وصايا الملوك وصية يزيد بن هاشم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
اذهب إلى: تصفح, البحث
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن ذا الكلاع واسمه يزيد بن هاشم أقبل على بني عمه وإخوته وولده فقال لهم: معشر الجماعة من ولدي وإخوتي وبني عمي، لو كان الملك يدوم لأحد لدام لأسلافكم الذين ملكوا البلاد، فأحسنوا السيرة في أهلها وأخذوا للضعيف من القوي وأمنوا السبل وأذلوا الجبابرة، وأبادوا المفسدين، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وعمروا الأرض شرقها وغربها، وعندكم مما أنا باثٌّ لكم شارح عليكم من أخبارهم ومآثرهم ومفاخرهم مما تجتزئون به عما بعده. ثم أنشأ يقول: " من المتقارب "


شهدتُ الملوكَ وعاشرتهمْ
وكنتُ وزيراً لَهُم وابن عمْ فحازُوا البلادَ ومن حلَّها
منَ النَّاسِ من عربٍ أو عجمْ وقد أخذُوا الخَرجَ في شرقها
وفي غربها من جميعِ الأممْ ودانتْ لهُم سُوقةُ العالمِين
وأهلُ العُلا والملوكُ القِدمْ بنيَّ وإخوتي الأقربين
ومن بينكُمْ لِيَ من ذي رحمْ عليكم من المجدِ
ما اسطعتُمُ والكرمْ فإنَّ النَّوالَ يُعزُّ الرِّجالَ
وينزِلُهُم في الذُّرى والقِمَمْ بهِ فُضِّلَ الأجودونَ الكرامْ
على كلِّ من حملتهُ القدمْ بهِ كملَ المالكُ المالكينَ
من أبناءِ قحطانَ قدماً وتمْ وصاتي ها، فبها فاعملُوا
وصونُوا بها المُلُكَ بعدَ النعمْ وإنَّ يزيداً لكمْ ذا الكلاعِ
لفي النُّصحِ والوُّدِ لا يُتَّهمْ ومهما قضى ربُّكُم كائنٌ
من الأمرِ فيهِ وجفَّ القَلمْ وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن سيف بن ذي يزن بن أسلم بن زيد بن الغوث الأصغر بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن شدد بن زرعه وهو حمير الأصغر بن كعب بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس لما وفد إليه عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وأمية بن عبد شمس القرشي وخويلد بن أسد بن عبد العزى في النفر الذين وفدوا بهم من قريش، فاستأذن عبد المطلب له ولمن معه بالوصول إلى سيف بن ذي يزن واسمه النعمان بن معد يكرب بن أسلم بن زيد بن الغوث الأصغر. قال: فأذن لهم بالدخول، فدخلوا عليه، فاستأذن عبد المطلب بن هاشم في الكلام، فقال له وزير سيف بن ذي يزن: إن كنت ممن يتكلم بين أيدي الملوك فقد أذنَّا لك. قال: فقام عبد المطلب بين يديه وحوله الملوك وأبناء الملوك، وعن يمينه وشماله الأقاول وأبناء الأقاول وسيفه مجرد بين يديه، وهو مضمخ بالعنبر، ووبيص المسك في مفرقه. فقال له عبد المطلب: إن الله قد أحلك أيها الملك محلاً رفيعاً صعباً منيعاً شامخاً باذخاً، وأنبتك منبتاً طابت أرومته وعزت جرثومته وثبت أصله وبسق فرعه في أكرم معدن وأطيب موطن، فأنت - أبيت اللعن - رأس العرب الذي تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي تلجأ إليه العباد، وربيعها الذي تخضب منه البلاد، سلفك خير سلف، وأنت من بعدهم خير خلف، فلن يخمل ذكر من أنت سلفه ولن يهلك من أنت خلفه. أيها الملك نحن أهل حرم الله وسكنة بيته، أشخصنا إليك الذي أبهجنا من كشفك الكرب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة.
قال: فلما سمع سيف بن ذي يزن هذا الكلام من عبد المطلب بن هاشم أقبل عليه بوجهه، فقال له: أيهم أنت أيها المتكلم؟ قال: أنا عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. قال: فقال سيف بن ذي يزن: ابن أختنا؟ قال: نعم. قال: فقال سيف بن ذي يزن: ادن إلي يا عبد المطلب بن هاشم. ثم أقبل عليهم جميعاً فقال لهم: مرحباً وأهلاً، وناقة ورحلاً، ومستناخاً سهلاً، وملكاً رِبحلاً يعطي عطاء جزلاً. قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم وقبل وسيلتكم، فأنتم أهل الليل والنهار، ولكم الكرامة ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم. ثم انهضوا إلى دار الضيافة والوفود. قال: فأقاموا شهراً لا يصلون إليه، ولا يؤذن لهم بالانصراف. قال: وأجريت عليهم الأنزال. فلما كان بعد فراغ ذلك الشهر انتبه لهم سيف بن ذي يزن انتباهة، فأرسل على عبد المطلب بن هاشم فأدناه وأخلى مجلسه. ثم قال له: يا عبد المطلب، إني مفضٍ إليك من سر علمي أثراً لو يكون غيرك لم أبُح له به، ولكني وجدتك معدنه، فأطلعتك عليه، فليكن ذلك عندك مطوياً حتى يأذن الله فيه، فإنه بالغ فيه أمره، فإني وجدت في الكتاب المكتوب والعلم المخزون الذي اخترناه لأنفسنا واحتجبناه دون غيرنا خبراً جسيماً وخطراً عظيماً، فيه شرف الحياة وفضل الممات، للناس عامة، ولرهطك كافة، ولك خاصة. فقال عبد المطلب: أيها الملك مثلك سر وبر، فما هو فداك أهل الوبر والمدر، زمراً بعد زمر؟ قال: فقال سيف بن ذي يزن: إذاً ولد بتهامة غلام به علامة، له الإمامة، ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة. قال: فقال عبد المطلب بن هاشم: أبيت اللعن لقد أبت بخبر ما آب به وفد قوم، ولولا هابة الملك وإعظامه وجلالته لسألته من إشارة إياي ما أزداد به شرفاً، فإن رأى الملك أن يخبرني بإفصاح فقد وضح لي بعض الإيضاح. قال: فقال سيف بن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه، أو قد ولد، اسمه محمد، بين كتفيه شامة، يموت أبوه وأمه، ويكلفه جده وعمه، قد ولدناه مراراً، والله باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً، تعز لهم أنصاره، وتذل بهم أعداؤه، ويضرب بهم الناس عن عرض، وتستفتح بهم كرائم الأرض، يعبد الرحمن، ويزجر الشيطان، ويكسر الأوثان، ويخمد النيران، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهي عن المنكر ويبطله. قال: فخرَّ عبد المطلب ساجداً. فقال: له سيف بن ذي يزن: ارفع رأسك، فقد ثلج صدرك وعلا كعبك، فهل أحسست من أمره شيئاً؟ قال: نعم أيها الملك، كان لي ولد، وكنت به معجباً جذلاً، وعليه رفيقاً، فزوجته كريمة من كرائم قومي، يقال لها آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فجاءت بغلام سميته محمداً، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه، بين كتفيه شامة، وفيه كلُّ ما ذكرت من العلامة. قال: فقال سيف بن ذي يزن: والبيت ذي الحجب، والعلامات على النقب، إنك يا عبد المطلب لجده غير الكذب، وإن الذي قلت لك ما قلت فاحتفظ بابنك، واحذر عليه اليهود، فإنهم له عدو، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً. واطوا ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون لك الرئاسة، فيبغون لك الغوائل، وينصبون لك الحبائل، وهو فاعلون ذلك وأبناؤهم، ولولا أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أُصَّير يثرب دار مملكتي، فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن مدينة يثرب استحكام أمره فيها، وأهل نصره وموضع قبره. ولولا أني أقيه الآفات وأبقي عليه العاهات لأوطأت أسنان العرب كعبه ولأعلنت على حداثة سنه ذكره، ولكني صارف ذلك إليك بغير تقصير بمن معك.
ثم أمر لكل رجل منهم بمائة من الإبل وعشرة أعبد وعشر جوار وعشرة أرطال تبر وعشرة أرطال فضة وكرش مملوء عنبراً، وأمر لعبد المطلب بن هاشم بعشرة أضعاف ذلك. ثم قال له: ائتني بخبره وما يكون من أمره بعد رأس الحول.
قال: فمات سيف بن ذي يزن قبل أن يحول الحول. فكان عبد المطلب يقول: يا أيها الناس، لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك، فإنه إلى نفاد ولكن يغبطني بما يبقى لي ويعقبني من بعدي من شرفه وذكره وفخره. قال: فإذا قيل له ما ذلك؟ قال: ستبلغن ولو بعد حين،وفي ذلك يقول أمية بن عبد شمس القرشي: " من الوافر "


جَلَبْنَا المدحَ تحقبه المطايا
إلى أكوارِ أجمالٍ ونوقِ مُغلغلةً مَرَابعُها ثِقالاً
إلى صنعاءَ من فجٍّ عميقِ تؤمُّ بنا ابن ذي يزنٍ وتفري
ذوات بُطُونِها أُمَّ الطَّريقِ وترعى في مخايلِه بُرُوقاً
مُوافقةَ الوميضِ إلى بُروقِ فلمّا وافقتْ صنعاءَ صارتْ
بِدان المُلكِ والحسبِ العريقِ وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن ذا أصبح، واسمه الحارث بن زيد بن سعد بن عدي بن ملك بن مسدد بن أسد بن حنظلة بن زرعة، وهو حمير الأصغر بن كعب بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس لما اجتمعت حمير وكهلان أمرها على طاعتها له واتباعها إياه وقبولها منه عند الأمر والنهي والسلم والحرب أقبل على بنيه، فقال لهم: يا بني، إن حمير وكهلان لم تجمع أمرها على طاعتها لي واتباعها إياي وقبولها مني على أني أشرفها منصباً، ولا أني أحق بالملك فيها دون غيري منها، ولكنها وزنت رجالها المعدودة، فألفتني أرجحها عند الأمر والنهي، فقلدتني أمرها، وآثرتني بالملك على غيري منها. ثم أنشأ يقول: " من الرجز "


بنيَّ ما إن جهلتْ حميرٌ
والحيُّ من كهلانَ ذا أصبحِ إذ قلَّدوني أمرهُمْ واهتدوا
في طاعتي بالطائرِ الأفلحِ حتى اصطبحنا بالخُيُولِ العِدا
في كُلِّ ما هصت وما أفتح إنَّا لنا مُلكُ بني يعربٍ
وزانهُ الإصلاحُ للمُصلِح أما تروني فانياً شاحباً
أسمطَ مثلَ الوقع في صردحِ فقد حلبتُ الدَّهرَ أشطارهُ
ولم أردُّ الطرفَ عن مطمحِ بنيَّ سيرُوا سيرتي إنّهَا
كما علمتُمْ سيرةُ المُفلحِ واتخذُوا الإحسانَ ما بينكُم
تجارةَ الرَّابحِ والمربحِ بُثُّوا عطاياكُمْ وجُودُوا بها
للأعجمِ الضَّاوي وللمُفصِحِ بها لكُمْ يُفتحُ بابُ العلا
إذا العلا بالبأسِ لم يُفتحِ وصَّيتكُمُ فاغتنِمُوا نُصحَ من
عساهُ إن أَمسَى فلمْ يُصبِحِ