ومضى القوم على حاميتهم، ورجع خالد إلى الحجاج فأخبره بانصراف القوم. فأمره أن يحمل على شبيب فحمل عليهم. وأتبعه ثمانية، منهم قعنب والبطين وعلوان وعيسى والمهذب وابن عويمر وسنان، حتى بلغوا به الرحبة، وأتى شبيب في موقفه بخطوط بني عمير السدوسي. فقال له شبيب: يا خوط، لاحكم إلا لله، فقال: لاحكم إلا لله، فقال شبيب: خوط من أصحابكم. ولكنه كان يخاف، فأطلقه. وأتى بعمير بن القعقاع، فقال له: لاحكم إلا لله يا عمير، فجعل ****قه عنه، ويقول: في سبيل الله شبابي. فردد عليه شبيب: لاحكم إلا لله. ليتخلصه، فلم يفقه، فأمر بقتله، وقتل مصاد أخو شبيب، وجعل شبيب ينتظر النفر الذين تيعوا خالدًا فأبطئوا. ونعس شبيب فأيقظه حبيب بن خدرة، وجعل أصحاب الحجاج لايقدمون عليه هيبة له، وسار إلى دار الرزق، فجمع رثة من قتل من أصحابه، وأقبل الثمانية إلى موضع شبيب فلم يجدوه، فظنوا أنهم قتلوه، ورجع مطر وخالد إلى الحجاج فأمرهما فأتبعا الرهط الثمانية. واتبع الرهط شبيبًا، فمضوا جميعًا حتى قطعوا جسر المدائن، فدخلوا ديرًا هناك وخالد يقفوهم. فحصرهم في الدير، فخرجوا عليه فهزموه نحوًا من فرسخين حتى ألقوا أنفسهم في دجلة بخيلهم، وألقى خالد نفسه بفرسه فمر به ولواؤه في يده، فقال شبيب: قاتله الله فارسًا وفرسه! هذا أشد الناس، وفرسه أقوى فرس في الأرض؛ فقيل له: هذا خالد بن عتاب، فقال: معرق له في الشجاعة؛ والله لو علمت لأقحمت خلفه ولو دخل النار. رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف، عن أبي عمرو العذري، أن الحجاج دخل الكوفة حين انهزم شبيب، ثم صعد المنبر، فقال: والله ما قوتل شبيب قط قبلها مثلها، ولى الله هاربًا، وترك امرأته يكسر في أستها القصب. ثم دعا حبيب بن عبد الرحمن الحكمي فبعثه في أثره ثلاثة آلاف من أهل الشام، فقال له الحجاج: احذر بياته، وحيثما لقيته فنازله، فإن الله قد فل حده، وقصم نابه. فخرج حبيب بن عبد الرحمن في أثر شبيب حتى نزل الأنبار، وبعث الحجاج إلى العمال أن دسوا إلى أصحاب شبيب أن من جاءنا منهم فهو آمن؛ فكان كل من ليست تلك البصيرة ممن قد هده القتال يجيء فيؤمن، وقبل ذلك ما قد نادى فيهم الحجاج يوم هزموا: عن من جاءنا منكم فهو آمن، فتفرق عنه ناس كثير من أصحابه، وبلغ شبيبًا منزل حبيب بن عبد الرحمن الأنبار، فأقبل بأصحابه حتى إذا دنا من عسكرهم نزل فصلى بهم المغرب. قال أبو مخنف: فحدثني أبو يزيد السكسكي، قال: أنا والله في أهل الشام ليلة جاءنا شبيب بيتنا. قال: فلما أمسينا جميعًا حبيب بن عبد الرحمن فجعلنا أرباعًا. وقال لكل ربع منا: ليجزي كل ربع منكم جانبه، فإن قاتل هذا الربع فلا يغثهم هذا الربع الآخر، فإنه قد بلغني أن هذه الخوارج منا قريب، فوطنوا أنفسكم على أنكم مبيتون ومقاتلون؛ فما زلنا على تعبيتنا حتى جاءنا شبيب فبيتنا، فشد على ربع منا، عليهم عثمان بن سعيد العذري فضاربهم طويلًا، فما زالت قدم إنسان منهم، ثم تركهم وأقبل على الربع الآخر، وقد جعل عليهم سعيدبن بحل العامري فقاتلهم، فما زالت قدم إنسان منهم، ثم تركهم وأقبل على الربع الآخر وعليهم النعمان بن سعيد الحميري فما قدر منهم على شيء، ثم أقبل على الربع الآخر وعليهم ابن أقيصر الخثعمي فقاتلهم طويلًا، فلم يظفر بشيء، ثم أطاف بنا يحمل علينا حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل، وألز بنا حتى قلنا، ****ارقنا، ثم نازلنا راجلًا طويلًا، فسقط والله بيننا وبينهم الأيدي، وفقئت الأعين، وكثرت القتلى، قتلنا منهم نحوًا من ثلاثين، وقتلوا منا نحوًا من مائة، والله لو كانوا فيما نرى يزيدون على مائة رجل لأهلكونا، وايم الله على ذلك ما فارقونا حتى مللناهم وملونا، وكرهونا وكرهناهم، ولقد رأيت الرجل منا يضرب بسيفه الرجل منهم فما يضره شئ من الإعياء والضعف، ولقد رأيت الرجل منا يقاتل جالسًا ينفح بسيفه ما يستطيع أن يقوم من الإعياء، فلما يأسوا منا ركب شبيب ثم قال لمن كان نزل من أصحابه: أركبوا، فلما استووا على متون خيولهم وجه منصرفًا عنا. قال أبو مخنف: حدثني فروة بن لقيط، عن شبيب، قال: لما انصرفنا عنهم وبنا كآبة شديدة، وجراحة ظاهرة، قال لنا: ما أشد هذا الذي لو كنا إنما نطلب الدنيا! وما أيسر هذا في ثواب الله! فقال أصحابه: صدقت يا أمير المؤمنين، قال: فما أنسى منه إقباله على سويد بن سليم ولا مقاتلته له: قتلت منهم أمس رجلين: أحدهما أشجع الناس، ولآخر أجبن الناس، خرجت عشية أمس طليعة لكم فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا قرية يشترون منها حوائجهم، فاشترى أحدهم حاجته، ثم خرج قبل أصحابه وخرجت معه، فقال: كأنك لم تشتر علفًا، فقلت: إن لي رفقاء قد كفوني ذلك، فقلت له: أين ترى عدونا هذا نزل؟ قال: بلغني أنه قد نزل منا قريبًا، وايم الله لوددت اني قد لقيت شبيبهم هذا، قلت: فتحب ذلك؟ قال: نعم، قلت: فخذ حذرك، فأنا والله شبيب، وانتضيت سيفي، فخر والله ميتًا، فقلت له: ارتفع ويحك! وذهبت أنظر فإذا هو مات، فانصرفت راجعًا، فأستقبل الآخر خارجًا من القرية، قال: أين تذهب هذه الساعة؟ وإنما يرجع الناس إلى عسكرهم! فلم أكلمه، ومضيت يقرب بي فرسي، وأتبعني حتى لحقني، فقطعت عليه فقلت له: ما لك؟ فقال: أنت والله من عدونا؟ فقلت: أجل والله، فقال: والله لا تبرح حتى تقتلني أو أقتلك، فحملت عليه وحمل علي، فاضربنا بسيفنا ساعة، فوالله ما فضلته في شدة نفس ولا إقدام إلا أن سيفي كان أقطع من سيفه، فقتلته؛ قال: فمضينا حتى قطعنا دجلة، ثم أخذنا في أرض جوخى حتى قطعنا دجلة مرة أخرى من عند واسط، ثم أخذنا إلى الأهواز ثم إلى فارس، ثم ارتفعنا إلى كرمان.
ذكر الخبر عن مهلك شبيب
وفي هذه السنة في قول هشام بن محمد، وفي قول غيره كان هلاكه سنة ثمان وسبعين.
ذكر سبب هلاكه
قال هشام: عن أبي مخنف: قال: حدثني أبو يزيد السكسكي، قال: أقفلنا الحجاج إليه - يعني إلى شبيب - فقسم فينا مالًا عظيمًا، وأعطى كل جريح منا وكل ذي بلاء، ثم أمر سفيان بن الأبرد أن يسير إلى شبيب، فتجهز سفيان، فشق ذلك على حبيب بن عبد الرحمن الحكمي، وقال: تبعث سفيان إلى رجل قد فللته وقتلت فرسان أصحابه! فأمضى سفيان بعد شهرين، وأقام شبيب بكرمان، حتى إذا انجبر واستراش هو وأصحابه أقبل راجعًا، فيستقبله سفيان بجسر دجيل الأهواز، وقد كان الحجاج كتب إلى الحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، وهو زوج ابنة الحجاج وعامله على البصرة. أما بعد، فابعث رجلًا شجاعًا شريفًا من أهل البصرة في أربعة آلاف إلى شبيب، ومره فليلحق بسفيان بن الأبرد، وليسمع له وليطع.
فبعث إليه زياد بن عمرو العتكي في أربعة آلاف، فلم ينته إلى سفيان حتى التقى سفيان وشبيب، ولما أن التقيا بجسر دجيل عبر شبيب إلى سفيان فوجد سفيان قد نزل في الرجال، وبعث مهاصر بن صيفي العذري على الخيل، وبعث على ميمنته بشر بن حسان الفهري، وبعث على ميسرته عمر بن هبيرة الفزاري، فأقبل شبيب في ثلاثة كراديس من أصحابه، وهو كتيبة وسويد في كتيبة، وقعنب المحلمي في كتيبة، وخلف المحلل بن وائل في عسكره. قال: قلما حمل سويد وهو في ميمنته على ميسرة سفيان، وقعنب وهو في ميسرته على ميمنته حمل هو على سفيان، فاضطربنا طويلًا من النهار، حتى انحازوا فرجعوا إلى المكان الذي كانوا فيه. فكر علينا هو وأصحابه أكثر من ثلاثين كرة، كل ذلك لا نزول من صفنا. وقال لنا سفيان بن الأبرد: لاتنصرفوا. ولكن لتزحف الرجال إليهم زحفًان فوالله لازلنا نطاعنهم ونضاربهم حتى اضطررناهم إلى الجسر، فلما اتنهى شبيب إلى الجسر نزل ونزل معه نحو من مائة رجل، فقاتلناهم حتى المساء أشد قتال قاتله قوم قط، فما هو إلا أن نزلوا فأوقعوا لنا من اطعن والضرب شيئًا ما رأينا مثله من قوم قط. فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم، ولا يأمن من ذلك ظفرهم. دعا الرماة فقال: ارشقوهم بالنبل، وذلك عند المساء، وكان التقاؤهم نصف النهار، فرماهم أصحاب النبل بالنبل عند المساء، وقد صفهم سفيان بم الأبرد على حدة، وبعث على المرامية رجلًا، فلما رشقوهم بالنبل ساعة شدوا عليهم، فلما شدوا على رماتنا شددنا عليهم، فشغلناهم عنهم، فلما رموا بالنبل ساعة ركب شبيب وأصحابه ثم كروا على أصحاب النبل كرة صرع منهم أكثر من ثلاثين رجلًا، ثم عطف بخيله علينا، فمشى عامدًا نحونا؛ فطاعناه حتى اختلط الظلام، ثم انصرف عنا. فقال سفيان لأصحابه: أيها الناس، دعوهم لا تتبعوهم حتى نصبحهم غدوة. قال: فكففنا عنهم وليس شيء أحب إلينا من أن ينصرفوا عنا. قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: فما هو إلا أن انتهينا إلى الجسر، فقال: اعبروا معاشر المسلمين، فإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء الله، فعبرنا أمامه، وتخلف في أخرانا، فأقبل على فرسه، وكانت بين يديه فرس انثى ماذيانة، فنزا فرسه عليها وهو على الجسر فاضطربت الماذيانة، ونزل حافر رجل فرس شبيب على حرف السفينة، فسقط في الماء، فلما سقط قال: " ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا ". فارتمس في الماء، ثم ارتفع فقال: " ذلك تقدير العزيز العليم ". قال أبو مخنف: فحدثني أبو يزيد السكسكي بهذا الحديث - وكان ممن يقاتله من أهل الشام. وحدثني فروة بن لقيط، وكان ممن شهخد مواطنه - فأما رجل من بني رهطة من بني مرة بن همام فإنه حدثني انه كان معه قوم يقاتلون من عشيرته، ولم يكن لهم تلك البصيرة النافذة، وكان قد قتل من عشائرهم رجالًا كثيرًا، فكأن ذلك قد أوجع قلوبهم، وأوغر صدورهم؛ وكان رجل يقال له مقاتل من بني تيم بن شيبان من أصحاب شبيب، فلما قتل شبيب رجالًا من بني تيم بن شيبان أغار هو على بني مرة بن همام فأصاب منهم رجلًا، فقال له شبيب: ما حملك على قتلهم بغير أمري! فقال له: أصلحك الله! قتلت كفار قومي، وقتلت كفار قومك، قال: وأنت الوالي علي حتى تقطع الأمور دوني! فقال: أصلحك الله! أليس من ديننا قتل من كان على غير رأينا، منا كان أو من غيرنا! قال بلى، قال: فإنما فعلت ما كان ينبغي، ولا والله يا أمير المؤمنين ما أصبت م رهطك عشر ما أصبت من رهطي، وما يحل لك يا أمير المؤمنين أن تجد من قتل الكافرين؛ قال: إني لا أجد من ذلك. وكان معه رجال كثير قد أصاب من عشائرهم، فزعموا انه لما تخلف في أخريات أصحابه قال بعضهم لبعض: هل لكم أن نقطع به الجسر فندرك ثأرنا الساعة! فقطعوا الجسر، فمالت السفن، ففزع الفرس ونفر، ووقع في الماء فغرق. قال أبو مخنف: فحدثني ذلك المري بهذا الحديث، وناس من رهط شبيب يذكرون هذا أيضًا؛ وأما حديث العامة فالحديث الأول. قال أبو مخنف: وحدثني أبو يزيد السكسكي، قال: إنا والله لنتهيأ للانصراف إذ جاء صاحب الجسر فقال: أين اميركم؟ قلنا: هو هذا، فجاءه فقال: أصلحك الله! عن رجلًا منهم وقع في الماء فتنادوا بينهم: غرق أمير المؤمنين! ثم إنهم انصرفوا راجعين، وتركوا عسكرهم ليس فيه أحد، فكبر سفيان وكبرنا، ثم أقبل حتى انتهى إلى الجسر، وبعث مهاصر بن صيفي فعبر إلى عسكرهم، فإذا ليس فيه منهم صافر ولا آثر. فنزل فيه، فإذا أكثر عسكر خلق الله خيرًا، وأصبحنا فطلبنا شبيبًا حتى استخرجناه وعليه الدرع، فسمعت الناس يزعمون أنه ثق شق بطنه فأخرج قلبه، فكان مجتمعًا صلبًا كأنه صخرة، وإنه كان يضرب به الأرض فيثب قامة إنسان؛ فقال سفيان: إحمدوا الله الذي أعانكم فأصبح عسكرهم في أيدينا.
قال أبو زيد عمر بن شبة: حدثني خلاد بن يزيد الأرقط، قال: كان شبيب ينعى لأمه فيقال: قتل فلا تقبل قال: فقيل لها: إنه غرق، فقبلت، وقالت: إني أعلم أني لما ولدته أنه خرج مني شهاب من نار، فعلمت إنه لا يطفئه إلا الماء. قال هشام عن أبي مخنف: حدثني فروة بن لقيط الأزدي ثم الغامري أن يزيد بن نعيم أبا شبيب كان ممن دخل في جيش سليمان بن ربيعة إذ بعث به وبمن معه الوليد بن عقبة عن أمر عثمان إياه بذلك مددًا لأهل الشام أرض الروم، فلما قفل المسلمون أقيم السبي للبيع، فرأى يزيد ابن نعيم أبو شبيب جارية حمراء، لا شهلاء ولا زرقاء طويلة جميلة تأخذها العين، فابتاعها ثم أقبل بها، وذلك سنة خمس وعشرين اول السنة، فلما أدخلها الكوفة قال: أسلمي، فأبت عليه، فضربها فلم تزدد إلا عصيانًا، فلما رأى ذلك امر بها فأصلحت، ثم دعا بها فأدخلت عليه، فلما تغشاها تلقت منه بحمل فولدت شبيبًا، وذلك سنة خمس وعشرين في ذي الحجة في يوم النحر يوم السبت. وأحبت مولاها حبًا شديدًا - وكانت حدثة - وقالت: إن شئت أجبتك إلى ما سألتني من الإسلام، فقال لها: شئت، فأسلمت، وولدت شبيبًا وهي مسلمة، وقالت: إني رأيت فيما يرى النائم انه خرج من قبلي شهاب فثقب يسطع حتى بلغ السماء وبلغ الآفاق كلها، فبينا هو كذلك إذ وقع في ماء كثير جار فخبا، وقد ولدته في يومكم هذا الذي تهرقون فيه الدماء، وإني قد أولت رؤياي هذه إني أرى ولدي هذا غلامًا، أراه سيكون صاحب دماء يهريقها، وإني أرى أمره سيعلو ويعظم سريعًا. قال: فكان أبوه يختلف به وبأمه إلى البادية إلى أرض قومه على ماء يدعى اللصف. قتال أبو مخنف: وحدثني موسى بن أبي سويد بن رادي أن أن جند أهل الشام الذين جاؤوا حملوا معهم الحجر فقالوا: لانفر من شبيب حتى يفر هذا الحجر؛ فبلغ شبيبًا امرهم، فأراد أن يكيدهم، فدعا بأفراس أربعة. أذنابها ترسة في ذنب كل فرس ترسين، ثم ندب معه ثمانية نفر من أصحابه، وعه غلام له يقال له حيان، وأمره أن يحمل معه إدواة من ماء، ثم سار حتى يأتي ناحية من المعسكر، فأمر أصحابه أن يكونوا في نواحي العسكر، وأن يجعلوا مع كل رجلين فرسًا، ثم يمسوها الحديد حتى تجد حره ويخلوها في العسكر، وواعدهم تلعة قريبة من العسكر، فقال: من نجا منكم فإن موعده هذه التلعة؛ وكره أصحابه الإقدام على ما أمرهم به، فنزل حيث رأى منهم حتى صنع بالخيل مثل الذي أمرهم، ثم وغلت في العسكر، ودخل يتلوها محكمًا فضرب الناس بعضهم بعضًا، فقام صحبهم الذي كان عليهم، وهو حبيب بن عبد الرحمن الحكمي، فنادى: أيها الناس، إن هذه مكيدة، فالزموا الأرض حتى يتبين لكم الأمر، ففعلوا وبقي شبيب في عسكرهم، فلزم الأرض حيث رآهم قد سكنوا، وقد أصابته ضربة عمود وأوهنته، فلما أن هدأ الناس ورجعوا إلى أبنيتهم خرج في غمارهم حتى أتى التلعة، فإذا هو بحيان، فقال: أفرغ يا حيان على رأسي من الماء، فلما مد رأسه ليصب عليه الماء هم حيان أن يضرب عنقه، فقال لنفسه لا أجد لي مكرمة ولا ذكرًا أرفع من قتلي هذا، وهو أماني عند الحجاج، فاستقبلته الرعدة حيث هم بما هم به، فلما أبطأ بحل الإدواة قال: ما يبطئك بحلها! فتناول السكين من موجزه فخرقها به، ثم ناولها إياه، فأفرغ عليه الماء. فقال حيان: منعني والله الجبن وما أخذني من الرعدة أن أضرب عنقه بعد ما هممت به. ثم لحق شبيب بأصحابه في عسكره.
خروج مطرف بن المغيرة على الحجاج وعبد الملك
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة خرج مطرف بن المغيرة بن شعبة على الحجاج، وخلع عبد الملك بن مروان ولحق بالجبال فقتل. ذكر السبب الذي كان عند خروجه وخلعه عبد الملك بن مروان: قال هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني يوسف بن يزيد بن بكر الأزدي أن بني المغيرة بن شعبة كانوا صلحاء نبلاء، أشرافًا بأبدانهم سوى شرف أبيهم ومنزلتهم في قومهم. قال: فلما قدم الحجاج فلقوه وشافههم علم أنهم رجال قومه وبنو أبيه، فاستعمل عروة بن المغيرة على الكوفة، ومطرف بن المغيرة على المدائن، وحمزة بن المغيرة على همذان.
قال أبو مخنف: فحدثني الحصين بن يزيد بن عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، قال: قدم علينا مطرف بن المغيرة بن شعبة المدائن فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن الأمير الحجاج أصلحه الله قد ولاني عليكم، وأمرني بالحكم بالحق، والعدل في السيرة، فإن عملت بما أمرني فأنا أسعد الناس، وإن لم أفعل فنفسي أوبقت، وحظ نفسي ضيعت، ألا إني جالس لكم العصرين، فارفعوا إلى حوائجكم، وأشيروا علي بما يصلحكم ويصلح بلادكم، فإني لن آلوكم خيرًا ماستطعت. ثم نزل. وكان بالمدائن إذ ذاك رجال من أشراف أهل المصر وبيتوتات الناس، وبها مقاتلة لا تسعها عدة، عن كان كون بأرض جوخى أو بأرض الأنبار فأقبل مطرف حين نزل حتى جلس للناس في الإيوان، وجاء حكيم بن الحارث الأزدي يمشي نحوه، وكان من وجوه الأزد وأشرافهم، وكان الحجاج قد استعمله بعد ذلك على بيت المال - فقال له: أصلحك الله! إني كنت منك نائيًا حين تكلمت، وإني أقبلت نحوك لأجيبك، فوافق ذلك نزولك، إنا قد فهمنا ماذكرت لنا، أنه عهد إليك، فأرشد الله العاهد والمعهود إليه، وقد منيت من نفسك العدل، وسألت المعونة على الحق، فأعانك الله على ما نويت، إنك تشبه أباك في سرته برضا الله والناس، فقال له مطرف: هاهنا إلي؛ فأوسع له وجلس في جنبه. قال أبو مخنف: فحدثني الحصين بن يزيد انه كان من خير عامل قدم عليهم قط، أقمعه لمريب، وأشده إنكارًا للظلم، فقدم عليه بشر بن الأجدع الهمداني، ثم الثوري، وكان شاعرًا فقال:
إني كلفت بخود غير فاحشة ** غراء وهنانة حسانة الجيد
كأنها الشمس يوم الدجن إذ برزت ** تمشي مع الآنس الهيف الأماليد
سل الهوى بعلنداة مذكرة ** عنها إلى المجتدي ذي العرف والجود
إلى الفتى الماجد الفياض نعرفه ** في الناس ساعة يحلى كل مردود
من الأكارم أنسابًا إذا نسبوا ** والحامل الثقل يوم المغرم الصيد
إني أعيذك بالرحمن من نفر ** حمر السبال كأسد الغابة السود
فرسان شيبان لم نسمع بمثلهم ** أبناء كل كريم النجل صنديد
شدوا على ابن حصين في كتيبته ** فغادره صريعًا ليلة العيد
وابن المجالد أردته رماحهم ** كأنما زل عن خوصاء صيخود
وكل جمع بروذابار كان لهم ** قد فيض بالطعن بين النخل والبيد
فقال له: ويحك! ما جئت إلا لترغبنا. وقد كان شبيب أقبل من ساتيدما، فكتب مطرف إلى الحجاج: أما بعد، فإني أخبر الأمير أكرمه الله أن شبيبًا قد أقبل نحونا، فإن رأى الأمير أن يمدني برجال أضبط بهم المدائن فقل، فإن المدائن باب الكوفة وحصنها. فبعث إليه الحجاج بن يوسف سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف في مائتين وعبد الله بن كناز في مائتين، وجاء شبيب فأقبل حتى نزل قناطر حذيفة، ثم جاء حتى انتهى إلى كلواذا، فعبر منها دجلة، ثم أقبل حتى نزل مدينة بهرسير ومطرف بن المغيرة في المدينة العتيقة التي فيها منزل كسرى والقصر الأبيض، فلما نزل شبيب بهرسير قطع مطرف الجسر فيما بينه وبين شبيب، وبعث إلى شبيب أن ابعث إلى رجالا من صلحاء أصحابك أدارسهم القرآن، وأنظر ما تدعون إليه، فبعث إليه رجالا منهم سويد بن سليم وقعنب والمحلل بن وائل، فلما أدنى منهم المعبر وأرداوا أن ينزلوا فيه أرسل إليهم شبيب ألا تدخلوا السفينة حتى يرجع إلي رسولي من عند مطرف، وبعث إلى مطرف: أن ابعث إلي بعدة من أصحابك حتى ترد علي أصحابي، فقال لرسوله: القه فقل له: فكيف أمنك على أصحابي إذا بعثتهم الآن إليك، وأنت لا تأمنني على أصحابك! فأرسل إليه شبيب: إنك قد علمت أنا لا نستحل في ديننا الغدر، وأنتم تفعلونه وتهونونه. فسرح إليه مطرف الربيع بن يزيد الأسدي، وسليمان بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني، ويزيد بن أبي زياد مولى المغيرة - وكان على حرس مطرف - فلما وقعوا في يديه بعث أصحابه إليه. قال أبو مخنف: حدثني النضر بن صالح، قال: كنت عند مطرف بن المغيرة بن شعبة فما أدري أقال: إني كنت في الجند الذين كانوا معهم، أو قال: كنت بإزائه حيث دخلت عليه رسل شبيب! وكان لي ولأخي ودًا مكرمًا، ولم يكن ليستر منا شيئًا، فدخلوا عليه وما عنده أحد من الناس غيري وغير أخي حلام بن صالح، وهم ستة ونحن ثلاثة، وهم شاكون في السلاح، ونحن ليس علينا إلا سيوفنا، فلما دنوا قال سويد: السلام على من خاف مقام ربه وعرف الهدى وأهله، فقال له مطرف: أجل، فسلم الله على أولئك، ثم جلس القوم، فقال لهم مطرف: قصوا على أميركم، وخبروني ماالذي تطلبون؟ وإلام تدعون؟ فحمد الله سويد بن سليم وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الذي ندعوا إليه كتاب الله وسنة محمد
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png، وإن الذي نقمنا على قومنا الاستئثار بالفئ وتعطيل الحدود والتسلط بالجبرية. فقال لهم مطرف: ما دعوتم إلا إلى حق، ولا نقمتم إلا جورًا ظاهرًا، أنا لكم على هذا متابع، فتابعوني إلى ما أدعوكم إليه ليجتمع أمري وأمركم، وتكون يدي وأيديكم واحدة، فقالوا: هات، اذكر ما تريد أن تذكر فإن يكن ما تدعون إليه حقًا نجبك؛ قال: فإني أدعوكم إلى أن نقاتل هؤلاء الظلمة العاصين على إحداثهم الذي أحدثوه، وأن ندعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وأن يكون هذا الأمر شورى بين المسلمين، يؤمرون عليهم من يرضون لأنفسهم على مثل الحال التي تركهم عليها عمر بن الخطاب؛ فإن العرب إذا علمت أن ما يراد بالشورى الرضا من قريش رضوا، وكثر تبعكم منهم وأعوانكم على عدوكم، وتم لكم هذا الأمر الذي تريدون. قال: فوثبوا من عنده، وقالوا: هذا ما لا نجيبك إليه أبدًا، فلما مضوا فكادوا أن يخرجوا من صفة البيت التفت إليه سويد بن سليم، فقال: يا بن المغيرة لو كان القوم عداةً غدرًا كنت قد أمكنتهم من نفسك، ففزع لها مطرف، وقال: صدقت وإله موسى وعيسى. قال: ورجعوا إلى شبيب فأخبروه بمقالته، فطمع فيه، وقال لهم: إن أصبحتم فليأته أحدكم؛ فلما أصبحوا بعث إليه سويدًا وأمره بأمره، فجاء سويد حتى انتهى إلى باب مطرف، فكنت أنا المستأذن له، فلما دخل وجلس أردت أن انصرف، فقال لي مطرف: اجلس فليس دونك ستر؛ فجلست وأنا يومئذ شاب أغيد، فقال له سويد: من هذا الذي ليس لك دونه ستر؟ فقال له: هذا الشريف الحسيب، هذا ابن مالك بن زهير بن جذيمة، فقال له: بخ أكرمت فارتبط، إن كان دينه على قدر حسبه فهو الكامل، ثم أقبل عليه فقال: إن لقينا أمير المؤمنين بالذي ذكرت لنا، فقال لنا: القوه فقولوا له: ألست تعلم أن إختيار المسلمين منهم خيرهم لهم فيما يرون رأي رشيد! فقد مضت به السنة بعد الرسول
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png، فإذا قال لكم: نعم، فقولوا له: فإن قد اخترنا لأنفسنا أرضانا فينا، وأشدنا إضطلاعًا لما حمل، فما لم يغير ولم يبدل فهو ولي أمرنا. وقال لنا: قولوا له فيما ذكرت لنا من الشورى حين قلت: إن العرب إذا علمت أنكم إنما تريدون بهذا الأمر قريشًا كان أكثر لتبعكم منهم؛ فإن أهل الحق لا ينقصهم عند الله أن يقلوا، ولا يزيد الظالمين خيرًا أن يكثروا، وإن تركنا حقنا الذي خرجنا له، ودخولنا فيما دعوتنا إليه من الشورى خطيئة وعجز ورخصة إلى نصر الظالمين ووهن، لأنا لا نرى أن قريشًا أحق بهذا الأمر من غيرها من العرب. وقال: فإن زعم أنهم أحق بهذا الأمر من غيرها من العرب فقولوا له: ولم ذاك؟ فإن قال: لقرابة محمد
http://upload.wikimedia.org/wikisour...%D9%85.svg.png بهم فقولوا له: فوالله ما كان ينبغي إذًا لأسلافنا الصالحين من المهاجرين الأولين أن يتولوا على أسرة محمد، ولا على ولد أبي لهب لو لم يبقى غيرهم؛ ولو لا أنهم علموا أن خير الناس عند الله أتقاهم، وأن أولاهم بهذا الأمر أتقاهم وأفضلهم فيهم، وأشدهم اضطلاعًا بحمل أمورهم ما تولى أمور الناس. ونحن أول من أنكر الظلم وغير الجور وقاتل الأحزاب، فإن اتبعنا فله ما لنا وعليه ما علينا، وهو رجل من المسلمين وإلا يفعل، فهو كبعض من نعادي ونقاتل من المشركين. فقال له مطرف: قد فهمت ما ذكرت، ارجع يومك هذا حتى تنظر في أمرنا.