فيقال: الماكر المخادع لا بد أن يكون فيما يمكر به ويكيد من التناقض والباطل ما يدل على مكره وكيده ولا حاجة بنا إلى تصحيح كلام عدو الله واعتذار عنه وإنما يعتذر عن الأب في كون ذلك راج عليه وولج سمعه فهو لم يجزم لهما بأنهما إن أكلا منها صارا ملكين وإنما ردد الأمر بين أمرين: أحدهما ممتنع والآخر: ممكن وهذا من أبلغ أنواع الكيد والمكر ولهذا لما أطمعه في الأمر الممكن جزم له به ولم يردده فقال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى. فلم يدخل أداة الشك ههنا كما أدخلها في قوله: إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين [ الأعراف: 20 ] فتأمله ثم قال: وقاسمهما إني لكما من الناصحين [ الأعراف: 21 ]
فتضمن هذا الخبر أنواعا من التأكيد:
أحدها: تأكيده بالقسم
الثاني: تأكيده بإن
الثالث: تقديم المعمول على العامل إيذانا بالاختصاص أي نصيحتي مختصة بكما وفائدتها إليكما لا إلي
الرابع: إتيانه باسم الفاعل على الثبوت واللزوم دون الفعل الدال على التجدد: أي النصح صفتي وسجيتي ليس أمرا عارضا لي
الخامس: إتيانه بلام التأكيد في جواب القسم السادس: أنه صور نفسه لهما ناصحا من جملة الناصحين فكأنه قال لهما: الناصحون لكما في ذلك كثير وأنا واحد منهم كما تقول لمن تأمره بشىء: كل أحد معي على هذا وأنا من جملة من يشير عليك به
سعى نحوها حتى تجاوز حده... وكثر فارتابت ولو شاء قللا
وورث عدو الله هذا المكر لأوليائه وحزبه عند خداعهم للمؤمنين كما كان المنافقون يقولون لرسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png إذا جاءوه: نشهد إنك لرسول الله [ المنافقون: 1 ] فأكدوا خبرهم بالشهادة وبإن وبلام التأكيد وكذلك قوله سبحانه: ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم [ التوبة: 56 ]
ثم قال تعالى: فدلاهما بغرور. قال أبو عبيدة: خذلهما وخلاهما من تدلية الدلو وهو إرسالها في البئر
وذكر الأزهري لهذه اللفظة أصلين: أحدهما قال: أصله الرجل العطشان يتدلى في البئر ليروى من الماء فلا يجد فيها ماء فيكون قد تدلى فيها بالغرور فوضعت التدلية موضع الإطماع فيما لا يجدي نفعا فيقال: دلاه إذا أطمعه ومنه قول أبي جندب الهذلي:
أحص فلا أجير ومن أجره... فليس كمن تدلى بالغرور أحص: أي أقطع
الثاني: فدلاهما بغرور أي جرأهما على أكل الشجرة وأصله: دللهما من الدلال والدالة وهي الجراءة قال شمر: يقال: مادللك علي: أي ماجرأك علي وأنشد لقيس ابن زهير:
أظن الحلم دل علي قومي... وقد يستجهل الرجل الحليم
قلت: أصل التدلية في اللغة الإرسال والتعليق يقال: دلى الشىء في مهواة إذا أرسله بتعليق وتدلى الشيء بنفسه ومنه قوله تعالى: فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه [ يوسف: 19 ] قال عامة أهل اللغة يقال: أدلى دلوه إذا أرسلها في البئر ودلاها بالتخفيف إذا نزعها من البئر فأدلى دلوه يدليه إدلاء إذا أرسلها ودلاها يدلوها دلوا إذا نزعها وأخرجها ومنه الإدلاء وهو التوصل إلى الرجل برحم منه ويشاركه في الاشتقاق الأكبر الدلالة وهي التوصل إلى الشيء بإبانته وكشفه ومنه الدل وهو ما يدل على العبد من أفعاله وكان عبد الله ابن مسعود يشبه برسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png في هديه ودله وسمته فالهدى الطريقة التي عليها العبد من أخلاقه وأعماله والدل ما يدل من ظاهره على باطنه والسمت هيأته ووقاره ورزانته
والمقصود: ذكر كيد عدو الله ومكره بالأبوين
قال مطرف بن عبد الله: قال لهما إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما وحلف لهما وإنما يخدع المؤمن بالله قال قتادة: وكان بعض أهل العلم يقول: من خادعنا بالله خدعنا فالمؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم وفي الصحيح أن عيسى بن مريم عليه السلام رأى رجلا يسرق فقال: سرقت فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو فقال المسيح: آمنت بالله وكذبت بصري
وقد تأوله بعضهم على أنه لما حلف له جوز أن يكون قد أخذ من ماله فظنه المسيح سرقة وهذا تكلف وإنما كان الله سبحانه وتعالى في قلب المسيح عليه السلام أجل وأعظم من أن يحلف به أحد كاذبا فلما حلف له السارق دار الأمر بين تهمته وتهمة بصره فرد التهمة إلى بصره لما اجتهد له في اليمين كما ظن آدم عليه السلام صدق إبليس لما حلف له بالله تعالى وقال: ما ظننت أحدا يحلف بالله تعالى كاذبا
فصل
ومن كيده العجيب: أنه يشام النفس حتى يعلم أي القوتين تغلب عليها: قوة الإقدام والشجاعة أم قوة الانكفاف والإحجام والمهانة
فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام أخذ في تثبيطه وإضعاف همته وإرادته عن المأمور به وثقله عليه فهون عليه تركه حتى يتركه جملة أو يقصر فيه ويتهاون به وإن رأى الغالب عليه قوة الإقدام وعلو الهمة أخذ يقلل عنده المأمور به ويوهمه أنه لا يكفيه وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة فيقصر بالأول ويتجاوز الثاني كما قال بعض السلف: ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير وإما إلى مجاوزة وغلو ولا يبالي بأيهما ظفر
وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين: وادي التقصير ووادي المجاوزة والتعدي والقليل منهم جدا الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png وأصحابه
فقوم قصر بهم عن الإتيان بواجبات الطهارة وقوم تجاوز بهم إلى مجاوزة الحد بالوسواس
وقوم قصر بهم عن إخراج الواجب من المال وقوم تجاوز بهم حتى أخرجوا جميع ما في أيديهم وقعدوا كلا على الناس مستشرفين إلى ما بأيديهم
وقوم قصر بهم عن تناول ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس حتى أضروا بأبدانهم وقلوبهم وقوم تجاوز بهم حتى أخذوا فوق الحاجة فأضروا بقلوبهم وأبدانهم
وكذلك قصر بقوم في حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم
وقصر بقوم في خلطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلم العلم وتجاوز بقوم حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام
وقصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح عصفور او شاة ليأكله وتجاوز بآخرين حتى جرأهم على الدماء المعصومة
وكذلك قصر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم الذي ينفعهم وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم دون العمل به
وقصر بقوم حتى أطعمهم من العشب ونبات البرية دون غذاء بني آدم وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص
وقصر بقوم حتى زين لهم ترك سنة رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png من النكاح فرغبوا عنه بالكلية وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام
وقصر بقوم حتى جفوا الشيوخ من أهل الدين والصلاح وأعرضوا عنهم ولم يقوموا بحقهم وتجاوز بأخرين حتى عبدوهم مع الله تعالى
وكذلك قصر بقوم حتى منعهم قبول أقوال أهل العلم والالتفات إليها بالكلية وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حللوه والحرام ما حرموه وقدموا أقوالهم على سنة رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png الصحيحة الصريحة
وقصر بقوم حتى قالوا: إن الله سبحانه لا يقدر على أفعال عباده ولا شاءها منهم ولكنهم يعملونها بدون مشيئة الله تعلى وقدرته وتجاوز بآخرين حتى قالوا: إنهم لا يفعلون شيئا البته وإنما الله سبحانه هو فاعل تلك الأفعال حقيقة فهي نفس فعله لا أفعالهم والعبيد ليس لهم قدرة ولا فعل ألبتة
وقصر بقوم حتى قالوا: إن رب العالمين ليس داخلا في خلقه ولا بائنا عنهم ولا هو فوقهم ولا تحتهم ولا خلفهم ولا أمامهم ولا عن أيمانهم ولا عن شمائلهم وتجاوز بآخرين حتى قالوا: هو في كل مكان بذاته كالهواء الذي هو داخل في كل مكان
وقصر بقوم حتى قالوا: لم يتكلم الرب سبحانه بكلمة واحدة البتة وتجاوز بآخرين حتى قالوا: لم يزل أزلا وأبدا قائلا: يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ويقول لموسى اذهب إلى فرعون فلا يزال هذا الخطاب قائما به ومسموعا منه كقيام صفة الحياة به
وقصر بقوم حتى قالوا: إن الله سبحانه لا يشفع أحدا في أحد البته ولا يرحم أحدا بشفاعة أحد وتجاوز بآخرين حتى زعموا أن المخلوق يشفع عنده بغير إذنه كما يشفع ذو الجاه عند الملوك ونحوهم
وقصر بقوم حتى قالوا: إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل فضلا عن أبي بكر وعمر وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا من الإسلام بالكبيرة الواحدة
وقصر بقوم حتى نفوا حقائق أسماء الرب تعالى وصفاته وعطلوه منها وتجاوز بآخرين حتى شبهوه بخلقة ومثلوه بهم وقصر بقوم حتى عادوا أهل بيت رسول الله
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png وقاتلوهم واستحلوا حرمتهم وتجاوز بقوم حتى ادعوا فيهم خصائص النبوة: من العصمة وغيرها وربما ادعوا فيهم الإلهية
وكذلك قصر باليهود في المسيح حتى كذبوه ورموه وأمه بما برأهما الله تعالى منه وتجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابن الله وجعلوه إلها يعبد مع الله
وقصر بقوم حتى نفوا الأسباب والقوى والطبائع والغرائز وتجاوز بآخرين حتى جعلوها أمرا لازما لا يمكن تغييره ولا تبديله وربما جعلها بعضهم مستقلة بالتأثير
وقصر بقوم حتى تعبدوا بالنجاسات وهم النصاري وأشباههم وتجاوز بقوم حتى أفضى بهم الوسواس إلى الآصار والأغلال وهم أشباه اليهود
وقصر بقوم حتى تزينوا للناس وأظهروا لهم من الأعمال والعبادات ما يحمدونهم عليه وتجاوز بقوم حتى أظهروا لهم من القبائح ومن الأعمال السيئة ما يسقطون به جاههم عندهم وسموا أنفسهم الملامتية
وقصر بقوم حتى أهملوا أعمال القلوب ولم يلتفتوا إليها وعدوها فضلا أو فضولا وتجاوز بآخرين حتى قصروا نظرهم وعملهم عليها ولم يلتفتوا إلى كثير من أعمال الجوارح وقالوا: العارف لا يسقط وارده لورده
وهذا باب واسع جدا لو تتبعناه لبلغ مبلغا كثيرا وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة