كتاب هرثمة إلى الرشيد في أمر علي بن عيسى

ولما حمل هرثمة عليًا إلى الرشيد، كتب إليه كتابًا يخبره ما صنع؛ نسخته: " بسم الله الرحمن الرحيم ". أما بعد، فإن الله عز وجل لم يزل يبلي أمير المؤمنين في كل ما قلده من خلافته واسترعاه من أمور عباده وبلاده أجمل البلاء وأكمله، ويعرفه في كل ما حضره ونأى عنه من خاص أموره وعامها، ولطيفها وجليلها أتم الكفاية وأحسن الولاية، ويعطيه في ذلك كله أفضل الأمنية، ويبلغه في أقصى غاية الهمة، امتنانًا منه عليه، وحفظًا لما جعل إليه، مما تكفل بإعزازه وإعزاز أوليائه وأهل حقه وطاعته؛ فسيتم الله أحسن ما عوده وعودنا من الكفية في كل ما يؤدينا إليه، ونسأله توفيقنا لما نقضي به المفترض من حقه في الوقوف عند أمره، والاقتصار على رأيه.
ولم أزل أعز الله أمير المؤمنين، مذ فصلت عن معسكر أمير المؤمنين ممتثلًا ما أمرني به فيما أنهضني له؛ لا أجاوز ذلك ولا أتعداه إلى غيره، ولا أتعرف اليمن والبركة إلا في امتثاله؛ إلى أن حللت أوائل خراسان؛ صائنًا للأمر الذي أمرني أمير المؤمنين بصيانته وستره؛ لا أفضي ذلك إلى خاصي ولا إلى عامي، ودبرت في مكاتبة أهل الشاش وفرغانة وخزلهما عن الخائن، وقطع طمعه وطمع من قبله عنهما، ومكاتبة من ببلخ بما كنت كتبت به إلى أمير المؤمنين وفسرت له، فلما نزلت نيسابور عملت في أمر الكور التي اجتزت عليها بتولية من وليت عليها، قبل مجاوزتي إياها؛ كجرجان ونيسابور ونسا وسرخس، ولم آل الأحتياط في ذلك، واختيار الكفاءة وأهل الأمانة والصحة من ثقات أصحابي، وتقدمت إليهم في ستر الأمر وكتمانه، وأخذت عليهم بذلك أيمان البيعة، ودفعت إلى كل رجل منهم عهده بولايته، وأمرتهم بالمسير إلى كور أعمالهم على أخفى أخفى الحالات وأسترها، والتشبه بالمجتازين في ورودهم الكور ومقامهم بها إلى الوقت الذي سميت لهم؛ وهو اليوم الذي قدرت فيه دخولي إلى مرو، والتقائي وعلي بن عيسى، وعملت في استكفائي إسماعيل بن حفص بن مصعب أمر جرجان بما كنت كتبت به إلى أمير المؤمنين، فنفذ أولئك العمال لأمري، وقام كل رجل منهم في الوقت الذي وقت له بضبط عمله وإحكام ناحيته، وكفى الله أمير المؤمنين المؤنة في ذلك، بلطيف صنعه.
ولما صرتمن مدينة مرو على منزل، اخترت عدةً من ثقات أصحابي، وكتبت بتسمية ولد علي بن عيسى وكتابه وأهل بيته وغيرهم رقاعًا، ودفعت إلى كل رجل منهم رقعة باسم من وكلته بحفظه في دخولي، ولم آمن لو قصرت في ذلك وأخرته أن يصيروا عند ظهور الخبر وانتشاره إلى التغيب والانتشار، فعملوا بذلك، ورحلت عن موضعي إلى مدينة مرو، فلما صرت منها على ميلين تلقاني علي بن عيسى في ولده وأهل بيته وقواده، فلقيته بأحسن لقاء، وآنسته، وبلغت من توقيره وتعظيمه والتماس النزول إليه أول ما بصرت به ما ازداد به أنسًا وثقة، إلى ما كان ركن إليه قبل ذلك؛ مما كان يأتيه من كتبي؛ فإنها لم تنقطع عنه بالتعظيم والإجلال مني له والالتماس، لإلقاء سوء الظن عنه؛ لئلا يسبق إلى قلبه أمر ينتقض به ما دبر أمير المؤمنين في أمره، وأمرني به في ذلك. وكان الله تبارك وتعالى هو المنفرد بكفاية أمير المؤمنين الأمر فيه إلى أن ضمني وإياه مجلسه، وصرت إلى الأكل معه، فلما فرغنا من ذلك بدأني يسألني المصير إلى منزل كان ارتاده لي؛ فأعلمته ما معي من الأمور التي لا تحتمل تأخير المناظرة فيها. ثم دفع إليه رجاء الخادم كتاب أمير المؤمنين وأبلغه رسالته، فعلم عند ذلك أنه قد حل به الأمر الذي جناه على نفسه، وكسبته يداه؛ من سخط أمير المؤمنين، وتغير رأيه بخلافه أمره وتعديه سيرته.
ثم صرت إلى التوكيل به، ومضيت إلى المسجد الجامع، فبسطت آمال الناس ممن حضر، وافتتحت القول بما حملني أمير المؤمنين إليهم، وأعلمتهم إعظام أمير المؤمنين ما أتاه، ووضح عنده من سوء سيرة علي، وما أمرني به فيه وفي عماله وأعوانه؛ وإني بالغ من ذلك ومن إنصاف العامة والخاصة والأخذ بحقوقهم أقصى غايتهم. وأمرت بقراءة عهدي عليهم، وأعلمتهم أن ذلك مثالي وإمامي؛ وأني به أقتدي وعليه أحتذي؛ فمتى زلت عن باب واحد من أبوابه فقد ظلمت نفسي، وأحللت بها ما يحل بمن خالف رأي أمير المؤمنين وأمره؛ فأظهروا السرور بذلك والاستبشار، وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم، وكثر دعاؤهم لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء.
ثم انكفأت إلى المجلس الذي كان علي بن عيسى فيه، فصرت إلى تقييده وتقييد ولده وأهل بيته وكتابه وعماله والاستيثاق منهم جميعًا، وأمرتهم بالخروج إلي من الأموال التي احتجنوها من أموال أمير المؤمنين وفيء المسلمين، وإعفائي بذلك من الإقدلم عليهم بالمكروه والضرب، وناديت في أصحاب ودائعهم بإخراج ما كان عندهم. فحملوا إلي إلى أن كتبت إلى أمير المؤمنين صدرًا صالحًا من الورق والعين، وأرجو أن يعين الله على استيفاء ما قبلهم، واستنظاف ما وراء ظهورهم، ويسهل الله من ذلك أفضل ما لم يزل يعوده أمير المؤمنين من الصنع في مثله من الأمور التي تعنى بها إن شاء الله تعالى.
ولم أدع عند قدومي مرو التقدم في توجيه الرسل وإنفاذ الكتب البالغة في الإعذار والإنذار، والتبصير والإرشاد، إلى رافع ومن قبله من أهل سمرقند، وإلى من ببلخ، على حسن ظني بهم في الإجابة، ولزوم الطاعة والاستقامة؛ ومهما تنصرف به رسلي إلى أمير المؤمنين من أخبار القوم في إجابتهم وامتناعهم، وأعمل على حسبه من أمرهم، وأكتب بذلك إلى أمير المؤمنين على حقه وصدقه. وأرجو أن يعرف الله أمير المؤمنين في ذلك من جميل صنعه ولطيف كفايته؛ ما لم تزل عادته جاريةً به عنده، بمنه وطوله وقوته والسلام.
الجواب من الرشيد

بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك بقدومك مرو في اليوم الذي سميت، وعلى الحال التي وصفت وما فسرت، وما كنت قدمت من الحيل قبل ورودك إياها، وعملت به في أمر الكور التي سميت وتولية من وليت عليها قبل نفوذك عنها، ولطفت له من الأمر الذي استجمع لك به ما أردت من أمر الخائن علي بن عيسى وولده وأهل بيته، ومن صار في يدك من عماله واحتذائك في ذلك كله ما كلن أمير المؤمنين مثل لك ووقفك عليه، وفهم أمير المؤمنين كل ما كتبت به، وحمد الله على ذلك كثيرًا وعلى تسديده إياك وما أعانك به من توفيقه، حتى بلغت إرادة أمير المؤمنين، وأدركت طلبته، وأحسنت ما كان يحب بك وعلى يدك إحكامه، مما كان اشتد به اعتناؤه، ولج به اهتمامه، وجزاك الخير على نصيحتك وكفايتك، فلا أعدم الله أمير المؤمنين أحسن ما عرفه منك في كل ما أهاب بك إليه، واعتمد بك عليه.
