اختبارات وملاحظات
الخوف من الفأرة والحية
ومن عجائب القلوب أن الأنسان يخوض المغامرات ويركب الأخطار ولا يرتاع قلبه من ذلك، ويخاف ممن لا يخاف منه الصبيان والنسوان. ولقد رأيت عمي عز الدولة أبا العساكر سلطان رحمه الله وهو من أشجع أهله له مواقع المشهورة والطعنات المذكورة، وهو إذا رأى الفأرة تغيرت صورة وجهه ولحقه كالزمع من نظرها وقام من الموضع الذي يراها فيه. وكان في غلمانه رجلاً شجاع معروف بالشجاعة والأقدام اسمه صندوق يفزع من الحية حتى يخرج عقله. فقال له والدي رحمه الله وهو واقف بين يدي عمي يا صندوق أنت رجل جيد معروف بالشجاعة ما تستحي تفزع من الحية؟ قال يا مولاي أي شيء في هذا من العجب؟ في حمص رجل شجاع بطل من الأبطال يفزع من الفأر ويموت - يعني مولاه. فقال عمي رحمه اللهقبحك الله يا كذا وكذا. ورأيت مملوكاً لولدي يرحمه الله يقال له لؤلؤ، وكان رجلاً جيداً ومقداما. وقد خرجت ليلة من شيزر ومعي بغال كثيرة وبهائم أريد احمل عليها من الجبل خشباً قد قطعته هناك لناعورة لي، فسرنا من ظاهر شيزر ونحن نظن أن الصبح قد دنا، فوصلنا إلى قرية يقال لها دبيس، وما تنصف الليل. فقلت أنزلوا ما ندخل الجبل في الليل. فلما نزلنا واستقرنا سمعنا صهيل حصان فقلناالإفرنج! فركبنا في الظلام وأنا أحدث نفسي ان أطعن رجل واد منهم وآخذ حصانهم ويأخذون دوابنا والرجل الذي مع الدواب، فقلت للؤلؤ وثلاثة من الغلمانتقدمونا اكشفوا هذا الصهيل. فتقدمونا يركضون فلقوا أولئك وهم في جمع وسواد كثير، فسبق إليهم لؤلؤ وقال تكلموا وإلى قتلتكم كلكم وهو رام جيد، فعرفوا صوته وقال وا حاجب لؤلؤ؟ قال نعم. وإذ هم عسكر حماة مع الأمير سيف الدين سوار رحمه الله قد أغار على بلاد الإفرنج وعاد وكان هذه أقدامه على ذلك الجمع، وإذا رأى في بيته حية خرج منهزماً وقال لامرأتهدونك والحية! فتقوم إليها تقتلها.
جرح وضبعة
والمحارب ولو انه الأسد اتلفه واعجز اليسير من العوائق كما أصابني على حمص. خرجت وقتل حصاني وضربت خمسين سيفاً - كل ذلك لنفاذ المشيئة، ثم لتواني الركابي في تركيب عنان اللجام، فإنه عقده في الباشات ولم يشقه. فلما جذبته أريد الخروج من بينهم انحل العنان من عقدته في البشات، فنالني ما نالني. وقد كان صاح صائح يوماً بشيزر من قبله فلبسنا وفزعنا. فكان الصائح كذاباً. فرحل أبي وعمي رحمهما الله ووقفت بعدهما، فوقع الصائح من الشمال من جانب الإفرنج، فركضت حصاني إلى الصائح، فرأيت الناس في المخاض يركب بعضهم بعضاً وقال واالإفرنج! فعبرت المخاض وقلت للناسلا بأس عليكم أنا دونكم! ثم طلعت أركض إلى رابية القرافطة، وإذا الخيل مقبلة في جمع كثير، وقدم تقدم منهم فارس لابس ذردية وخوذة وقد دنا مني فقصدته استفرص بعضه من أصحابي واستقبلني، فحين حركت