العقد الفريد/الجزء الثاني/23
وكانت العرِب تقول: لا يَزال الناسُ بخير ما تَباينوا فإذا تَساوَوْا هَلَكوا. وتقول: لا يَزالون بخيْر ما كان فيهم أشْراف وأخْيار فإذا جُمّلوا كلهم جملة واحدة هَلَكوا. وإذا ذَمَّت العربُ قوماً قالوا: سَواسية كأسْنان الحِمار. وكَيف يَستوي الناسُ في فَضَائلهم والرجلُ الواحد لا تَسْتوي في نَفسه أعضاؤه ولا تَتكافأ مَفاصِله ولكنْ لبعضها الفضلُ على بعض وللرأس الفضل على جميع البَدَن بالعَقْل والحواس الخمس. وقالوا: القلبُ أمير الجَسَد ومن الأعضاء خادمُه ومنها مَخْدومه. قال ابن قُتيبة: ومن أعظم ما ادّعت الشّعوبية فَخْرُهم على العَرب بآدم عليه السلام وبقول النبي عليه الصلاة والسلام: لا تفُضلوني عليه فإنما أنا حَسنة من حَسناته ثم فَخْرُهم بالأنبياء أجمعين وأنهم من العَجم غيرَ أربعة: هُود وصالح وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام واحتجّوا بقول الله عزّ وجلّ: " إنَّ الله اصطفي آدم ونُوحاً وآل إبْراهيمَ وآلَ عِمْران على العَاَلمين. ذُرّيَةً بَعضُها مِنْ بَعْض والله سَمِيعٌ عَليم ". ثم فَخَروا بإسحاق بن إبراهيم وأنه لِسَارة وأن إسماعيل لأمَة تُسمَى هاجَر. وقال شاعرهم: في بَلدة لم تَصل عُكْلٌ بها طُنُباً ولا خِبَاء ولا عَكّ وهمْدانُ ولا لجَرِم ولا بَهراء من وَطَن لكنّها لِبَني الأحرار أوطان أرضٌ يُبني بها كِسْرى مسَاكِنَه فما بها من بَني اللَّخْناء إِنْسان فَبنو الأحرار عندهم العَجم وبنو اللخناء عندهم العَرب لأنهم من وَلد هاجَر وهي أمة. وقد غَلطوا في هذا التأويل وليس كل أمة يقال لها اللخناء إنما اللخناء من الإماء المُمْتَهنة في رَعْي الإبل وسَقْيها وجمع الحَطب. وإنما أخذ من اللَّخَن وهو نَتن الرِّيح يُقال: لَخنُ السقاء إذا تَغيّر ريحُه. فأما مِثْلُ التي طَهّرها الله من كل دَنس وارتضاها للخليل فِرَاشا وللطِّيبَينْ إسماعيل ومحمدٍ أمّاً وجَعلهما لها سُلالة فهل يجوز لِمُلحد فضلاً عن مُسلم أن يُسمِّيها لَخْناء. رد الشعوبية على ابن قتيبة قال بعضُ مَن يَرى رَأْيَ الشعوبية فيما يَرُد به على ابن قتيبة في تَبايُنِ الناس وتفاضلهم والسّيد منهم والمَسود: إننا نحن لا نُنكر تَباين الناس ولا تَفاضلهم ولا السيد منهم ولا المسود ولا الشَّريف ولا المَشرْوف ولكنا نزْعم أن تَفاضل الناس فيما بَينهم ليس بآبائهم ولا بأحْسابهم ولكنه بأفْعالهم وأخلاقهم وشرَف أنْفسهم وبُعْد هِمَمهم ألا تَرى أنّه من كان دنيء الهمَّة ساقِطَ المرُوءة لم يَشْرُف وإنْ كان مِن بني هاشم في ذُؤَابتها ومن أمية في أرُومتها ومن قَيْس في أشْرف بَطْن منها إنَّما الكَرِيم مَن كَرُمت أفعالُه والشَّريف مَن شَرُفت همَّته وهو مَعْنى حديثِ النبيّ عليه الصلاة والسلام: إذا أتاكم كَرِيمُ قَوْم فأكْرموه وقوله في قيس بن عاصم: هذا سيّد أهْل الوَبَر. إنما قال فيه هذا لسُؤدَده في قَوْمه بالذبّ عن حَرِيمهم وَبَذْلِه رِفْدهُ لهم ألا تَرى أن عامر بن الطُّفيل وكان في أشْرف بَطْن في قيس يقول: فما سَوَّدتني عامرٌ عن وراثةٍ أبىَ الله أنْ أسْمُو بأمِّ ولا أب ولكنّني أحمي حِمَاها وَأتَّقي أَذاها وأرمي مَن رَماها بِمنْكب وقال آخر: إِنّا وإنّ كرُمت أوائلنا لَسْنَا على الأحْسَاب نَتَّكِلُ نبْني كما كانت أوائلُنا تَبْني ونَفْعل مثلَ مافَعَلُوا وقال قَيْس بن ساعدة: لأقْضين بين العَرب بقضيَّة لم يَقْض بها أحدٌ قَبلي ولاَ يردّها أحدٌ بعدي أيُّما رجلٍ رَمَى رجلاً بِمَلأمة دُونها كَرم فلا لُؤم عليه وأيّما رجل أدّعي كَرماً دونه لُؤم فلا كرم له. ومثله قولُ عائشة أم المؤمنين: كُل كَرم دُونه لُؤم فاللُّؤم أولى به وكُل لُؤم دونه كرم فالكرمُ أوْلى به تَعني بقولها: أن أوْلى الأشياء بالإنسان طَبائعُ نَفْسه وخِصالُها فإذا كَرُمت فلا يَضُرُّه لؤم أوَّليته وإذا لَؤُمت فلا يَنْفعه كرم أوليَّته. وقال الشاعر: نَفس عِصَامٍ سوَّدت عِصَامَا وعَلَّمته الكرَّ والإقْدَامَا وصَيَّرتْه مَلِكاً هُمامَا وقال آخر: ما ليَ عَقْلي وهِمَّتي حَسَبي ما أنا مَوْلًى ولا أنا عرَبي وتكلَّم رجلٌ عندي عبد الملك بن مَرْوان بكلام ذَهب فيه كل مَذْهب فأعجب عبدَ الملك ما سمع منه فقال: ابن مَن أنت يا غلام قال: ابن نَفْسي يا أميرَ المؤمنين التي نِلت بها هذا المَقعد منك قال: صدقتَ. وقال النبي عليه الصلاةُ والسلام: حَسَب الرجل مالُه وكَرمُه دِينه. وقال عُمر بن الخطَّاب: إن كان لك مالٌ فلك حَسَب وإِن كان لك دِين فلك كَرَم. وما رأيتُ أعجبَ من ابن قُتيبة في كتاب تَفْضِيل العَرِب إنه ذَهب فيه كُلّ مَذهب من فَضائل العرب ثم ختم كتابه بمَذْهب الشُّعوبية فنقَض في آخره كل ما بَنى في أوًله فقال آخر كلامه: وأعدلُ القول عندي إنَّ الناس كلّهم لأب وأمّ خُلِقوا من تُراب وأعيدوا إلى التراب وجَرَوْا في مَجْرى البَوْل وطُوُوا على الأقْذاء فهذا نَسبهُم الأعلى الذي يُردْع به أهلُ العُقول عن التّعظم والكِبْرياء والفَخر بالآباء ثم إلى الله مَرْجعهم فَتَنْقطع الأنساب وتَبْطًل الأحْساب إلاّ من كان حَسبُه التَّقوى أو كانت ماتّتة طاعةَ الله قالت الشُعوبية: إنما