وأمير المؤمنين يأمرك أن تزداد جدًا واجتهادًا فيما أمرك به من تتبع أموال الخائن علي بن عيسى وولده وكتابه وعماله ووكلائه وجهابذته والنظر فيما اختانوا به أمير المؤمنين في أمواله، وظلموا به الرعية في أموالهم، وتتبع ذلك واستخراجه من مظانه ومواضعه، التي صارت إليه، ومن أيدي أصحاب الودائع التي استودعوها إياهم؛ واستعمال اللين والشدة في ذلك كله؛ حتى تصير إلى استنظاف ما وراء ظهورهم؛ ولا تبقي من نفسك في ذلك بقية، وفي إنصاف الناس منهم في حقوقهم ومظالمهم؛ حتى لا تبقى لمتظلم منهم قبلهم ظلامة إلا استقضيت ذلك له، وحملته وإياهم على الحق والعدل فيها، فإذا بلغت أقصى غاية الإحكام والمبالغة في ذلك، فأشخص الخائن وولده وأهل بيته وكتابه وعماله إلى أمير المؤمنين في وثاق، وعلى الحال التي استحقوها من التغيير والتنكيل بما كسبت أيديهم؛ وما الله بظلام للعبيد.
ثم اعمل بما أمرك به أمير المؤمنين من الشخوص إلى سمرقند، ومحاولة ما قبل خامل، ومن كان على رأيه ممن أظهر خلافًا وامتناعًا من أهل كور ما وراء النهر وطخارستان بالدعاء إلى الفيئة والمراجعة، وبسط أمانات أمير المؤمنين التي حملكها إليهم؛ فإن قبلوا وأنابوا وراجعوا ما هو أملك بهم، وفرقوا جموعهم، فهو ما يحب أمير المؤمنين أن يعاملهم به من العفو عنهم والإقالة لهم؛ إذ كانوا رعيته؛ وهو الواجب على أمير المؤمنين لهم إذ أجابهم إلى طلبتهم، وآمن روعتهم، وكفاهم ولاية من كرهوا ولايته، وأمر بإنصافهم في حقوقهم وظلاماتهم - وإن خالفوا ما ظن أمير المؤمنين، فحاكمهم إلى الله إذ طغوا وبغوا، وكرهوا العافية وردوها؛ فإن أمير المؤمنين قد قضى ما عليه، فغير ونكل، وعزل واستبدل، وعفا عمن أحدث، وصفح عمن اجترم؛ وهو يشهد الله عليهم بعد ذلك فيإن آثروه، وعنودٍ إن أظهروه. وكفى بالله شهيدًا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، عليه يتوكل وإليه ينيب. والسلام.
وكتب إسماعيل بن صبيح بين يدي أمير المؤمنين.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن العباس بن محمد بن علي، وكان والي مكة.
ولم يكن للمسلمين بعد هذه السنة صائفة إلى سنة خمس عشرة ومائتين.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ففيها كان الفداء بين المسلمين والروم على يدي ثابت بن ناصر بن مالك.
ذكر الخبر عن مسير الرشيد إلى خراسان

وفيها وافى الرشيد من الرقة في السفن مدينة السلام، يريد الشخوص إلى خراسان لحرب رافع؛ وكان مصيره ببغداد يوم الجمعة لخمس ليال بقين من شهر ربيع الآخر، واستخلف بالرقة ابنه القاسم، وضم إليه خزيمة بن خازم، ثم شخص من مدينة السلام عشية الاثنين، لخمس خلون من شعبان بعد صلاة العصر، من الخيزرانية، فبات في بستان أبي جعفر، ثم سار من غد إلى النهروان، فعسكر هنالك، ورد حمادًا البربري إلى أعماله، واستخلف ابنه محمدًا بمدينة السلام.
وذكر عن ذي الرياستين أنه قال: قلت للمأمون لما أراد الرشيد الشخوص إلى خراسان لحرب رافع: لست تدري ما يحدث بالرشيد وهو خارج إلى خراسان، وهي ولايتك، ومحمد المقدم عليك! وإن أحسن ما يصنع بك أن يخلعك؛ وهو ابن زبيدة، وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها، فاطلب إليه أن يشخصك معه. فسأله الإذن فأبى عليه، فقلت له: قل له: أنت عليل؛ وإنما أردت أن أخدمك، ولست أكلفك شيئًا. فأذن له وسار.
فذكر محمد بن الصباح الطبري أن أباه شيع الرشيد حين خرج إلى خراسان، فمضى معه إلى النهروان، فجعل يحادثه في الطريق إلى أن قال له: يا صباح، لا أحسبك تراني أبدًا. قال: فقلت: بل يردك الله سالمًا؛ قد فتح الله عليك، وأراك في عدوك أملك. قال:؟ يا صباح، لا أحسبك تدري ما أجد! قلت: لا والله، قال: فتعال حتى أريك، قال: فانحرف عن الطريق قدر مائة ذراع، فاستظل بشجرة، فأومأ إلى خدمه الخاصة فتنحوا، ثم قال: أمانة الله يا صباح أن تكتم علي، فقلت: يا سيدي، عبدك الذليل تخاطبه مخاطبة الولد! قال: فكشف عن بطنه؛ فإذا عصابة حرير حوالي بطنه، فقال: هذه علة أكتمها الناس كلهم؛ ولكل واحد من ولدي علي رقيب؛ فمسرور رقيب المأمون، وجبريل بن بختيشوع رقيب الأمين - وسمى الثالث فذهب عني اسمه - وما منهم أحد إلا وهو يحصي أنفاسي، ويعد أيامي ويستطيل عمري، فإن أردت أن تعرف ذلك فالساعة أدعو بدابة، فيجيئونني ببرذون أعجف قطوف، ليزيد في علتي، فقلت: يا سيدي ما عندي في الكلام جواب؛ ولا في ولاة العهود؛ غير أني أقول: جعل الله من يشنؤك من الجن والإنس والقريب والبعيد فداك؛ وقدمهم إلى تلك قبلك، ولا أرانا فيك مكروهًا أبدًا، وعمر بك الله الإسلام، ودعم ببقائك أركانه، وشد بك أرجاءه، وردك الله مظفرًا مفلحًا، على أفضل أملك في عدوك، وما رجوت من ربك. قال: أما أنت فقد تخلصت من الفريقين.
قال: ثم دعا ببرذون، فجاءوا به كما وصف، فنظر إلي فركبه، وقال انصرف غير مودع؛ فإن لك أشغالًا، فودعته وكان آخر العهد به.
وفيها تحرك الخرمية بناحية أذربيجان، فوجه إليهم الرشيد عبد الله بن مالك في عشرة آلاف فارس، فأسر وسبى، ووافاه بقرماسين، فأمر بقتل الأسارى وبيع السبي.
وفيها مات علي بن ظبيان القاضي بقصر اللصوص.
وفيها قدم يحيى بن معاذ بأبي النداء على الرشيد وهو بالرقة فقتله.
وفيها فارق عجيف بن عنبسة والأحوص بن مهاجر في عدة من أبناء الشيعة رافع بن ليث، وصاروا إلى هرثمة.
وفيها قدم بابن عائشة وبعدة من أهل أحواف مصر.
وفيها ولى ثابت بن نصر بن مالك الثغور وغزا، فافتتح مطمورة.
وفيها كان الفداء بالبدندون.
وفيها تحرك ثروان الحروري، وقتل عامل السلطان بطف البصرة.
وفيها قدم بعلي بن عيسى بغداد، فحبس في داره.
وفيها مات عيسى بن جعفر بطرارستان - وقيل بالدسكرة - وهو يريد اللحاق بالرشيد.
وفيها قتل الرشيد الهيصم اليماني.
وحج بالناس في هذه السنة العباس بن عبيد الله بن جعفر بن أبي جعفر المنصور.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائة

ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر الخبر عن وفاة الفضل بن يحيى

فمن ذلك وفاة الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك في الحبس بالرقة في المحرم، وكان بدء علته - فيما ذكر - من ثقل أصابه في لسانه وشقه؛ وكان يقول: ما أحب أن يموت الرشيد، فيقال له: أما تحب أن يفرج الله عنك! فيقول: إن أمري قريب من أمره. ومكث يعالج أشهرًا، ثم صلح، فجعل يتحدث، ثم اشتد عليه فعقد لسانه وطرفه، ووقع لمآبه، فمكث في تلك الحال يوم الخميس ويوم الجمعة، وتوفي مع أذان الغداة، قبل وفاة الرشيد بخمسة أشهر؛ وهو في خمس وأربعين سنة، وجزع الناس عليه، وصلى عليه إخوانه في القصر الذي كانوا فيه قبل إخراجه، ثم اخرج فصلى الناس على جنازته.
وفيها مات سعيد الطبري المعروف بالجوهري.
ذكر الخبر عن مقام الرشيد بطوس

وفيها وافى هارون جرجان في صفر، فوافاه بها خزائن علي بن عيسى على ألف بعير وخمسمائة بعير، ثم رحل من جرجان - فيما ذكر - في صفر، وهو عليل، إلى طوس؛ فلم يزل بها إلى أن توفي - واتهم هرثمة، فوجه ابنه المأمون قبل وفاته بثلاث وعشرين ليلة إلى مرو، ومعه عبد الله بن مالك ويحيى ين معاذ وأسد بن يزيد بن العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث والسندي بن الحرشي ونعيم بن حازم؛ وعلى كتابته ووزارته أيوب بن أبي سمير، ثم اشتد بهارون الوجع حتى ضعف عن السير.
وكانت بين هرثمة وأصحاب رافع فيها وقعة، فتح فيها بخارى، وأسر أخا رافع بشير بن ليث، فبعث به إلى الرشيد وهو بطوس؛ فذكر عن ابن جامع المروزي، عن أبيه، قال: كنت فيمن جاء إلى الرشيد بأخي رافع. قال: فدخل عليه وهو على سرير مرتفع عن الأرض بقدر عظم الذراع، وعليه فرش بقدر ذلك - أو قال أكثر - وفي يده مرآة ينظر فيها إلى وجهه. قال: فسمعته يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ونظر إلى أخي رافع، فقال: أما والله يابن اللخناء؛ إني لأرجو ألا يفوتني خامل - يريد رافعًا - كما لم تفتني. فقال له: يا أمير المؤمنين، قد كنت لك حربًا، وقد أظفرك الله بي فافعل ما يحب الله، أكن لك سلمًا؛ ولعل الله أن يلين لك قلب رافع إذًا علم أنك قد مننت علي! فغضب وقال: والله لو لم يبق من أجلي إلا أن أحرك شفتي بكلمة لقلت: اقتلوه. ثم دعا بقصاب، فقال: لا تشحذ مداك، اتركها على حالها، وفصل هذا الفاسق ابن الفاسق، وعجل؛ لا يحضرن أجلي وعضوان من أعضائه في جسمه. ففصله حتى جعله أشلاء. فقال: عد أعضاءه، فعددت له أعضاءه، فإذا هي أربعة عشر عضوًا، فرفع يديه إلى السماء، فقال: اللهم كما مكنتني من ثأرك وعدوك، فبلغت فيه رضاك، فمكني من أخيه. ثم أغمي عليه، وتفرق من حضره.
ذكر الخبر عن موت هارون الرشيد

وفيها مات هارون الرشيد.
ذكر الخبر عن سبب وفاته والموضع الذي توفي فيه
ذكر عن جبريل بن بختيشوع أنه قال: كنت مع الرشيد بالرقة، وكنت أول من يدخل عليه في كل غداة، فأتعرف حاله في ليلته؛ فإن كان أنكر شيئًا وصفه، ثم ينبسط فيحدثني بحديث جواريه وما عمل في مجلسه، ومقدار شربه، وساعات جلوسه، ثم يسألني عن أخبار العامة وأحوالها؛ فدخلت عليه في غداة يوم، فسلمت فلم يكد يرفع طرفه، ورأيته عابسًا مفكرًا مهمومًا، فوقفت بين يديه مليًا من النهار، وهو على تلك الحال؛ فلما طال ذلك أقدمت عليه، فقلت: يا سيدي، جعلني الله فداك! ما حالك هكذا، أعلة فأخبرني بها؛ فلعله يكون عندي دواؤها، أو حادثة في بعض من تحب فذاك ما لا يدفع ولا حيلة فيه إلا التسليم والغم، لا درك فيه، أو فتق ورد عليك في ملكك، فلم تخل الملوك منذلك؛ وأنا أولى من أفضيت إليه بالخبر، وتروحت إليه بالمشورة. فقال: ويحك يا