حصاني إليه انقطع ركابي وما بقي لي مندوحة عن لقائه فقمت إليه بلا ركاب، فلما تدنينا ولم يبقى إلا الطعن سلم علي وخدمني وإذا هو السلار زين الدين إسماعيل بن عمر بن بختيار، وكان نهض مع عسكر حماة إلى بلد كفرطاب، فخرج عليهم الإفرنج فعادوا إلى شيزر منهزمين، وتقدمهم الأمير سوار رحمه الله. فسبيل الرجل المحارب يتفقد عدة حصانه، فإن ايسر الأشياء وأقلها يؤذي ويهلك، كل ذلك مقرون بما يجري به الأقدار والأقضية. وقد شهدت قتال الأسد في مواقف لا يحصيها، وقتلت عدة منها لم يشركني أحد في قتلها، فما نالني من شيء منها أذى. وخرجت يوما مع والدي يرحمه الله إلى الصيد في جبل قريب من البلد نصيد منه الحجل بالبزاة، ولم يكن الوالد رحمه الله ونحن معه والبازيارية على الجبل وبعض الغلمان والبازيارية أسفل من الجبل للتخليص من الزاة والوقوف على النبج، فقامت لنا ضبعة فدخلت مغارة، وفي تلك المغارة محجر دخلت فيه فصحت بغلام لي ركابي اسمه يوسف خلع ثيابه وأخذ سيكنه ودخل في ذلك المحجر، وأنا في يدي قنطارية مستقبل الموضع إذا خرجت طعنتها، فصاح الغلام إليكم قد خرجت! فطعنتها أخطأتها لأن الضبعة رقيقة الحجم. وصاح الغلامعندي ضبعة أخرى! فخرجت في إثرها، فقمت وقفت في باب المغارة وهي ديقة الباب متعليه مقدار قامتين أنظر ما يعمل أصحابنا الذين في الوطا بالضباع التي نزلت إليهم، فخرجت ضبعة ثالثة، وأنا مشغول بالنظر إلى الأوائل، فندستني رمتني من باب المغارة إلى قراره التي تحته فكادت تكسرني فتأذيت بضبعه وما تأذيت بالسباع، فسبحان مقدر الأقدار ومسبب الأسباب.
الخادم والفصاد ونشر الساق وغيره
وشاهدت من ضعف نفوس بعض الرجال وخورهم ما لا كنت أظن بالنساء. فمن ذلك أنني كنت على باب دار والدي رحمه الله وأنا صبي وعمري دون العشر سنين، فلطم غلام لوالدي اسمه محمد العجمي صبياً من خدام الدار فانهزم منه وجاء تعلق بثوبي، فلحقه وهو ماسك بثوبي فلطمه، فضربته بقضيب كان في يدي فدفعني، فجذبت من وسطي سكيناً ضربته بها فوقعت في بزه الأيسر فوقع. وجاءنا غلام كبير لوالدي يقال له القائد أسد فوقف عليه ونظر الجرح وإذا تنفس طلع منه الدم مثل فواقع الماء، فاصفر وارتعد ووقع مغشياً عليه، فحمل إلى داره وكان يسكن معنا في الحصن على تلك الحال، فما أفاق من غشيته إلى آخر النهار، وقد مات المجروح وقبر. ومما يقارب ذلككان يزورنا رجل من أهل حلب فيه فضل وأدب يلعب بالشطرنج طبقة ويلعب بها غائباً يقال له أبو المرجى سالم بن قانت رحمه الله، فكان يقيم عندنا سنة ولأكثر ولأقل، فربما مرض فيصف له الطبيب الفصاد، فإذا حضر الفصاد تغير لونه وأرتعد، فإذا فصده غشي عليه فلا يزال في غشيه حتى يشد فصاده ثم يفيق. ومما يضاد ذلك انه كان في أصحابنا من بني كنانة رجل أسود يقال له عي ابن فرج طلعت في رجله حبة فتخبثت وتناثرت أصابعه وانتنت رجله فقال له الجراحيما لرجلك إلا القطع وإلا تلفت. فحصل عنده منشاراً وجعل ينشر ساقه حتى يغلبه فيض الدم ويغشى عليه، فإذا من أجلد الرجال وأقواهم، فكان يركب في سرجه بركاب واحد، وفي الجانب الأخر سير تكون فيه ركبته، ويحضر القتال ويطاعن الإفرنج وهو في تلك الحال، وكنت أراه رحمه الله لا يستطيع رجل يشابكه ولايقابضه، وكان خفيف الروح مع قوته وشجاعته. فأصبح يوماً من الأيام وهو وبنو كنانة يسكنون حصننا حصن الجسر، أرسل إلى رجال من وجوه بني كنانة فقال اليوم يوم مطير وعندي فضلة نبيذ ومأكول تتفضلون علي بالحضور لنشرب. فاجتمعوا عنده فجلس في باب البيت وقال هل فيكم من يخرج من الباب إن لم أشأ؟ يشير إلى قوته. قال والا والله. قال هذا يوم مطير، وما أصبح في داري دقيق ولا خبز ولا نبيذ، وما فيكم إلا من في داره ما يحتاجه ليومه، أنفذوا إلى دوركم أحضروا طعامكم ونبيذكم، والبيت من عندي، ونجتمع اليوم نشرب ونتحدث. قال وا كلهمنعم ما رأيت يا أبا الحسن! وأنفذوا واحضروا ما في دورهم من طعام وشراب وقضوا نهارهم عنده، وكان رجلاً محترماً، فتعالى من خلق الخلق أطواراً أين جلد هذا وقوة نفسه من خور أولئك وضعف نفوسهم؟ وقريب من هذا ان رجلاً من بني كنانة حدثني بحصن الجسر ان رجلاً في الحصن استسقى فشق بطنه وبرئ وعاد صحيحاً كما كان. فقلت أريد أبصره واستخبره. وكان الذي حدثني رجل من بني كنانة يقال له أحمد بن معبد بن أحمد فاحضر ذلك الرجل عندي فإستخبرته عن حاله وكيف فعل في نفسه فقال أنا رجل صعلوك وحيد استسقى جوفي وكبرت حتى عجزت عن التصرف وتبرمت بالحياة فأخذت موسي فضربت به فوق سرتي في عرض جوفي، شققته فخرج منه قدر طباختين ماء يعني قدرين. وما زال الماء ينزل منه حتى ضمر جوفي، فخيطته وداويت الجرح فبرأ، فزال ما كان بي. وأراني موضع الشق في جوفه أطول من شبر ولا شبهة ان هذا الرجل كان له في الأرض رزق يستوفيه. وإلا فقد رأيت من استسقى وفصد الطبيب جوفه فخرج منه الماء كما خرج من الذي بزل نفسه إلا أنه مات من ذلك الفصد، لكن الأجل حصن حصين.
فرسان الإفرنج يهاجمون شيزر ويفشلون
النصر في الحرب من الله تبارك وتعالى لا بترتيب وتدبير ولا بكثرة نفير ولا نصير، وقد كنت إذا بعثني عمي رحمه الله لقتال أتراك أو إفرنج أقوله لهيا مولاي أمرني بما أتدبر به إذا لقيت العدو. فيقوليا بني الحرب تدبر نفسها وصدق. وكان امرني ان آخذ امرأته وأولاده خاتون بنت تاج الدولة تتش والعسكر وامضي أوصلهم إلى حصن مصياث وهو إذ ذاك له، وكان يشفق عليهم من حر شيزر، فركبت وركب أبي وعمي رحمهما الله معنا إلى بعض الطريق، وعاد وليس معهما إلى المماليك الصغار لجر الجنائب وحمل السلاح والعسكر كله معي. فلما قربا من المدينة سمعا طبل الجسر يضرب. فقال اشيء قد جرى في الجسر فدفعا خيلهما تناقلا ونحباً إلى الجسر. وكان بيننا وبين الإفرنج لعنهم الله هدنة. فنفذوا من كشف لهم مخاضة يعبرون منها إلى مدينة الجسر وهي في الجزيرة لا يعبر إليها إلا من الجسر معقود بالحجر والكلس لا يصل الإفرنج إليه، فدلهم ذلك الجاسوس على مخاضه، فركبوا جميعهم من افامية فأصبحوا إلى ذلك الموضع الذي دلهم عليه، عبروا الماء وملكوا المدينة ونهبوا وسلبوا وقتلوا ونفذوا بعض السبي والنهب إلى افامية وملكوا الدور، وعلم كل واحد منهم صليبه على دار وركز عليه رايته. فلما اشرف ابي وعمي رحمهما الله على الحصن كبر أهل الحصن وصاحوا. فألقى الله سبحانه وتعالى على الإفرنج الرعب والخذلان فذهلوا على الموضع الذي عبروا منه ورموا خيلهم وهم بدروعهم عليها في غير مخاض، فغرق منهم جماعة كثيرة كان الفارس يغوص في الماء فيسقط عن سرجه ويرسب في الماء ويطلع الحصان. ومضى من سلم منهم منهزمين لا يلوي بعضهم عل بعض وهم في جمع كثير، وأبي وعمي معهما عشرة مماليك صبيان. فأقام عمي في الجسر ورجع أبي إلى شيزر، وواصلت أنا أولاد عمي إلى مصياث وعدت من يومي وصلت العشاء فأخبرت بما جرى، فحضرت عندى والدي رحمه الله وشاورته في ان امضي إلى عمي إلى حصن الجسر. قال تصل في الليل وهم نيام. ولكن سر عليهم من بكرة. فأصبحت سرت وحضرت عنده وركبنا وقفنا على ذلك الموضع الذي غرق فيه الإفرنج ونزل إليه جماعة من السباح فأخرجوا جماعة من فرسانهم موتى. فقلت لعمييا مولاي ما نقطع رؤوسهم وننفذها إلى شيزر؟ قال افعل فقطعنا منهم نحو من العشرين رأساً فكان الدم يسيل منهم كأنهم قد قتلوا تلك الساعة ولهم يوم وليلة. وأظن الماء حفظ فيهم دمهم.
وغنم الناس منهم سلاحاً كثيراً من الزرديات والسيوف والقنطاريات والخوذ والكلسات والزرد. ورأيت رجلاً من الفلاحين الجسر حضر عند عمي ويده في ثيابه. فقال له عمي يمزح معهأي شيء أعزلت لي من الغنيمة؟ قال أعزلت لك حصاناً بعدته وزرديته وترساً وسيفاً. ومضى أحضر الجميع، فأخذ عمي العدة وأعطاه الحصان وقال أي شيء بيدك؟ قال يا مولاي تقابضت أنا والإفرنجي ولا معي عدة ولا سيف فرميته ولكمت وجهه وعليه اللثام الزرد حتى أسكرته وأخذت سفه وقتلته به، وتهرأ الجلد على عقد أصابعي وورمت يدي فما تنفعني. وأظهر لنا يده وهي كما قال قد انكشفت عظام أصابعه.
وكان في جند الجسر رجل كردي يقال له أبو الجيش وله بنت اسمها رفول قد سباها الإفرنج، وهو قد توسوس عليها يقول لكل من لقيه يوماً سبيت رفول! فخرجنا من الغد نسير على النهر فرأينا في جانب الماء سواداً فقلنا لبعض الغلمان اسبح ابصر ما هذا السواد. فمضى إليه فإذا ذلك السواد رفول عليها ثوب أزرق وقد رمت نفسها من على فرس الإفرنجي الذي أخذها فغرقت، وعلق ثوبها في شجرة الصفصاف، فسكنت لوعة أبيها أبي الجيش فكانت الصيحة التي وقعت في الإفرنج وهزيمتهم وهلاكهم من لطف الله عز وجل لا بقوة ولا بعسكر. فتبارك الله القادر على ما يشاء. وقد يكون الترهيب في بعض الأوقات نافع في الحرب. من ذلك ان أتابك وصل الشام وأنا معه في سنة تسع وعشرين وخمس مائة وصار قاصداً دمشق. فلما نزلنا القطيفة قال لي صلاح الدين رحمه اللهاركب وتقدمنا إلى فستقة. أقم على الطريق لا يهرب أحد من العسكر إلى دمشق. فتقدمت ساعة وإذا صلاح الدين قد أتى في قلة من الصحابة. فرأينا بعذراء دخاناً فأرسل خيلاً تبصر ما هو دخان. فإذا هم قوم من عسكر دمشق يحرقون التبن الذي في عذراء فانهزموا، فتتبعهم صلاح الدين ونحن معه لعل في ثلاثين أربعين فارساً فوصلنا القصير وإذا عسكر دمشق جميعه في القصير قاطع الجسر ونحن عند الخان فوقفنا مستترين بالخان، ويخرج منا خمسة ستته فوارس حتى يبصرهم عسكر دمشق ويعودون إلى خلف الخان نوهمهم ان لنا كميناً ونفذ صلاح الدين فارساً إلى أتابك يعرفه ما نحن فيه. فرأينا نحوًا من عشرة فوارس مقبلين إلينا مسرعين والعسكر خلفهم متتابع. فوصلنا فإذا هو أتابك قد تقدم والعسكر في إثره. فأنكر على صلاح الدين فعله وقال تسرعت إلى باب دمشق بثلاثين فارساً لتكسر يا موسى ولامه وهم يتكلمون بالتركي ولا أدري ما يقولون. فلما وصلنا أوائل العسكر قلت لصلاح الدينعن آمرك اخذ هؤلاء الذين قد وصلوا وأعبر إلى خيل دمشق الواقفة مقابلهم اقلعهم. قال لا كذا وكذا ممن ينصح في خدمة هذا! ما تسمع أي شيء قد عمل بي؟ ولولا لطف الله تعالى ثم ذلك الترهيب والتخييل كانوا قلعونا. وجرى لي مثل ذلك وقد سرت مع عمي رحمه الله من شيزر يريد كفرطاب ومعنا خلق من الفلاحين والصعاليك لنهب ما على كفرطاب من غلة وقطن. فانتشر الناس بالنهب وخيل كفرطاب قد ركبت ووقفت عند البلد، ونحن بينهم وبين الناس المنتشرين في الزرع والقطن، وإذا فارس من أصحابنا يركض من الطلائع قال جاءت خيل افامية! فقال عمي تقف أنت مقابل خيل كفر طاب، واسير أنا بالعسكر ألقي خيل افامية. فوقفت في عشر فوارس من شجر الزيتون متوارين، ويخرج منا ثلاثة أربعة يخيلون للفرنج ويعودون إلى شجر الزيتون، والإفرنج يعتقدونا اننا في جماعة فيهم يجتمعون ويصيحون ويدفعون خيلهم إلى ان يقربوا منا ونحن لا نتزعزع فيرجعوا، فما زلنا كذلك حتى عاد عمي وانهزموا الإفرنج الذين جاءوا من افامية. فقال له بعض غلمانهيا مولاي ترى ما فعل يعنيني؟ تخلف عنك وما سار معك للقاء خيل افامية. فقال له عميلولا وقوفه في عشرة فوارس مقابل خيل كفرطاب وراجلها كانوا اخذوا هذا العالم كله. فكان الترهيب والتخيل للإفرنج في ذلك الوقت انفع من قتالهم لأننا كنا قلة وهم في جمع كثير.
