فلما أجمع لما قالوا، أرسل إلى الحبرين، فسألهما عن ذلك، فقالا له: ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك؛ ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن وليهلكن من معك جميعًا، قال: فماذا تأمرانني أن أصنع إذا قدمت عليه؟ قالا: تصنع عنده ما يصنع أهله، تطوف به وتعظمه وتكرمه، وتحلق عنده رأسك وتتذلل له حتى تخرج من عنده. قال: فما يمنعكما أنتما من ذلك؟ قالا: أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم، وإنه لكما أخبرناك؛ ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوا حوله، وبالدماء التي يهريقون عنده، وهم نجس أهل شرك. أو كما قالا له.
فعرف نصحهما وصدق حديثهما، فقرب النفر من هذيل، فقطع أيديهم وأرجلهم. ثم مضى حتى قدم مكة، وأري في المنام أن يكسو البيت، فكساه الخصف ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه المعافر، ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك، فكساه الملاء والوصائل؛ فكان تبع - فيما يزعمون - أول من كساه وأوصى به ولاته من جرهم، وأمرهم بتطهيره، وألا يقربوه دمًا ولا ميتة ولا مئلاثًا وهي المحائض، وجعل له بابًا ومفتاحًا، ثم خرج متوجهًا إلى اليمن بمن معه من جنوده، وبالحبرين، حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه، فأبوا عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي مالك بن ثعلبة بن أبي مالك القرظي، قال: سمعت إبراهيم بن محمد بن طلحة ابن عبيد الله يحدث أن تبّعًا لما دنا من اليمن ليدخلها، حالت حمير بينه وبين ذلك، وقالوا: لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا، فدعاهم إلى دينه، وقال: إنه دينٌ خير دينكم، قالوا: فحاكمنا إلى النار، قال: نعم - قال: وكانت باليمن فيما يزعم أهل اليمن نارٌ تحكم بينهم فيما يختلفون فيه، تأكل الظالم ولا تضر المظلوم - فلما قالوا ذلك لتبع قال: أنصفتم، فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون به في دينهم، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديها حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج النار منه، فخرجت النار إليهم، فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها وهابوها، فذمرهم من حضرهم من الناس، وأمروهم بالصبر فصبروا، حتى غشيتهم وأكلت الأوثان وما قربوا معها، ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق جباههما، لم تضرهما، فأصفقت حمير عند ذلك على دينه؛ فمن هناك وعن ذلك كان أصل اليهودية باليمن.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أصحابه أن الحبرين ومن خرج معهما من حمير؛ إنما اتبعوا النار ليردوها، وقالوا: من ردها فهو أولى بالحق، فدنا منها رجالٌ من حمير بأوثانهم ليردوها، فدنت منهم لتأكلهم، فحادوا عنها فلم يستطيعوا ردها، ودنا منها الحبران بعد ذلك، وجعلا يتلوان التوراة وتنكص، حتى رداها إلى مخرجها الذي خرجت منه؛ فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما، وكان رئام بيتًا لهم يعظمونه وينحرون عنده ويكلمون منه إذ كانوا على شركهم، فقال الحبران لتبع: إنما هو شيطان يفتنهم ويلعب بهم، فخل بيننا وبينه، قال: فشأنكما به؛ فاستخرجا منه - فيما يزعم أهل اليمن - كلبًا أسود، فذبحاه وهدما ذلك البيت؛ فبقاياه اليوم باليمن - كما ذكر لي - وهو رئام به آثار الدماء التي كانت تهراق عليه.
فقال تبع في مسيرة ذلك وما كان هم به من أمر المدينة وشأن البيت وما صنع برجال هذيل الذين قالوا له ما قالوا، وما صنع بالبيت حين قدم مكة من كسوته وتطهيره، وما ذكر له الحبران من أمر رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png:
ما بال نومك مثل نوم الأرمد ** أرقًا كأنك لا تزال تسهد
حنقًا على سبطين حلَّا يثربًا ** أولى لهم بعقاب يومٍ مفسد!
ولقد نزلت من المدينة منزلًا ** طاب المبيت به وطاب المرقد
وجعلت عرصة منزلٍ برباوةٍ ** بين العقيق إلى بقيع الغرقد
ولقد تركنا لابها وقرارها ** وسباخها فرشت بقاعٍ أجرد
ولقد هبطنا يثربًا وصدورنا ** تغلي بلابلها بقتلٍ محصد
ولقد حلفت يمين صبرٍ مؤليًا ** قسمًا لعمرك ليس بالمتردد
إن جئت يثرب لا أغادر وسطها ** عذقًا ولا بسرًا بيثرب يخلد
حتى أتاني من قريظة عالمٌ ** حبرٌ لعمرك في اليهود مسود
قال ازدجر عن قريةٍ محفوظةٍ ** لنبي مكة من قريشٍ مهتد
فعفوت عنهم عفو غير مثربٍ ** وتركتهم لعقاب يومٍ سرمد
وتركتهم لله أرجو عفوه ** يوم الحساب من الجحيم الموقد
ولقد تركت بها له من قومنا ** نفرًا أولي حسبٍ وبأسٍ يحمد
نفرًا يكون النصر في أعقابهم ** أرجو بذاك ثواب رب محمد
ما كنت أحسب أن بيتًا طاهرًا ** لله في بطحاء مكة يعبد
حتى أتاني من هذيلٍ أعبدٌ ** بالدف من جمدان فوق المسند
قالوا بمكة بيت مالٍ داثرٍ ** وكنوزه من لؤلؤٍ وزبرجد
فأردت أمرًا حال ربي دونه ** والله يدفع عن خراب المسجد
فرددت ما أملت فيه وفيهم ** وتركتهم مثلًا لأهل المشهد
قد كان ذو القرنين قبلي مسلمًا ** ملكًا تدين له الملوك وتحشد
ملك المشارق والمغارب يبتغي ** أسباب علم من حكيمٍ مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها ** في عين ذي خلبٍ وثأطٍ حرمد
من قبله بلقيس كانت عمتي ** ملكتهم حتى أتاها الهدهد
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: هذا الحي من الأنصار يزعمون أنه إنما كان حنق تبع على هذا الحي من يهود الذين كانوا بين أظهرهم، وأنه أراد هلاكهم حين قدم عليهم المدينة، فمنعوه منهم، حتى انصرف عنهم ولذلك قال في شعره: