البلدية لو استطعت ذلك.. فقد يمر وقت طويل قبل أ، أتمكن منزيارتهم..".
وعاد بعد لحظات وكأنه نسي شيئاً ليضيف شبه مرتبك وهو يلفظ ذلك الاسملأول مرة..

"..
لقد اخترت لها هذا لاسم.. سجلها متى استطعت ذلك وقبّلهاعني.. وسلّم كثيراً على (أمّا).."

كانت تلك أول مرة سمعت فيها اسمك.. سمعتهوأنا في لحظة نزيف بين الموت والحياة، فتعلقت في غيبوبتي بحروفه، كما يتعلق محمومفي لحظة هذيان بكلمة..
كما يتعلق رسول بوصية يخاف أن تضيع منه..
كما يتعلقغريق بحبال الحلم.
بين ألف الألم وميم المتعة كان اسمك.
تشطره حاء الحرقة.. ولام التحذير. فكيف لم أحذر اسمك الذي ولد وسط الحرائق الأولى، شعلة صغيرة في تلكالحرب. كيف لم أحذر اسماً يحل ضده ويبدأ بـ "أح" الألم واللذة معاً. كيف لم أحذرهذا الاسم المفرد _ الجمع كاسم هذا الوطن، وأدرك منذ البدء أن الجمع خلق دائماًليقتسم!

بين الابتسام والحزن، يحدث اليوم أن أستعيد تلكالوصية:

"
قبّلها عني.." وأضحك من القدر، وأضحك من نفسي، ومن غرابةالمصادفات.

ثمَّ أعود وأخجل من وقار صوته، ومن مسحة الضعف النادرة التيغلّفت جملته تلك، هو الذي كان يريد أن يبدو أمامنا دائماً، رجلاً مهيباً لا هموم لهسوى هموم الوطن، ولا أهل له غير رجاله..

لقد اعترف لي أنَّه رجل ضعيف؛ يحنّويشتاق وقد يبكي ولكن، في حدود الحياء، وسراً دائماً. فليس من حقّ الرموز أن تبكيشوقاً.
إنه لم يذكر أمكِ مثلاً.. تراه لم يحنّ إليها، هي العروس التي لم يتمتعبها غير أشهر مسروقة من العمر وتركها حاملاً.
ولماذا هذا الاستعجال المفاجئ؟لماذا لا ينتظر بعض الوقت ليرتِّب قضية غيابه لأيام، ويقوم هو نفسهبتسجيلكِ؟

لقد انتظر ستة أشهر، فلماذا لا ينتظر أسابيع أخرى.. ولماذا أنابالذات..

أيّ قدر جعلني أحضر إلى هناك بتوقيتك؟

كلما طرحت على نفسيهذا السؤال، دهشت له وآمنت بالمكتوب.
فقد كان بإمكان (سي طاهر) برغم مسؤولياتهأن يهرب ليوم أو ليومين إلى تونس. ولم تكن قضية عبور الحدود بحراستها المشددةودورياتها وكمائنها لتخيفه، ولا حتى اجتياز (خط موريس) المكهرب والمفروش بالألغام،والممتد بين الحدود التونسية الجزائرية من البحر إلى الصحراء، والذي اجتازه فيمابعد ثلاث مرات، وهو رقم قياسي بالنسبة لعشرات المجاهدين الذين تركوا جثثهم علىامتداده.

أكان حبّ (سي طاهر) للانضباط، واحترامه للقوانين هو الذي خلق عندهذلك الشعور بالقلق بعد ميلادك، وهو يكتشف عاجزاً أنه أب منذ شهور لطفلة لم يمنحهااسماً، ولم يتمكن حتى من تسجيلها؟
أم كان يخاف، هو الذي انتظرك طويلاً، أن تضيعيمنه إن هو لم يرسخ وجودك وانتسابك له على ورقة رسمية عليها ختم رسمي؟

أكانيتشاءم من وضعك القانوني هذا، ويريد أن يسجل أحلامه في دار البلدية، ليتأكد من أنهاتحولت إلى حقيقة.. وأنَّ القدر لن يعود ليأخذها منه، هو الذي كان حلمه في النهايةأن يصبح أباً كالآخرين بعد محاولة زواج فاشلة لم يرزق منها ذرّية؟

ولا أدريإذا كان (سي الطاهر) في أعماقه يفضّل لو كان مولوده صبيّاً.. أدري فقط، كما علمتفيما بعد، أنه حاول أن يتحايل على القدر وأن يترك قبل سفره اسماً احتياطياًلصبي،متجاهلاً احتمال مجيء أنثى. وربما فعل ذلك أيضاً بعقلية عسكرية، وبهاجس وطنيدون أن يدري.. فقد كانت أحاديثه وخططه العسكرية تبدأ غالباً بتلك الجملة التيكثيراً ما سمعته يردِّدها "لازمنا رجال يا جماعة.."

إذن، لهذا كان (سي طاهر) يبدو سعيداً ومتفائلاً في كلّ شيء في تلك الفترة..

فجأة تغيّر الرجل الصلب. أصبح أكثر مرونة وأكثر دعابة في أوقات فراغه.
شيء ما كان يتغير تدريجياً داخله،ويجعله أقرب إلى الآخرين، وأكثر تفهماً لأوضاعهم الخاصة.
فقد أصبح يمنح البعضبسهولة أكثر تسريحات لزيارة خاطفة يقومون بها إلى أهلهم، هو الذي كان يبخل بها علىنفسه. لقد غيّرته الأبوّة المتأخرة، التي جاءت رمزاً جاهزاً لمستقبلأجمل..

معجزة صغيرة للأمل.. كانت أنتِ.





*
الجمل المكتوبة بخط مميز مأخوذة عن تواطؤ شعري من روايتي مالك حداد "سأهبك غزالة" و "رصيف الأزهار لم يعد يجيب.




طلع صباح آخر..
وها هو ذا النهار يفاجئني بضجيجه الاعتيادي، وبضوئه المباغت الذي يدخل النور إلى أعماقي غصباً عني، فأشعر أنه يختلس شيئاً مني.