مفلح فإنّه وافى قنطرة ارمق وأقام عشرة أيّام ثم واقع المهلّبي فهزمه المهلّبي فانصرف واستعدّ ثم عاد لمحاربته فأوقع به وقتل من الزنج قتلا ذريعا وانهزم عليّ بن أبان بمن معه من الزنج إلى بيّان.
وكان إبراهيم بن سيما بالباذاورد فقصده وكان المهلّبي قد سار يريد الموضع المعروف بالأوكر فواقعه إبراهيم فهزمه وانتهى خبر هزيمته إلى عبد الرحمن فوجّه إليه طاشتمر في جمع من الموالي فلم يصل إلى المهلّبي لأنّه كان سلك طريق الآجام والأدغال والقصب فأضرمه عليهم نارا فخرجوا منه هاربين وأسر معهم قوما.
وصار المهلّبي إلى نهر السدرة وكتب إلى صاحبه يستمدّه ويسأله التوجيه إليه بالشذاءات، فوجّه إليه ثلاث عشرة شذاة فيها جمع كثير من المقاتلة.
فسار المهلّبي حتى وافى عبد الرحمن فلم يكن بينهما قتال وتواقف الجيشان يومهما.
فلمّا كان الليل انتخب المهلّبي جماعة يثق بهم وبجلدهم وصبرهم وترك عسكره بمكانه ليخفى أمره ومضى حتى صار من وراء عبد الرحمن ثم بيّته فقتل وانتهب وهرب عبد الرحمن على وجهه حتى وافى الدولاب. ثم أعدّ رجالا وولّى عليهم طاشتمر فوافوه وأوقعوا به وهزموه إلى نهر المدرة.
ثم صار إليه طاشتمر بنهر المدره فأوقع به وانهزم عليّ إلى الخبيث مغلولا قد أخذت شذاءاته وغنم عسكره.
وكان عبد الرحمن بن مفلح وإبراهيم بن سيما يتناوبان المصير إلى الخبيث وإسحاق بن كنداجيق يومئذ بالبصرة مقيم، وأقاموا كذلك بضعة عشر شهرا إلى أن صرف موسى بن بغا عن حرب الخبيث وولّى مسرور البلخي.
وفيها دخل يعقوب بن الليث نيسابور.
ذكر دخول يعقوب نيسابور
ذكر أنّ يعقوب بن الليث صار إلى هراة. ثم قصد نيسابور، فلمّا قرب منها وجّه إليه محمد بن طاهر بن محمد يستأذنه في تلقّيه فلم يأذن له، فبعث بعمومته وأهل بيته يتلقّونه. ثم دخل نيسابور فنزل طرفا من أطرافها يعرف بداودآباذ فركب إليه محمد بن طاهر فدخل إليه في مضربه فساءله ثم أقبل على توبيخه وتفريطه في عمله وقال:
« مثلك لا يكمل لتدبير خراسان. » وأمر بالتوكيل به وصرفه وحبسه. وولّى عزيزا نيسابور وقبض على أهل بيت طاهر. وورد الخبر بذلك على السلطان.
ووردت رسل يعقوب على المعتمد فجلس له جعفر المعتمد وأبو أحمد الموفّق وحضر القوّاد وأذن لرسول يعقوب. فذكر رسول يعقوب ما لا يزال يتناهى إلى يعقوب من حال أهل خراسان في الشراة والخارجين عليهم حتى غلبوا عليها وضعف محمد بن طاهر عن ضبطها ومكاتبة أهل خراسان يعقوب ومسألتهم إيّاه أن يقدم عليهم واستعانتهم به وأنّه صار إليها فتلقّاه أهلها على عشرة فراسخ وسلّموها إليه وأحضر رأسا على قناة فيه رقعة مكتوب فيها:
« هذا رأس عدوّ الله الخارجي بهراة ينتحل الخلافة منذ ثلاثين سنة قتله يعقوب بن الليث. » فتكلّم أبو أحمد وعبيد الله بن يحيى وقالا لرسل يعقوب:
« إنّ أمير المؤمنين لا يقارّ يعقوب على ما فعل وهو يأمره بالانصراف إلى العمل الذي ولّاه إيّاه فليرجع، فإنّه إن فعل كان من الأولياء وإلّا لم يكن إلّا ما للمخالفين. » وصرف رسله وخلع عليهم.
-
ودخلت سنة ستين ومائتين
وفيها قتل صاحب الزنج صاحب الكوفة عليّ بن زيد العلوي.
وفيها واقع يعقوب بن الليث الحسن بن زيد بطبرستان فهزمه، وكان ليعقوب بها ظفر ومحنة.
محاربة يعقوب بن الليث الحسن بن زيد بطبرستان
ذكر السبب في ذلك
وكان السبب في ذلك أنّه كان بسجستان رجل يعرف بعبد الله رئيس ينافس يعقوب، فقهره يعقوب فهرب منه إلى محمد بن طاهر بنيسابور. فلمّا ملك يعقوب نيسابور هرب عبد الله فلحق بالحسن بن زيد وشخص يعقوب في طلبه.
فلمّا صار إلى قرب سارية لقيه الحسن بن زيد وكان يعقوب بعث إليه أن يوجّه إليه بعبد الله السجزيّ حتى ينصرف عنه فإنّه إنّما قصد طبرستان لأجله لا لحربه. فأبى الحسن تسليمه إليه.
فلمّا التقى عسكراهما لم يكن إلّا كلا ولا، حتى انهزم الحسن إلى أرض الديلم ودخل يعقوب سارية ثم مضى منها إلى آمل، فجبى أهلها خراج سنة، ثم شخص في طلب الحسن بن زيد. فلمّا صار في بعض جبال طبرستان تتابعت عليه الأمطار نحوا من أربعين يوما فلم يتخلّص منه إلّا بمشقة شديدة ولم يمكنه النزول إلّا على ظهور الرجال وهلك ما معه من الظهر.
ثم رام الدخول خلف الحسن بن زيد [ إلى الشرز ] فأخبر بعض من شاهده أنّه كان يقدم عسكره وأمرهم بالوقوف ليتأمّل الطريق فلمّا رآه عاد إلى أصحابه وأمرهم بالانصراف وقال:
« إن لم تكن إليه طريق غير هذا فلا طريق إليه. » وكان نساء تلك الناحية قلن لرجالهن: دعوه يدخل فإنّه إن دخل كفيناكم وعلينا أخذه وأخذ من معه. » فانصرف وقد ذهب معظم خيله وإبله وأثقاله ورجاله، وكتب إلى السلطان بفتح طبرستان وهزيمة الحسن بن زيد.
وسار يعقوب إلى الريّ وبها الصلابيّ من قبل موسى بن بغا.
ذكر السبب في مسيره
كان سبب مسيره إلى الريّ انّ عبد الله السجزيّ صار بعد هزيمة الحسن بن زيد إلى الريّ مستجيرا بالصلابيّ. فلمّا صار يعقوب إلى جوار الريّ كتب إلى الصلابيّ يخيّره بين تسليم عبد الله السجزيّ إليه حتى ينصرف عنه ويرتحل إلى عمله وبين أن يأذن بحربه. فاختار الصلابيّ تسليم عبد الله فسلّمه إليه فقتله يعقوب وانصرف عن الصلابيّ.
ودخلت سنة إحدى وستين ومائتين
وفيها جمع السلطان حاجّ خراسان والريّ وطبرستان وجرجان في صفر وقرئ عليهم كتاب يعلمون فيه أنّ السلطان ما ولّى يعقوب بن الليث خراسان وانّه عاص ويأمرهم بلعنه، وذلك لدخوله خراسان وأسره محمد بن طاهر وآل طاهر.
فيها كانت وقعة بين محمد بن واصل وبين عبد الرحمن وطاشتمر برامهرمز فقتل ابن واصل طاشتمر وأسر ابن مفلح.
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ ابن واصل قتل بفارس الحارث بن سيما عامل السلطان وتغلّب عليهم وضمّ إلى موسى بن بغا فارس والأهواز والبصرة واليمامة إلى ما كان إليه من عمل المشرق. فوجّه موسى عبد الرحمن بن مفلح إلى الأهواز وولّاه إيّاها وفارس وضمّ إليه طاشتمر، فاتصل بابن واصل ذلك وكان مقيما بالأهواز على حرب الخارجي بناحية البصرة، فلمّا بلغه أنّ ابن مفلح قد توجّه إلى فارس زحف إليه ابن واصل والتقيا برامهرمز وانضمّ أبو داود الصعلوك إلى ابن واصل معينا له فظفر ابن واصل بابن مفلح فأسره وقتل واصطلم عسكره وبعث السلطان إسماعيل بن إسحاق إلى ابن واصل في إطلاق ابن مفلح فلم يجبه إلى ذلك، ثم لم يزل ابن مفلح في يده حتى قتله.
ولمّا فرغ ابن واصل من ابن مفلح أقبل مظهرا أنّه يريد واسطا لحرب موسى حتى انتهى إلى الأهواز وبها إبراهيم بن سيما في جمع كثير، فلمّا رأى موسى بن بغا شدّة الأمر وكثرة المتغلّبين على نواحي المشرق وأن لا قوام له بهم ولا طاقة، سأل حينئذ أن يعفى عن أعمال المشرق، فأعفى عنها وضمّ ذلك إلى أبي أحمد، وانصرف موسى بن بغا إلى باب السلطان وصرف عمّاله عن المشرق.
وولّى أبو الساج الأهواز وحرب صاحب الزنج، فقدّم أبو الساج صهره عبد الرحمن فقتل، وانحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم ودخل الزنج الأهواز فسبوا أهلها وقتلوا وانتهبوا.
ثم صرف أبو الساج وولّى إبراهيم بن سيما.
وفيها ولّى نصر بن أحمد ما وراء نهر بلخ وكتب إليه بولاية ذلك.
وفيها زحف يعقوب بن الليث إلى فارس وابن واصل بالأهواز فانصرف منها إلى فارس والتقى هو ويعقوب فهزمه يعقوب وحصر قلعة ابن واصل بخرّمة فأخذها وحصّل ما فيها - فبلغت قيمة ما أخذه يعقوب منها أربعين ألف ألف درهم - وأسر مرداسا خال ابن واصل وأوقع بالأكراد الذين مالئوا ابن واصل.
وفيها جلس المعتمد في دار العامّة فولّى ابنه جعفرا العهد وسمّاه المفوّض إلى الله وولّاه المغرب وضمّ إليه موسى بن بغا وولّاه إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان وحلوان ومهرجانقذق.
وولّى أخاه أبا أحمد العهد من بعد جعفر وولّاه المشرق وضمّ إليه مسرور البلخي وولّاه بغداد والسواد والكوفة وطريق مكّة والمدينة واليمن وكسكر وكور دجلة والأهواز وفارس وقم وأصبهان والكرج والدينور والريّ وزنجان وقزوين وخراسان وجرجان وطبرستان وكرمان وسجستان والسند.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين ومائتين
وفيها وافى يعقوب بن الليث رامهرمز
فوجّه السلطان إليه إسماعيل بن إسحاق وبغراج وأخرج من كان محبوسا من أسباب يعقوب لأنّه لمّا حبس يعقوب محمد بن طاهر، حبس السلطان صاحبه وصيفا ومن كان قبله من أسبابه، فأطلق عنهم عند موافاة يعقوب رامهرمز، ثم قدم إسماعيل بن إسحاق من عند يعقوب برسالته.
فجلس أبو أحمد بغداد ودعا بجماعة من التجار وأعلمهم أنّ أمير المؤمنين أمر بتولية يعقوب بن الليث خراسان وطبرستان وجرجان والريّ وفارس والشرطة ببغداد، وذلك بمحضر صاحب يعقوب.
ثم انصرف الرسل الذين وجّهوا إلى يعقوب إلى السلطان فأعلموه أنّه يقول: لا يرضيه ما كتب إليه دون أن يصير إلى الباب السلطانيّ. وارتحل يعقوب من عسكر مكرم، فصار إليه أبو الساج فقبله وأكرمه ووصله، ولمّا رجع الرسول بجواب يعقوب عسكر المعتمد بخارج سرّ من رأى واستخلف ابنه جعفرا ثم وافى بغداد فاشتقّها وجازها إلى الزعفرانية فنزلها، وقدّم أخاه أبا أحمد الموفّق وسار يعقوب بجيشه حتى صار من واسط على فراسخ فصادف هناك بثقا بثقه مسرور البلخيّ من أجله حتى لا يجوزه. فأقام عليه حتى سدّه وعبره وصار إلى باذبين ووافى واسطا.
وسار محمد بن كثير من قبل مسرور البلخيّ فنزل بإزائه بالنعمانية وسار المعتمد حتى صار إلى سيب بنى كوما وأقام المعتمد حتى اجتمعت إليه عساكره. وزحف يعقوب من واسط إلى دير العاقول ثم زحف إلى عسكر السلطان. فأقام المعتمد ومعه عبيد الله بن يحيى وأنهض أخاه لحرب يعقوب، فجعل يعقوب يعبّئ أصحابه وجعل أبو أحمد موسى بن بغا على ميمنته ومسرور البلخيّ على ميسرته وصار هو في نخب الرجال في القلب.
فالتقى العسكران بين سيب بنى كوما ودير العاقول. فشدّت ميسرة يعقوب على ميمنة أبي أحمد فهزمتها وقتلت جماعة منها من القوّاد بينهم إبراهيم بن سيما وغيره، وسائر عسكر أبي أحمد ثابت. ثم ثابت المنهزمة فحملوا على عسكر يعقوب فثبتوا وحاربوا حربا شديدة، فقتل منهم جماعة وأصاب يعقوب ثلاثة أسهم في حلقه وبدنه ولم تزل الحرب قائمة بين الفريقين إلى آخر وقت العصر.
ثم ظهر في كثير من أصحاب يعقوب كراهة قتال السلطان لمّا رأوه بإزائهم. ثم حمل جميع أصحاب أبي أحمد على يعقوب ومن ثبت معه فانهزم أصحاب يعقوب وثبت يعقوب في حامية أصحابه، حتى مضوا وفارقوا موضع الحرب وغنم عسكر السلطان عسكر يعقوب. فيقال: إنّه أخذ من عسكره من الدوابّ والبغال أكثر من عشرة آلاف رأس ومن العين والورق ما يكلّ عن حمله ومن جرب المسك أمر عظيم.
وتخلّص محمد بن طاهر وكان مثقلا بالحديد، خلّصه الذي كان موكّلا به، وكتب كتاب الفتح إلى بغداد وقرئ على الناس، ورجع المعتمد إلى المدائن ومضى أبو أحمد الموفّق وقبض على ما لأبي الساج من المنازل والضياع فأقطعها مسرور البلخي، وقدم محمد بن طاهر بن عبد الله بغداد وقد ردّ إليه العمل وخلع عليه على مرتبته، فنزل دار عبد الله بن طاهر فلم يعزل أحدا ولم يولّ، وأمر له بخمسمائة ألف درهم.
وفيها وجّه صاحب الزنج جيوشه إلى البطيحة ودست ميسان.
-
ذكر الخبر عن طمعه في ذلك
لمّا انصرف موسى بن بغا عن أعمال المشرق وصار النظر لأبي أحمد الموفّق وضمّ أبو أحمد كور دجلة إلى مسرور البلخيّ وتشاغلوا بحرب يعقوب، خلت كور دجلة من عمّال السلطان وعساكره سوى المدائن.
فوجّه صاحب الزنج أحمد بن مهدى من أهل جبّى في سميريّات فيها رجال رماة إلى نهر المرأة، فجعل الجبّائى يوقع بالقرى.
فكتب إلى صاحبه:
« إنّ البطيحة خالية من رجال السلطان، لانصراف مسرور وأصحابه إلى محاربة يعقوب بن الليث. » فأمر صاحب الزنج رجلا من باهلة يقال له عمير بن عمّار - كان عالما بطرق البطيحة ومسالكها - إلى أن يسير مع الجبّائى حتى يستقرّ بالحوانيت.
وكاتب سليمان بن جامع أن يسير إلى الحوانيت فسار الجبّائى في طريق الماذيان فتلقّاه رميس فواقعه الجبّائى فهزمه وأخذ أربعا وعشرين سميرية ونيّفا وثلاثين صاخة وأفلت رميس ووافق خروجه منهزما مع أصحابه خروج سليمان بن جامع من النهر العتيق. فتلقّاه فأوقع به فيمن أفلت معه وانحاز رميس إلى بئر مساور ولحق بسليمان من مذكورى البلالية وأنجادهم جماعة في نحو من مائة وخمسين سميريّة فاستخبرهم الخبر فقالوا:
« ليس بينك وبين واسط أحد من عمّال السلطان وولاته. » فاغترّ سليمان بذلك وسار حتى انتهى إلى الجازرة فتلقّاه رجل يقال له أبو معاذ القرشي، فواقعه فانهزم سليمان عنه وقتل أبو معاذ جماعة وأسر جماعة فيهم قائد من قوّاد الزنج يقال له: رباح، وانصرف سليمان إلى موضعه الذي كان معسكرا به فأتاه رجلان من البلالية فقالا:
« ليس بواسط أحد يدافع عنها غير أبي معاذ في الشذاءات التي لقيتك. » فاستعدّ سليمان وكتب إلى الخبيث مع البلاليّة الذين استأمنوا إليه واحتبس الاثنين اللذين أخبراه عن واسط بما أخبراه، وسار قاصدا لنهر أبان فاعترض له أبو معاذ في طريقه ونشبت الحرب بينهما وعصفت الريح فاضطربت شذاة أبي معاذ وقوى عليه سليمان وأصحابه فأدبر عنهم.
ثم مضى سليمان فافتتح نهر أبان فأحرق وانتهب وسبى النساء والصبيان ثم وجّه رجلا يعرف له خبر واسط، فأخبره أنّ مسرورا قد توجّه إليه وأنّه بواسط. فتحمّل سليمان من موضعه وطلب موضعا يقرب عليه قصد صاحبه منه متى لحقه الطلب. فأشير عليه بطيها فتحصّن فيها وجمع إليه كلّ من ظهر منه مكاشفة للسلطان ويثق به من أهل الطفوف وغيرهم وكاتب صاحبه بذلك وبما دبّره، فكتب إليه يصوّب رأيه.
ثم إنّه وجّه الجبّائى في عسكر فبلغه أنّ أغرتمش وخشيشا قد أقبلا فجزع منهما وأخذ في الاستعداد للقائهما. ورجع إليه الجبّائى منهزما وصعد سليمان سطحا فأشرف منه فرأى الجيش فنزل مسرعا وعبر النهر وأمر السودان أن يستتروا حتى لا يظهر منهم أحد ويتواروا بالأدغال وتدعوا القوم حتى يتوغّلوا ولا يتحرّك واحد إلى أن يسمعوا أصوات طبوله فإذا سمعوها خرجوا. وقصد أغرتمش لجيشه وشغلهم قائد من قوّاد الزنج عن دخول العسكر يقال له: أبو الندى، وشدّ سليمان من وراء القوم وضرب الزنج بطبولهم وألقوا أنفسهم في الماء للعبور إليهم فانهزم أصحاب أغرتمش، وخرج إليهم من كان بطميشا من السودان فوضعوا فيهم سيوفهم وانهزم خشيش على أشهب كان تحته يريد الرجوع إلى عسكره. فتلقّاه السودان فصرعوه وأخذته سيوفهم فقتل وحمل رأسه إلى سليمان.
وقد كان خشيش حين أسرعوا إليه قال لهم:
« أنا خشيش فلا تقتلوني واذهبوا بي إلى صاحبكم. » فلم يسمعوا قوله. وانهزم أغرتمش وظفر الزنج بعسكره وشذاءاته ودوابّه وأسلابه وكتب إليه صاحبه بالفتح وحمل إليه رأس خشيش وخاتمه، فأمر فطيف به في عسكره ونصب ثم حمله إلى عليّ بن أبان وهو يومئذ مقيم بنواحي الأهواز، وأمر بنصبه هناك.
وفيها كانت وقعة بين أحمد بن ليثويه صاحب مسرور وبين عليّ بن أبان
فهزم الزنوج وقتل منهم مقتلة عظيمة وذلك أنّ مسرورا وجّه أحمد بن ليثويه إلى ناحية الأهواز وكان عليّ بن أبان بتستر فقصده ابن ليثويه فزحف عليّ بن أبان إليه وهو يبشّر أصحابه ويعدهم الظفر ويحكى ذلك لهم عن الخبيث. فلمّا وافى الباهليون - وهي قرية تعرف بذلك - تلقّاه ابن ليثويه في جماعة كثيفه من خيل السلطان واستأمن إليه جماعة من العرب فانهزم عليّ بن أبان ثم كرّ عليهم مع جميعة من رجّالته فاشتدّ القتال وترجّل عليّ بن أبان فباشر القتال بنفسه راجلا وبين يديه غلام يقال له فتح، وبصر بعليّ بن أبان قوم فعرفوه وأنذروا الناس به، فانصرف هاربا حتى لجأ إلى المسرقان، فألقى نفسه فيه وتلاه فتح فغرق فتح ولحق عليّ بن أبان نصر الرومي فتخلّصه من الماء وكان أصاب ساقه سهم، فانصرف مفلولا من أنجاد السودان وأبطالهم عدد كثير.
ودخلت سنة ثلاث وستين ومائتين ظفر يعقوب بن الليث بمحمد بن واصل
وفيها ظفر يعقوب بن الليث بمحمد بن واصل أخذه ابن عزيز بن السريّ فجاء به إلى يعقوب أسيرا.
وملك يعقوب فارس وسار إلى الأهواز، فلمّا صار إلى النوبندجان انصرف أحمد بن ليثويه عن تستر وارتحل عن بلدان الأهواز كلّ من كان بها من قبل السلطان.
ثم أقام عليّ بن أبان بنهر السدرة إلى أن دخل صاحب يعقوب الأهواز واسمه الخضر. فجعل يغير عليه وأغار صاحب يعقوب عليه ولم يزل كذلك الأمر مدّة.
ثم تجاسر عليه أعنى عليّ بن أبان على الخضر فسار إليه وأوقع به وقتل من أصحاب يعقوب خلقا وهرب الخضر إلى عسكر مكرم، فلمّا استباح عليّ عسكره والأهواز رجع إلى نهر السدرة وكتب إلى بهبوذ يأمره بأصحاب الصفّار أن يوقع بهم وهم بالدورق. فمضى بهبوذ إلى الدورق وأوقع بأولئك.
فكان عليّ يتوقّع بعد ذلك مسير يعقوب إليه فلم يسر.
وأمدّ الخضر بأخيه الفضل وأمرهما بالكفّ عن قتال أصحاب الخبيث والاقتصار على المقام بالأهواز. فأبى ذلك عليّ دون نقل طعام هناك، فتجافى له الصفّار عن ذلك الطعام وتجافى عليّ للصفّار عن علف كان بالأهواز. فنقل عليّ الطعام وترك العلف وتكافّ الفريقان: أصحاب عليّ وأصحاب الصفّار.
ودخلت سنة أربع وستين ومائتين
وفيها مات عبيد الله بن يحيى بن خاقان من صدمة خادم له وصلّى عليه أبو أحمد ومشى في جنازته واستوزر من الغد الحسن بن مخلد، ثم قدم موسى بن بغا فهرب الحسن بن مخلد واستوزر مكانه سليمان بن وهب.
وفيها توجّه جيش من قبل الصفّار إلى الصيمرة ونفذوا إليها وأخذوا صيغون وحملوه أسيرا.
وفيها مات موسى بن بغا ببغداد وحمل إلى سرّ من رأى فدفن بها.
محاربة محمد المولد وسليمان بن الجامع
وفيها ولى محمد المولّد واسطا فحاربه سليمان بن جامع وهو قريب من تلك الناحية، فهزمه وأخرجه من واسط ودخلها.
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ عليّ بن أبان لمّا هزم بأغرتمش وجعلان، أشار عليه أحمد بن مهدى الجبّائى بتطرّق عسكر البخاريّ وهو على خمسة فراسخ من عسكر تكين فلمّا وافى ذلك الموضع قال له الجبّائى:
« الرأي أن نقيم هاهنا وأمضى أنا في السميريّات فأحتر القوم وأتعبهم فيأتوك لغبين فتنال حاجتك. » فأقام سليمان وعبّأ خيله ورجّالته بموضعه ومضى الجبّائى فقاتلهم ساعة وأعدّ تكين حيلة وتطارد له الجبّائى وطال على عليّ بن أبان انتظار الجبّائى.
فأقبل يقفوا إثر الجبّائى. فأنفذ الجبّائى غلاما له إلى سليمان بن جامع أنّ أصحاب تكين واردون عليك بخيلهم.
فتلقّاهم الرسول فردّه إلى معسكره وجعل عليّ كمينا ممّا يلي الصحراء في ميسرة تكين وقال:
« إذا جاوزتكم خيل تكين فاخرجوا من ورائهم. » فلمّا علم الجبّائى أنّ سليمان قد أحكم أمره رفع صوته وقال لأصحابه ليسمع أصحاب تكين:
« غررتموني وأهلكتمونى، وقد كنت أمرتكم ألّا تدخلوا هذا المدخل، فأبيتم إلّا أن تلقوني وأنفسكم في هذه الورطة التي لا نرى أنّا ننجو منها. »
فطمع أصحاب تكين لمّا سمعوا كلامه وجدّوا في طلبه وجعلوا ينادونه:
« بلبل في قفص. » وسار الجبّائى سيرا حثيثا واتبعوه بجدّ يرشقونه حتى جاوز الكمين وقارب عسكر سليمان، وهو أيضا كامن وراء الجدر في خيله ورجله.
فزحف سليمان وخرج الكمين من وراء الخيل وعطف الجبّائى فأتاهم الروع من الوجوه كلّها فانهزموا. وركبهم الزنج يقتلونهم ويأسرونهم ويسلبونهم حتى قطعوا ثلاثة فراسخ.
ثم وقف سليمان وقال للجبّائى:
« نرجع فقد غنمنا وسلمنا والسلامة أفضل من كلّ شيء. » فقال الجبّائى:
« كلّا قد نفذت حيلتنا فيهم ونخبت قلوبهم. والرأي أن نكبسهم في ليلتهم هذه فلعلّنا أن نفضّ جمعهم ونجتاحهم. » فاتبع سليمان رأى الجبّائى وصار إلى عسكر تكين فقاتلهم تكين قتالا شديدا حتى انكشف عنه سليمان. ثم وقف سليمان وعبّأ أصحابه ثانية ووجّه شبلا في خيل ورجّالة إلى الصحراء وأمر الجبّائى فسار في السميريّات في بطن النهر وسار هو فيمن معه من أصحابه حتى وافى تكين، فلم يثبت له أحد وانكسفوا فتركوا في عسكرهم. فغنم ما فيه وأحرق الباقي وانصرف وكان استأذن صاحبه في الإلمام به فألفى في منصرفه ورود الإذن له، فاستخلف الجبّائى وحمل الأعلام التي أصابها من عسكر تكين والشذاءات التي كان أخذها من خشيش وأصحابه اغرتمش ومن كان معهم إلى عسكر الخبيث.
ثم كانت لعليّ بن أبان والجبّائى وغيرهما من أصحاب الخبيث وقعات منكرات وأمور هائلة ما كتبتها لخلوّها ممّا بنيت عليه كتابي هذا إلى أن دخل أصحابه واسطا.
-
وفيها خرج سليمان بن وهب والحسن بن وهب إلى سرّ من رأى
فلمّا وصل إليها حبسه المعتمد وقيّده وأنهب داره ودور بنيه واستوزر الحسن بن مخلد. وكان أبو أحمد الموفّق حسن الرأي في آل وهب فشخص من بغداد ومعه عبيد الله بن سليمان بن وهب. فلمّا قرب الموفّق من سرّ من رأى، تحوّل المعتمد إلى العسكر الغربي فعسكر به واختلف الرسل بينهما.
فلمّا كان بعد أيّام صار المعتمد إلى حرّاقة في دجلة وصار إليه أخوه الموفّق في زلّال، فخلع على الموفّق وعلى مسرور البلخي وكيغلغ وأحمد بن موسى بن بغا.
ثم عبر أهل عسكر أبي أحمد إلى عسكر المعتمد يوم التروية من ذي الحجّة فأطلق سليمان بن وهب ورجع المعتمد إلى الجوسق وهرب الحسن بن مخلد وأحمد بن صالح بن شيرزاد وكتب في قبض أموالهما وأسبابهما ومن يتصل بهما وهرب القوّاد المقيمون كانوا بسرّ من رأى إلى تكريت. ثم شخص إلى الموصل ووضعوا أيديهم في الجباية.
وكان عبيد الله بن سليمان كاتب الموفّق فأصلح بين سليمان بن وهب والحسن بن مخلد.
ودخلت سنة خمس وستين ومائتين
وفيها كانت بين أحمد بن ليثويه وسليمان بن جامع قائد الزنج وقعة بناحية جنبلاء فقتل من أصحاب سليمان سبعة وأربعون قائدا وخلق من الجند لا يحصى عددهم، واستباح عسكره وأحرق سفنه ومضى مفلولا حتى وافى طميشا.
وفيها لحق محمد المولّد بيعقوب بن الليث فصار إليه وقبض السلطان على أمواله وضياعه.
وفيها قبض الموفّق على سليمان بن وهب وابنه عبيد الله وأمر بقبض ضياعهما وأسبابهما وصولحا على تسعمائة ألف دينار.
واستكتب الموفّق صاعد بن مخلد واستوزر إسماعيل بن بلبل.
وفيها مات يعقوب بن الليث بالأهواز وخلفه أخوه عمرو بن الليث وكتب عمرو إلى السلطان بأنّه سامع مطيع.
وفيها لحق العباس بن أحمد بن طولون مع من تبعه ببرقة مخالفا لأبيه أحمد وكان أبوه استخلفه على عمله بمصر لمّا توجّه إلى الشام. فلمّا انصرف أحمد عن الشام راجعا إلى مصر حمل العباس ما في بيت المال بمصر وما كان لأبيه هناك من مال وأثاث وغير ذلك ومضى إلى برقة. فوجّه إليه أبوه جيشا فظفروا به ووجّهوه إلى أبيه فحبسه عنده وقتل بسببه وما كان منه جماعة كانوا شايعوا ابنه على ذلك.
وفيها دخل الزنج جبّل والنعمانية فأحرقوا وسبوا وصاروا إلى جرجرايا ودخل أهل السواد بغداد.
وفيها ولّى أبو أحمد، عمرو بن الليث خراسان وفارس وأصبهان وسجستان وكرمان والسند وأشهد له بذلك ووجّه إليه العهد والخلع.
وفيها صار مسرور البلخي إلى النيل وكان هناك عبد الله بن ليثويه وكان يظهر الخلاف على السلطان. فلمّا قصده مسرور ومن معه تلقّوه وترجّلوا له وانقادوا له بالسمع والطاعة وعبد الله بن ليثويه قد نزع سيفه ومنطقته وعلّقهما في عنقه وهو يعتذر ويحلف أنّه كان محمولا على ما فعل. فقبل منه وخلع عليه وعلى عدّة من قوّاده.
ودخلت سنة ستّ وستين ومائتين
وفيها ولّى عمرو بن الليث عبيد الله بن عبد الله بن طاهر خلافته على الشرطة ببغداد وسرّ من رأى وخلع أبو أحمد عليه. فلمّا صار عبيد الله إلى منزله خلع عليه فيه خلعة عمرو بن الليث. وبعث إليه عمرو مع خلعته عمودا من ذهب.
وفيها غلب اساتكين على الريّ وأخرج العامل كان عليها. ثم صار هو وابنه اذكوتكين إلى قزوين وعليها ايزون أخو كيغلغ. فصالحاه وأخذا قزوين ثم عادا إلى الريّ. وفيها مات أبو الساج وكان منصرفا من الأهواز عن عسكر عمرو بن الليث إلى بغداد.
وفيها ولّى عمرو بن الليث، أحمد بن عبد العزيز بن دلف أصبهان وولّى محمد بن أبي الساج الحرمين وطريق مكّة.
وفيها وجّه مسرور إلى الأهواز أغرتمش ومطر بن جامع وأبا لحرب عليّ بن أبان صاحب الزنج. فكانت بينهم وقعات بنهر السدرة ثم ظفر على تكمين كمنه وأكبّ الزنج على أصحاب السلطان فهزمهم وأسر مطر بن جامع وأتى به عليّ بن ابان فاستبقاه مطر فقال له عليّ:
« لو كنت أبقيت على صاحبنا جعفرويه بتستر لأبقينا عليك. » وكان جعفرويه محبوسا بتستر فلمّا صار إليها مطر أخرجه وقتله فقام عليّ بيده [ السيف ] إلى مطر فضرب عنقه وأفلت أغرتمش وأبّا ووجّه عليّ بن أبان بالرؤوس إلى الخبيث.
وفيها كانت بين الأكراد وبين عليّ بن أبان وقعة، فغلبه الأكراد وقتلوا من الزنج مقتلة عظيمة.
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّه كان بين محمد بن عبيد الله بن آزاذمرد الكردي وبين عليّ بن أبان شحناء، ثم تلاقيا على صالح وكان عليّ يرصده بشرّ، وقد عرف محمد بن عبيد الله ذلك فكان يروم النجاة منه. فكاتب ابن الخبيث المعروف بأنكلاى وسأله مسألة أبيه ضمّ ناحيته إليه فأذن له الخبيث فاستعدّ له عليّ وسار إليه وأوقع برامهرمز ومحمد بن عبيد الله يومئذ مقيم بها. فلم يكن بمحمد فيه امتناع. فهرب فاستباح عليّ رامهرمز وكتب محمد إلى عليّ يطلب المسالمة على مال يحمله إليه، فكتب عليّ إلى الخبيث بذلك، فكتب إليه بقبول ذلك وحمل المال، فحمله وأمسك عليّ عن محمد وأعماله.
ثم كتب إليه يسأله أن يعينه على جماعة من الأكراد بموضع يقال له:
الداريان على أن يجعل له ولأصحابه غنائمهم. فكتب عليّ إلى الخبيث يستأذنه في النهوض إلى ذلك فكتب إليه أن:
« وجّه الخليل بن أبان أخاك وبهبوذ وأقم أنت لا تنفذ جيشك حتى تتوثّق من محمد بن عبيد الله برهائن تكون في يدك تأمن بهم من غدره، فقد وترته وهو غير مأمون. »
فكتب عليّ إلى محمد بذلك وسأله الرهائن، فأعطاه محمد الأيمان والعهود، ودافعه عن الرهائن.
-
ذكر عجلة وحرص كانا سبب ترك الحزم
فدعا عليّا الحرص على الغنائم التي أطمعه فيها محمد إلى أن أنفذ الجيش قبل تحصيل الرهائن. فساروا ومعهم رجال محمد حتى وافوا الموضع المقصود، فخرج إليهم أهله فنشبت الحرب وظهر الزنج على الأكراد. ثم خذلهم أصحاب محمد بن عبيد الله وصدقهم الأكراد فانهزموا، وكان محمد أعدّ لهم قوما فعارضوهم وهم منهزمون، فأوقعوا بهم وسلبوهم وقتلوهم، فرجعوا بأسوإ حال فكتب المهلّبي إلى الخبيث بما ركبه محمد، فكتب إليه يعنّفه ويقول:
« خالفتني وتركت الحزم وتبعت هواك، فذاك الذي أردى جيشك. » وكتب الخبيث إلى محمد أنّه:
« لم يخف عليّ تدبيرك على جيش عليّ بن أبان ولن تعدم المكافأة على ما كان منك. » فارتاع محمد ممّا ورد عليه وكتب إليه بالتضرّع والخضوع وكتب:
« إني ارتجع جميع ما ذهب من عسكر الخليل بن أبان وأتوعّد من فعل ذلك وأقصده بكلّ مكروه. » فأظهر الخبيث غضبا وكتب إليه يتهدّده، فأعاد محمد الكتاب بالاستكانة وكتب إلى بهبوذ يضمن له مالا ولغيره ممّن يقرب من الخبيث فلم يزالوا به حتى سلّوا سخيمته على محمد وأظهر الخبيث الرضا عن محمد وقال:
« لست أقبل ما يقول أو يخطب لي على منابر أعماله. » فأجابه محمد إلى ما أراد. ثم راوعه وقصد عليّ متّوث فلم يطقها لحصانتها فاتّخذ لها سلاليم وآلات الحروب. وكان مسرور عرف قصد عليّ متّوث، فلمّا صار إليها وافاه قبيل المغرب وهو مقيم عليها. فلمّا عاين أصحاب عليّ أوائل خيل مسرور انهزموا وتركوا عسكرهم وجمع الآلات التي أعدّوها وقتل منهم جمع كثير وانصرف عليّ مذعورا مفلولا ولم يلبث حتى تتابعت الأخبار بإقبال أبي أحمد الموفّق إلى سوق الخميس وطميشا وفتح أبي أحمد إيّاها.
ثم ورد عليه كتاب يحفزه حفزا شديدا بالمصير إليه في عسكره.
ودخلت سنة سبع وستين ومائتين
وفيها غلب أبو العباس ابن الموفّق على عامّة ما كان سليمان صاحب الزنج غلب عليه من قرى دجلة
ذكر الخبر عن ذلك
إنّ الزنج لمّا دخلوا واسطا - وكان منهم ما ذكرنا - واتصل الخبر بأبي أحمد استعظمه، فخفّ للنهوض ابنه أبو العباس. فلمّا استجمع أمره ركب أبو أحمد يعرض أصحابه ووقف على عدّتهم فكان جميع الفرسان والرجّالة عشرة آلاف رجل في أحسن زيّ وأجمل هيئة وأكمل عدّة ومعهم الشذاءات والسميريّات والمعابر للرجّالة. فنهض أبو العباس وانصرف أبو أحمد من تشييعه وأقام أبو العباس بالفرك حتى تكامل أصحابه وأقام أيضا بالمدائن، ثم رحل إلى دير العاقول. فورد عليه كتاب نصير أبي حمزة صاحب الشذاءات والسميريّات وكان أمضاه على مقدّمته يعلمه أنّ سليمان بن جامع قد وافى في خيله ورجاله وشذاءاته والجبّائى يقدمه حتى نزل الجزيرة التي بحضرة بردودا، فرحل أبو العباس حتى وافى جرجرايا ثم فم الصّلح ثم ركب الظهر حتى وافى الصّلح ووجّه طلائعه لتعرف الخبر، فأخبروه بموافاة القوم وجمعهم وأنّ أوّل جيشهم بالصّلح وآخرهم ببستان موسى بن بغا أسفل واسط. فلمّا عرف ذلك عدل عن سنن الطريق وسار معترضا ولقي أصحابه أوائل القوم فتطاردوا لهم وأمعن الزنج في طلبهم فجعل الناس يقولون:
« اطلبوا أميرا للحرب فإنّ أميركم مشغول بالصيد. » فلمّا قربوا من أبي العباس بالصّلح خرج عليهم فيمن معه من الخيل والرجل وأمر فنودي:
« نصير، إلى أين تتأخّر عن هؤلاء الكلاب؟ ارجع إليهم. » فرجع نصير وركب أبو العباس في سميرية وحمل الناس من كلّ جهة فانهزم الزنج وأصحاب أبي العباس يقتلونهم إلى أن وافى بهم قرية عبد الله وهي على ستّة فراسخ من الموضع الذي لقوهم. وأخذوا عدّة شذاءات وسميريّات واستأمن قوم وغرق قوم.
فكان ذلك أول فتح فتح على أبي العباس. وأشار على أبي العباس قوّاده ونصحاؤه أن يجعل معسكره بالموضع الذي كان انتهى إليه، إشفاقا عليه من مقاربة القوم. فأبى وقال:
« فأين التيقّظ. » فنزل واسطا.
ولمّا انهزم سليمان بن جامع وأصحابه توافوا بنهر الأمير.
وكان القوم حين لقوا أبا العباس أجالوا الرأي بينهم فقالوا:
« هذا فتى حدث لم تطل ممارسته للحروب فالرأي أن نرميه بحدّنا كلّه، فإنّه سيرتاع ويكون سببا لانصرافه عنّا أو أسره. » ففعلوا ذلك وحشدوا فكاد يتمّ لهم ما دبّروه، ثم كانت الدبرة عليهم.
ودخل أبو العباس واسطا من غد يوم الوقعة في أحسن زيّ واستأمن إليه قوم ثم انحدر إلى العمر وهو على فرسخ من واسط فقدّم فيه عسكره وكان الناس أشاروا عليه أن يعسكر فوق واسط فأبى ونزل العمر ثم أخذ في بناء الشذاءات وآلات الماء وجعل يراوح القوم القتال ويغاديهم.
ثم إن سليمان استعدّ له مرة أخرى وحشد فلقيهم أبو العباس فهزمهم وقتل وأسر. ثم أتاه مخبر فأخبره أنّ الزنج قد اجتمعوا واستعدّوا لكبس عسكره من ثلاثة أوجه، وأنّهم قالوا فيما بينهم:
« إنّه حدث غرّ قد خاطر وغرّر بنفسه فاتفق له ولا يتمّ له ذلك أبدا. » فلمّا علم بتدبيرهم حذر وكانوا كمنوا له عشرة آلاف في موضعين وأطمعوه في أنفسهم فمنع أبو العباس من اتباعهمم. فلمّا علموا أنّ كيدهم لم ينفذ اجتمعوا له وكاثروه فهزمهم وأفلت سليمان راجلا ومضى جيشهم لا يلوى أحد على أحد. ورجع أبو العباس إلى مكانه بالعمر ثم إنّ الجبّائى كان يجيئه في الطلائع في كلّ ثلاثة أيّام.
ذكر حيلة للجبائى ما تمت له
أمر الجبائي بحفر آبار وصيّر فيها سفافيد حديد وغشّاها بالبواري وواراها بالتراب وأخفى مواضعها وجعلها على سنن مسير الخيل ليتهوّر فيها المجتازون وكان يوافى متعرّضا ويهيج الناس. فجاء يوما فطلبته الخيل فتقطّر فرس قائد في بئر منها فوقف أصحاب أبي العباس على حيلته فحذروا ذلك السمت ولم يمتحن غير ذلك القائد الواحد.
ثم عاودوا التعرّض للحرب في كلّ يوم إلى أن استجرأ عليهم جند أبي العباس فكان أبو العباس يقصدهم ويقتل ويأسر ويستنقذ نساء المسلمين وصبيانهم ويردّهم إلى أهليهم إذ عرض لأبي العباس كركيّ يطير، فرماه بسهم فشكّه فسقط بين أيدى الزنج ورأوا موقع السهم منه، فعلموا أنّه سهم أبي العباس، فاستشعروا الرعب منه فكانوا إذا رأوا علامته انهزموا.
ثم عزم أبو أحمد الموفّق على المصير إلى الجيش ومباشرة الأمر بنفسه فعزم أبو العباس على قصد نهر سوق الخميس قبل موافاة أبيه.
فقال له نصير:
« إنّ ذلك النهر ضيق فأقم أنت وأذن لي في المسير إليه. » فأبى أن يدعه حتى يعاينه فقيل له: إن كنت لا بدّ فاعلا فلا تكثر عدد من يحمل معك في الشذاءات.
فاستعدّ أبو العباس وسار نصير بين يديه واستأذنه رجل من قوّاده يقال له موسى دالحوا أن يكون بين يديه فأذن له وسار حتى انتهى إلى فوهة النهر المؤدّى إلى مدينة سليمان بن موسى الشعراني وغاب عنه نصير حتى خفى خبره وخرج عليه في ذلك الموضع خلق فتحدّث من كان معه قال: لمّا حالوا بيننا وبين الانتهاء إلى السور - وكان بيننا وبينه مقدار فرسخين - حاربناهم فاشتدّت الحرب وخفى أمر نصير علينا والزنج يهتفون بنا:
« أخذنا نصيرا وأنتم في قبضتنا. » فاغتمّ أبو العباس لذلك ورحل منه فاستأذنه محمد بن شعيب أن يأتيه بخبر نصير فأذن له فمضى في سميريّة بعشرين جذّافا، فإذا هو بنصير وقد قرب من سكر كانوا سكروه، فأضرمه بالنار وهو يحارب حربا شديدة وقد رزق الظفر. فرجع وأخبر أبا العباس وبشّره بسلامة نصير ومن معه وأنّه ظافر غانم فسرّ به سرورا شديدا.
وكان الزنج قد علقوا بشذاءة، فركب أبو العباس في سميريّة حتى وافى تلك الشذاءة وعلى أبي العباس كبر تحته درع فانتزع الشذاة وخلّصها. قال محمد: فنزعنا من كبر أبي العباس خمسا وعشرين نشّابة ومن لبابيد الملّاحين مثل ذلك وأقلّ وأكثر.
وظفر أبو العباس بالزنج وهزمهم وعاد إلى معسكره بالعمر إلى أن وافى الموفّق.
-
خروج الموفق لحرب صاحب الزنج
وخرج الموفّق من مدينة السلام قاصدا حرب صاحب الزنج وذلك حين بلغه أنّ صاحب الزنج كتب إلى صاحبه عليّ بن أبان المهلّبي يأمره بالمصير بجميع من معه إلى ناحية سليمان بن جامع ليجتمعا على حرب أبي العباس بن أبي أحمد.
فأعدّ أبو أحمد الشذاءات وآلات الماء وسار في فرسانه ورجّالته وغلمانه إلى أن نزل على فرسخ من واسط فأقام هناك يوما وليلة، فتلقّاه أبو العباس ابنه في جريدة خيل فيها قوّاده ووجوه جنده فسأله أبوه عن خبر أصحابه فأثنى عليهم ووصف نصحهم وبلائهم، فخلع عليه وعليهم.
وانصرف أبو العباس إلى معسكره ورحل أبو أحمد من غد ذلك اليوم في الماء وتلقّاه أبو العباس وجميع الجند في هيئة الحرب ثم سار أمامه إلى أن نزل أبو أحمد ثم سار أبو أحمد وولّى ابنه أبا العباس مقدّمته ووضع العطاء فأعطى الجيش. ثم سار على تعبئة وأمامه أبو العبّاس فأتاه بأسرى.
وذلك أنّه وافى عسكرا للشعرانى قبل مجيء أبيه فأوقع به وقتل منه مقتلة عظيمة، فأمر الموفّق بضرب أعناق الأسارى. ثم رحل أبو أحمد يريد مدينة صاحب الزنج التي سمّاها المنيعة من سوق الخميس بمن معه من الجيش وآلة الماء.
فلمّا رأى سليمان ومن معه من الزنج مسير الخيل والرجّالة على حافتي النهر قد ملؤوا الأرض ومسير الشذاءات والسميريّات في الماء انهزموا، وعلا أصحاب أبي العباس السور ووضعوا فيهم السيوف ودخلوا المدينة وقتلوا خلقا وأسروا خلقا وحووا ما في المدينة وهرب الشعراني واتبعوهم حتى وقعوا في البطائح وغرق منهم خلق ولجأ الباقون إلى الآجام، واستنقذ من المسلمات خمسة آلاف امرأة سوى الزنجيّات، فأمر أبو أحمد بحفظهن ليدفعن إلى أوليائهن.
وبات أبو أحمد بإزائها فلمّا أصبح أمر بأخذ جميع ما فيها وهدم سورها وطمّ خندقها واحرق آلاتها وسفنها، وبلغ خبر الوقعة صاحب الزنج فعظمت مصيبته واشتدّ جزعه وكتب إلى سليمان بن جامع يحذّره مثل ما نزل بالشعراني ويأمره بالتيقّظ.
وتعرّف أبو أحمد خبر الشعراني فقيل: إنّه بالحوانيت، فأنفذ إليه جيشا فألفوا هناك قوّاده ولم يصادفوه فقتلوا قوّاده وانتهبوا هناك غلّات كثيرة.
وتعرّف أبو العباس خبر سليمان بن جامع فأعلم بمكانه من مدينته التي سمّاها: المعمورة، في الموضع الذي يعرف بطميشا فرحل إليها أبو أحمد بعد أن أصلح سفن الجسور واستكثر من الضياع والآلات التي يسدّ بها الأنهار والطرق للخيل وتوطئة الأرض لسلوكها.
دفن الجبائي وادعاء آخر لصاحب الزنج
وفي هذه السنة دخل أبو أحمد طميشا وأخرج منها سليمان بن جامع وقتل بها أحمد بن مهدى الجبّائى وذلك بعد حروب كثيرة.
ولمّا حمل الجبّائى إلى الخبيث اشتدّ جزعه عليه وصار إليه حتى ولى غسله وتكفينه والصلاة عليه والوقوف على قبره حتى دفن ثم أقبل على أصحابه وقال:
« قد علمت بوفاته وقت قبض روحه قبل وصول خبره إليّ، بما سمعت من زجل الملائكة بالدعاء والترحّم عليه. » ثم إنّ أبا أحمد أمر أهل عسكره بالتحارس ليلتهم وصحّ سور المدينة بكتائب يتلو بعضها بعضا ورتّب غلمانه وأصحابه في المواضع التي يخشى خروج الزنج منها ورتّب الفرسان في المواضع التي يخاف خروج الكمناء منها وقدّم ابنه وتبعه بنفسه وحضّ الغلمان على الحرب وجسّرهم على الإقدام.
وقد كان حصّن الزنج السور بخمسة خنادق وجعلوا أمام كلّ خندق سورا ووكّلوا بها رجالهم فما أغنى جميع ذلك شيئا عند الجدّ، فهدمت الأسوار وطمّت الخنادق وهجم على الزنج وكلّ ذلك بالمصاولة من غير حيلة، سوى أنّ الموفّق كان إذا أتى بالواحد منهم عفا عنه وخلع عليه وأقامه حيث يراه أصحابه حتى استمالهم وكثر في أصحابه منهم وكان يفوّقهم على أصحابه ويأمر بالإحسان إليهم حتى فتح المدينة وهدم أسوارها وحوى ما فيها.
ذهاب الموفق إلى الأهواز للإيقاع بالمهلبي
ثم رحل نحو الأهواز بعد أن أحكم ما أراد إحكامه ليوقع بالمهلّبي واستخلف على عسكره بواسط ابنه هارون وشخص في خفّ من رجاله وتقدّم إلى ابنه هارون في أن يحدر الجيش الذي خلفه في السفن إذا كاتبه بذلك وسار حتى أتى وادي السوس وقد عقد له عليه جسر فعبره ووافى السوس وكاتب مسرورا في المبادرة إليه فقدم عليه في جيشه فخلع عليه وعلى قوّاده وأقام ثلاثا.
وصلّت خيل الخبيث وانتقض عليه تدبيره فحمله فرط الهلع على أنّ كاتب المهلّبي وهو يومئذ بالأهواز في ثلاثين ألفا بترك ما قبله كلّه والإقبال إليه. فترك ما كان جمعه من المير والأموال والأثاث وصار إليه، واستخلف محمد بن يحيى بن سعيد الكرنبائى، فوجل من المقام وخرج يتبع المهلّبي وكان يجبّى والأهواز يومئذ من أصناف الحبوب والتمر والمواشي شيء عظيم. فخرجوا عن ذلك كلّه جبنا وإدبارا فحوى جميعه الموفّق. فصار قوّة على الخبيث ولو أراد جمع ذلك في ذلك الوقت ما قدر على شيء منه.
وكتب أيضا الخبيث إلى بهبوذ وإليه يومئذ عمل الفندم والباسيان وما يتصل بهما من القرى التي بين الأهواز وفارس يأمره بالقدوم عليه. فترك بهبوذ أيضا ما كان قبله من التمر والطعام وكان شيئا عظيما فحوى جميعه أبو أحمد وقوى به على الخبيث.
وتخلّف عن المهلّبي قوم من الفرسان والرجّالة وكتبوا إلى أبي أحمد يسألونه الأمان لما انتهى إليهم عفوه عن من ظفر به بطميشا فبذله لهم وأحسن إليهم.
وأمر الموفّق بجباية الأهواز من جميع كورها. ووجّه إلى محمد بن عبيد الله الكرديّ من يؤنسه وعفا عنه وتقدّم إليه في جمع الأموال وتعجيلها نحوه والمسير إليه، وتأخّرت الميرة عن أبي أحمد بالأهواز وغلظ الأمر فسأل عن السبب فوجد الجند قد قطعوا قنطرة قديمة كانت بين سوق الأهواز ورامهرمز يقال لها: قنطرة أرمق، فامتنع التجّار من حمل الميرة لأجل ذلك.
فركب إليها أبو أحمد وهي على فرسخين من سوق الأهواز فجمع من كان في العسكر من السودان وأمرهم بنقل الصخر وبذل لهم الأموال فلم يرم حتى أصلحت القنطرة في يوم واحد وردّت كما كانت، فسلكها الناس ووافت الميرة والقوافل فعاش أهل العسكر وحسنت أحوالهم.
وأمر أبو أحمد بجمع السفن لعقد جسر على دجيل فجمعت من جميع كور الأهواز الآلات.
فلما تمّ عقده وتراجعت نفوس الناس والدوابّ باتصال المير والأعلاف سار وقدّم أبا العباس إلى الموضع المعروف بنهر المبارك من فرات البصرة وكتب إلى ابنه هارون بأن يحدّر إليه جميع الجيش إلى نهر المبارك لتجتمع العساكر هناك.
ونزل أبو أحمد بقورج العباس ثم نزل الجعفرية وهذه قرية ليس فيها ماء إلّا ماء الآبار التي كان أبو أحمد تقدّم بحفرها في عسكره فحفرت له وكان أعدّ بها بئرا، فوافاها والأمور مصلحة معدّة، ثم رحل حتى ورد نهر المبارك، واستأمن قوم إلى أبي أحمد طمعا فيما بلغهم من إحسانه إلى المستأمنه فأبلغوه أنّ صاحب الزنج قد جمع آلات الماء وفيها خلق من السودان ليقصدوا نصيرا وهو بنهر المرأة ويسلكوا موضعا يخرجهم من ورائه. فأنفذ إلى نصير وأخبره بذلك فبادر نصير إلى شقّ بئرين، فلقى هناك القوم فزرق الظفر بعد مجاهدة عظيمة، فقتل وأسر وأخذ ثلاثين سميريّة. وانصرف أصحاب أبي أحمد ظافرين إلى واسط واستأمن إلى نصير زهاء ألفى رجل، فكتب بالخبر إلى أبي أحمد فأمره بقبولهم وإجراء الأرزاق عليهم وتفريقهم على أصحابه ومناهضة العدوّ بهم.
ثم كتب إليه بموافاته إلى نهر المبارك ففعل.
كتاب أبي أحمد إلى صاحب الزنج للأمان والتوبة مما ركب وادعى
وكتب أبو أحمد إلى الخبيث كتابا يدعوه إلى الدخول في الأمان والنزوع عمّا هو عليه من ادعاء النبوّة وسبى المسلمات والمسلمين والفساد في الأرض، فإنّ التوبة مبذولة له. وأطال الكتاب في هذا المعنى.
فلمّا وصل إلى الخبيث رمى بالكتاب من يده ولم يجبه بشيء، وأقام على إصراره فعرض أبو أحمد شذاءاته وجمع آلات الماء ورتب قوّاده ومواليه وتخيّر الرماة منهم فرتّبهم في الشذاءات وسار إلى مدينة الخبيث المسماة:
المختارة، في نهر أبي الخصيب فأشرف عليها وتأمّلها فرأى من حصانتها وأسوارها وخنادقها ووعورة الطرق المؤدية إليها من كلّ وجه وكثرة من أعدّ عليها من الرماة بالقسّى الناوكيّة والمجانيق والعرّادات وسائر الآلات ما لم ير مثله. فاستغلظ أمره واستعدّ الوصول إليه.
ولمّا عاين الزنج أبا أحمد ارتفعت ضجّتهم بما ارتجّت له الأرض وتقدّم إلى بعض الشذاءات أن تقرب من السور من قصر الخبيث فتتابعت سهامهم وأحجار منجنيقاتهم وغير ذلك من عرّاداتهم ومقاليعهم حتى ما كان يقع طرف ناظر من الشذاءات إلّا على سهم أو حجر فأمر أبو أحمد بردّ تلك الشذاءات ومعالجة من أصابه جرح أو وهن.
-
واستأمن في تلك الحال سميريّتان فيها مقاتلة السودان ومعهما آلات الماء فأمر أبو أحمد للمقاتلين بخلع ديباج ومناطق محلّاة ووصلهما، وأمر للملّاحين بخلع حرير حمر وثياب بيض وخضر وأمر لهم بصلات وأمر بإدنائهم من الموضع الذي يراه منه نظراؤهم. فكان هذا من أنجع المكائد التي كادهم بها، وذلك أنّهم لمّا رأوا ذلك حسدوهم على ما صاروا إليه من الإحسان مع الدعة والأمن فتنافسوا فيه وابتدروا إليه وحرصوا على المسارعة إليه.
فصار إلى أبي أحمد في يومه ذلك عدّة سميريات فأمر لأصحابها بمثل ما أمر لمن تقدّمهم. فتتابع القوم إلى الأمان رغبة ورهبة ثم استأمن أصحاب الشذاءات. وجاءه السودان والبيضان فكان يصلهم ويكتب أسماءهم ويضمّهم إلى ابنه أبي العباس.
ثم تقدم أبو أحمد إلى موضع يقرب من القصر يعرف بحطى بعد ما أصلح الطرق إليه وعقد القناطر على أنهارها - وعسكر أبي أحمد في ذلك الوقت زهاء خمسين ألفا وعسكر الخبيث زهاء ثلاثمائة ألف، ممّن يقاتل أو يدافع من بين ضارب بسيف وطاعن برمح ورام عن قوس وقاذف بحجر عن منجنيق أو عرّادة أو مقلاع - وأضعفهم الرماة باليد وهم النظّارة الذين يكثرون السواد والمعينون بالنعير والصياح فأمر أبو أحمد فنودي:
« إنّ الأمان مبسوط للناس أسودهم وأحمرهم إلّا الخبيث. » وأمر بسهام فلفت عليها رقاع مكتوب فيها من الأمان مثل الذي نودى به.
فأقبل إليه المستأمنة تترى.
حصانة مواضع صاحب الزنج ومطاولة أبي أحمد
ورأى أبو أحمد من حال الخبيث وحصانة موضعه وكثرة عدّته ما لا بدّ له من المطاولة والمحاصرة. فاستعدّ لذلك وفرّق أصحابه حول الخبيث ووكّل بكلّ ركن قوّادا وقوّاهم بالرجال والآلات وأنفذ إلى عمّاله في النواحي في حمل الأموال والمير وسائر الأمتعة، وبنى مدينة سمّاها: الموفّقية، وعمل فيها بيت مال وأمر بحمل الأموال إليه من جميع البلدان. وبنى دور الضرب فضرب فيها دنانير ودراهم وجلب إليها الذهب والفضّة، وأرسل إلى سيراف من يأتيه بآلات الماء ويبنى فيها السفن والشذاءات ويجلب متاع البحر وكان قد انقطع جلب البحر منذ أكثر من عشر سنين لإخافة الخبيث السبل.
وكتب بإثبات كلّ من يصلح للجندية إلى عمّاله في الأمصار، ورغّب في ذلك والمدينة الموفّقية تبنى والكتب تنفذ بما يعمرها والتجّار يجهزون إليها والأسواق تكثر وأقبلت إليها مراكب البحر.
وبنى أبو أحمد المسجد الجامع فصارت مدينة كبيرة وحملت إليها الأموال وأدّر العطاء في أوقاته ورغب الناس في حلولها والمصير إليها من كلّ أوب، والخبيث يرصد غرّة يصيب فيها فرصته من أبي أحمد فلا يجد لتيقّظ الناس وتحارسهم ولحفظ الموكّلين بالمواضع المخوفة مواضعهم.
وكان أبو العباس لا يغفل ليلا ولا نهارا وإذا أمكنه قصد ناحية أوقع بها وبمن رتّب فيها من الزنج وإن أتاه مستأمن قبله وأحسن إليه والخبيث ينفذ أصحابه ويبثّ رجاله في اقتطاع ما يرد المدينة من السفن وغيرها. فربّما أصاب من ذلك حاجته فيعوّض أبو أحمد التجّار ويشحن المواضع التي يقصد منها بالرجال. وندب لحفظ الطرق أبا العباس فكان يوقع بأصحاب الخبيث ويحمل رؤوسهم إلى الموفّقية ويرتّب الرجال في الماء والبرّ حتى ضاق الأمر بالخبيث، فعزم على كبس الموفّق.
فاستأمن بعض قوّاد الزنج وأخبر الموفّق بذلك فأعدّ له قوما، فلمّا أتاه البيان كان مستعدا، فظهر على الزنج وأصابه مثل ذلك مرّات في كلّ مرّة يجيئه من ينذره فيستعدّ لهم حتى ظفر يوما برجال بيّتوه وأسر وقتل من السودان نحوا من خمسة آلاف ونصب الرؤوس على سور الموفّقية.
فأشاع الخبيث في أصحابه أنّ ذلك زور وأنّ تلك رؤوس المستأمنة. فأمر الموفّق برمي تلك الرؤوس إليهم بالمنجنيقات والعرّادات التي كانت منصوبة في السفن معمولة لأوقات الحرب فتبيّن لأصحابه كذبه، وصار سببا لضعف نيّاتهم.
ثم زحف الموفق بنفسه إلى المدينة المختارة ذكر السبب في خروجه
كان السبب في خروجه أنّ قوّاد الخبيث كاتبوا أبا أحمد الموفّق يعلمونه أنّهم على الخروج إليه في الأمان وأنّهم ليس يجدون السبيل إلى ذلك وأنّه لو قدّم قوما إلى الحرب لخرجوا ووجدوا بهم سبيلا إلى مفارقة الخبيث. فأنهض الموفّق أبا العباس في آلات الماء والشذاءات وانتخب له الرجال الشجعان وأهل النجدة والبأس وقدّمه. ثم سار بنفسه مع نصير ورشيق وزيرك واستقبلهم أصحاب الخبيث في أكثر من معدّاتهم وآلاتهم وخرج ابن الخبيث انكلانى ومعه عليّ بن أبان وسليمان بن جامع مع السفن التي فيها المجانيق والعرّادات والقسّى الناوكية.
فلمّا التقى الجمعان أمر الموفّق أصحابه بالحملة والدنو من الركن الذي فيه الجمع الأكثر وبينه وبينهم نهر يعرف بنهر الأتراك وهو نهر عريض غزير الماء. فلمّا انتهوا إليه أحجموا، فصيح بهم وحرّضوا على العبور فعبروا سباحة والزنج يرمونهم بما استطاعوا من المجانيق والعرّادات والمقاليع والسهام وحجارة الأيدى فصبروا على جميع ذلك حتى عبروا النهر وانتهوا إلى السور، ولم يكن لحقهم من الفعلة ما كان أعدّ لهدمه. فتولّى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح وتسنّموه وحصرهم بعض السلاليم بعد أن قتل فيهم مقتلة عظيمة ونصب هناك علم وأسلم الزنج سورهم وأحرق ما كان عليه من منجنيق وعرّادة وآلة حرب واستلحقوا الفعلة حتى وسّعوا المدخل في عدّة مواضع وملكوا السور الأوّل بعد مدافعات هلك فيها من الفريقين خلق ولا يعدم كلّ يوم مستأمنة يحسن إليهم فيتنصّحون ويأتون بالأخبار والتدابير التي يدبّرها الخبيث فينتقض عليه أمره.
ودخلت سنة ثمان وستين ومائتين
استئمان جعفر السجان وهروب ريحان إلى أبي أحمد
وفيها استأمن جعفر السجّان وهرب ريحان بن صالح المغربيّ من عسكر الخبيث إلى أبي أحمد. فأمر لهما بجوائز وصلات وأقيمت لهما الأنزال وحملا حتى ظهرا لأصحاب الخبيث وعليهم الخلع فاستأمن ذلك اليوم خلق كثير.
ثم وقعت وقعات كثيرة بعد ذلك بعضها للزنج وبعضها للموفّق، إلى أن منع من ميرة السمك الذي كان يأتيه من البطيحة ومنع العرب من حمل الميرة من جهة البادية وقتل منهم خلق وسلبوا ما كان معهم ومن ظفر به ممّن يسفر أو يعين عليه أخذ وعوقب وعذّب ثم قتل حتى ضاق على الزنج الأمر وانقطعت عنهم كلّ مادّة وضعفوا جدا. فكان الأسير أو المستأمن إذا سئل عن الخبر تعجّب ويزعم بعضهم أنّ عهدهم به سنتين وأقلّ وأكثر. فولى الموفّق أن يتابع الإيقاع بهم ليزيدهم ضرا وجهدا.
وأمر الموفّق بعرض الزنج لمّا كثروا وصاروا أكثر من جنده فمن كان لا يستصلح للقتال مثل الشيخ الضعيف والمجروح والزمن ومن أشبه هؤلاء أن يوهب لهم شيء ويردّوا إلى عسكر الزنج فلمّا عادوا وصفوا خصب عسكر الموفّق وإحسانه إلى المستأمنة فخرج أيضا بهذا السبب خلق في الأمان.
ثم إنّ بهبوذ أخال بحيلة حتى ظفر بخيل للموفّق فقتلهم وأخذ شذاءات كثيرة ونقل ميرة كبيرة.
ذكر حيلته هذه
احتال بأن أخذ شذاءات كثيرة فنصب عليها أعلاما كأعلام الموفّق وحمل فيها فوجا في زيّ قومه ورجاله. ثم اجتهد في أن وقع إلى معترض يؤدّى إلى نهر اليهودي. ثم سلك نهر نافذ حتى خرج إلى نهر الأبلّة فانتهى إلى الشذاءات والسميريّات المرتّبة لحفظ النهر وهم غارّون، فأوقع بهم وقتل قتلا ذريعا وأسر الباقون وجمع شيئا كبيرا من الميرة وأتى أصحابه في معترضات وأنهار غامضة.
ثم إنّه طمع في المعاودة.
ذكر طمعه هذا
فأمره لصاحبه أن يسلك في مواضع غامضة إلى أن يوافى القندل والبرشان. ففعل ذلك فوقع على سميريّة فيها طعام فقصدها بهبوذ فحاربه أهلها فأصابته طعنه في بطنه هلك منها. فعظمت فجيعة الخبيث وأحضر الموفّق الغلام فوصله وطوّقه وزاد في أرزاقه، وأمر لمن كان معه في سميرية بجوائز وصلات.
ودخلت سنة تسع وستين ومائتين
ولمّا قتل بهبوذ طمع صاحبه في كنوزه وأمواله وكان قد صحّ عنده موضع مائتي ألف دينار وجواهر وضياعات ذهب لها قدر. فطلب أمواله وذخائره وحبس أولياءه وأصحابه وضربهم بالسياط وأباد دورا له وهدم أبنية من أبنيته طمعا في شيء يجده من دفائنه. فكان ذلك أحد ما أفسد قلوب أتباعه ودعاهم إلى الهرب منه والزهد في صحبته.
فأمر أبو أحمد بالنداء في أصحاب بهبوذ بالأمان فسارعوا إليه ووصلهم.
ورأى أبو أحمد أنّ هدم السور الذي يفضى إلى الخبيث قد امتنع عليه فأزمع أن يباشره بنفسه ليكون ذلك أدعى إلى جدّه أصحابه. فباشر الحرب حتى وصل إلى السور وأحرق قناطر كانت تحول بين أصحابه وبين السور ويعتصم بها الزنج، واستظهر ذلك اليوم.
فبينا هو في جدّه وتشميره وقد ولج أصحابه السور وهدموا المسجد الجامع الذي بناه الخبيث ووصلوا إلى دواوينه وخزائنه وظهرت تباشير الفتح، إذ أتاه سهم غلام روميّ كان مع الخبيث يقال له: قرطاس، فأصاب صدر الموفّق فستر ذلك عن أصحابه وانصرف إلى موضعه من الموفّقية وعولج تلك الليلة.
فلمّا كان من الغد غادي الحرب على ما به ليشدّ من قلوب أوليائه ولئلّا يدخلهم وهن. فزاد ما حمله نفسه من الحركة في قوّة الجراحة فعظم أمرها حتى خيف عليه واضطرب العسكر والجند والرعيّة وخافوا قوّة الخبيث عليهم. فأشار الأطباء وأهل الشفقة بأن يرجع إلى مدينة السلام، فأبى وأشفق أن ينتظم أمر الخبيث بعد ما وهن، وبلغ الغاية. ولم يبق في أمره إلّا اليسير فأقام على صعوبة علّته وغلظ الحادثة في سلطانه إلى أن عوفي فظهر لخاصّته وقد كان أطال الاحتجاب عنهم والخبيث في تلك الأيّام يعد أصحابه العدات ويمنّيهم الأمانى الكاذبة.
-
فلمّا استقل الموفّق وتماثل وقوى على النهوض للحرب جعل يحلف على منبره أنّ ذلك باطل لا أصل به وأنّ الذي ظهر لهم في الشذاءة مثال مموّه. وكان أعاد بناء ما خرّب من مدينته ودواوينه ودوره.
فركب الموفّق وعاود الموضع بالحرب ووصل إلى تلك المواضع فهدمها ثانية ووصل أصحابه إلى قصر من قصوره فانتهبوا ما كان فيه وأخربوه وأحرقوه واستنقذوا عددا من النساء المسلمات اللواتي كان سباهنّ وأخذوا خيلا له، ولم يبق إلّا الوصول إلى قصره.
فصعب مرام ذلك على الموفّق وكثر المحامون عليه، ووافت الحرب ودامت حتى وصل إلى الفريقين من القتل والجراح أمر عظيم، وحتى لقد عدّ الجرحى في بعض الأيّام فوجدوا زهاء ألفى جريح في أصحاب الموفّق وذلك لتقارب الفريقين في وقت القتال، ومنع الخنادق كلّ واحد من الفريقين من الدنو من صاحبه، وكانت الشذاءات إذا قربت من قصره رموا من سوره ومن أعلى القصر بحجارة المنجنيقات وغيرها وبالنشّاب، وأذيب الرصاص وأفرغ عليهم، حتى أعدّ الموفّق للشذاءات أغطية طلاها بعقاقير تمنعها من الاحتراق وأحكمها وحمل فيها شجعان أصحابه وفتّاكهم، وأمر ابنه أبا العباس بقصد دار على شاطئ دجلة من نهر أبي الخصيب كانت بإزاء دار الخبيث ليشغل من فيها عن منعه من دار الخبيث، وأمر أصحاب الشذاءات المطليّة بما وصفنا أن يلصقوا شذاءاتهم بحائط القصر. فحاربهم الفسقة أشدّ حرب بالنيران وغيرها وصبر لهم من فيها حتى أزالوهم عن الرواشن وأحرقها غلمان الموفّق وسلم من كان فيها من الحجارة والرصاص المذاب، وتمكّنوا من دار الخبيث وأحرقوا البيوت التي كانت تشرع إلى دجلة من قصر الفاسق واتصلت النار بالستائر فقويت وأعجلت الخبيث ومن معه عن التّوقف على شيء من أمواله وذخائره وخرج هاربا على وجهه واستنقذ جماعة من النساء اللواتي استرقّهنّ.
وانصرف الموفّق وأبو العباس وقت المغرب بأجمل ظفر وغرق نصير في هذا اليوم.
ذكر الخبر عن ذلك وسببه
وكان سبب غرقه أنّه كان دخل في أوّل المدّ نهر أبي الخصيب فحمل الماء شذاءته فألصقها بالقنطرة ودخلت خلفه عدّة شذاءات فيها غلمان الموفّق ممّن لم يكن أمر بالدخول. فحملهم الماء فألقاهم على شذاة نصير فصكّت بعضها ببعض حتى لم يكن للاشتيامين والجذّافين فيها عمل، ورأى الزنج ذلك فأحاطوا بها من جانبي النهر فألقى الجذّافون أنفسهم في الماء ذعرا ودخل الزنج الشذاءات فقتلوا المقاتلة وغرق بعضهم وحاربهم نصير في شذاءته حتى خالف الأسر فقذف نفسه في الماء فغرق.
وأصاب الموفّق علّة فاشتغل بها عن الخبيث فأعاد القنطرة التي لجّج فيها نصير وأحكم ما كان هدم من قصره، وأفاق الموفّق من علّته فعاود الحرب وخرج الخبيث بنفسه للقتال مع ابنه انكلائى وعلي بن أبان وسليمان بن جامع واشتبكت الحرب وقاتلوا أشدّ قتال رئي، وقطعت القنطرة وأحرقت واستعلى عند ذلك أصحاب الموفّق ونشط غلمانه فوسّعوا المسلك وظفروا بدوره وقصوره فأحرقوها. وانتقل الخبيث من غربيّ نهر أبي الخصيب إلى شرقيّه وجمع عياله وولده حوله وضعف أمره ضعفا شديدا.
تفاقم الجوع وأكل بعضهم بعضا
وتهيّب الناس جلب الميرة إليهم. فبلغ الرطل من الخبز عشرة دراهم فأكلوا أصناف الحبوب ثم لم يزل يتفاقم الأمر بهم إلى أن أكلوا لحوم الناس فكان الزنج يتبعون الناس فإذ خلا أحدهم بامرأة أو صبي وثب عليه فأكله، ثم قوى ذلك فصار بعضهم يأكل بعضا، ثم أكلوا لحوم أولادهم، ثم كانوا ينبشون الموتى فيبيعون أكفانهم ويأكلون لحومهم.
فقصدهم الموفّق وأحرق الشرقيّ من جانب النهر كما أحرق الغربيّ وقصده من ثلاثة أوجه. فطرحوا فيها النيران فاحترق الناس من أصحاب الخبيث مع منازلهم وأسواقهم وهرب من أطاق ذلك فأخذته السيوف وهرب الخبيث وحاز أصحاب الموفّق جميع ما كان في نهر أبي الخصيب من الشذاءات والمراكب البحرية والسفن الصغار والحرّاقات والزلّالات وغيرها. وصار بعد ذلك رؤساء أصحاب الخبيث إذا وكّلهم بحراسة موضع أسلموه واستأمنوا حتى استأمن الشعراني وشبل وكانا من قدماء أصحابه وذوي البصائر في طاعته، وأمرهما الموفّق لمحاربة الخبيث لما علم أنّه لا وجه لهما عنده وضمّ إليهما قوما فكانا يأتيانه من الوجوه التي يأمنها حتى كثر القتل في أصحابه وذعره أمرهما ومنع ذلك أصحابه النوم ودخلهم له وحشة.
هزيمة الزنج وهروب صاحبهم
عظيمة ثم جمع الموفّق السفن وفيها عشرة آلاف من الملّاحين وعرض الجند وحرّضهم حتى شحذ نيّاتهم وهجم على مدينة الخبيث واستقبله الخبيث في جميع أصحابه فاشتدّ القتال وحامى الخبثاء عن ديارهم وعيالاتهم فمنح الله الموفّق النصر، وهزم الزنج وقتلوهم مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها وأسروا منهم جمعا كبيرا وأتى الموفّق بالأسرى فضرب أعناقهم.
وقصد دار الخبيث فدافع عنها ثم لم يغنه ذلك شيئا فأسلمها فانتهب ما كان فيها من الأموال والأثاث وأخذوا حرمه وأولاده فبلغ عدّتهم أكثر من مائة امرأة وصبي، وتخلّص الخبيث ومضى هاربا نحو دار المهلّبي لا يلوى على أهل ولا مال وأحرقت داره، وأتى الموفّق بنسائه وأولاده، فوكّل بهم وأمر بالإحسان إليهم فحملوا إلى الموفّقيّة.
وفي ذي الحجّة من هذه السنة وافى صاعد بن مخلد كاتب الموفّق حضرته منصرفا إليه من سرّ من رأى ووافى معه بجيش كثيف بلغ عدد الفرسان والرجّالة فيها عشرة آلاف. فأمر الموفّق بإزاحة عللهم في أرزاقهم وأمرهم بتجديد أسلحتهم والتأهّب لحرب الزنج. فهم في ذلك إذ ورد عليه كتاب لؤلؤ صاحب ابن طولون وكان فارق صاحبه يسأله فيه الإذن له في القدوم عليه ليشهد حرب الفاسق فأجابه وأذن له وأخّر ما كان عزم عليه من مناجزة الخبيث انتظارا للؤلؤ وكان لؤلؤ بالرقّة في جمع عظيم من نخبة أصحاب ابن طولون.
فشخص لؤلؤ حتى ورد مدينة السلام، ثم وافى عسكر أبي أحمد فجلس له أبو أحمد وحضر ابنه أبو العباس وصاعد بن مخلد والقوّاد على مراتبهم وأدخل عليه لؤلؤ في أحسن زيّ فأمره أبو أحمد أن ينزل معسكرا كان أعدّ له بإزاء نهر أبي الخصيب، فنزله في أصحابه، وتقدّم إليه في مباكرة دار الموفّق ومعه قوّاده وأصحابه للسلام. فغدا مع أصحابه في السواد فوصل وسلّم وقرّبه وأدناه ووعده وأصحابه الإحسان، وأمر أن يخلع عليه وعلى خمسين ومائة قائد من قوّاده وحمله على خيل كثيرة بالسروج واللجم المحلّاة بالذهب والفضّة وحمل بين يديه من أصناف الكسى والأموال في البدر ما يحمله مائة غلام، وأمر لقوّاده من الصلات والكسوة على قدر محل كلّ إنسان منهم، وأقطعه ضياعا جليلة وصرفه إلى معسكره وأعدّت له ولأصحابه الأنزال والعلوفات وأمره برفع جرائد لأصحابه ليعطوا رسومهم عند رفع الجرائد. ثم تقدّم إلى لؤلؤ في التأهّب للعبور إلى غربيّ دجلة لمحاربة الخبيث.
وكان الخبيث لمّا غلب على نهر أبي الخصيب أحدث سكرا في النهر من جانبيه وجعل في وسط السكر بابا ضيّقا ليتحدّ فيه جرية الماء فيمنع الشذاءات من دخوله في الجزر ويتعذّر خروجها في المدّ.
فرأى أبو أحمد الموفّق أنّ الحرب لا تتم إلّا بقلع هذا السكر، فحاول ذلك فرام أمرا صعبا بمحاماة الزنج عليه فهم يزيدون فيه كلّ يوم وهو متوسط دورهم، فالمؤونة تسهل عليهم وتغلظ على من حاوله. فرأى الموفّق أن يحارب بفريق بعد فريق من أصحاب لؤلؤ ليضروا بمحاربة الزنج ولينظر إلى مقدار غنائهم وشدّة بأسهم. فأمر لؤلؤا بأن يحضر في جماعة من أصحابه للحرب على هذا السكر وأمر بإحضار الفعلة لقلعه. ففعل.
فرأى الموفّق من نجدة لؤلؤ وإقدامه وشجاعة أصحابه وصبرهم على ألم الجراح وثبات العدّة اليسيرة في وجوه الجمع الكثير من الزنج ما سرّه، وكره أن يبذلهم فيكون الحرّة بهم ثم الظفر ألّا خير لهم فيذهبوا باسم الفتح. فأمر لؤلؤا أن يصرف أصحابه وأظهر إشفاقا عليهم وضنّا بهم، ووصلهم وردّهم إلى معسكرهم.