جبريل! ليس غمي وكربي لشيء مما ذكرت، ولكن لرؤيا رأيتها في ليلتي هذه، وقد أفزعتني وملأت صدري، وأقرحت قلبي، قلت: فرجت عني يا أمير المؤمنين؛ فدنوت منه، فقبلت رجله، وقلت: أهذا الغم كله لرؤيا! الرؤيا إنما تكون من مخاطر أو بخارات رديئة أو من تهاويل السوداء؛ وإنما هي أضغاث أحلام بعد هذا كله. قال: فأقصها عليك، رأيت كأني جالس على سريري هذا؛ إذ من تحتي ذراع أعرفها وكف أعرفها، لا أفهم اسم صاحبها، وفي الكهف تربة حمراء، فقال لي قائل أسمعه ولا أرى شخصه: هذه التربة التي تدفن فيها، فقلت: وأين هذه التربة؟ قال: بطوس. وغابت اليد وانقطع الكلام، وانتهت. فقلت: يا سيدي، هذه والله رؤيا بعيدة ملتبسة، أحسبك أخذت مضجعك، ففكرت في خراسان وحروبها وما قد ورد عليك من انتفاض بعضها. قال: قد كان ذاك، قال: قلت: فلذلك الفكر خالطك في منامك ما خالطك، فولد هذه الرؤيا، فلا تحفل بها جعلني الله فداك! وأتبع هذا الغم سرورًا، يخرجه من قلبك لا يولد علة. قال:
فما برحت أطيب نفسه بضروب من الحيل، حتى سلا وانبسط، وأمر بإعداد ما يشتهيه، ويزيد في ذلك اليوم في لهوه. ومرت الأيام فنسي، ونسينا تلك الرؤيا، فما خطرت لأحد منا ببال، ثم قدر مسيره إلى خراسان حين خرج رافع، فلما صار في بعض الطريق، ابتدأت به العلة فلم تزل تتزايد حتى دخلنا طوس، فنزلنا في منزل الجنيد بن عبد الرحمن في ضيعة له تعرف بسناباذ، فبينا هو يمرض في بستان له في ذلك القصر إذ ذكر تلك الرؤيا، فوثب متحاملًا يقوم ويسقط؛ فاجتمعنا إليه؛ كل يقول: يا سيدي ما حالك؟ وما دهاك؟ فقال: يا جبريل، تذكر بالرقة في طوس؟ ثم رفع رأسه إلى مسرور، فقال: جئني من تربة هذا البستان، فمضى مسرور، فأتى بالتربة في كفه حاسرًا عن ذراعه، فلما نظر إليه قال: هذه والله الذراع التي رأيتها في منامي، وهذه والله الكف بعينها، وهذه والله التربة الحمراء ما خرمت شيئًا؛ وأقبل على البكاء والنحيب. ثم مات بها والله بعد ثلاثة ودفن في ذلك البستان.
وذكر بعضهم أن جبريل بن بختيشوع كان غلط على الرشيد في علته في علاج عالجه به، كان سبب منيته؛ فكان الرشبد هم ليلة مات بقتله، وأن يفصله كما فصل أخا رافع، ودعا بجبريل ليفعل ذلك به، فقال له جبريل: أنظرني إلى غد يا أمير المؤمنين، فإنك ستصبح في عافية. فمات في ذلك اليوم.
وذكر الحسن بن علي الربعي أن أباه حدثه عن أبيه - وكان جمالًا معه مائة جمل، قال: هو حمل الرشيد إلى طوس - قال: قال الرشيد احفروا لي قبرًا قبل أن أموت، فحفروا له، قال: فحملته في قبة أقود به؛ حتى نظر إليه. قال، فقال: يابن آدم تصير إلى هذا! وذكر بعضهم أنه لما اشتدت به العلة أمر بقبره فحفر في موضع الدار التي كان فيها نازلًا، بموضع يسمى المثقب، في دار حميد بن أبي غانم الطائي، فلما فرغ من حفر القبر، أنزل فيه قومًا فقرءوا فيه القرآن حتى ختموا، وهو في محفة على شفير القبر.
وذكر محمد بن زياد بن محمد بن حاتم بن عبد الله بن أبي بكرة، أن سهل بن صاعد حدثه، قال: كنت عند الرشيد في بيته الذي قبض فيه، وهو يجود بنفسه، فدعا بملحفة غليظة فاحتبى بها، وجعل يقاسي ما يقاسي؛ فنهضت فقال لي: اقعد يا سهل، فقعدت وطال جلوسي لا يكلمني ولا أكلمه، والملحفة تنحل فيعيد الاحتباء بها، فلما طال ذلك نهضت، فقال لي: إلى أين يا سهل؟ قلت يا أمير المؤمنين ما يسع قلبي أن أرى أمير المؤمنين يعاني من العلة ما يعاني؛ فلو اضطجعت يا أمير المؤمنين كان أروح لك، ثم قال: يا سهل إني أذكر في هذه الحال قول الشاعر:
وإني من قوم كرام يزيدهم ** شماسًا وصبرًا شدة الحدثان
وذكر عن مسرور الكبير، قال: لما حضرت الرشيد الوفاة، وأحس بالموت أمرني أن أنشر الوشي فآتيه بأجود ثوب أقدر عليه وأغلاه قيمة، فلم أجد ذلك في ثوب واحد، ووجدت ثوبين أغلى شيء قيمة، وجدتهما متقاربين في أثمانهما، إلا أن أحدهما أغلى من الآخر شيئًا، وأحدهما أحمر والآخر أخضر، فجئته بهما، فنظر إليهما وخبرته قيمتهما، فقال: اجعل أحسنهما كفني، ورد الآخر إلى موضعه.
وتوفي - فيما ذكر - في موضع يدعى المثقب، في دار حميد بن أبي غانم، نصف الليل؛ ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة من هذه السنة، وصلى عليه ابنه صالح، وحضر وفاته الفضل بن الربيع وإسماعيل بن صبيح، ومن خدمه مسرور وحسين ورشيد.
وكانت خلافته ثلاثًا وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يومًا. أولها ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وآخرها ليلة السبت لثلاث ليال خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة.
وقال هشام بن محمد: استخلف أبو جعفر الرشيد هارون بن محمد ليلة الجمعة لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وهو يومئذ ابن اثنتين وعشرين سنة، وتوفي ليلة الأحد غرة جمادى الأولى وهو ابن خمس وأربعين سنة سنة ثلاث وتسعين ومائة، فملك ثلاثًا وعشرين سنة وشهرًا وستة عشر يومًا.
وقيل: كان سنه يوم توفي سبعًا وأربعين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام، أولها لثلاث بقين من ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة، وآخرها يومان مضيا من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة.
وكان جميلًا وسيمًا أبيض جعدًا، وقد وخطه الشيب.
ذكر ولاة الأمصار في أيام هارون الرشيد

ولاة المدينة: إسحاق بن عيسى بن علي، عبد الملك بن صالح بن علي، محمد بن عبد الله، موسى بن عيسى بن موسى، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، علي بن عيسى بن موسى، محمد بن إبراهيم، عبد الله بن مصعب الزبيري، بكار بن عبد الله بن مصعب، أبو البختري وهب بن وهب.
ولاة مكة: العباس بن محمد بن إبراهيم، سليمان بن جعفر بن سليمان، موسى بن عيسى بن موسى، عبد الله بن محمد بن إبراهيم، عبد الله بن قثم بن العباس؛ محمد بن إبراهيم، عبيد الله بن قثم، عبد الله بن محمد بن عمران، عبد الله بن محمد بن إبراهيم، العباس بن موسى بن عيسى، علي بن موسى بن عيسى، محمد بن عبد الله العثماني، حماد البربري، سليمان بن جعفر بن سليمان، أحمد بن إسماعيل بن علي، الفضل بن العباس بن محمد.
ولاة الكوفة: موسى بن عيسى، يعقوب بن أبي جعفر، موسى بن عيسى بن موسى، العباس بن عيسى بن موسى، إسحاق بن الصباح الكندي، جعفر بن جعفر بن أبي جعفر، موسى بن عيسى بن موسى، العباس بن عيسى بن موسى، موسى بن عيسى بن موسى.
ولاة البصرة: محمد بن سليمان بن علي، سليمان بن أبي جعفر، عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، خزيمة بن خازم، عيسى بن جعفر، جرير بن يزيد؛ جعفر بن سليمان، جعفر بن أبي جعفر، عبد الصمد بن علي، مالك بن علي الخزاعي، إسحاق بن سليمان بن علي، سليمان بن أبي جعفر، عيسى بن جعفر، الحسن بن جميل مولى أمير المؤمنين؛ إسحاق بن عيسى بن علي.
ولاة خراسان: أبو العباس الطوسي، جعفر بن محمد بن الأشعث، العباس بن جعفر، الغطريف بن عطاء، سليمان بن راشد على الخراج، حمزة ابن مالك، الفضل بن يحيى، منصور بن يزيد بن منصور، جعفر بن يحيى خليفته بها، علي بن الحسن بن قحطبة، علي بن عيسى بن ماهان، هرثمة بن أعين.