يا ساكن المربد هجت لي ** شوقًا فما أنفك بالمربد
قال: فحدثني أبي فقال: كان المنصور نازلًا على أبي سنتين، فعرفت الخصيب المتطبب لكثرة إتيانه إياه؛ وكان الخصيب يظهر النصرانية وهو زنديق معطل لا يبالي من قتل، فأرسل إليه المنصور رسولًا يأمره أن يتوخى قتل محمد بن أبي العباس، فاتخذ سمًا قاتلًا، ثم انتظر علة تحدث بمحمد، فوجد حرارة، فقال له الخصيب: خذ شربة دواء، فقال: هيئها لي، فهيأها، وجعل فيها ذلك السم ثم سقاه إياها، فمات منها. فكتبت بذلك أم محمد بن أبي العباس إلى المنصور تعلمه أن الخصيب قتل ابنها. فكتب المنصور يأمر بحمله إليه؛ فلما صار إليه ضربه ثلاثين سوطًا ضربًا خفيفًا، وحبسه أيامًا، ثم وهب له ثلاثمائة درهم، وخلاه.
قال: وسمعت أبي يقول: كان المنصور شرط لأم موسى الحميرية ألا يتزوج عليها ولا يتسرى، وكتبت عليه بذلك كتابًا أكدته وأشهدت عليه شهودًا، فعزب بها عشر سنين في سلطانه؛ فكان يكتب إلى الفقيه بعد الفقيه من أهل الحجاز يستفتيه، ويحمل إليه الفقيه من أهل الحجاز وأهل العراق فيعرض عليه الكتاب ليفتيه فيه برخصة؛ فكانت أم موسى إذا علمت مكانه بادرته فأرسلت إليه بمال جزيل، فإذا عرض عليه أبو جعفر الكتاب لم يفته فيه برخصة، حتى ماتت بعد عشر سنين من سلطانه ببغداد؛ فأتته وفاتها بحلوان، فأهديت له في تلك الليلة مائة بكر؛ وكانت أم موسى ولدت له جعفرًا والمهدي.
وذكر عن علي بن الجعد أنه قال: لما قدم بختيشوع الأكبر على المنصور من السوس، ودخل عليه في قصره بباب الذهب ببغداد، أمر له بطعام يتغدى به، فلما وضعت المائدة بين يديه، قال: شراب، فقيل له: إن الشراب لا يشرب على مائدة أمير المؤمنين، فقال: لا آكل طعامًا ليس معه شراب، فأخبر المنصور بذلك، فقال: دعوه، فلما حضر العشاء فعل به مثل ذلك، فطلب الشراب، فقيل له: لا يشرب على مائدة أمير المؤمنين الشراب، فتعشى وشرب ماء دجلة، فلما كان من الغد نظر إلى مائه، فقال: ما كنت أحسب شيئًا يجزي من الشراب، فهذا ماء دجلة يجزي من الشراب.
وذكر عن يحيى بن الحسن أن أباه حدثه، قال: كتب المنصور إلى عامله بالمدينة أن بع ثمار الضياع ولا تبعها إلا ممن نغلبه ولا يغلبنا؛ فإنما يغلبنا المفلس الذي لا مال له، ولا رأي لنا في عذابه، فيذهب بما لنا قبله ولو أعطاك جزيلًا، وبعها من الممكن بدون ذلك ممن ينصفك ويوفيك.
وذكر أبو بكر الهذلي أن أبا جعفر كان يقول: ليس بإنسان من أسدي إليه معروف فنسيه دون الموت.
وقال الفضل بن ربيع: سمعت المنصور يقول: كانت العرب تقول: الغوى الفادح خير من الري الفاضح.
وذكر عن أبان بن يزيد العنبري أن الهيثم القارئ البصري قرأ عند المنصور " ولا تبذر تبذيرا " إلى آخر الآية، فقال له المنصور، وجعل يدعو: اللهم جنبني وبني التبذير فيما أنعمت علينا به من عطيتك. قال: وقرأ الهيثم عنده: " الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل " فقال للناس: لولا أن الأموال حسن السلطان ودعامة للدين والدنيا وعزهما وزينتهما ما بت ليلة وأنا أحرز منه دينارًا ولا درهمًا لما أجد لبذل المال من اللذاذة؛ ولما أعلم في إعطائه من جزيل المثوبة.
ودخل على المنصور رجل من أهل العلم، فازدراه واقتحمته عينه، فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده، فازدراه واقتحمته عينه، فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده، فقال له: أنى لك هذا العلم! قال: لم أبخل بعلم علمته، ولم أستح من علم أتعلمه. قال: فمن هناك! قال: وكان المنصور كثيرًا ما يقول: من فعل بغير تدبير، وقال عن غير تقدير، لم يعدم من الناس هازئًا ولا لاحيًا.
وذكر عن قحطبة، قال: سمعت المنصور يقول: الملوك تحتمل كل شيء من أصحابها إلا ثلاثًا: إفشاء السر، والتعرض للحرمة، والقدح في الملك.
وذكر علي بن محمد أن المنصور كان يقول: سرك من دمك فانظر من تملكه.
وذكر الزبير بن بكار، عن عمر، قال: لما حمل عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي إلى المنصور بعد خروجه عليه، قال له: يا أمير المؤمنين، قتلة كريمة! قال: تركتها وراءك يابن اللخناء! وذكر عن عمر بن شبة، أن قحطبة بن غدانة الجشمي - وكان من الصحابة - قال: سمعت أبا جعفر المنصور يخطب في مدينة السلام سنة اثنتين وخمسين ومائة، فقال: يا عباد الله، لا تظالموا، فإنها مظلمة يوم القيامة، والله لولا يد خاطئة، وظلم ظالم، لمشيت بين أظهركم في أسواقكم؛ ولو علمت مكان من هو أحق بهذا الأمر مني لأتيته حتى أدفعه إليه. وذكر إسحاق الموصلي، عن النضر بن جديد، قال: حدثني بعض الصحابة أن المنصور كان يقول: عقوبة الحليم التعريض، وعقوبة السفيه التصريح.
وذكر أحمد بن خالد، قال: حدثني يحيى بن أبي نصر القرشي، أن أبانا القارئ قرأ عند المنصور: " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط "، الآية فقال المنصور: ما أحسن ما أدبنا ربنا! قال: وقال المنصور: من صنع مثل ما صنع إليه فقد كافأ، ومن أضعف فقد شكر، ومن شكر كان كريمًا، ومن علم أنه إنما صنع إلى نفسه لم يستبطئ الناس في شكرهم، ولم يستزدهم من مودتهم، تلتمس من غيرك شكر ما آتيته إلى نفسك، ووقيت به عرضك. واعلم أن طالب الحاجة إليك لم يكرم وجهه عن وجهك فأكرم وجهك عن رده.
وذكر عمر بن شبة أن محمد بن عبد الوهاب المهلبي، حدثه، فقال: سمعت إسحاق بن عيسى يقول: لم يكن أحد من بني العباس يتكلم فيبلغ حاجته على البديهة غير أبي جعفر وداود بن علي والعباس بن محمد.
وذكر عن أحمد بن خالد، قال: حدثني إسماعيل بن إبراهيم الفهري، قال: خطب المنصور ببغداد في يوم عرفة - وقال قوم: بل خطب في أيام - منى فقال في خطبته: أيها الناس؛ إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه؛ أعمل بمشيئته، وأقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه؛ قد جعلني الله عليه قفلًا، إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني؛ فارغبوا إلى الله أيها الناس، وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم به؛ إذ يقول تبارك وتعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ". أن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم، إنه سميع قريب.
وذكر عن داود بن رشيد عن أبيه، أن المنصور خطب فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. فاعترضه معترض عن يمينه، فقال: أيها الإنسان، أذكرك من ذكرت به.. فقطع الخطبة ثم قال: سمعًا سمعًا؛ لمن حفظ عن الله وذكر به، وأعوذ بالله أن أكون جبارًا عنيدًا، وأن تأخذني العزة بالإثم، لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين. وأنت أيها القائل؛ فوالله ما أردت بها وجه الله؛ ولكنك حاولت أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر، وأهون بها! ويلك لو هممت! فاهتبلها إذ غفرت. وإياك وإياكم معشر الناس أختها؛ فإن الحكمة علينا نزلت، ومن عندنا فصلت؛ فردوا الأمر إلى أهله، توردوه موارده، وتصدروه مصادره.. ثم عاد في خطبته، فكأنه يقرؤها من كفه، فقال: وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله.
وذكر عن أبي توبة الربيع بن نافع، عن ابن أبي الجوزاء، أنه قال: قمت إلي أبي جعفر وهو يخطب ببغداد في مسجد المدينة على المنبر فقرأت: " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون " فأخذت فأدخلت عليه، فقال: من أنت ويلك! إنما أردت أن أقتلك، فاخرج عني فلا أراك. قال: فخرجت من عنده سليمًا.
وقال عيسى بن عبد الله بن حميد: حدثني إبراهيم بن عيسى، قال: خطب أبو جعفر المنصور في هذا المسجد - يعني به مسجد المدينة ببغداد - فلما بلغ: اتقوا الله حق تقاته، قام إليه رجل، فقال: وأنت يا عبد الله، فاتق الله حق تقاته.. فقطع أبو جعفر الخطبة، وقال: سمعًا سمعًا، لمن ذكر بالله؛ هات يا عبد الله، فما تقى الله؟ فانقطع الرجل فلم يقل شيئًا، فقال أبو جعفر: الله الله أيها الناس في أنفسكم، لا تملونا من أموركم ما لا طاقة لكم به، لايقوم رجل هذا المقام إلا أوجعت ظهره، وأطلت حبسه. ثم قال: خذه إليك يا ربيع، قال: فوثقنا له بالنجاة - وكانت العلامة فيه إذا أراد بالرجل مكروهًا قال: خذه إليك يا مسيب - قال: ثم رجع في خطبته من الموضع الذي كان قطعه، فاستحسن الناس ذلك منه، فلما فرغ من الصلاة دخل القصر؛ وجعل عيسى بن موسى يمشي على هيئته خلفه، فأحس به أبو جعفر، فقال: أبو موسى؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين؛ قال: كأنك خفتني على هذا الرجل! قال: والله لقد سبق إلى قلبي بعض ذلك؛ إلا أن أمير المؤمنين أكثر علمًا، وأعلى نظرًا من أن يأتي في أمره إلا الحق، فقال: لا تخفني عليه. فلما جلس قال: علي بالرجل، فأتى به؛ فقال: يا هذا؛ إنك لما رأيتني على المنبر، قلت؛ هذا الطاغية لا يسعني إلا أن أكلمه، ولو شغلت نفسك بغير هذا لكان أمثل لك؛ فاشغلها بظماء الهواجر، وقيام الليل، وتغيير قدميك في سبيل الله؛ أنطه يا ربيع أربع مائة درهم، واذهب فلا تعد. وذكر عن عبد الله بن صاعد، مولى أمير المؤمنين أنه قال: حج المنصور بعد بناء بغداد، فقام خطيبًا بمكة، فكان مما حفظ من كلامه: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون "، أمر مبرم، وقول عدل، وقضاء فصل؛ والحمد لله الذي أفلج حجته، وبعدًا للقوم الظالمين؛ الذين اتخذوا الكعبة عرضًا، والفيء إرثًا، وجعلوا القرآن عضين؛ لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون، فكم ترى من بئر معطلة وقصر مشيد؛ أهملهم الله حتى بدلوا السنة، واضطهدوا العترة، وعندوا واعتدوا، واستكبروا وخاب كل جبار عنيد؛ ثم أخذهم؛ فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا! وذكر الهيثم بن عدي، عن ابن عياش قال: إن الأحداث لما تتابعت على أبي جعفر، تمثل:
تفرقت الظباء على خداش ** فما يدري خداش ما يصيد
قال: ثم أمر بإحضار القواد والموالي والصحابة وأهل بيته، وأمر حمادًا التركي بإسراج الخيل وسليمان بن مجالد بالتقدم والمسيب بن زهير بأخذ الأبواب، ثم خرج في يوم من أيامه حتى علا المنبر. قال: فأزم عليه طويلًا لا ينطق. قال رجل لشبيب بن شيبة: ما لأمير المؤمنين لا يتكلم! فإنه والله ممن يهون عليه صعاب القول، فما باله! قال: فافترع الخطبة، ثم قال:
ما لي أكفكف عن سعدٍ ويشتمني ** ولو شتمت بني سعدٍ لقد سكنوا
جهلًا علي وجبنًا عن عدوهم ** لبئست الخلتان الجهل والجبن
ثم جلس وقال:
فألقيت عن رأسي القناع ولم أكن ** لأكشفه إلا لإحدى العظائم
والله لقد عجزوا عن أمرٍ قمنا به، فما شكروا الكافي؛ ولقد مهدوا فاستوعروا وغمطوا الحق وغمصوا، فماذا حاولوا! أشرب رنقا على غصصٍ، أم أقيم على ضيم ومضض! والله لا أكرم أحدًا بإهانة نفسي؛ والله لئن لم يقبلوا الحق ليطلبنه ثم لا يجدونه عندي؛ والسعيد من وعظ بغيره. قدم يا غلام، ثم ركب.
وذكر الفقيمي أن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن مولى محمد بن علي حدثه، أن المنصور لما أخذ عبد الرحمن بن حسن وإخوته والنفر الذين كانوا معه من أهل بيته، صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي ، ثم قال:
يا أهل خراسان، أنتم شيعتنا وأنصارنا وأهل دولتنا، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا من هو خير منا، وإن أهل بيتي هؤلاء من ولد علي بن أبي طالب تركناهم والله الذي لا إله إلا هو والخلافة، فلم نعرض لهم فيها بقليل ولا كثير؛ فقام فيها علي بن أبي طالب فتلطخ وحكّم عليه الحكمين؛ فافترقت عنه الأمة، واختلفت عليه الكلمة؛ ثم وثبت عليه شيعته وأنصاره وأصحابه وبطانته وثقاته فقتلوه، ثم قام من بعده الحسن بن علي؛ فوالله ما كان فيها برجل؛ قد عرضت عليه الأموال، فقبلها، فدس إليه معاوية إني أجعلك ولي عهدي من بعدي، فخدعه فانسلخ له مما كان فيه، فأقبل على النساء يتزوج في كل يوم واحدة فيطلقها غدًا؛ فلم يزل على ذلك حتى مات على فراشه، ثم قام من بعده الحسين بن علي، فخدعه أهل العراق وأهل الكوفة؛ أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن، أهل هذه المدرة السوداء - وأشار إلى الكوفة - فوالله ما هي بحرب فأحاربها، ولا سلم فأسالمها، فرق الله بيني وبينها، فخذلوه وأسلموه حتى قتل، ثم قام من بعده زيد بن علي، فخدعه أهل الكوفة وغروه؛ فلما أخرجوه وأظهروه أسلموه؛ وقد كان أتى محمد بن علي، فناشده في الخروج وسأله ألا يقبل أقاويل أهل الكوفة، وقال له: إنا نجد في بعض علمنا، أن بعض أهل بيتنا يصلب بالكوفة، وأنا أخاف أن تكون ذلك المصلوب؛ وناشده عمي داود بن علي وحذره غدر أهل الكوفة فلم يقبل؛ وأتم على خروجه، فقتل وصلب بالكناسة، ثم وثب علينا بنو أمية، فأماتوا شرفنا، وأذهبوا عزنا؛ والله ما كانت لهم عندنا ترة يطلبونها؛ وما كان لهم ذلك كله إلا فيهم وبسبب خروجهم عليهم؛ فنفونا من البلاد، فصرنا مرة بالطائف، ومرة بالشام، ومرة بالشراة؛ حتى ابتعثكم الله لنا شيعة وأنصارًا، فأحيا شرفنا، وعزنا بكم أهل خراسان، ودمغ بحقكم أهل الباطل، وأظهر حقنا، وأصار إلينا ميراثنا عن نبينا ، فقر الحق مقره، وأظهر مناره، وأعز أنصاره، وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين. فلما استقرت الأمور فينا على قرارها؛ من فضل الله فيها وحكمه العادل لنا، وثبوا علينا، ظلمًا وحسدًا منهم لنا، وبغيًا لما فضلنا الله به عليهم، وأكرمنا به من خلافته وميراث نبيه .
جهلًا علي وجبنًا عن عدوهم ** لبئست الخلتان الجهل والجبن
فإني والله يا أهل خراسان ما أتيت من هذا الأمر ما أتيت بجهالة، بلغني عنهم بعض السقم والتعرم، وقد دسست لهم رجالًا فقلت: قم يا فلان قم يا فلان، فخذ معك من المال كذا، وحذوت لهم مثالًا يعملون عليه؛ فخرجوا حتى أتوهم بالمدينة، فدسوا إليهم تلك الأموال؛ فوالله ما بقي منهم شيخ ولا شاب، ولا صغير ولا كبير إلا بايعهم بيعةً، استحللت بها دماءهم وأموالهم وحلت لي عند ذلك بنقضهم بيعتي، وطلبهم الفتنة، والتماسهم الخروج علي؛ فلا يرون أني أتيت ذلك على غير يقين. ثم نزل وهو يتلو على درج المنبر هذه الآية: " وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شكٍ مريب ".
قال: وخطب المنصور بالمدائن عند قتل أبي مسلم، فقال: أيها الناس؛ لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تسروا غش الأئمة، فإنه لم يسر أحد قط منكرةً إلا ظهرت في آثار يده، أو فلتات لسانه، وأبداها الله لإمامه؛ بإعزاز دينه، وإعلاء حقه. إنا لن نبخسكم حقوقكم، ولن نبخس الدين حقه عليكم. إنه من نازعنا عروة هذا القميص أجزرناه خبي هذا الغمد. وإن أبا مسلم بايعنا وبايع الناس لنا، على أنه من نكث بنا فقد أباح دمه، ثم نكث بنا، فحكمنا عليه حكمه على غيره لنا؛ ولم تمنعنا إقامة الحق له من إقامة الحق عليه.
وذكر إسحاق بن إبراهيم الموصلي أن الفضل بن الربيع أخبره عن أبيه، قال: قال المنصور: قال أبي: سمعت أبي؛ علي بن عبد الله يقول: سادة الدنيا الأسخياء، وسادة الآخرة الأنبياء.
وذكر عن إبراهيم بن عيسى، أن المنصور غضب على محمد بن جميل الكاتب - وأصله من الربذة - فأمر ببطحه، فقام بحجته، فأمر بإقامته، ونظر إلى سراويله، فإذا هو كتان، فأمر ببطحه وضربه خمس عشرة درة، وقال لا تلبس سراويل كتان فإنه من الصرف.
وذكر محمد بن إسماعيل الهاشمي، إن الحسن بن إبراهيم حدثه، عن أشياخه، أن أبا جعفر لما قتل محمد بن عبد الله بالمدينة وأخاه إبراهيم بياخمري وخرج إبراهيم بن حسن بن حسن بمصر فحمل إليه، كتب إلى بني علي بن أبي طالب بالمدينة كتابًا يذكر لهم فيه إبراهيم بن الحسن بن الحسن وخروجه بمصر، وأنه لم يفعل ذلك إلا عن رأيهم، وأنهم يدأبون في طلب السلطان، ويلتمسون بذلك القطيعة والعقوق، وقد عجزوا عن عداوة بني أمية لما نازعوهم السلطان، وضعفوا عن طلب ثأرهم؛ حتى وثب بنو أبيه غضبًا على بني أمية، فطلبوا بثأرهم، فأدركوا بدمائهم، وانتزعوا السلطان عن أيديهم، وتمثل في الكتاب بشعر سبيع بن ربيعة بن معاوية اليربوعي:
فلولا دفاعي عنكم إذ عجزتم ** وبالله أحمي عنكم وأدافع