ثم ألحّ الموفّق على السكر فهو يخرّب وهم يبنون والمستأمنة يكثرون إلى آخر هذه السنة.
وفي هذه السنة أدخل عيال صاحب الزنج وولده بغداد.
وفيها سمّى صاعد ذا الوزارتين.
-
المعتمد يريد اللحاق بمصر
وفيها شخص المعتمد يريد اللحاق بمصر، وذلك قبل انحدار صاعد إلى الموفّق. وقدم قائدان لابن طولون من الرقّة في ذلك. فلمّا صار المعتمد إلى عمل إسحاق بن كنداجيق، وهو العامل على الموصل والجزيرة، وثب عليه ابن كنداجيق وعلى جميع من معه، فقيّدهم وأخذ جميع ما صحبهم من مال ورقيق.
وكان كتب إليه في القبض على المعتمد ومن معه وأقطع ضياع فارس بن بغا ومن صحب المعتمد من القوّاد. فاحتال ابن كنداجيق وأظهر أنّه معهم، وفي طاعة المعتمد إذ كان الخليفة ولا يجوز له الخلاف عليه وسار معهم فلمّا نزل موضعا بينه وبين عمل ابن طولون منزلان ارتحل التّبّاع ومن شخص مع المعتمد إلّا القوّاد وأشخص ابن كنداجيق فقال لهم ابن كنداجيق:
« إني أحبّ أن أخلو بكم وأشير عليكم بما في نفسي. » وقال لهم:
« قد قربتم من ابن طولون والمقيم بالرّقّة من قوّاده وأنتم إذا صرتم إلى ابن طولون فالأمر أمره وأنتم من تحت يده. أفترضون بذلك وقد علمتم أنّه اليوم كواحد منكم؟ » وأطال مناظرتهم حتى تعالى النهار فقال لهم ابن كنداجيق:
« قوموا بنا، فإنّ الشمس قد ارتفعت حتى نتمّ حديثنا في غير هذا الموضع ونكرم مجلس أمير المؤمنين عن ارتفاع الصوت. » وكان المعتمد في مضربه ومضرب ابن كنداجيق وسائر المضارب قد سارت فأدخلهم إلى مضرب نفسه. وكان قد تقدّم قبل ذلك إلى فرّاشيه وغلمانه وحاشيته في ذلك اليوم ألّا يبرحوا. فلمّا صاروا إلى مضربه دخل جلد غلمانه وأصحابه على القوّاد ومعهم القيود فقيّدوهم.
فلمّا فرغ منهم مضى إلى المعتمد فعذله على شخوصه عن دار ملكه وملك آبائه وفراقه أخاه على الحال التي هو فيها من حرب من يحاول قتله وقتل أهل بيته وإزالة ملكهم، ثم حمله ومن معه مقيّدين إلى سرّ من رأى.
تسمية كنداجيق بذي السيفين
وفيها خلع على ابن كنداجيق وقلّد سيفين بحمائل أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره وسمّى ذا السيفين وخلع عليه أيضا بعد ذلك بيومين قباء ديباج ووشاحان وتوّج بتاج وقلّد سيفا، كلّ ذلك مرصّع بالجوهر.
وشيّعه هارون بن الموفّق وصاعد بن مخلد والقوّاد إلى منزله وتغدّوا عنده.
ودخلت سنة سبعين ومائتين
مقتل صاحب الزنج وأسر سليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني
وفيها قتل الخبيث وأسر سليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني واستريح من أسباب الفاسق، وذلك بعد حروب كبيرة ومنازلات شديدة ومباشرة للحرب منه ومن الموفّق بأنفسهما، ومخاطرات منهما عظيمة لم يكن في جميعها ما يستفاد منه تجربة سوى احتمال المكاره في الحروب والصبر على شدائدها وأخطارها.
وحمل رأس هذا الخائن إلى بين يدي الموفّق في صفر من هذه السنة وهو يحارب مع أهل الشدّة والبأس من أصحابه، فقتل وهو يجاهد على حاله غير مستسلم ولا معط بيده، وكان قد بذل له الأمان مرارا فأباه وأقام على حاله صابرا حتى أسلمه رجاله وخانه ثقاته وذاب ذوبا حتى هلك ومضى مقتولا.
ثم تتابع مجيء الزنج الذين كانوا أقاموا مع الخبيث إلى آخر أمره وصبروا معه حتى وافى ذلك اليوم الذي قتل فيه ألف من الأبطال. فرأى الموفّق أن يبذل لهم الأمان لمّا رأى من كثرتهم وشجاعتهم ولئلّا يبقى منهم بقية يخاف معرّتهم ويجتمعون على رئيس يعظم خطبه بهم.
ثم وافى من الزنج في غد هذا اليوم خمسة آلاف زنجي وانقطع منهم نحو ألفى زنجي إلى البرّ فماتوا عطشا، وظفر الأعراب بقوم منهم فاسترقّوهم. فأمّا من قتل وغرق وأسر في الوقعة فخلق لا يوقف على عددهم.
وانتهى إلى الموفّق خبر المهلّبي وانكلائى ومقامهما بحيث أقاما فيه مع من تبعهما من جلّة قوّادهم ورجالهم فبثّ أبطال أصحابه في طلبهم فلمّا علموا ألّا ملجأ لهم أعطوا بأيديهم فظفر بهم الموفّق فلم يشذّ منهم أحد وأمر الموفّق بحبس المهلّبي وانكلاى والاستيثاق منهما.
استئمان درمويه
وفيها استأمن درمويه، الزنجي وكان أحد الأنجاد الأبطال وكان الخبيث قبل هلاكه بمدّة طويلة وجّهه إلى أواخر نهر الفهرج وهي من البصرة في غربيّ دجلة.
فلمّا هلك الخبيث أقام درمويه هناك في موضع وعر كثير الدغل والآجام متصل بالبطيحة فكان يقطع الطريق بمن معه في زواريق خفاف اتخذوها، فإذا طلبهم الشذاءات ولجوا في الأنهار الضيّقة واعتصموا بالأدغال وإذا تعذّر عليهم مسلك نهر لضيقه خرجوا من سفنهم وحملوها على ظهورهم ولجؤوا إلى هذه المواضع الممتنعة، وفي خلال ذلك يغيرون على ما قرب منهم من القرى ويسلبون من ظفروا به. فكان ذلك دأب درمويه قبل هلاك الخبيث وبعده.
وقد كان ابتدأ شرار الناس وفسّاقهم يصيرون إليه للمقام معه على مثل ما هو عليه، وكان الموفّق عزم على المقام عليه حتى وافاه رسوله يطلب الأمان لنفسه وأصحابه، فرأى الموفّق أن يؤمنه ليقطع مادّة الشرّ الذي كان فيه الناس من الخبيث وأتباعه.
ولمّا ورد عليه الأمان وافى قطعة حسنة كثيرة العدد لم يصبهم بؤس الحصار وضرّه لما كان يصل إليهم من أموال الناس. فذكر أنّ درمويه لمّا أؤمن وأحسن إليه وإلى أصحابه أظهر كلّ ما في يده وأيديهم من أموال الناس وأمتعتهم وردّ كلّ شيء إلى أهله ردّا ظاهرا مكشوفا، فظهرت أمانته، فاستدعاه الموفّق وقرّبه وخلع عليه وعلى وجوه أصحابه ووصلهم وضمّهم إلى ابنه أبي العباس.
وأقام الموفّق بعد ذلك بالموفّقيّة حتى أنس الناس وعاودوا أوطانهم ووثقوا بالراحة من أسباب الخبيث.
وولّى البصرة والأبلّة وكور دجلة من حمد مذهبه ووقف على حسن سيرته وولّى قضاء البصرة والأبلّة وكور دجلة محمد بن حمّاد.
ثم قدّم ابنه أبا العباس إلى بغداد ومعه رأس الخبيث فطيف به.
وكان خروج صاحب الزنج سنة خمس وخمسين ومائتين وقتل سنة سبعين ومائتين.
وفيها مات أحمد بن طولون والحسن بن زيد العلوي.
ودخلت سنة إحدى وسبعين ومائتين وقعة الطواحين
وفيها كانت بين أبي العباس ابن الموفّق وبين خمارويه بن أحمد بن طولون وقعة بالطواحين فهزم أبو العباس خمارويه فركب حمارويه حمارا وهرب إلى مصر. ووقع أصحاب أبي العباس في النهب ونزل أبو العباس مضرب خمارويه وهو لا يرى انّه بقي له طالب، فخرج كمين خمارويه كان كمنه وأصحاب أبي العباس قد وضعوا السلاح ونزلوا. فشدّ كمين خمارويه عليهم فانهزموا وتفرّق القوم، ومضى أبو العباس إلى طرسوس منهزما وذهب كلّ ما في العسكرين: عسكر أبي العباس وعسكر خمارويه من السلاح والكراع والأثاث والأموال، وانتهب الجميع.
ودخلت سنة اثنتين وسبعين ومائتين
وفيها أخرج أهل طرسوس أبا العباس ابن الموفّق من طرسوس لخلاف وقع بين يازمار وبينه فخرج يريد بغداد فقدمها.
وفيها قدم صاعد بن مخلد من فارس ودخل واسطا. فأمر الموفّق جميع أصحابه من القوّاد أن يستقبلوه، فترجّلوا له وقبّلوا يده وكمّه.
ثم قبض عليه الموفّق وعلى أسبابه كلّهم ببغداد وسرّ من رأى في يوم واحد، فاستكتب الموفّق إسماعيل بن بلبل.
ودخلت سنة ثلاث وسبعين ومائتين قدوم لؤلؤ من مصر
وفيها قيّد أبو العباس لؤلؤا القادم عليه من مصر ووجد له أربعمائة ألف دينار. فذكر لؤلؤ أنّه لا يعرف لنفسه ذنبا إلّا كثرة ماله وأثاثه.
وفيها كانت بين أبي الساج وبين إسحاق بن كنداجيق وقعة فانهزم إسحاق. ثم واقعه وقعة أخرى فانهزم إسحاق أيضا.
ودخلت سنة أربع وسبعين ومائتين
ولم يحدث فيها حادثة تكتب.
ودخلت سنة خمس وسبعين ومائتين حبس الموفّق ابنه
وفيها حبس الموفّق ابنه أبا العباس فشغب أصحابه وحملوا السلاح وركب غلمانه واضطربت بغداد فركب أبو أحمد الموفّق حتى بلغ باب الرصافة وقال لأصحاب أبي العباس وغلمانه:
« ما شأنكم، أترونكم أشفق على ابني مني؟ هو ولدي واحتجت إلى تقويمه. » فانصرف الناس وهدأت بغداد.
ودخلت سنة ستّ وسبعين ومائتين
شخوص أبي أحمد
وفيها شخص أبو أحمد من بغداد إلى الجبل وكان سبب ذلك انّ المادرائى كاتب اذكوتكين أخبره انّ له هناك مالا عظيما، وأنّه إن شخص صار ذلك إليه. فشخص أبو أحمد، فلم يجد من ذلك شيئا.
فشخص من هناك إلى الكرج ثم إلى إصبهان يريد أحمد بن عبد العزيز فتنحّى، له أحمد بن عبد العزيز عن البلد بجيشه وعياله وترك له داره بفرشها وآلتها لينزلها إذا قدم. وكان مع الموفّق محمد بن أبي الساج، وذلك أنّه قدم عليه هاربا من ابن طولون قبل شخوص الموفّق عن بغداد بعد أن كانت بينه وبين ابن طولون وقعات كثيرة ضعف ابن أبي الساج في آخرها عن مقاومته.
لقلّة من كان معه وكثرة من مع ابن طولون، فلحق بأبي أحمد فخلع عليه أبو أحمد وأخرجه معه إلى الجبل.
انفراج تل عن سبعة أقبر
وفيها ورد الخبر بانفراج تلّ بنهر الصلة يعرف بتلّ بنى شقيق عن سبعة أقبر، فيها أبدان صحيحة وعليها أكفان جدد، لها أهداب تفوح منها رائحة المسك، أحدهم شابّ له جمّة وجبهته وأذناه وخدّاه وأنفه وشفتاه ورقبته وأشفار عينه صحيحة وعلى شفتيه بلل كأنّه شرب الماء فأخرج الثقات لينظروا إلى ذلك فأخبروا أنّهم شاهدوا ذلك وانّ بعضهم جذب شعر بعضهم فوجده قويّ الأصل قريبا من شعر الحيّ.
وكان هذا التلّ انفرج عن شبه حوض من حجر في لون المسنّ عليه كتاب لا يدرى ما هو. فأحضر أصحاب الأديان فلم يعرف أحد منهم الخطّ.
ودخلت سنة سبع وسبعين ومائتين
-
ولم يجر فيها ما يكتب.
ودخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين
وفيها انحدر وصيف خادم أبن أبي الساج إلى واسط بأمر أبي الصقر
ذكر السبب في ذلك
كان سبب ذلك أنّ أبا الصقر أتلف ما في بيوت أموال أبي أحمد، حتى لم يبق فيها شيء، بالهبات والصلات العظام التي كان يجيز بها القوّاد، والخلع التي يخلعها عليهم. فاستدعى وصيفا هذا ليكون عدّة له إن طالبه أبو أحمد، وكان اصطنع وصيفا وأجازه بجوائز كثيرة وأدرّ على أصحابه أرزاقهم.
ولما نفد ما في بيوت الأموال طالب أرباب الضياع بخراج سنة مبهمة عن أرضهم، وحبس بذلك جماعة وكان الذي يتولّى له ذلك المعروف بالزغل.
فعسف الناس وقدم الموفّق قبل أن يسنتظف أداء ذلك، فشغل عنه بقدومه.
انصراف أبي أحمد من الجبل إلى العراق
وانصرف أبو أحمد من الجبل إلى العراق، فاشتدّ به وجع النقرس حتى لم يقدر على الركوب. فاتّخذ له سرير عليه قبّة، فكان يقعد فيه ويجلس معه خادم يبرّد رجله بالأشياء الباردة وبالثلج. ثم صار به داء الفيل وكان يحمل سريره أربعون رجلا يتناوب عشرون عشرون. فإذا اشتدّ به الألم أمرهم أن يضعوه. فقال يوما للذين يحملونه وقد سمع منهم ما يدلّ على ضجر:
« قد ضجرتم بحملي وبودّى إني كواحد منكم أحمل على رأسى وانّى في عافية. » وقال يوما:
« أطبق دفترى على مائة ألف مرتزق ما أصبح فيهم أسوأ حالا مني. » ولمّا ورد النهروان تلقّاه الناس فركب الماء في النهروان ثم في نهر ديالى ثم في دجلة، ودخل داره لليلتين خلتا من صفر، فأرجف الناس بموته.
وكان تقدّم في حفظ أبي العباس فغلّقت عليه أبواب دون أبواب. وانصرف أبو الصقر إلى منزله واعترت أبا أحمد غشية فازداد إرجاف الناس بموته.
فحمل المعتمد ولده فجيء بهم إلى داره ولم يصر أبو الصقر إلى الموفّق. فلمّا رأى غلمان أبي أحمد المائلون إلى أبي العباس والرؤساء من غلمان أبي العباس ما نزل بأبي أحمد، كسروا أقفال الأبواب المغلقة على أبي العباس.
فذكر الغلام الذي كان مع أبي العباس في الحجرة أنّ أبا العباس لمّا سمع صوت الأقفال تكسر قال:
« إنّا لله، ما يريد هؤلاء إلّا نفسي. » فأخذ سيفا كان عنده وقعد مستوفزا، فلمّا فتح الباب كان أوّل من دخل إليه وصيف موشكير وهو غلامه. فلمّا رآه رمى بالسيف من يده وعلم انّهم لم يقصدوه إلّا بخير، فأخرجوه حتى أقعدوه عند أبيه، وكان أبوه بعقب علّته.
فلمّا فتح عينه بعد إفاقته رآه فقرّبه وأدناه.
ووافى المعتمد وقد كان وجّه إليه، فحضر ومعه ابنه جعفر المفوّض إلى الله وليّ العهد وعبد العزيز ومحمد وإسحاق بنوه فنزل على أبي الصقر.
ثم بلغ أبا الصقر أنّ أبا أحمد لم يمت. فوجّه إسماعيل بن إسحاق يتعرّف له الخبر، وجمع أبو الصقر القوّاد والجند وشحن داره وما حولها بالرجال والسلاح. فرجع إسماعيل فأعلم أبا الصقر أنّ أبا أحمد حيّ. فأوّل من مضى إليه من القوّاد محمد بن أبي الساج. ثم جعل الناس يتسلّلون منهم من يعبر إلى باب أبي أحمد ومنهم من يرجع إلى منزله ومنهم من يخرج إلى بغداد.
فلمّا صحّ عند أبي الصقر حياة أبي أحمد انحدر هو وابناه إلى دار أبي أحمد فما ذاكره أبو أحمد. شيئا ممّا جرى ولا سأله عنه. وأقام هناك فانتهبت دار أبي الصقر وكلّ ما حوته حتى خرج حرمه حفاة بغير أزر وانتهبت دور كتّابه وأسبابه وكسرت أبواب السجون فأخرج من كان في المطبق وانتهب مجلسا الجسر. ثم خلع أبو أحمد على ابنه أبي العباس وعلى أبي الصقر وركبا جميعا والخلع عليهما من سوق الثلاثاء إلى باب الطاق ومضى أبو الصقر مع أبي العباس إلى دار صاعد. ثم انصرف إلى منزله فلم يجد فيه شيئا يجلس عليه حتى أتوه من دار الشاه بحصير فجلس عليه.
وولّى أبو العباس غلامه بدرا الشرطة على الجانب الشرقيّ وعيسى النوشرى الجانب الغربيّ.
وفاة أبي أحمد الموفق
وفيها توفّى أبو أحمد الموفّق ودفن في الرصافة وجلس أبو العباس للتعزية وبايع الغلمان والقوّاد لأبي العباس بولاية العهد بعد المفوّض ولقّب بالمعتضد بالله، وأخرج العطاء للجند وخطب يوم الجمعة للمعتمد ثم للمفوّض ثم للمعتضد.
وقبض على أبي الصقر وأسبابه وطلب بنو الفرات وكان إليهم ديوان السواد فاختفوا.
وخلع على عبد الله بن سليمان بن وهب وولّى الوزارة.
وبعث بمحمد بن أبي الساج إلى واسط ليردّ غلامه وصيفا إلى بغداد. فأبى وصيف ومضى إلى الأهواز فعاث بالسوس وأنهب الطيّب.
ابتداء امر القرامطة
وفيها وردت الاخبار بحركة قوم يعرفون بالقرامطة بسواد الكوفة. وكان ابتداء أمرهم قدوم رجل من ناحية خوزستان سواد الكوفة. فأظهر الزهد والتقشّف وكان يسفّ الخوص ويأكل من كسبه ويكثر الصلاة، فأقام على ذلك مدّة، فكان إذا قعد إليه إنسان ذاكره أمر الدين وزهّده في الدنيا وأعلمه أنّ الصلاة المفترضة على الناس خمسون صلاة في كلّ يوم وليلة، حتى فشا ذلك عنه.
ثم أعلمهم أنّه يدعو إلى إمام من أهل بيت رسول الله http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png فلم يزل على ذلك، يقعد إليه الجماعة فيخبرهم من ذلك بما يعلّق قلوبهم.
وكان يقعد إلى بقّال في القرية بموضع يقال له: النهرين، وكان بالقرب من البقّال نخل اشتراه قوم من التجّار واتخذوا حظيرة فجمعوا فيها ما صرموا من النخل. وجاء التجّار إلى البقّال فسألوه أن يطلب لهم رجلا يحفظ ما صرموا من النخل فأومأ لهم إلى هذا الرجل وقال:
« إن أجابكم إلى حفظه فإنّه بحيث تحبّون. » فناظروه في ذلك فأجابهم إلى حفظه بدراهم معلومة، وكان يحفظ لهم ويصلّى أكثر نهاره ويصوم ويأخذ عند إفطاره من البقّال رطل تمر فيفطر عليه ويجمع نوى ذلك التمر. فلمّا حمل التجّار تمرهم صاروا إلى البقال فحاسبوا أجيرهم هذا على أجرته فدفعوها إليه فحاسب الأخير البقال علي ما أخذه من التمر وحطّ من ذلك ثمن النوى، ورآه أولياء التجّار فوثبوا عليه وضربوه وقالوا:
« ألم ترض أن أكلت تمرنا حتى بعت النوى؟ » فقال لهم البقّال:
« لا تفعلوا فإنّه ما مسّ تمركم. » وقصّ عليهم قصّته، فندموا على ضربهم إيّاه، وسألوه أن يجعلهم في حلّ، ففعل وازداد بذلك نبلا عندهم لما وقفوا عليه من زهده. ثم مرض فمكث مطروحا على الطريق، وكان في القرية رجل يحمل على ثور له أحمر العينين، فكان أهل القرية يسمّونه كرميثه، وهو بالنبطية أى حارّ العينين فكلّم البقّال كرميثه هذا أن يحمل العليل إلى منزله ويوصى أهله بالإشراف عليه. ففعل وأقام عنده حتى برأ فكان يأوى إلى منزله.
ودعا أهل القرية ووصف لهم مذهبه، فأجابه أهل تلك الناحية. وكان يأخذ من الرجل إذا دخل في دينه دينارا ويزعم أنّ ذلك للإمام فلمّا كثر أصحابه اتخذ منهم اثنى عشر نقيبا وأمرهم أن يدعوا الناس إلى دينهم وقال لهم: « أنتم كحواريي عيسى بن مريم. »
فاشتغل أكرة تلك الناحية بالصلوات الخمسين التي وظّفها عليهم.
وكان للهيصم في تلك الناحية ضياع فوقف على تقصير أكرته في العمارة.
فسأل عن سبب ذلك فأخبر بخبر هذا الرجل وأنّه قد شغلهم بالصلاة فشغلهم عن أعمالهم. فوجّه إليه وجيء به فسأله عن أمره فأخبره. فحلف أنّه يقتله وأمر به فحبس في بيت وأقفل عليه الباب ووضع المفتاح تحت وسادته.
وتشاغل بالشرب. وسمع بعض من في داره من الجواري يمينه فرقّت له، فلمّا نام الهيصم أخذت المفتاح من تحت وسادته وفتحت الباب وأخرجته وردّت المفتاح إلى موضعه. فلمّا أصبح الهيصم طلب الرجل فلم يجده وشاع الخبر ففتن به أهل تلك الناحية وقالوا:
« رفع. » ثم ظهر في موضع آخر، فقصده قوم من أصحابه، فسألوه عن قصّته فكتمهم وقال:
« ليس يمكن أحدا من البشر أن يبدأنى بسوء. » فعظم في عيونهم.
ثم خاف على نفسه فخرج إلى الشام فلم يعرف له خبر. وسمّى باسم الرجل الذي كان في منزله: كرميثه ثم عرّب وخفّف فقيل قرمط. ثم كثر مذهبه بسواد الكوفة.
ووقف أحمد بن محمد الطائي وكان إليه النظر في سواد الكوفة على أمرهم فوظّف على كلّ رجل منهم في كلّ سنة دينارا فكان يجيء ذلك فيجتمع له منه مال جليل.
ثم قدم الكوفة قوم من الكوفة، فرفعوا إلى السلطان أمر القرامطة وانّهم قد أحدثوا دينا غير الإسلام، وانّهم يرون السيف في أمّة محمد إلّا من تابعهم على دينهم، وأنّ الطائي يخفى أمرهم عن السلطان فلم يلتفت إليهم.
مذهبهم كما جاء في كتاب لهم
ثم جاءوا بكتاب فيه مذهبهم ونسخته:
« بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الفرج بن عثمان: إنّه داعية إلى المسيح، وهو عيسى وهو الكلمة وهو المهديّ وهو أحمد بن محمد الحنفية وهو جبرائيل. وحكى أنّ المسيح تصوّر له في جسم إنسان وقال له: انّك الداعية وانّك الحجّة وانّك الناقة وانّك الدابّة وانّك روح القدس وانّك يحيى بن زكريا. ثم يوظّف صلاة ويقرأ فيها شيئا ليس من القرآن، ويذكر قبلة غير قبلة المسلمين، ويحكى أشياء عن لسان الإمام وينسب إلى الله أشياء ويحرّم النبيذ، وألّا غسل من جنابة، ولا صوم إلّا يومين في السنة: يوم النيروز ويوم المهرجان، وكلّ من حاربه وجب قتله. »
-
مناظرة بين قرمط وصاحب الزنج
وكان مصير قرمط إلى سواد الكوفة قبل قتل صاحب الزنج.
ويحكى عن قرمط أنّه قال: صرت إلى صاحب الزنج وقلت له:
« إني على مذهب وورائي مائة ألف سيف، فناظرني فإن اتفقّنا على المذهب ملت بمن معي كلّهم إليك، وإن تكن الأخرى انصرفت عنك. » وطلبت منه الأمان فأعطانيه. فناظرته إلى الظهر فتبيّن في آخر مناظرتي أنّه مخالف. فقام إلى الصلاة وانسللت وخرجت من عنده إلى سواد الكوفة.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين ومائتين
وفاة المعتمد
وفيها توفّى المعتمد وكان شرب على الشطّ في الحسنيّ شربا كثيرا وتعشّى فأكثر، فاختنق ومات ليلا. فكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة.
خلافة المعتضد
وبويع لأبي العباس المعتضد بالخلافة، فولّى غلامه بدرا الشرطة وعبيد الله بن سليمان الوزارة ومحمد بن الشاه بن ميكال الحرس وصالحا الأمين حجبة الخاصّة والعامّة فاستخلف صالح خفيفا السمرقنديّ.
قدوم رسول عمرو بن الليث بهدايا
وفيها قدم على المعتضد رسول عمرو بن الليث الصفّار بهدايا وسأل ولاية خراسان، فوصلوا إليه في شهر رمضان من هذه السنة فخلع عليه ونصب اللواء في صحن داره ثلاثة أيّام.
وورد الخبر بموت نصر بن أحمد وقام مكانه وبما كان إليه من العمل وراء نهر بلخ أخوه إسماعيل بن أحمد.
ورود رسول خمارويه من مصر في تزويج بنت خمارويه من المعتضد
وفيها ورد من مصر الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصّاص رسولا لخماروية بن أحمد بن طولون ومعه هدايا من العين عشرون حملا على بغال في عشرة من الخدم، وصندوقان فيهما نمران، وعشرون غلاما على عشرين نجيبا بسروج محلاة بحلية فضّة كثيرة ومعهم حراب فضّة وعليهم أقبية الديباج والمناطق المحلّاة، وسبع عشر دابّة بسروج ولجم منها خمسة بذهب والباقي بفضّة، وسبع عشرة دابّة بجلال مشهرة، وخمسة أبغل بسروج ولجم وزرّافة فوصل إلى المعتضد فخلع عليه وعلى سبعة نفر معه. وسفر ابن الجصّاص في تزويج بنت خمارويه من عليّ بن المعتضد. قال المعتضد:
« أتزوّجها. » فتزوّجها.
وفيها كتب إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف بمحاربة رافع بالريّ.
فزحف إليه أحمد، فالتقوا فانهزم رافع وخرج عن الريّ ودخلها أحمد بن عبد العزيز.
ودخلت سنة ثمانين ومائتين
قبض المعتضد على عبيد الله بن المهدي وشيلمة
وفيها قبض المعتضد على عبيد الله بن المهدي ومحمد بن الحسن بن سهل المعروف بشيلمة.
وكان شيلمة هذا من أصحاب صاحب الزنج وكان سبب قبضه عليهما أنّه سعى بهما ساع إلى المعتضد وقال: أنّه يدعو إلى رجل لم يوقف على اسمه وانّه قد استفسد جماعة من الجند وغيرهم. وأخذ معه رجل صيدنانيّ، فقرّره المعتضد فلم يقرّ بشيء وسأله عن الرجل الذي يدعو إليه فلم يظهره عليه وقال:
« لو كان تحت قدميّ ما رفعتهما عنه ولو جعلتني كردناك ما أخبرتك به. » فأمر بنار فأوقدت، ثم شدّ على خشبة من خشب الخيم وأدير على النار حتى تقطّع جلده، ثم ضربت عنقه وصلب عند الجسر. وحبس ابن المهتدي إلى أن وقف على براءته فأطلق.
وقال لشيلمة:
« بلغني انّك تدعو إلى ابن المهتدي. » قال: « المأثور عني غير هذا أنا أتولّى آل أبي طالب. » وكان قرّر ابن أخيه، فأقرّ فقال:
« قد أقرّ ابن أخيك. » فقال: « هذا غلام حدث، تكلّم بهذا خوفا من القتل، فلا تقبل قوله. » فأطلقهما بعد مدّة.
شخوص المعتضد إلى بنى شيبان
ثم شخص المعتضد من بغداد إلى بنى شيبان وكانوا بناحية من الجزيرة اتخذوها معقلا فلمّا بلغه قصده إليهم ضمّوا إليهم أموالهم وعيالاتهم. فأسرى إليهم المعتضد فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وغرق منهم خلق كثير في الزابين. فأخذ النساء والذراريّ وغنم أهل العسكر من أموالهم ما أعجزهم حمله وأخذ من غنمهم وإبلهم حتى بيعت الشاة بدرهم والجمل بخمسة دراهم، وأمر بحفظ النساء والذراريّ.
ثم لقيه بنو شيبان وسألوه الصفح عنهم وبذلوا رهائنهم فأخذ منهم خمسمائة رجل.
ووافاه أحمد بن أبي الأصبغ بما فارق عليه أحمد بن عيسى بن شيخ من المال الذي أخذه من مال إسحاق بن كنداجيق وبهدايا وبغال ودوابّ.
وفيها ورد الخبر بأنّ محمد بن أبي الساج افتتح المراغة بعد حصار شديد وحرب عظيمة، وأنّه أخذ عبد الله بن الحسين بعد أن آمنه وأصحابه فقيّده وحبسه وقرّره بجميع أمواله ثم قتله.
وفيها ورد الخبر بوفاة أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، وتنازع الرئاسة عمر وبكر ابنا عبد العزيز، ثم قام بالأمر عمر.
وفيها توفّى جعفر بن المعتمد.
وفيها ورد الخبر بغزو إسماعيل بن أحمد بلاد الترك وافتتاحه مدينة ملكهم وأسره إيّاه وامرأته خاتون ونحوا من عشرة آلاف، وقتل خلقا لا يحصى وغنم من الأموال والدوابّ ما لا يوقف على عدده، وأصاب الفارس من المسلمين من الغنيمة في المقسم ألف درهم.
ثم دخلت سنة احدى وثمانين ومائتين
شخوص المعتضد إلى الجبل وخروجه الثاني إلى الموصل
وفيها شخص المعتضد إلى الجبل فعقد ناحية الدينور، وقلّد ابنه أبا محمد عليّ بن المعتضد الريّ وقزوين وزنجان وأبهر وقم والدينور. وقلّد كتبه أحمد بن أبي الأصبغ ونفقات عسكره، وقلّد عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف إصبهان ونهاوند والكرج، وتعجّل الانصراف من أجل غلاء السعر.
وفيها خرج المعتضد الخرجة الثانية إلى الموصل قاصدا حمدان بن حمدون. ذلك أنّه بلغه أنّه مائل إلى هارون الشاري داع له، فورد كتابه على نجاح الحرمي يذكر الوقعة:
« بسم الله الرحمن الرحيم، كتابي هذا وقت العتمة ليلة الجمعة وقد نصر الله وله الحمد على الأعراب والأكراد وأظفرنا بعالم منهم وبعيالاتهم، ولقد رأيتنا نسوق البقر والغنم كما كنا نسوقها عام أوّل، ولم تزل السيوف والأسنة تأخذهم حتى حال بيننا وبينهم الليل، ومن غد يومنا يقع الاستقصاء وكان وقاعنا بهم وقتلنا لهم خمسين ميلا. فلم يبق منهم مخبر والحمد لله كثيرا وصلّى الله على محمد وآله وسلّم. » وكانت الأعراب والأكراد لمّا بلغهم خروج المعتضد تحالفوا أنّهم يقتلون على دم واحد، واجتمعوا وعبّأوا عسكرهم ثلاثة كراديس فكان من أمرهم ما ذكرت.
قصد المعتضد قلعة ماردين ثم الحسينية
ثم قصد المعتضد قلعة ماردين وكانت في يد حمدان بن حمدون. فلمّا بلغه خروج المعتضد إليها هرب وخلّف ابنه فيها، فنزل عسكر المعتضد على القلعة ذلك اليوم. فلمّا كان من الغد ركب المعتضد وصعد حتى وصل إلى باب القلعة ثم صاح:
« يا بن حمدان. » فأجابه فقال:
« افتح الباب. » ففتحه ولم يجر بينهما غير ذلك فقعد المعتضد في الباب ولم يدخل، وأمر من دخل فنقل ما في القلعة من المال والأثاث. ثم أمر بهدمها فهدمت، ويشبه أن يكون راسله قبل ذلك.
ثم وجّه خلف حمدان بن حمدون فطلب أشدّ الطلب وأخذت أمواله وكانت مودعة ثم ظفر به بعد.
-
ثم قصد المعتضد مدينة يقال لها الحسنية وفيها رجل يقال له شدّاد في جيش عظيم يقال انّهم عشرة آلاف وكان له قلعة في المدينة فظفر به المعتضد فأخذه وهدم قلعته.
ودخلت سنة اثنتين وثمانين ومائتين
المعتضد وتغيير موقع النيروز
وفيها أحدث المعتضد النيروز الذي يقع في اليوم الحادي عشر من حزيران وأنشأت الكتب إلى جميع العمّال في النواحي والأمصار بترك افتتاح الخراج في النيروز الذي كان للعجم.
وورد كتابه على يوسف بن يعقوب يعلمه أنّه إنّما أراد بذلك الترفيه على الناس والرفق بهم، وأمر أن يقرأ كتابه على الناس ففعل. وفيها كتب المعتضد من الموصل إلى إسحاق بن أيّوب وحمدان بن حمدون في المصير إليه. فأمّا إسحاق بن أيّوب سارع إلى ذلك وأمّا حمدان بن حمدون فتحصّن في قلاعه وغيّب أمواله وحرمه.
فوجّه إليه المعتضد الجيوش، فصادفوا الحسن بن عليّ كوره وأصحابه منيخين على قلعة لحمدان محاصرين لها وفيها الحسين بن حمدان.
فلمّا رأى الحسين أوائل العسكر مقبلين طلب الأمان، فأومن وسلّم القلعة وصار إلى المعتضد فأمر بهدمها. وأعدّ الجيش في طلب حمدان وكان قد صار بباسورين من دجلة ونهر عظيم. فكان الماء زائدا فعبر الجيش إليه، فهرب وقتل أكثر أصحابه وألقى حمدان نفسه في زورق في دجلة مع كاتبه وحمل معه مالا وعبر إلى الجانب الغربيّ من دجلة وقدّر اللحاق بالأعراب لمّا حيل بينه وبين أكراده في الجانب الشرقي، وعبر في إثره نفر يسير من الجند فاقتصّوا اثره حتى أشرفوا على دير كان نزله. فلمّا بصر بهم خرج هاربا ومعه كاتبه وألقيا أنفسهما في زورق وخلّفا المال في الدير فحمل إلى المعتضد وانحدر أصحاب السلطان في طلبه على الظهر وفي الماء.
فلحقوه فخرج من الزورق حاسرا إلى ضيعة له في شرقيّ دجلة فركب دابّة لوكيله وسار ليله أجمع حتى وافى مضرب إسحاق بن أيّوب في عسكر المعتضد مستجيرا به.
فأحضره إسحاق مضرب المعتضد فأمر بالاحتفاظ [ به ] وبثّ الخيل في طلب أصحابه وظفر بكاتبه وكثير من قراباته وغلمانه وتتابع رؤساء الأكراد وغيرهم في الدخول في الأمان.
نقل بنت خمارويه إلى المعتضد
وفيها نقلت بنت خمارويه بن أحمد إلى المعتضد ونودى في جانبي بغداد ألّا يعبر أحد دجلة وغلقت الأبواب التي تلى الشطّ ومدّ على الشوارع النافذة إلى دجلة الشرائج ووكّل بحافتى دجلة من يمنع الناس من أن يظهروا في دورهم على الشطّ.
فلمّا صليت العتمة وافت شذاة من دار المعتضد وفيها خدم معهم الشموع فوقفوا بإزاء دار صاعد، وكانت أعدّت أربع حرّاقات شدّت مع دار صاعد. فلمّا جاءت الشذاة حدرت الحرّاقات وصارت الشذاة بين أيديهم.
وأقامت الحرّة في يوم الاثنين في دار المعتضد وجليت عليه يوم الثلاثاء.
هروب يوسف بن أبي الساج إلى أخيه بالمراغة
وفيها هرب يوسف بن أبي الساج في من أطاعه إلى أخيه محمد بالمراغة ولقي مالا للسلطان في طريقه فأخذه فقال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وكتب به إلى المعتضد:
إمام الهدى أنصاركم آل طاهر ** بلا سبب يجفون والدهر يذهب
وقد خلطوا صبرا بشكر ورابطوا ** وغيرهم يعطى ويحبى ويهرب
معاملة المعتضد محمد بن زيد العلوي
وفيها وجّه محمد بن زيد العلوي من طبرستان إلى محمد بن ورد العطّار باثنين وثلاثين ألف دينار ليفرّقها ببغداد والكوفة والمدينة على أهله. فسعى به وأحضر دار بدر وسئل عن ذلك فاعترف به، وذكر أنّه يوجّه إليه في كلّ سنة مثل هذا المال فيفرّقه على من يأمره بالتفرقة عليهم من أهله. فأعلم بدر المعتضدي صاحبه المعتضد بذلك وأعلمه أنّ الرجل والمال في يده. فقال المعتضد:
« يا بدر أما تذكر الرؤيا التي خبّرتك بها؟ » فقال: « لا يا أمير المؤمنين. » فقال: « ألا تذكر أنّ الناصر - يعنى الموفّق - دعاني وقال: إني أعلم أنّ هذا الأمر سيصير إليك، فانظر كيف تكون مع آل أبي طالب. » ثم قال: رأيت في النوم كأنّى خارج من بغداد أريد ناحية النهروان في جيش وقد تشوّف الناس إليّ، إذ مررت على رجل واقف على تلّ يصلّى لا يلتفت إليّ، فعجبت منه، فلمّا فرغ من صلاته قال لي:
« أقبل. » فأقبلت إليه، فقال:
« أتعرفني؟ » قلت: « لا. » قال: « أنا عليّ بن أبي طالب، خذ هذه المسحاة فاضرب بها الأرض. » لمسحاة بين يديه فأخذتها، فضربت بها ضربات. فقال:
« إنّه سيلي من ولدك هذا الأمر قدر ما ضربت، فأوصهم بولدي خيرا. » قال بدر: فقلت:
« بلى يا أمير المؤمنين قد ذكرت. » قال: فأطلق الرجل وأطلق المال، وتقدّم إليه أن يكتب إلى صاحبه بطبرستان أن يوجّه ما يوجّه به إليه ظاهرا وأن يفرّق هذا الرجل ما يفرّقه ظاهرا، وتقدّم بمعونته على ما يلتمسه.
ذبح خمارويه في مصر
وفيها ورد الخبر على المعتضد من مصر في أحد عشر يوما على طريق البرّ انّ خمارويه بن أحمد ذبح على فراشه، ذبحه بعض خدمه الخاصّة، وقتل من خدمه الذين اتهموا بقتله نيّف وعشرون خادما.
وكان المعتضد بعث ابن الجصّاص إلى خمارويه بهدايا فلمّا بلغ سرّ من رأى اتصل خبر مهلك خمارويه بالمعتضد فكتب إليه يأمره بالرجوع، فرجع.
ودخلت سنة ثلاث وثمانين ومائتين
وفيها شخص المعتضد بسبب هارون الشاري إلى ناحية الموصل فظفر به.
ذكر هذا الظفر
وجّه الحسين بن حمدان بن حمدون في خيل من الفرسان والرجّالة إليه.
فقال الحسين:
« نعم يا أمير المؤمنين إن أنا جئت به فلي ثلاث حوائج يقضيها لي أمير المؤمنين. » فقال: « اذكرها. » قال: « أوّلها إطلاق أبي، وحاجتان أسألهما بعد مجيئي به. » فقال المعتضد:
« لك ذلك، فامض. » فقال الحسين:
« أحتاج إلى ثلاثمائة فارس أنتخبهم أنا. » فمكّنه من ذلك وأنفذهم مع موشكير فقال:
« أريد أن يأمره أمير المؤمنين ألّا يخالفني فيما آمره به. » فأمر المعتضد موشكير بذلك. فمضى الحسين حتى انتهى إلى مخاضة في دجلة فقدم إلى وصيف ومن معه بالوقوف على المخاضة وقال:
« ليس لهارون طريق إن هرب غير هذا فلا تبرحنّ من هذا الموضع حتى يمرّ بك هارون أو أجيئك أنا أو يبلغك أنّى قد قتلت. »
ومضى حسين في طلب هارون فلقيه وواقعه، فكانت بينهما قتلى وانهزم هارون وأقام وصيف على المخاضة ثلاثة أيّام فقال له أصحابه:
« قد طال مقامنا بهذا القفر وأضرّ بنا ولسنا نأمن أن يأخذ الحسين الشاري فيكون الفتح له دوننا والصواب أن نمضي في آثارهم. » فأطاعهم ومضى وجاء هارون منهزما إلى المخاضة فعبر وجاء حسين في إثره فلم ير وصيفا ولا أحدا من أصحابه ولا عرف لهم خبرا ولا رأي لهم أثرا، وجعل يسأل عن خبر هارون حتى وقف على عبوره فعبر في أثره وجاء إلى حيّ من أحياء العرب فسألهم عنه، فكتموا أمره فهمّ بالإيقاع بهم ثم. قال:
« إنّ المعتضد في إثرى. » فأعلموه أنّه اجتاز بهم فأخذ بعض دوابّهم وترك دوابّه عندهم وكانت قد كلّت وأعيت واتبع أثره فلحقه بعد أيّام والشاري في نحو من مائة. فناشده الشاري وتوعّده، فأبى إلّا محاربته فحاربه ورمى حسين بن حمدان بنفسه عليه وابتدره أصحاب الحسين، فأخذوه وجاء به إلى المعتضد سليما بغير عقد ولا عهد. فأمر المعتضد حين بلغه الخبر بحلّ قيود حمدان بن حمدون والتوسعة عليه إلى أن يقدم ابنه فيطلقه ويخلع عليه.
فلمّا وصل الشاري إلى المعتضد انصرف راجعا إلى بغداد فنزل باب الشماسية، وعبّأ الجيش هناك وخلع على الحسين بن حمدان وطوّقه بطوق ذهب، وخلع على جماعة من أهله وزيّن الفيل وأدخل الشاري عليه مشهرا ببرنس حرير طويل.
غزو الصقالبة الروم
وفيها ورد الخبر من طبرستان أنّ الصقالبة غزت الروم في خلق عظيم، فقتلوا منهم وهزموا ملكهم حتى وصلوا إلى قسطنطينية وألجئوا الروم إليها، ثم وجّه ملك الروم إلى ملك الصقالبة:
« إنّ ديننا ودينك واحد فعلام نقتل الناس بيننا؟ » فأجابه ملك الصقالبة:
« إنّ هذا ملك آبائي ولست منصرفا عنك إلّا بغلبة أحدنا الآخر. » فلمّا لم يجد ملك الروم مخلصا عنه جمع من عنده من المسلمين، وسألهم معونته على الصقالبة، فأجابوه إليه، فأعطاهم السلاح فهزموا الصقالبة. فلمّا رأى ملك الروم ذلك خافهم على نفسه. فبعث إليهم فردّهم وأخذ منهم السلاح وفرّقهم في البلدان فرقا من أن يجنوا عليه.
-
وثوب الجيش في مصر
وورد الخبر من مصر أنّ الجند وثبوا على جيش ابن خمارويه وقالوا:
« لا نرضى بك أميرا علينا فتنحّ عنّا حتى نولّى عمّك. » فكلّمهم كاتبه عليّ بن أحمد الماذرائى وسألهم أن ينصرفوا يومهم ذلك فانصرفوا، وعادوا من غد، فعدا جيش على عمّه الذي ذكروا أنّهم يؤمّرونه، فضرب عنقه وعنق عمّ له آخر ورمى برؤوسهما إليهم. فهجم الجند على جيش ابن خمارويه، فقتلوه وقتلوا أمّه وانتهبوا داره وانتهبوا مصر وأحرقوها، ثم أقعدوا هارون بن خمارويه مكان أخيه.
وفيها ورد كتاب بدر وعبيد الله بن سليمان وكانا بالجبل قرئ في مسجد الجامع ببغداد: « انّ عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف صار إليهما في الأمان منقادا لأمير المؤمنين بالطاعة، وانّ عبيد الله بن سليمان تلقّاه وخلع عليه وعلى رؤساء أهل بيته وأخذ عليهم البيعة.
وكان بكر بن عبد العزيز قبل ذلك استأمن إليهما، فولّياه عمل أخيه عمر على أن يمضى فيحاربه. فلمّا دخل عمر في الأمان قالا لبكر:
« إنّ أخاك قد دخل في طاعة السلطان وإنّما ولّيناك عمله على أنّه عاص والرأي لكما أن تمضيا إلى باب أمير المؤمنين ليرى رأيه في أمركما. » وولّى عيسى النوشرى إصبهان على أنّه من قبل عمر، فهرب بكر وكتب إلى المعتضد بخبره. فكتب إلى بدر يأمره بالمقام إلى أن يعرف خبر بكر.
وخرج الوزير عبيد الله بن سليمان إلى الريّ وبها عليّ بن المعتضد ولحق بكر بالأهواز فوجّه المعتضد في طلبه وصيفا موشكير فخرج إليه.
فلمّا قرب منه رجع بكر ومضى إلى إصبهان ورجع وصيف إلى بغداد. فكتب المعتضد إلى بدر يأمره بطلب بكر وحربه فتقدّم بدر إلى عيسى النوشرى بمحاربته فخرج إليه وحاربه وقتل أصحاب بدر وهزم بكرا.
ودخل عمر بن عبد العزيز [ بغداد ] قادما من إصبهان فأمر المعتضد باستقباله فاستقبله القاسم بن عبيد الله والقوّاد وقعد له المعتضد فوصل إليه وخلع عليه وحمله على دابّة بسرج ولجام محلّى بالذهب وخلع على ابنين كانا له وعلى أخيه أحمد بن عبد العزيز وعلى قوم من قوّاده وأنزل في دار كانت لعبيد الله بن عبد الله [ عند ] رأس الجسر وكانت فرشت له.
وفيها ورد كتاب من عمرو بن الليث بأنّه واقع رافع بن هرثمة فهزمه ووجّه في أثره بقوّاده وكان صار إلى طوس من نيسابور فانهزم ولحق بخوارزم فقتل بخوارزم وإنّه يحمل رأسه.
يتلوه في المجلّدة الخامسة: « ودخلت سنة أربع وثمانين ومائتين، وفيها قدم رسول عمرو بن الليث برأس رافع بن هرثمة في المحرّم ». والحمد لله وصلواته على خير خلقه محمد وعترته الطاهرين وحسبنا الله ونعم الوكيل، طه طسم. فرغ من انتساخه محمد بن عليّ بن محمد... البلخي في السابع عشر من رجب سنة خمس وخمسمائة. فرغ من انتساخه محمد بن حسن بن منصور في... والعشرين من رجب سنة إحدى وخمسين وخمسمائة. نقله عليّ بن حنظلة.
-