وذكر أبو رية في الحاشية: (قال لقيس بن خرشة، ما من الأرض شبر…. ).
أقول: هذه الحكاية منقطعة، حاكيها عن كعب ولد بعده بنحو عشرين سنة، وأول الحكاية أن كعبًا مر بصفين فوقف ساعة ثم قال: «لا إله إلا الله، ليهراقن بهذه البقعة من دماء المسلمين شيء لا يهراق ببقعة في الأرض... » وكان ذلك قبل وقع صفين بسنتين، فهل يصدق أبو رية هذا كما صدق بقية الحكاية؟ على أن فيها غريبة أخرى لا أراه يصدق بها.
قال (ص112): (افتجر هذا الكاهن لإسلامه سببًا عجيبًا… قد أخرج ابن سعد بسند صحيح… فقال: إن أبي كتب لي كتابًا من التوراة… وختم على سائر كتبه… ففتحتها فإذا صفة محمد وأمته، فجئت الآن مسلمًا).
أقول: أما السند فليس بصحيح، فيه علي بن زيد وهو كما قال
ابن حجر في التقريب: (ضعيف) ولم يخرج له أحد من الشيخين إلا أن مسلمًا أخرج حديثًا عن
حماد بن سلمة عن
ثابت البناني وعلي بن زيد. والاعتماد على ثابت وحده،
70
لكن لما وقع في سياق السند ذكره علي بن زيد لم ير مسلم أن يحذفه، ولمسلم من هذا نظائر. وأما القصة فلا أدري ما ينكر المسلم منها وهو يقرأ قول الله عز وجل في كتابه: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ } الآية
[16] وقوله سبحانه: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } الآية: وآيات أخرى معروفة، فلينظر المسلم من الأولى بأن يقال فجر وافتجر؟
ثم ذكر حكاية عن حياة الحيوان، وحسبها أنه لم يجد لها مصدرًا إلا حياة الحيوان، على أن الحكاية نفسها ليس فيها ما ينكره المؤمن بالقرآن.
ثم قال (ص113): (و وهب بن منبه….. ).
أقول: قد قدمت شيئًا من حال وهب، وقد وثقه بعض الحفاظ وضعفه عمرو بن علي الفلاس،
أخرج البخاري حديثًا من طريقه ثم قال: (تابعه معمر) وله في صحيح مسلم شيء تابعه عليه معمر أيضًا، ومعمر هو ابن راشد أحد الأئمة المجمع عليهم.
وقال: (روى عنه كثير من الصحابة، منهم أبو هريرة وعبد الله بن عمرو وابن عباس وغيرهم).
أقول: هذه من مجازفات أبي رية، وإنما ذكر أهل العلم أن وهبًا روى عن هؤلاء، وإنما ولد سنة (34) كما مر، وإنما اشتهر بعد وفاة هؤلاء.
قال:
أخرج الترمذي عن عبد الله بن سلام -وهو أحد أحبار اليهود الذين أسلموا- إنه مكتوب في التوراة في السطر الأول: (محمد رسول الله عبده المختار، مولده مكة مهاجره طيبة). وأخرج كذلك: مكتوب في التوراة صفة النبي، وعيسى بن مريم يدفن معه).
أقول: لم أجد الخبر الأول في جامع الترمذي، ولا ذكره صاحب ذخائر المواريث، وسيأتي ما يتعلق به. وأما السند ففي سنده عثمان بن الضحاك مجهول، ومحمد بن يوسف بن عبد الله، ولم يوثقا توثيقًا يعتد به، وقد ذكر البخاري في ترجمة محمد من التاريخ (1: 2631) طرفًا من هذا الخبر وقال: (هذا لا يصح عندي، ولا يتابع عليه).
قال أبو رية: (وهذا… قد أحكمه الداهية كعب، فقد روى الدارمي عنه في صفة النبي في التوراة قال: في السطر الأول: (محمد رسول الله عبده المختار، مولده مكة ومهاجره طيبة وملكه بالشام).
71
وقد بحثنا عن السطر الثاني من هذه الأسطورة حتى وجدناه في سنن الدارمي كذلك عن الداهية الأكبر كعب، فقد روى ذكوان عنه: في السطر الأول (محمد رسول الله عبده المختار…)، وهذا الكلام قد أورده
ابن سعد في طبقاته عن ابن عباس في جواب لكعب، وقد امتدت هذه الخرافة إلى أحد تلاميذ كعب، عبد الله بن عمرو بن العاص فقد روى البخاري عن عبد الله بن يسار،
[17] وزاد ابن كثير: قال ابن يسار: ثم لقيت كعبًا الحبر فسألته فما اختلفا في حرف) قال أبو رية: (وكيف يختلفان وكعب هو الذي علمه).