الخام المسروق وقلة الخبرة
وجرى لي مثل ذالك بدمشق، كنت يوماً مع الأمير معين الدين رحمه الله فأتاه فارس فقال قد أخذ الحرامية قافلة في العقبة حاملة خام فقال لينركب إليهم. فقلت الأمر لك، أمر الشاوشية تستركب العسكر معك. قال أي شيء حاجتنا إلى المعسكر؟ قلتوما يضرنا من ركوبهم؟ قال ما نحتاجهم. وكان رحمه الله من أشجع الفرسان، واكن قوة النفس في بعض المواضع تفريط ومضرة. فركبنا في نحو من عشرين فارساً، فلما أن ضحونا نفذ فارسين كذا وفارسين كذا وفارسين كذا وفارساً كذا يكشفون الطرقات. وسرنا نحن في قلة فحانت صلاة العصر. فقلت ا لغلام لييا سونج أشرف مغرباً إلى ما نصلي. فما سلمنا إلا والغلام يركض. قال هذه الرجالة وعلى رؤوسهم شقاق الخام في الوادي! فقال معين الدين رحمه الله اركبوا. قلتأمهل علينا نلبس كزاغنداتنا فإذا رأيناهم رميناهم برؤوس الخيل وطعناهم فما يدرون كثير نحن أو قليل. قال إذا وصلنا إليهم لبسنا. وركب وسرنا إليهم فلحقناهم في وادي حلبون وهو واد ضيق لعل ما بين الجبلين خمسه أذرع، والجبال من جانبيه وعره رفيعة وطريقه ضيقه إنما يمشي فيها فارس، وهم قي سبعين رجلا بالقسي والنشاب. فلما وصلناهم كان غلماننا خلفنا بسلاحنا لا يصلون إلينا وأولئك قوم منهم في الوادي ومنهم قوم في سفح الجبل، فظننت ان الذين في الوادي من أصحابنا فلاحي الضياع قد فزعوا خلفهم والذين في الجبل هم الحراميه، فجذبت سيفي وحملت على الذين في السفح. فلما طلع الحصان في ذلك الوعر إلا بآخر روحه. فلما صرت إليهم وحصاني قد وقف ما بقي يندفع استوفى واحد منهم نشبته في فوقه ليضربني، فصحت عليه وتهددت فمسك يده عني، وعدت انزلت الحصان وما اصدق اخلص منهم.
وطلع الأمير معين الدين إلى أعلى الجبل يظن أن هناك من الفلاحين من يستفزهم، وصاح إلي من أعلى الجبللا تفارقهم حتى أعود وتراي عنا. فرجعت إلى الذين في الوادي وقد علمت انهم من الحرامية فحملت عليهم وحدي لضيق المكان فانهزما وراموا ما كان معهم من الخام. وخلصت منهم بهيمتين كانت عليهما خام ايضاَ، وطلعوا إلى المغارة في سفح الجبل ونحن نراهم وما لنا إليهم سبيل. وعاد الأمير معين الدين رحمه الله آخر النهار وما وجد من يستفزه، ولو كان معنا العسكر كنا ضربنا رقابهم واستخلصنا كل ما معهم.
وقد جرى لي مرة أخرى مثل هذا والسبب فيه نفاذ المشيئة ثم قلة المخبرة بالحرب، وذلك اننا سرنا مع الأمير قطب الدين خسرو بن تليل من حماة نريد دمشق إلى خدمة الأمير العادل نور الدين رحمه الله فوصلنا إلى حمص. فلما عزم على الرحيل على طريق بعلبك قلت لهأنا أتقدم ابصر الكنيسة بعلبك إلى حين تصل. قال افعل. فركبت ومضية، فأنا في الكنيسة جاءني فارس من عنده يقولقد خرجت رجالة حرامية على قافلة أخذها، فاركب ولقني إلى الجبل فركبت ولقيته، فصعدنا في الجبل فلقينا الحرامية في وادي تحتنا، والجبل الذي نحن عليه محيط بذلك الوادي. فقال له بعض أصحابهتنزل إليهم. قلتلا تفعل، ندور على الجبل ونصير فوق رؤوسهم نحول بينهم وبين طريقهم إلى المغرب ونأخذهم. وكانوا من بلاد الأفرنج، فقال آخرإلى ما ندور على الجبل نكون قد وصلنا إليهم وأخذناهم فنزلنا. فلما رأنا الحرامية صعدوا في الجبل. فقال لياصعد إليهم. فحرصت على الطلوع، فما قدرت. وكان على الجبل من خيالة ستة سبعة فترجلوا إليهم وجاءوا يقدون خيلهم معهم وأولئك في جماعة. فحملوا على أصحابنا فقتلوا منهم فارسين وأخذوا حصانيهما وحصاناً آخر وسلم صاحبه، ونزلوا من جانب الجبل الأخر بالغنية. وعدنا نحن وقد قتل من فارسان وأخذ منا ثلاثة حصن وقافلة. فهذا تغرير لقلة المخبرة بالحرب.