أقول: خبر عبد الله بن عمرو نسبه بعضهم إلى عبد الله بن سلام كما ذكره البخاري، وذكر ابن حجر أنه لا مانع من صحته عنهما. وقد بحثت عن هذا الخبر بطرقه المذكورة هنا وغيره ونظرت في الأسانيد، فترجح عندي صحته عن عبد الله بن عمرو، فأما نسبته إلى عبد الله بن سلام ففي صحتها نظر، وكذلك نسبته إلى كعب، وبيان ذلك يطول، وهذا الذي ظهر لي هو الظاهر من صنيع البخاري.
[18] هذا وفي بعض روايات الخبر أنه عن التوراة، فإن صح ذلك في الرواية فقد يراد به الكتب المنسوبة إلى موسى، وقد يراد به ما يعم كتبه وكتب أنبياء بني إسرائيل وهو ما يسمى عند القوم: (
العهد القديم) وذلك إطلاق شائع كما يؤخذ من إظهار الحق (1: 38) وفي
تفسير ابن كثير (7: 567) (يقع في كلام كثير من السلف إطلاق التوراة على كتب أهل الكتاب، وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشبه هذا). وعلى كل حال فالروايات تعطي وجود معنى تلك العبارة في بعض كتب أهل الكتاب، وأبو رية يزعم أن الخبر: (أسطورة، خرافة) فإن بنى ذلك على امتناع أن يكون في كتب الأنبياء السابقين أخبار بأمور مستقبلة كبعثة محمد
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png وصفته فهذا تكذيب صريح للقرآن وتكذيب بكتب الله ورسله، فإن كان أبو رية ينطوي على هذا فليجهر به حتى يخاطب بحسبه. وإن بنى على استبعاد صحة الخبر؛ لأنه لا يوجد في كتب أهل الكتاب الآن ما يؤدي ذاك المعنى، ولم يكن موجودًا فيها منذ ألف سنة تقريبًا عندما شرع بعض علماء المسلمين يطلعون عليها وينقلون عنها، فهذا ينبئ عن جهل أو تجاهل بتاريخ كتب أهل الكتاب وأحوالهم فيها، واقتصر هنا على عبارات عن كتاب
إظهار الحق للشيخ
رحمة الله الهندي ففيه (1: 220) عن الدكتور كني كات وهو من أعظم محققي كتب العهدين قال: (إن نسخ العهد العتيق التي هي موجودة كتبت ما بين ألف وألف وأربعمائة…) وقال: (إن جميع النسخ التي كانت كتبت في المائة السابعة (الميلادية) أو الثامنة أعدمت بأمر محفل الشورى لليهود؛ لأنها كانت تخالف مخالفة كثيرة للنسخ التي كانت معتمدة عندهم) وحكى عن (والتن) ما يوافق ذلك. ويعلم منه أن اليهود
72
تتبعوا نسخ كتبهم التي كتبت قبل الإسلام أو في صدر الإسلام إلى نحو مائتي سنة فأتلفوها لمخالفتها الكثيرة لما يهوونه. وانظر إظهار الحق (1: 242-245). وفيه
(1: 227-229) إن لأهل الكتاب نحو عشرين كتابا مفقودة، وبعضها منسوب إلى موسى فيكون من التوراة الحقيقة عندهم. وقد تكون ثم كتب أخرى مفقودة لم يعثر المتأخرون على أسمائها. وذكر من شيوع التحريف القصدي في اليهود والنصارى قديمًا وحديثًا ما يجاوز الوصف. وحق على من يبتلى بسماع شبهات دعاة النصرانية والإلحاد أن يقرأ ذاك الكتاب إظهار الحق ليتضح له غاية الوضوح أن الفساد لم يزل يعتري كتب أهل الكتاب جملة وتفصيلًا، ومحققوهم حيارى ليس بيدهم إلا التظني والتمني والتحسر والتأسف، ومن ثم يتبين السر الحقيقي لمحاولتهم
الطعن في الأحايث النبوية؛ لأن دهاتهم حاولوا الطعن في القرآن فتبين لهم أنه ما إلى ذلك من سبيل، فأقبلوا على النظر في الأحاديث فوجدوا أنه قد روي في جملة ما روي كثير من الموضوعات، وحيرهم المجهود العظيم الذي قام به علماء الأمة لاستخلاص الصحيح ونفي الواهي والساقط